
"حلف الأقليات".. نبوءات تحقّق نفسها في سورية
دمشق محقّة في ردّة فعلها القوية على مؤتمر الحسكة، ولإدارة أحمد الشرع أن تقلق، لأن المؤتمر، وإن أُعدّ على عجل، قد يشكل نواة لتحالف سياسي - عسكري، لا ينبغي الاستهانة به، وخصوصاً أن أطرافاً خارجية تشجّع عليه وتدفع إليه (ليست إسرائيل فقط)، أملاً إما في إسقاط الإدارة الجديدة، وإذا تعذّر ذلك فالتقسيم إذاً، أو العودة إلى الحرب الأهلية. وقد دفع ذلك نشطاء عديدين قريبين من إدارة دمشق إلى الحديث عن نشوء "تحالف أقليات" يسعى إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وهي مخاوف قد تكون واقعية، فهناك كثيرون تضرّروا جرّاء سقوط النظام السابق، وربما بدأوا بتنظيم صفوفهم وتنسيق جهودهم، في ضوء ما يروْنه ضعفاً اعترى سلطة دمشق، نتيجة سوء إدارة أزمة السويداء. لكن هذا لا يكفي لفهم مؤتمر الحسكة ومعانيه، بل يحتاج الأمر إلى طرح الأسئلة الأكثر جوهرية: كيف وصلنا أصلاً إلى هذه النقطة، ولماذا اجتمع هؤلاء في المقام الأول، وكيف سمحنا بنشوء هذا التحالف، ومن المسؤول عن ذلك، وأين تتّجه الأمور، وخصوصاً أن التذمر والانتقاد لممارسات السلطة الجديدة لم يعد مقتصراً على "الأقليات"، بل امتد ليشمل فئاتٍ لا يستهان بها من الأكثرية السورية، ولماذا بدّدت هذه السلطة الرصيد الذي حازته، في صفوفها، لحظة إسقاط النظام؟
لم يكن المرء يحتاج ملكاتٍ، أو قدراتٍ تحليليةً من نوع خاص، حتى يدرك أن المسار المتّبع منذ ديسمبر/ كانون الأول الماضي سوف يوصلنا حتماً إلى حيث نقف اليوم، فمنذ شهور ونحن نحذّر من أن الإدارة الجديدة لن تستطيع حكم سورية بالطريقة التي تفعل، وأنها، في حقيقة الأمر، تناقض جوهر مصالحها، فهي عندما تقوم بالإقصاء، وتضييق قاعدة حكمها، وخنق السياسة في المجتمع، وتبنّي خطابٍ يعمّق الانقسام الطائفي، وعدم السيطرة على ممارسات عناصرها على الأرض، إنما تكثر خصومها، تحشُرهم في زاوية، وتدفعهم إلى التكافل والتضامن ضدها. هذه ألف باء الممارسة السياسية، ومع الاستمرار في هذا النهج لن يحتاج خصوم السلطة الجديدة، قطعاً، التآمر عليها، أو التخطيط للنيْل منها، فهي تكفيهم، في حقيقة الأمر، مؤونة ذلك.
بدلاً من الحسكة، كان ينبغي لمؤتمر "وحدة الموقف" أن يُعقد في دمشق بدلاً من "مؤتمر النصر"، أو حتى كجزء منه، مباشرة بعد سقوط النظام، بدعوة الإدارة الجديدة وتنظيمها وإشرافها، وبمشاركة واسعة من فئات المجتمع السوري كافة (المهزوم فيه قبل المنتصر)، للاتفاق على كيفية إعادة بناء الدولة، شكلها، نظام الحكم فيها، والنموذج الاقتصادي الذي يرتضيه السوريون، ويحقّق تطلعاتهم. هكذا تُبنى الدول، وهكذا يتصرّف المنتصر، الذي يبتغي جمع الناس حوله، حكمهم بالتراضي، كفّ يد التدخلات الأجنبية، التحرّر من الماضي والتطلّع إلى المستقبل، وتحقيق السلم المجتمعي بعد أعوام من الصراع المرير.
الآن وقد صرنا هنا، لا يجدُر التعامل مع مؤتمر الحسكة والتداعيات المترتّبة عليه، كما درجت العادة، بتوعّد المشاركين فيه بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولا بالاستنفار والتخوين والتلويح باستخدام القوة، بل بمراجعة المسار الذي انطلق قبل ثمانية شهور، وبات ينقلنا من خطأ إلى خطأ أكبر. وهذا لا يكون أيضاً بتشكيل مزيدٍ من لجان التحقيق في المصائب التي تباغتنا بين فينةٍ وأخرى، بل في منع تفجّر المصيبة، في المقام الأول. تواجه سورية اليوم تهديداً وجودياً في ظل الانقسام الذي يتعمّق بين مكوّناتها الاجتماعية، وتقتضي مسؤوليتنا، وانتماؤنا، عرباً وسوريين، أن نمنع، إزاء ذلك، السلطة الجديدة من الفشل في إدارة شؤون البلاد، لأن فشلها يعني تفكّك سورية وانهيارها، وأن نحمي هذه السلطة من نفسها، أيضاً، حتى نعبر معاً إلى برّ الأمان، لأن ما يحصل ببساطة لا يعدو كونه نبوءات تحقّق نفسها (self-fulfilling prophecies) من خلال ارتكاب الأخطاء، والإصرار عليها، وأيضاً من خلال عداوات لا نفتأ نخلق مزيداً منها بيننا.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ 2 أيام
- العربي الجديد
تسييس الاستثمارات السورية
نظرياً، جذبت سورية خلال ستة أشهر من الاستثمارات ما لم تجذبه ربما، منذ طرحت أول قانون للاستثمار عام 1991، وقت بدلت هوية اقتصادها، من التحول الاشتراكي إلى الاقتصاد الموجه ومن ثم اقتصاد السوق الاجتماعي، ووقعت سورية خلال النصف الأول من العام الجاري مذكرات تفاهم واتفاقات، ربما أكثر مما وقعته حكومات بشار الأسد طيلة سني الثورة، والتقى الرئيس أحمد الشرع رجال أعمال ومستثمرين، بعد تحرير البلاد، نهاية العام الماضي، ربما أكثر مما التقاهم الأسدان، الوارث والوريث منذ عام 1971. فما أعلنه رئيس هيئة الاستثمار السورية، قبل أيام فقط، كان 12 مشروعاً استثمارياً بقيمة إجمالية تبلغ 14 مليار دولار، موزعة على مطار دمشق الدولي "4 مليارات" ومترو دمشق "ملياري دولار" وأبراج دمشق "ملياري دولار" ومول وأبراج البرامكة "560 مليون دولار" عدا مشاريع أخرى موزعة على 10 محافظات أخرى، جميعها من عيار مئات الملايين أو مليارات الدولار. وهذه المشروعات والأرقام تضاف لـ47 اتفاقية ومذكرة تفاهم مع السعودية، وقعتها دمشق خلال منتدى الاستثمار، الشهر الماضي، مع 20 جهة حكومية و100 شركة خاصة بقيمة 6.4 مليارات دولار، وقبلها اتفاقات مع الإمارات، بعضها مع موانئ دبي لتطوير وتشغيل مرفأ طرطوس بقيمة 800 مليون دولار وقبلها مع قطر وتركيا وأذربيجان والكويت وغيرهم. ولكن على الأرض ما الذي حصل، عدا الذي نقرأه ونسمعه، من أن المشروعات والاستثمارات، ستنقل سورية، من حال إلى آخر، وستحقق نقلة نوعية في البنية التحتية والحياة الاقتصادية بعد توليد فرص العمل وزيادة الإنتاج والتصدير، وتعبد جسور العلاقات والثقة، بين سورية والمستثمرين والدول. وعلى الأرض السورية حتى اليوم، واقعياً واقتصادياً ، لا شيء يمكن أن يغري رأس المال الخارجي، والذي، من غير الواقعي والاقتصادي، أن نصفه بالجبان إن تردد أو ابتعد، لأن تحقيق الأمن أول حقوقه ووجود قانون استثمار جاذب وعصري بدهيات استقطابه وتوفر حوامل الطاقة واليد العاملة الماهرة والقدرة الشرائية، شروط تقدمها جميع دول العالم له وترحب به بمزايا واعفاءات وإغراءات غيرها. ولأن كل تلك الشروط المحقة لأي مستثمر أو رجل أعمال أو حتى دولة، لم تتوفر بسورية بعد، فكيف يمكن تبرير تهافت المليارات وتسابق الدول والشركات وأصحاب الرساميل إلى سورية، وكيف يمكن الشرح، لأي ذي لب وحجة ومنطق، أسباب الجذب وجنة الأرباح بسورية، التي دفعت ولم تزل، المستثمرين لتوقيع الاتفاقات ومذكرات التفاهم. اقتصاد عربي التحديثات الحية تراخيص الصرافة بسورية تثير جدلاً: تعزيز المنافسة وخطر احتكار العملة قصارى القول: "يمكننا ومن دون مواربة وصف تلك الاتفاقات، أو معظمها على الأقل، بأنها استثمارات دعم سياسي أو ذات طابع سياسي أو لأغراض سياسية، هدفها، أو من ورائها من دول وشركات ورجال أعمال، دعم التجربة السورية بالحكم والاستقرار، ومساعدة البلاد بالانتقال من مرحلة الدمار التي خلفها الحكم البائد وتعظيم نظرة الاستقرار، لكل من يهمهم الأمر، ليأتوا لسورية ويساهموا بالبناء والإعمار، إن لم نقل رد الجميل لسورية وشعبها أو التكفير عن أخطاء ارتكبوها بحق سورية والشعب، خلال سني الثورة وعلى مدى 14 عاماً. والدعم والاستقرار اللذان يمكن تعميمهما على غاية جلّ الاستثمارات، يخدمان الدول والشركات المستثمرة، ربما كما يخدمان سورية والسوريين، لأن العكس وبحالة الفوضى والاحتراب، ثمة عقابيل وآثار على الدول، بل ومخاطر تهدد ربما الاستقرار بالمنطقة برمتها، بحال فشل التجربة السورية وعدم الأخذ بيد السلطة لتحقق أهدافها، بالاستقرار وكفاية الشعب وإعادة إعمار البلاد والعباد. طبعاً من دون التغافل عمّا يمكن أن تحققه، الدول والشركات والمستثمرين، من فرص وأرباح، ببلد، فيها ولها من الميزات، الجغرافية والخبرات التراكمية الاقتصادية، وحتى المواد الأولية ورخص الأيدي العاملة، ما لها وفيها، بعد أن تستقر وتبدأ بعد النمو التصاعدي. وبلد عطشى وسوق خاو، يمكن لأي عمل ومشروع فيها، أن يكون نواة لمملكة اقتصادية، سواء بقطاع الزراعة السوري الغني أو النفطي المغري أو الصناعي العريق. أو حتى السياحي والخدمي. نهاية القول أمران. الأول ما قيل ورشح حول وهمية بعض الشركات التي وقعت دمشق معها مذكرات تفاهم، والتي جاء تبرير هيئة الاستثمار، بعدما نبش سوريون أصول تلك الشركات وتاريخ تأسيسها ورساميلها وأعمالها السابقة، بأن المذكرات ما هي إلا مرحلة أولية ولا ترقى لمستوى العقد الملزم، فهي أشبه بفترة الخطوبة، يمكن خلالها الانفصال إن لم ترق أهداف الشركاء لبعضهم أو لم تلب الشروط تطلعات البلد المضيف. وفي ذلك، على ما نعتقد، خطأ ينعكس على سمعة الاستثمار بسورية ويثير شكوكاً وريبة، حول وجود فساد أو غايات غير اقتصادية، رغم أن مذكرات التفاهم، نهج وطريقة متداولة تسبق العقود، كما عدم التوافق بين الأطراف وإلغاء المذكرة بعد التوقيع عليها، متداول ومشروع ومن حق الأطراف، ولكن بحالة غير التي تمر فيها سورية الآن وبمؤتمرات وكرنفالات لم يحضرها رؤساء الدول كما رأينا بدمشق. اقتصاد عربي التحديثات الحية سورية والعراق يبحثان إعادة تأهيل خط نفطي قديم أما الأمر الثاني والمحيّر، بحالة كما السورية اليوم، فهو غياب خريطة استثمارية تحدد المشروعات التي يحتاجها الاقتصاد السوري، تضع المستثمرين والدول أمام خيارات تحتاجها سورية أولوية لنهوضها، كقطاعي الصحة والتعليم ومن ثم الزراعة والصناعة، بالتوازي مع استثمارات طاقوية، يحتاجها السوريون المحرومون منذ سنين، من الكهرباء والخدمات ويتطلبها المستثمرون ليقلعوا بمشروعاتهم ويبدأوا بتنفيذ أعمالهم. ولا تترك البلد، بهدف التغني بجذب الاستثمار أو لمرام سياسية، مفتوحة أمام رغائب أصحاب الرساميل وغايات الشركات، والتي، قد تتنافى مع الهدف التنموي السوري، أو، على الأقل، لا تتناسب وسلم أولويات وحاجة انطلاقة البلد. ولعل بغلبة المشروعات الخدمية وطغيان العقارية البرجية، التي لا تتوافق البتة، مع ملاءة السوريين المالية وحاجة وأولوية البلاد، أدلة على غياب الرؤية أو ضبابيتها كرمى الهدف الترويجي والاستثمار المسيس، ومؤشر على زيادة الحاجة لخطة وخريطة أو مؤتمر وسوق استثماري، تقول خلاله سورية: هذه أولوياتنا ومن هنا الانطلاقة، ونشكركم على المساهمة.


العربي الجديد
منذ 2 أيام
- العربي الجديد
اشتباكات محدودة في دير الزور بين الجيش السوري و"قسد"
شهدت ضفتا نهر الفرات في محافظة دير الزور شرقي سورية ، اشتباكات بين الجيش السوري و" قوات سوريا الديمقراطية (قسد)"، في مؤشر آخر على فشل الجانبين في ردم هوّة الخلافات بينهما حول آليات دمج هذه القوات ذات الصبغة الكردية في المنظومة العسكرية للبلاد. وذكرت شبكات إخبارية محلية أن اشتباكات بالأسلحة المتوسطة والثقيلة جرت، مساء أمس الأربعاء، بين الجيش السوري و"قسد" إثر استهداف الأخيرة نقطة عسكرية للجيش في مدينة دير الزور. ويتقاسم الجيش السوري و"قسد" السيطرة على المحافظة التي يشطرها نهر الفرات من الوسط. ويسيطر الجيش على الجهة الجنوبية، الذي تقع فيه مدينة دير الزور مركز المحافظة، بينما تسيطر "قسد" على الجهة الشمالية. ووصف الناشط الإعلامي عهد الفراتي في حديث مع "العربي الجديد" الاشتباكات بـ "البسيطة"، مشيراً إلى أنها توقفت فجر اليوم الخميس، وأضاف: "الأوضاع هادئة في المحافظة الآن وليس هناك توتر". إلى ذلك، أكدت مصادر محلية لـ "العربي الجديد"، أن المعابر ما بين المناطق التي تقع تحت سيطرة الحكومة وتلك الخاضعة لـ"قسد" في شمال شرقي البلاد "مفتوحة"، مضيفة: "لم يطرأ أي جديد على معبري الطبقة في ريف الرقة، ودير حافر في ريف حلب". كما ذكرت مصادر محلية أن "قسد" شنت اليوم "حملة مداهـمات واسعة في بلدة غرانيج بريف دير الزور". وتأتي المناوشات المتقطعة بين الجانبين مؤشر على تعثر الجهود المبذولة من أجل تطبيق اتفاق وُقع في مارس الفائت ونص على "دمج كل المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سورية ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز". وجاءت الاشتباكات في دير الزور بعد يوم من اشتباكات مماثلة جرت بين الجانبين في ريف حلب الشرقي أدت إلى مقتل عنصر من قوات وزارة الدفاع السورية، التي قالت الثلاثاء الماضي إن وحدات الجيش أفشلت محاولة تسلل في منطقة تل ماعز بريف حلب الشرقي. أخبار التحديثات الحية مقتل جندي في اشتباكات بين الجيش السوري و"قسد" شرقي حلب وقال وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، الأربعاء، خلال مؤتمر صحافي مع نظيره التركي هاكان فيدان في أنقرة، إن "قسد" نقضت الاتفاق، مشيراً إلى أن "مؤتمر الحسكة لا يمثل الشعب السوري ولا نخبه وهو محاولة يائسة لاستغلال ما حصل في السويداء"، وكانت الإدارة الذاتية التابعة لـ "قسد" عقدت قبل أيام مؤتمرا تحت شعار "وحدة الموقف لمكونات شمال وشرق سورية"، شارك فيه حكمت الهجري الزعيم الروحي لطائفة الموحدين الدروز، وغزال غزال أحد مشايخ الطائفة العلوية، دعا إلى ضرورة صياغة ما وصفه بدستور ديمقراطي جديد يؤسس لنظام لا مركزي.


العربي الجديد
منذ 4 أيام
- العربي الجديد
"حلف الأقليات".. نبوءات تحقّق نفسها في سورية
أثار ما سمّي مؤتمر "وحدة الموقف لمكوّنات شمال سورية وشرقها"، والذي دعت إليه السبت الماضي (9 أغسطس/ آب الجاري) في الحسكة "الإدارة الذاتية لشمال شرق سورية"، وهي الجناح الخدمي والإداري لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، جدلاً كبيراً بين السوريين. وقد قرأته الإدارة الجديدة في دمشق بأنه تحدٍّ كبير، وتصعيد خطير، بعدما جمع المؤتمر تقريباً كل خصومها، ما دعاها إلى إلغاء اجتماع كان مقرّراً عقده في باريس مع قيادة "قسد"، لمتابعة التفاوض حول تنفيذ اتفاق العاشر من مارس (الماضي)، والذي ينص على إدماج الأخيرة في مؤسّسات الدولة السورية الجديدة. دمشق محقّة في ردّة فعلها القوية على مؤتمر الحسكة، ولإدارة أحمد الشرع أن تقلق، لأن المؤتمر، وإن أُعدّ على عجل، قد يشكل نواة لتحالف سياسي - عسكري، لا ينبغي الاستهانة به، وخصوصاً أن أطرافاً خارجية تشجّع عليه وتدفع إليه (ليست إسرائيل فقط)، أملاً إما في إسقاط الإدارة الجديدة، وإذا تعذّر ذلك فالتقسيم إذاً، أو العودة إلى الحرب الأهلية. وقد دفع ذلك نشطاء عديدين قريبين من إدارة دمشق إلى الحديث عن نشوء "تحالف أقليات" يسعى إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وهي مخاوف قد تكون واقعية، فهناك كثيرون تضرّروا جرّاء سقوط النظام السابق، وربما بدأوا بتنظيم صفوفهم وتنسيق جهودهم، في ضوء ما يروْنه ضعفاً اعترى سلطة دمشق، نتيجة سوء إدارة أزمة السويداء. لكن هذا لا يكفي لفهم مؤتمر الحسكة ومعانيه، بل يحتاج الأمر إلى طرح الأسئلة الأكثر جوهرية: كيف وصلنا أصلاً إلى هذه النقطة، ولماذا اجتمع هؤلاء في المقام الأول، وكيف سمحنا بنشوء هذا التحالف، ومن المسؤول عن ذلك، وأين تتّجه الأمور، وخصوصاً أن التذمر والانتقاد لممارسات السلطة الجديدة لم يعد مقتصراً على "الأقليات"، بل امتد ليشمل فئاتٍ لا يستهان بها من الأكثرية السورية، ولماذا بدّدت هذه السلطة الرصيد الذي حازته، في صفوفها، لحظة إسقاط النظام؟ لم يكن المرء يحتاج ملكاتٍ، أو قدراتٍ تحليليةً من نوع خاص، حتى يدرك أن المسار المتّبع منذ ديسمبر/ كانون الأول الماضي سوف يوصلنا حتماً إلى حيث نقف اليوم، فمنذ شهور ونحن نحذّر من أن الإدارة الجديدة لن تستطيع حكم سورية بالطريقة التي تفعل، وأنها، في حقيقة الأمر، تناقض جوهر مصالحها، فهي عندما تقوم بالإقصاء، وتضييق قاعدة حكمها، وخنق السياسة في المجتمع، وتبنّي خطابٍ يعمّق الانقسام الطائفي، وعدم السيطرة على ممارسات عناصرها على الأرض، إنما تكثر خصومها، تحشُرهم في زاوية، وتدفعهم إلى التكافل والتضامن ضدها. هذه ألف باء الممارسة السياسية، ومع الاستمرار في هذا النهج لن يحتاج خصوم السلطة الجديدة، قطعاً، التآمر عليها، أو التخطيط للنيْل منها، فهي تكفيهم، في حقيقة الأمر، مؤونة ذلك. بدلاً من الحسكة، كان ينبغي لمؤتمر "وحدة الموقف" أن يُعقد في دمشق بدلاً من "مؤتمر النصر"، أو حتى كجزء منه، مباشرة بعد سقوط النظام، بدعوة الإدارة الجديدة وتنظيمها وإشرافها، وبمشاركة واسعة من فئات المجتمع السوري كافة (المهزوم فيه قبل المنتصر)، للاتفاق على كيفية إعادة بناء الدولة، شكلها، نظام الحكم فيها، والنموذج الاقتصادي الذي يرتضيه السوريون، ويحقّق تطلعاتهم. هكذا تُبنى الدول، وهكذا يتصرّف المنتصر، الذي يبتغي جمع الناس حوله، حكمهم بالتراضي، كفّ يد التدخلات الأجنبية، التحرّر من الماضي والتطلّع إلى المستقبل، وتحقيق السلم المجتمعي بعد أعوام من الصراع المرير. الآن وقد صرنا هنا، لا يجدُر التعامل مع مؤتمر الحسكة والتداعيات المترتّبة عليه، كما درجت العادة، بتوعّد المشاركين فيه بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولا بالاستنفار والتخوين والتلويح باستخدام القوة، بل بمراجعة المسار الذي انطلق قبل ثمانية شهور، وبات ينقلنا من خطأ إلى خطأ أكبر. وهذا لا يكون أيضاً بتشكيل مزيدٍ من لجان التحقيق في المصائب التي تباغتنا بين فينةٍ وأخرى، بل في منع تفجّر المصيبة، في المقام الأول. تواجه سورية اليوم تهديداً وجودياً في ظل الانقسام الذي يتعمّق بين مكوّناتها الاجتماعية، وتقتضي مسؤوليتنا، وانتماؤنا، عرباً وسوريين، أن نمنع، إزاء ذلك، السلطة الجديدة من الفشل في إدارة شؤون البلاد، لأن فشلها يعني تفكّك سورية وانهيارها، وأن نحمي هذه السلطة من نفسها، أيضاً، حتى نعبر معاً إلى برّ الأمان، لأن ما يحصل ببساطة لا يعدو كونه نبوءات تحقّق نفسها (self-fulfilling prophecies) من خلال ارتكاب الأخطاء، والإصرار عليها، وأيضاً من خلال عداوات لا نفتأ نخلق مزيداً منها بيننا.