
من يملك طاقة تونس؟ تقرير يكشف عن الوجه الخفي للشعارات الرنانة
فبينما يُروَّج للطاقة المتجددة كرافعة للتنمية المستدامة، تكشف المعطيات أن كثيرًا من المشاريع الجارية تُعيد إنتاج نفس آليات الاستغلال الاقتصادي، ولكن هذه المرة تحت راية 'الاستدامة البيئية'.
من الاستعمار التقليدي إلى التبعية البيئية
خلال مداخلة في مائدة مستديرة نظّمتها 'منصة الإصلاح العربي'، أوضحت الباحثة ياسمينة الأمين أن البنية التحتية للطاقة في تونس صُمّمت منذ الحقبة الاستعمارية بما يخدم مصالح أوروبا، وليس احتياجات التنمية المحلية. وبقي هذا الإرث قائماً بعد الاستقلال، حيث لم تنجح الدولة في بسط سيادتها الكاملة على القطاع، وظلت رهينة المبادرات الأجنبية و'المساعدات المشروطة' التي غالباً ما تُوَجَّه لخدمة أسواق خارجية.
اليوم، يعيد التاريخ نفسه مع مشاريع الطاقة المتجددة. فالمشاريع الكبرى المصممة للتصدير نحو أوروبا، مثل 'Elmed' و'RePowerEU'، تُهيكل إنتاج الطاقة على أساس الطلب الأوروبي، لا على أساس الحاجات المحلية، مما يُهدد بتحويل تونس إلى مجرد مزوّد للطاقة النظيفة دون أن تجني مجتمعاتها الفقيرة أي نفع مباشر منها.
تمويل أجنبي… مقابل السيادة
تلعب المؤسسات المالية الدولية والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي دورًا بارزًا في إعادة تشكيل مشهد الطاقة في تونس، من خلال قروض وتمويلات ومبادرات مثل الشراكة الأوروبية-التونسية في الطاقة الخضراء.
غير أن هذه 'الدعم المالي' غالبًا ما يأتي بشروط، من بينها إصلاحات هيكلية تُسرّع الخصخصة وتُضعف قدرة الدولة على ضبط السياسات العمومية.
وقد حذّر التقرير من أن هذه الديناميكيات تندرج ضمن ما يُعرف بـ'التكيف الهيكلي الأخضر'، حيث تُستخدم القروض البيئية كأداة لإعادة فرض أولويات السوق على السياسات الوطنية. ومع تصاعد المشاركة الأوروبية في مشاريع البنية التحتية للطاقة بشمال أفريقيا، تبرز مخاوف حقيقية من أن يتحوّل التحول الطاقي إلى شكل جديد من الاستعمار الاقتصادي.
الهيدروجين الأخضر: طاقة نظيفة تُهدد المياه
من بين المشاريع التي أثارت جدلاً واسعًا، يبرز مشروع وادي الهيدروجين الأخضر، الذي يُسوَّق له على أنه فرصة لجعل تونس قطباً إقليمياً في إنتاج الهيدروجين. إلا أن هذا المشروع يعتمد على تحلية كميات ضخمة من مياه البحر، وهو ما يُشكّل خطراً كبيراً على الأمن المائي الوطني، خاصة أن 27% من التونسيين يعانون أصلاً من نقص المياه الصالحة للشرب، بحسب إحصائيات وطنية.
التقديرات تشير إلى أن إنتاج كيلوغرام واحد من الهيدروجين الأخضر قد يستهلك نحو 9 لترات من المياه، ما قد يُضيف ضغطًا هائلًا على موارد مائية تُصنّف ضمن الأدنى عالميًا، بأقل من 400 متر مكعب للفرد سنويًا. وقد عبّرت منظمات المجتمع المدني، مثل 'المرصد التونسي للمياه' و'المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية'، عن خشيتها من أن يتم تحويل المياه من الاستخدامات الزراعية والمنزلية إلى خدمة احتياجات السوق الأوروبية.
في غياب أطر حوكمة قوية وآليات واضحة لتقاسم المنافع، فإن مشاريع التحول الأخضر الحالية تخاطر بتكريس نمط جديد من الاستخراج، حيث يتم تصدير الطاقة وجني الأرباح في الخارج، بينما تتحمّل المجتمعات المحلية الأعباء البيئية والاقتصادية.
وقد سبق لتونس أن صُنّفت في المرتبة 20 ضمن تقرير 'كلايمتسكوب 2023' من حيث جاذبية الاستثمار في الطاقة المتجددة. غير أن هذا الترتيب، وإن مثّل مؤشرًا للفرص، إلا أنه يُخفي في طياته هشاشة في السيادة الطاقية، وزيادة في تغلغل الفاعلين الأجانب في قلب السياسة الطاقية الوطنية.
حلول بديلة: الطاقة كحق شعبي وليس سلعة مربحة
لوقف هذا المسار، يشدد التقرير على ضرورة إعادة هيكلة شاملة لنموذج الطاقة في تونس. فبدلاً من تسليم مستقبل البلاد الطاقي للمستثمرين الأجانب، يُقترح أن تعتمد الدولة على نماذج ملكية محلية تعاونية، تُشرك المجتمعات في إنتاج الطاقة وتوزيع عائداتها.
وتقدّم تجارب دول مثل الدنمارك نموذجًا بديلًا، حيث تمتلك المجتمعات المحلية مشاريع الطاقة وتستفيد منها بشكل مباشر. كما يمكن للتمويل التعاوني والصناديق الائتمانية للطاقة أن توفّر تمويلاً بديلاً عن القروض المشروطة.
تواجه تونس اليوم مفترق طرق حاسمًا: إما أن تقود تحولها الطاقي نحو سيادة بيئية وعدالة اجتماعية، أو أن تنخرط في موجة جديدة من التبعية تحت شعار 'الطاقة النظيفة'. والرهان الحقيقي لا يتمثل فقط في جذب الاستثمار، بل في ضبطه وضمان أن يخدم التنمية الوطنية أولاً.
إن السيادة الطاقية ليست رفاهًا، بل ضرورة استراتيجية لضمان العدالة الاجتماعية، وحماية الموارد الطبيعية، وبناء اقتصاد مقاوم ومستقل. وقد حان الوقت لتونس أن تُحدّد لنفسها مَن يملك قرار طاقتها: شعبها، أم شركاؤها الدوليون؟
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

منذ يوم واحد
الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا: مشروع استراتيجي في العمق البحري وتساؤلات معلقة فوق طاولة التسويق
نحو الاندماج في السوق الأوروبية للكهرباء عبر مشروع الربط البحري مع إيطاليا، ELMED، الذي يمتد تحت المتوسط بقدرة 600 ميغاواط، حيث أعلنت الشركة التونسية للكهرباء والغاز خلال جلسة استماع عقدتها لجنة المالية والميزانية بمجلس نواب الشعب، مؤخرا أنه خلال شهر جويلية، الجاري سيتم الانتهاء من أشغال مدّ الخط البحري ضمن مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا وذلك ، في خطوة من مسار إستراتيجي نحو ربط تونس بالشبكة الأوروبية. يطرح هذا المشروع الضخم الذي يبدو من الخارج إنجازًا تقنيًا واعدًا، بكل ما يمثّله من فرصة تاريخية لتحرير المنظومة الكهربائية التونسية من قيود العجز والضغط الموسمي أسئلة حقيقية وعميقة بخصوص كيفية تسويق الفائض الطاقي المنتظر، ومدى جاهزية تونس تقنيًا ومؤسساتيًا للاستفادة من هذا الإنجاز الكبير وهل تم إعداد إستراتيجية وطنية مدروسة لتسويق هذا الفائض؟ وهل تتحوّل هذه البنية التحتية إلى رافعة اقتصادية أم مجرّد ممر كهربائي . الربط تحقق… فهل يتحقق الربح؟ خلال جلسة استماع عقدتها لجنة المالية والميزانية بمجلس نواب الشعب يوم 30 جوان 2025، قدم الرئيس المدير العام للشركة التونسية للكهرباء والغاز فيصل طريفة والوفد المرافق له عرضًا مفصّلًا حول تقدّم تنفيذ مشروع ELMED ، مشيرًا إلى أن الأشغال تسير بنسق جيد رغم وجود بعض العراقيل العقارية والتقنية وستنتهي أشغال مدّ الخط البحري في شهر جويلية الجاري، كما تم الانتهاء من فتح العروض التقنية المتعلقة بتنفيذ المشروع، في انتظار موافقة البنك الدولي لفتح العروض المالية قبل نهاية شهر سبتمبر 2025، لئن وضعت تونس (كابلها) البحري في عمق المتوسط، فإنها اليوم مطالبة بوضع رؤية واضحة في عمق استراتيجيتها الطاقية فالمراهنة على الربط مع أوروبا لا تكتمل بإنجاز تقني، بل تتطلب حسن استثمار، ودقة وتسويق، وحوكمة رشيدة تضمن أن تكون الكهرباء المصدّرة رافعة تنموية لا عبئًا تمويليًا جديدًا . إشكاليات وانتقادات رغم ان مشروع «ELMED Interconnect»من الناحية الإستراتيجية، يوفّر إمكانية تبادل الطاقة في الاتجاهين بقدرة تبلغ 600 ميغاواط، بما يعزز من استقرار الشبكة الوطنية خاصة في فترات الذروة الصيفية، ويسمح بإدماج تونس تدريجيًا في السوق الأورو-إفريقية للكهرباء فقد رافقت هذا المشروع منذ انطلاقه بعض الإشكاليات وواجهته بعض الانتقادات التي أثارت جدلا واسعا في صفوف الخبراء والمختصين، وبيّنتها الشركة التي أكدت خلال جلسة الاستماع أن المشروع يمر حالياً بعدد من التحديات، أبرزها نقص الخبرات الفنية المحلية، و الكفاءات الوطنية المختصة في إدارة مشاريع الربط الكهربائي تحت البحر،مما اضطر الدولة إلى اللجوء الى مكاتب دراسات أجنبية، وهو ما تسبب في إبطاء نسبي في نسق الإنجاز ورفع التكاليف، إلى جانب الإشكاليات العقارية في المنطقة التي تتطلب تنسيقًا أكثر نجاعة مع وزارة أملاك الدولة . في الواقع فان هذا المشروع على أهميته وتعقيده يشكّل جزءًا من خطة إقليمية أوسع للاتحاد الأوروبي تهدف إلى ربط شبكاته الكهربائية بدول جنوب المتوسط لتعزيز وارداته من الطاقة المتجددة، وهو ما يمنح تونس فرصة لتسويق الفائض الطاقي مستقبلاً، خاصّة من مصادر طاقة الشمس والرياح التي تتوفر في البلاد بإمكانيات هائلة، و هنا تطرح الأسئلة الأهم فهل تمتلك تونس حاليًا الآليات التقنية والمؤسساتية لتصدير الكهرباء بشكل منتظم؟ وهل تم إعداد إستراتيجية طاقية واضحة لتوجيه الفائض المنتظر نحو السوق الأوروبية؟ وهل سيحقّق هذا الربط وحده مكاسب إذا لم تُصاحبه إستراتيجية فاعلة، ودبلوماسية طاقية نشطة، وسياسات تحفيزية للاستثمار في الطاقات النظيفة؟ بين الإمكانيات والطموحات رغم أهمية المشروع تقنيًا وماليًا، إلا أن تسويق الفائض الطاقي المنتظر يبقى تحديًا جوهريًا أمام الدولة فالربط لا يعني تلقائيًا أن الكهرباء ستُباع في السوق الأوروبية، إذ يتطلب الأمر مطابقة للمعايير الفنية الأوروبية، وتوقيع اتفاقيات شراء طاقة طويلة المدى مع أطراف أوروبية وامتلاك قدرة تنافسية على مستوى الكلفة مقارنة بمصادر أخرى في السوق، والأهم وجود فائض حقيقي في الإنتاج، ناتج عن مشاريع وطنية كبرى في الطاقة المتجددة، وفي غياب رؤية واضحة لتطوير هذا الفائض، قد يتحول المشروع إلى مسلك عبور فقط دون استفادة مباشرة للاقتصاد الوطني، خاصة إذا واصل إنتاج الكهرباء في تونس الاعتماد على الغاز المستورد، بما يرفع تكلفة الكيلواط ويقلص القدرة التنافسية للتصدير. مقارنة مع التجارب المتوسطية يمكن لتونس في واقع الأمر أن تستلهم من تجارب مجاورة نجحت في تحويل مشاريع الربط الكهربائي إلى أدوات فعالة للتنمية والسيادة الطاقية مثل المغرب وإسبانيا اللتان تتبادلان الكهرباء منذ أكثر من 20 سنة عبر كابل بحري يربط بينهما ، مع تخطيط لرفع القدرة إلى 3000 ميغاواط، وهو ما ساعد المغرب على تسويق جزء من طاقته الريحية، وربط المستثمرين الأوروبيين بمشاريعه.كذلك إيطاليا وفرنسا و خط «Piedmont–Savoy» الذي ساعد في خلق شبكة توزيع مرنة بين البلدين، وخفّض من تقلبات الأسعار، مع توسيع الاستثمارات في الطاقة المتجددة من الجهتين. مقارنة بهذه التجارب، تبدو تونس في مرحلة أولى، تتطلب التدرج، وبناء الثقة مع الشركاء الأوروبيين، مع تطوير مشاريع وطنية ضخمة في الطاقة النظيفة، حتى تتحول من مجرد نقطة عبور إلى مركز توزيع طاقي متوسطي. في مواجهة شبكات أوروبية معقدة وسوق مشبعة بالمعايير والمنافسة، لا يكفي أن تمر الكهرباء فحسب بل يجب أن تصل بقيمة، وبشروط، وبمكاسب وطنية ملموسة فالمشاريع العابرة للحدود، وخاصة تلك المتصلة بالطاقة، تبرز كوسائل إستراتيجية لإعادة بناء مراكز النفوذ والتموقع الجغرا–اقتصادي. في ظلّ التحولات العميقة التي يعرفها المشهد الطاقي العالمي، وفي خضم ما تشهده منظومات الإنتاج والتوزيع من اضطرابات غير مسبوقة بسبب التغير المناخي وتداعيات الحروب، ياتي مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا، أو ما يُعرف تقنيًا بمشروع «ELMED Interconnector»، والذي يُعوَّل عليه ليربط الضفتين الجنوبية والشمالية للمتوسط عبر كابل كهربائي تحت البحر بطول يقارب 200 كلم وقدرة تبادل تصل إلى 600 ميغاواط. رؤية مستقبلية متكاملة رغم ما يعكسه مشروع الربط الكهربائي مع إيطاليا، من نضج تقني وانفتاح دولي، فإنه لا يكفي بذاته لتأمين موقع دائم ومستدام لتونس في السوق الطاقية الإقليمية وبناء عليه فان المطلوب اليوم هو إطلاق إصلاحات هيكلية في منظومة الحوكمة الطاقية وتسريع إنجاز المشاريع الكبرى للطاقات المتجددة بالإضافة إلى صياغة خطة وطنية لتصدير الكهرباء مدعومة باتفاقيات ثنائية والقيام بجهد دبلوماسي طاقي يضمن لتونس مكانًا محترمًا ضمن شبكات الربط الأوروبية–المغاربية. بين الأهمية القصوى لهذا المشروع، وطموحات تصدير الكهرباء نحو الضفة الشمالية للمتوسط، تبقى إشكالية تسويق الفائض هي بيت القصيد فالربط بدون إنتاج مستدام، وبدون رؤية تصديرية واضحة، قد يُحكم على المشروع بأن يُختزل في بعده التقني والرمزي، دون أن يغيّر جوهر معادلة السيادة الطاقية في تونس .فهل تستفيق النخبة السياسية والاقتصادية وتحوّل هذا الربط إلى فرصة وطنية حقيقية؟ أم سيظل المشروع قصة نجاح غير مكتملة، كما حدث مع عديد المشاريع الإستراتيجية الأخرى؟


تونس تليغراف
منذ يوم واحد
- تونس تليغراف
من يملك طاقة تونس؟ تقرير يكشف عن الوجه الخفي للشعارات الرنانة
على امتداد تاريخها الحديث، لم تنجح تونس في كسر حلقة التبعية الطاقية التي بدأت في الحقبة الاستعمارية وامتدت إلى ما يُعرف اليوم بـ'التحول الأخضر'. فبينما يُروَّج للطاقة المتجددة كرافعة للتنمية المستدامة، تكشف المعطيات أن كثيرًا من المشاريع الجارية تُعيد إنتاج نفس آليات الاستغلال الاقتصادي، ولكن هذه المرة تحت راية 'الاستدامة البيئية'. من الاستعمار التقليدي إلى التبعية البيئية خلال مداخلة في مائدة مستديرة نظّمتها 'منصة الإصلاح العربي'، أوضحت الباحثة ياسمينة الأمين أن البنية التحتية للطاقة في تونس صُمّمت منذ الحقبة الاستعمارية بما يخدم مصالح أوروبا، وليس احتياجات التنمية المحلية. وبقي هذا الإرث قائماً بعد الاستقلال، حيث لم تنجح الدولة في بسط سيادتها الكاملة على القطاع، وظلت رهينة المبادرات الأجنبية و'المساعدات المشروطة' التي غالباً ما تُوَجَّه لخدمة أسواق خارجية. اليوم، يعيد التاريخ نفسه مع مشاريع الطاقة المتجددة. فالمشاريع الكبرى المصممة للتصدير نحو أوروبا، مثل 'Elmed' و'RePowerEU'، تُهيكل إنتاج الطاقة على أساس الطلب الأوروبي، لا على أساس الحاجات المحلية، مما يُهدد بتحويل تونس إلى مجرد مزوّد للطاقة النظيفة دون أن تجني مجتمعاتها الفقيرة أي نفع مباشر منها. تمويل أجنبي… مقابل السيادة تلعب المؤسسات المالية الدولية والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي دورًا بارزًا في إعادة تشكيل مشهد الطاقة في تونس، من خلال قروض وتمويلات ومبادرات مثل الشراكة الأوروبية-التونسية في الطاقة الخضراء. غير أن هذه 'الدعم المالي' غالبًا ما يأتي بشروط، من بينها إصلاحات هيكلية تُسرّع الخصخصة وتُضعف قدرة الدولة على ضبط السياسات العمومية. وقد حذّر التقرير من أن هذه الديناميكيات تندرج ضمن ما يُعرف بـ'التكيف الهيكلي الأخضر'، حيث تُستخدم القروض البيئية كأداة لإعادة فرض أولويات السوق على السياسات الوطنية. ومع تصاعد المشاركة الأوروبية في مشاريع البنية التحتية للطاقة بشمال أفريقيا، تبرز مخاوف حقيقية من أن يتحوّل التحول الطاقي إلى شكل جديد من الاستعمار الاقتصادي. الهيدروجين الأخضر: طاقة نظيفة تُهدد المياه من بين المشاريع التي أثارت جدلاً واسعًا، يبرز مشروع وادي الهيدروجين الأخضر، الذي يُسوَّق له على أنه فرصة لجعل تونس قطباً إقليمياً في إنتاج الهيدروجين. إلا أن هذا المشروع يعتمد على تحلية كميات ضخمة من مياه البحر، وهو ما يُشكّل خطراً كبيراً على الأمن المائي الوطني، خاصة أن 27% من التونسيين يعانون أصلاً من نقص المياه الصالحة للشرب، بحسب إحصائيات وطنية. التقديرات تشير إلى أن إنتاج كيلوغرام واحد من الهيدروجين الأخضر قد يستهلك نحو 9 لترات من المياه، ما قد يُضيف ضغطًا هائلًا على موارد مائية تُصنّف ضمن الأدنى عالميًا، بأقل من 400 متر مكعب للفرد سنويًا. وقد عبّرت منظمات المجتمع المدني، مثل 'المرصد التونسي للمياه' و'المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية'، عن خشيتها من أن يتم تحويل المياه من الاستخدامات الزراعية والمنزلية إلى خدمة احتياجات السوق الأوروبية. في غياب أطر حوكمة قوية وآليات واضحة لتقاسم المنافع، فإن مشاريع التحول الأخضر الحالية تخاطر بتكريس نمط جديد من الاستخراج، حيث يتم تصدير الطاقة وجني الأرباح في الخارج، بينما تتحمّل المجتمعات المحلية الأعباء البيئية والاقتصادية. وقد سبق لتونس أن صُنّفت في المرتبة 20 ضمن تقرير 'كلايمتسكوب 2023' من حيث جاذبية الاستثمار في الطاقة المتجددة. غير أن هذا الترتيب، وإن مثّل مؤشرًا للفرص، إلا أنه يُخفي في طياته هشاشة في السيادة الطاقية، وزيادة في تغلغل الفاعلين الأجانب في قلب السياسة الطاقية الوطنية. حلول بديلة: الطاقة كحق شعبي وليس سلعة مربحة لوقف هذا المسار، يشدد التقرير على ضرورة إعادة هيكلة شاملة لنموذج الطاقة في تونس. فبدلاً من تسليم مستقبل البلاد الطاقي للمستثمرين الأجانب، يُقترح أن تعتمد الدولة على نماذج ملكية محلية تعاونية، تُشرك المجتمعات في إنتاج الطاقة وتوزيع عائداتها. وتقدّم تجارب دول مثل الدنمارك نموذجًا بديلًا، حيث تمتلك المجتمعات المحلية مشاريع الطاقة وتستفيد منها بشكل مباشر. كما يمكن للتمويل التعاوني والصناديق الائتمانية للطاقة أن توفّر تمويلاً بديلاً عن القروض المشروطة. تواجه تونس اليوم مفترق طرق حاسمًا: إما أن تقود تحولها الطاقي نحو سيادة بيئية وعدالة اجتماعية، أو أن تنخرط في موجة جديدة من التبعية تحت شعار 'الطاقة النظيفة'. والرهان الحقيقي لا يتمثل فقط في جذب الاستثمار، بل في ضبطه وضمان أن يخدم التنمية الوطنية أولاً. إن السيادة الطاقية ليست رفاهًا، بل ضرورة استراتيجية لضمان العدالة الاجتماعية، وحماية الموارد الطبيعية، وبناء اقتصاد مقاوم ومستقل. وقد حان الوقت لتونس أن تُحدّد لنفسها مَن يملك قرار طاقتها: شعبها، أم شركاؤها الدوليون؟


ويبدو
منذ يوم واحد
- ويبدو
تونس: حلقة استراتيجية في تصدير الكهرباء إلى أوروبا
يضع مشروع Elmed، الذي يربط تونس بجنوب إيطاليا، تونس كلاعب رئيسي في التكامل الطاقي بين أوروبا وأفريقيا. يفتح هذا الكابل البحري الطريق لتعزيز التعاون الطاقي بين الجزائر وتونس وأوروبا. مشروع Elmed، الذي يقترب من مرحلة الانتهاء، قد يجعل من تونس لاعبًا مركزيًا في الخريطة الطاقية الجديدة لحوض البحر الأبيض المتوسط. هذا الكابل الكهربائي البحري، الذي سيربط الشبكة التونسية بجنوب إيطاليا، سيمكن ليس فقط من تعزيز الترابط بين شمال أفريقيا وأوروبا، بل أيضًا من وضع تونس كمركز إقليمي لنقل الطاقة. وفقًا لتصريحات فيصل تريفة، المدير العام للشركة التونسية للكهرباء والغاز (STEG)، التي نقلتها وكالة نوفا الإيطالية، يهدف Elmed إلى دمج الشبكات الجزائرية والتونسية لتسهيل تصدير الكهرباء إلى أوروبا ودعم إنشاء سوق طاقي أورو-أفريقي مستقبلي. هذا المشروع الضخم، الذي تبلغ قدرته 600 ميغاواط وتكلفته الإجمالية 850 مليون يورو، يحظى بتمويل كبير: 300 مليون يورو من المفوضية الأوروبية و260 مليون دولار من البنك الدولي، مع مشاركة البنك الأوروبي للاستثمار (BEI)، والبنك الألماني KfW، والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية (BERD). بالنسبة لتونس، الفوائد متعددة. من الناحية الاستراتيجية، سيمكن هذا المشروع من تعزيز الأمن الطاقي للبلاد، مع دمجها بالكامل في الديناميات الكبرى للانتقال الطاقي في البحر الأبيض المتوسط. كما يفتح آفاقًا تجارية، حيث يمكن لتونس أن تستفيد من حقوق العبور أو، في نهاية المطاف، تصدير الكهرباء بنفسها، خاصة من مصادر الطاقة المتجددة. بالتوازي، تراهن الجزائر على هذا الممر التونسي الإيطالي لتعزيز صادراتها الكهربائية، خاصة بعد التخلي عن مشروع الربط المباشر مع ليبيا الذي اعتبر غير قابل للتنفيذ تقنيًا. وهي تقوم بتحديث خطوطها ذات الجهد العالي نحو تونس، مع تطوير برنامج طموح لإنتاج الكهرباء، بأهداف تتجاوز 50,000 ميغاواط خلال عشر سنوات، جزئيًا بفضل الطاقة الشمسية والرياح. تونس، بوضع نفسها كحلقة وصل طاقية بين أفريقيا وأوروبا، ترى بذلك فتح آفاق جديدة في مجال الدبلوماسية الطاقية، والاستثمار، والاندماج الإقليمي.