logo
الإماراتي أحمد راشد ثاني... شاعر الروح والذاكرة

الإماراتي أحمد راشد ثاني... شاعر الروح والذاكرة

خليج تايمزمنذ 6 ساعات
أنتَ أنا الذي لم يعبرْ
الذي ظل غريقاً في الطوفان
الذي ظل أنينا، وظلاً
على شفةِ البحر؟
أنت الذي لم يتكور كصخرةٍ
لم يُنلْ كقِطاف السرقةِ
لم يقفْ كحائطِ المنتهى
لم يحتطْ كبئرٍ في جحرٍ
لم يُحول النجمةَ إلى مخدّةٍ
ولا النبعَ إلى صنبورٍ
لم يرحلْ.
حين تقرأ شعر أحمد راشد ثاني، تجد نفسك أمام صوت يتجاوز الكلمات ليصل إلى أعماق الوجدان، صوت لا يخفف من وطأة الحزن ولا يتجنب لحظات الألم، بل يحتضنها بشاعرية تفيض صدقًا وكثافة. هو شاعر الولادة والرحيل في آن، شاعر يعيد الحياة للتراث الشعبي وكأنه ينقله من ذاكرة موغلة في الماضي إلى حاضر ينبض بالحياة. في أحمد راشد، نلتقي مع حكاء الحياة البنيوية والبسيطة، التي تولد من بساطة البحر والصخور والنخيل، لكنها تنسج أروع القصائد وسط مآسي الوجود وأشجان النفس.
تجربة عميقة
في قصيدة "أي موجة" يقول فيها:
يصفونَ لي الصحراءَ
وينسونَ حبةَ رمل
في موجةٍ مازالت تركضُ
على البحرِ
يصفونَ خطواتي الكثيرة
على شاطئ البحر
بينما لا يعرف البحر
في أي موجة غَرِقْت
ومن قصيدته "بحر بازاء اليابسة: خورفكان"
"ماء يجري بين النميمة والرحم، مالحة القلوب، مأكولةٌ من الهذيان،
سُمّيها النجم الميت، ألفها للعيون كشرفة، ولم ينسها إلا الصحيح.
الغربان تصرخ عبر العصور بعذاباتها، وقد عاد الجوع إلى البلدة كي يأكل التراب."
من "دمعة البيت"
"اقتربت الساعة من الاشتعال، طيور أنفاسي تمزقت،
وانطلقت بكل أصواتها المحترقة في سماء توشك على التصدع: مرآتي.
مرآتي أيتها الذاهبة قيامة، أيتها النافذة على أعماقي."
ومن قصيدته "ما دام قبرك مفتوحاً على اللذة"
"عليك أن تملا عينيك بالرمل وفمك بالصراخ،
عليك أن تُدفن في النار وتعيش كما يعيش الخشب.
ما دام قبرك مفتوحاً على اللذة، غداً لن تستطيع أن تكون."
تتشكل في هذه الأبيات سلسلة من التأملات الوجودية والصور الحسية التي تعكس هشاشة الإنسان وحيرته في مواجهة أزماته ومآسيه، ويبدو البحر والبيئة المحيطة كمرآة تعكس عمق التجربة الإنسانية عند الشاعر.
تجديد يلفه الاتصال بالذات والبيئة
ينحدر أحمد راشد ثاني من بيئة بحرية إماراتية شكلت ركيزة أساسية في تجربته الشعرية، حيث نثر رائحة البحر والورد والرمل في نصوصه بشكل يعكس الارتباط العميق بالأرض والذاكرة الجمعية. نقدياً، يمكن القول إن تجربته الشعرية تمثل جسرًا بين التقاليد الشعرية الخليجية والحداثة، إذ يجمع بين سهولة اللغة وتماسك الصور وبين العمق الفلسفي والتأمل في الذات والموت.
ناقش النقاد شعره بأنه مرآة لروح متأملة تسعى لفهم الذات والكون، فيما يصفه البعض بأنه "شاعر التجريب في قصيدته" بسبب تنقله بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، مع إدخال الرمزيات واللغة العامية التي توثق الأصالة الشعبية الإماراتية.
كما أن أعماله لا تقف عند حدود الشعر فقط، بل تمتد إلى المسرح والتراث، حيث كتب مسرحيات مثل "قفص مدغشقر" التي تحمل نقدًا اجتماعيًا عميقًا، وجمع وأصدر أعمالًا تراثية منها مجموعات شعرية عامية مثل "يالماكل خنيزي ويا الخارف ذهب" التي تحوي لغات الحياة اليومية والتقاليد الشفهية في خورفكان.
شاعر التجريب والذاكرة الإنسانية
يُعتبر أحمد راشد ثاني من أبرز الشعراء الذين حملوا على عاتقهم مهمة نقل الوجدان الإماراتي بين التراث والحداثة، وكتب شعراً ينبض بالبيئة المحلية لكنه يحمل أبعادًا فلسفية وإنسانية عميقة. تتسم تجربته باتساع أفقها بين البساطة اللغوية والصور الجمالية المركبة، حيث يكتب بأسلوب ينفتح على المعاني كما لو كانت «نافورة جارفة» تحمل الحلم والمآسي في آن.
كتب عنه الناقد الإماراتي خالد البدور في احتفالية تكريمية:
"كتب كل شيء بروح شاعر، ملتقطًا اللحظات والمشاعر الدفينة، وهيأت له ذاكرته المفاتيح لقراءة الإنسان والكون بانسجام الكلمة وصراع الشعور"1.
من قصيدة "بحر بازاء اليابسة: خورفكان"
"ماء يجري بين النميمة والرحم، مالحة القلوب، مأكولةٌ من الهذيان،
سُمّيها النجم الميت، ألفها للعيون كشرفة، ولم ينسها إلا الصحيح.
الغربان تصرخ عبر العصور بعذاباتها، وقد عاد الجوع إلى البلدة كي يأكل التراب."
القصيدة تعكس توتر الإنسان مع محيطه، حيث ينساب الماء المالح (البحر) محملاً بمشاعر الحقد والضياع ("النميمة والرحم")، مشاهدها تتشابك بين الواقع والخيال، مع استعارات تدل على الألم والخذلان والغياب. "النجم الميت" كناية عن أمل انطفأ، والغربان صوت الألم الذي يصرخ عبر الأزمنة. "العودة للجوع كي يأكل التراب" تمثل أزمة وجودية ومادية في المحيط الإنساني.
من قصيدة "دمعة البيت"
"اقتربت الساعة من الاشتعال، طيور أنفاسي تمزقت،
وانطلقت بكل أصواتها المحترقة في سماء توشك على التصدع: مرآتي.
مرآتي أيتها الذاهبة قيامة، أيتها النافذة على أعماقي."
الصورة هنا تجسد لحظة انهيار داخلي، حيث "السّماء توشك على التصدع" تعبر عن أزمة نفسية أو وجودية. الأنفاس المتقطعة والطيور المحترقة رمز للرغبات والآلام التي تنطلق من أعماق النفس، والمرايا تمثل الوعي الذاتي والحقيقة التي لا تهرب منها.
من قصيدة "ما دام قبرك مفتوحاً على اللذة"
"عليك أن تملا عينيك بالرمل وفمك بالصراخ،
عليك أن تُدفن في النار وتعيش كما يعيش الخشب.
ما دام قبرك مفتوحاً على اللذة، غدًا لن تستطيع أن تكون."
الشاعر هنا يتناول فكرة التغيير والوجود من منظور فلسفي، حيث يربط الألم والاحتراق بالقدرة على الحياة الحقيقية. "تملا عينيك بالرمل" رمز لاحتضان المعاناة، ودفن النفس في النار هو تجديد وصراع مع الذات. الغرائز والمواهب التي تحمل لذتها قد تعوق الكينونة الحقيقية.
اللغة والتجريب:
أحمد راشد ثاني تحرر من ربقة الأوزان التقليدية، وكتب قصائد نثرية تجمع بين المحلية والعالمية، حيث استثمر اللغة العامية الإماراتية ضمن إبداعات تعبيرية جديدة. يتسم شعره بالاندفاع الشعوري المتداخل مع تصويرات رمزية مفعمة بالصور الحسية.
الهوية والانتماء:
شعره مشبع بارتباط ثقافي عميق بالبيئة البحرية والبرية، ويعكس ذاكرة شعبية تراثية، ولغة الباحث عن جذوره والتعبير عنها بانفصال متوازن بين المحلي والعالمي.
البعد الفلسفي:
ينحاز إلى الفكر التأملي في الذات، الوجود، والهروب من العدم، مما يضفي على نصوصه بعداً إنسانياً ومأساوياً يعكس مأزق الإنسان المعاصر.
أعماله وأثره في المسرح والتراث
لم يكن أحمد راشد ثاني شاعراً فقط، بل كان باحثاً ومؤرخاً حريصاً على حفظ ذاكرة شعبه عبر الكتابة والتراثية. كتب أعمالًا مسرحية مهمة ساهمت في تعزيز المسرح الإماراتي محليًا، إضافةً إلى جمعه التراث الشعبي الإماراتي ودراسته، مضيفًا بذلك أبعادًا ثقافية وفكرية إلى مشواره الأدبي.
تُعتبر مسرحياته متنفساً نقدياً عبر الفنون، حيث استثمر أدوات المسرح لنسج حوارات تسلط الضوء على هموم الإنسان الإماراتي، خصوصًا في إطار التغيرات الاجتماعية والاقتصادية. وأعماله التراثية تولّت الحفاظ على الفلكلور الشعبي ومكنته من توثيق الحكايات المحلية واللغة العامية، مما عكس روح المجتمع البسيط والمعقد في آن.
يبقى أحمد راشد ثاني صوتاً شعرياً إماراتياُ خالداً، يجمع بين النقاء والعمق، بين القصيدة والنثر، وبين التعبير والصمت، في مشهد شعري يروي قصة الإنسان الذي يبحث عن ذاته وفي الوقت ذاته يحمي ذاكرة وطنه. هو شاعر لا يكتب فقط ليقرأ، بل ليُحس ويعيش، فتصل كلماته إلى القارئ كهمسات الروح في محيط متلاطم.
في كل قصيدة له، تجد رحلة تبدأ من بساطة الحياة المحلية وتمتد إلى قضايا وجودية عميقة، وهو ما يجعل قراءة شعر أحمد راشد ثاني تجربة لا تُنسى، تستحق التأمل والمشاركة، حاملة في طيّاتها حكايات الأرض والإنسان في الإمارات
يمثل أحمد راشد ثاني حالة شعرية فريدة في الإمارات، حيث مزج بين التجديد اللغوي وارتباطه العميق بالبيئة المحلية، إضافة إلى مرونته بين أدوار الشاعر والباحث التراثي والكاتب المسرحي. نصوصه الشعرية لا تُقرأ فقط بل تُعاش، تحمل صراعات الإنسان الإماراتي الوجدانية والفكرية وسط تحولات العصر. هو شاعر البحر والذاكرة، مفتاحه اللغة البسيطة لكن شعريته ذات أبعاد عالمية، ما يجعل إبداعه غنياً للقراء ولكل الباحثين في الشعر الخليجي المعاصر.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

جمعية التراث العمراني تشارك في مهرجان دبي للرطب
جمعية التراث العمراني تشارك في مهرجان دبي للرطب

صحيفة الخليج

timeمنذ ساعة واحدة

  • صحيفة الخليج

جمعية التراث العمراني تشارك في مهرجان دبي للرطب

ضمن جهودها المستمرة في الحفاظ على الموروث الثقافي وتعزيز قيم التراث في المجتمع، تشارك جمعية التراث العمراني في فعاليات مهرجان دبي للرطب، الذي يقام في قلعة الرمال. ويهدف المهرجان إلى إبراز مكانة النخلة في المجتمع المحلي، والتعريف بأنواعها المتعددة ومنتجات الرطب وكيفية العناية بها، إلى جانب تسليط الضوء على الصناعات التقليدية المرتبطة بهذه الشجرة الأصيلة. وتخلل الفعاليات معرض فني تراثي استعرض لوحات تدور حول النخلة وعلاقتها بحياة الناس ومساكنهم وذاكرتهم التاريخية، شاركت فيه المهندسة رنا زكريا زيدان، رئيسة لجنة الفعاليات بالجمعية. وقال المهندس رشاد بوخش رئيس جمعية التراث العمراني: «إن مشاركتها في مهرجان دبي للرطب تأتي تأكيداً لرسالتنا في تعزيز ارتباط الإنسان بموروثه، وتسليط الضوء على رمزية النخلة كجزء أصيل من الثقافة العربية. هذا الحدث يمثل منصة فريدة للتفاعل مع الجمهور وتقديم رسائلنا التراثية بأسلوب فني وتثقيفي ممتع. نشكر القائمين على تنظيم المهرجان ونتطلع إلى المزيد من الشراكات التي تخدم رسالة التراث والتاريخ».

إفريقية تحوّل شعرها إلى أعمال فنية
إفريقية تحوّل شعرها إلى أعمال فنية

صحيفة الخليج

timeمنذ ساعة واحدة

  • صحيفة الخليج

إفريقية تحوّل شعرها إلى أعمال فنية

عادت الفنانة ليتيسيا كيو، من ساحل العاج التي أثارت الإعجاب عام 2019 بأعمالها الفنية المبتكرة باستخدام الشعر، بمجموعة جديدة من أعمال فنية للشعر، تدمج بين الإبداع الفني والهوية الثقافية الإفريقية. وتحول شعر ليتيسيا إلى وسيلة للتعبير الفني، حيث تُشكل بأدوات بسيطة؛ مثل الأسلاك والخيوط ووصلات الشعر، مشاهد معقدة وتفاصيل من الحياة اليومية، تحمل في طياتها رسائل عن التمكين والفخر بالتراث الإفريقي. وتقول: «ما بدأ كمحاولة لتعلم حب شعري الطبيعي، تحول إلى فن وسرد ونشاط». الفتاة، التي يتابعها 5 ملايين شخص على تيك توك، أوضحت أن أفكارها تأتي في لحظات عفوية وتبدأ بتدوينها، ثم تحويلها إلى رسومات أولية قبل تنفيذها مباشرةً على رأسها وقد يستغرق تنفيذ القطعة الواحدة 6 ساعات.

«صيف الفجيرة» يواصل فعالياته
«صيف الفجيرة» يواصل فعالياته

صحيفة الخليج

timeمنذ ساعة واحدة

  • صحيفة الخليج

«صيف الفجيرة» يواصل فعالياته

أكد الشيخ سعيد بن سرور الشرقي، رئيس مجلس إدارة غرفة تجارة وصناعة الفجيرة، حرص الغرفة على تنظيم المعارض والمهرجانات نظراً لدورها في تنشيط حركة التجارة والخدمات والسياحة في الإمارة والترويج للمنتجات الوطنية. جاء ذلك خلال زيارته مهرجان صيف الفجيرة للعروض التسويقية والترفيهية الذي يواصل فعالياته بمركز الفجيرة للمعارض التابع للغرفة يرافقه أعضاء مجلس الإدارة وسلطان الهنداسي مدير عام الغرفة. وقال الشيخ سعيد الشرقي: إن صناعة المهرجانات والمعارض أصبحت فناً عالمياً راقياً يلعب دوراً كبيراً في إنعاش اقتصادات الدول وزيادة وتنويع مصادر دخلها من خلال توسيع قاعدة استثماراتها. وأشاد رئيس وأعضاء مجلس الإدارة بحسن تنظيم المهرجان وتنوع معروضاته من منتجات دول خليجية وعربية وأجنبية. فيما قال سلطان الهنداسي: إن مهرجان صيف الفجيرة يعتبر متنفساً للعائلات بالفجيرة والمناطق المحيطة بها مشيراً إلى أنه يتميز بوجود ألعاب مجانية متنوعة للأطفال إضافة إلى وجود مرافق لتقديم مأكولات عربية وشرقية متنوعة. وأضاف، أن المهرجان وزع على زواره هدايا إلكترونية وكهربائية وجوائز أخرى متنوعة وصاحبت فعالياته فرق شعبية وشخصيات كرتونية. (وام)

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store