
لماذا فشلت أوسلو ويفشل وقف إطلاق النار؟
كان من الممكن أن يكون العنوان عن السذاجة والدبلوماسية، أو يخفَّف ليكون «في البراءة والدبلوماسية»، وهو أمر لا يتعلق بفشل اتفاق أوسلو (1993) وحده، أو بفشل وقف إطلاق النار الأخير في غزة، وإنما يمكن أن ينسحب على كل الاتفاقات الدبلوماسية بين العرب وإسرائيل، بما فيها كامب ديفيد، ووادي عربة، اللذان كان الفشل فيهما نسبياً وأقل ضرراً.
رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1993، واضح للعيان إلا لبعض الفلسطينيين، فإن الاتفاق كان فشلاً ذريعاً، وقد انتقد إدوارد سعيد اتفاق أوسلو، في عام 2000، في كتاب كامل بعنوان «نهاية السلام: أوسلو وما بعدها»، وكأنه يتنبأ بحالنا الآن. ثلاثة عقود مرت منذ أوسلو، وحالُ الفلسطينيين من سيئ إلى أسوأ. والسبب الرئيسي في هذا هو أننا لا نُجيد عمليات التفاوض وحماية الاتفاقات التي نُوقّعها، وأحياناً نأخذ الأمور بسذاجة ندفع ثمنها فيما بعد. ومع ذلك، فمن غير الإنصاف أن نقول إننا نفشل في كل اتفاقاتنا، فقد نجح العرب في اتفاق الطائف في لبنان (1989)، مثلاً، والذي فتح مساراً دستورياً جديداً للبنان وأخرج البلد من مستنقع الحرب الأهلية.
ولكنْ لكي نفهم ما يجري لنا وحولنا، لا بد من دراسات مقارنة تسأل الأسئلة الصعبة التي تكشف الأمور بشكل جلي وواضح. فمثلاً، لماذا نجح اتفاق الجمعة العظيمة في آيرلندا الشمالية (1998)، واتفاق أروشا في رواندا (1993)، بينما فشلت اتفاقية أوسلو، وفشل اتفاق وقف إطلاق النار في غزة؟ أو ما الذي جعل أوسلو استثناءً فاشلاً في مشهد اتفاقيات السلام؟ ولماذا نجحت الاتفاقات الأخرى نسبياً في تحقيق الاستقرار في آيرلندا ورواندا؟
فهمُ السياق الذي تحدث فيه الاتفاقات أمر مهم، هذا إذا أقررنا أن كل الاتفاقات بشكل قانوني سواء، فبعضها تفاهمات وليست اتفاقات دولية بالمعنى القانوني للكلمة. سياق أوسلو كان محكوماً بغياب التوازن في القوى بين الطرفين. إسرائيل كانت دوماً الطرف الأقوى سياسياً وعسكرياً، في حين كانت منظمة التحرير ولتوِّها خارجة من عزلة إقليمية ودولية بسبب موقفها من غزو صدام حسين للكويت 1990. كانت إسرائيل، وما زالت، محزمة بحزام غربي وأميركي يجعلها فوق النقد، هذا الفارق أنتج اتفاقاً غير متكافئ صاغت إسرائيل شروطه بقلم أميركي، القلم ذاته خطَّ خطوطاً وهمية منحت الفلسطينيين وعوداً فضفاضة حول دولة مستقبلية دون ضمانات واضحة. وانتهى الأمر إلى ما نراه أمامنا في رام الله، اليوم.
في المقابل، كانت اتفاقيات مثل الطائف وآيرلندا تعكس نوعاً من القبول المتبادل بضرورة التعايش وتوزيع السلطة. ففي لبنان، وافق أطراف الحرب الأهلية على تقاسم السلطة وفق صيغة طائفية جديدة، برعاية عربية وإقليمية. وفي آيرلندا، قَبِل الطرفان بتنازلات متبادلة تحت ضغط شعبي واسع ودعم دولي حقيقي، خاصة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
إخفاقات أوسلو هي ذاتها إخفاقات وقف إطلاق النار الأخير، حيث كان اتفاقاً غامضاً في جوهره، يعتمد على حلول مرحلية غير محددة بتفاصيل واضحة أو آليات تنفيذ مُلزِمة. المراحل الأولى والثانية والثالثة في اتفاق وقف إطلاق النار هي ذاتها الاتفاقات التي أنشأت السلطة الفلسطينية ككيان إداري مؤقت، وحاصرتها بالمناطق ألف وباء وجيم.
تركت القضايا الجوهرية مثل القدس، واللاجئين، والمستوطنات، للمستقبل في أوسلو، كما تركت جرائم الحرب والإبادة في اتفاق الهدنة ووقف إطلاق النار في غزة، الذي ما لبث أن انهار واستمرت الإبادة بالوتيرة ذاتها.
النقطة المهمة هي أن اتفاقيات مثل أروشا في رواندا، والجمعة العظيمة في آيرلندا، اتخذت خطوات واضحة ومؤسسات تنفيذية محددة. فالأولى نصّت على تقاسم السلطة بين الحكومة والمعارضة، ودمج المتمردين في الجيش، وعودة اللاجئين. أما الثانية فقد أسست لحكم ذاتي، وآليات دستورية، وقانون انتخابي عادل، تحت إشراف دولي صارم. كل هذا كان نتيجة جدية التفاوض والفِرق القانونية المصاحبة والرعاية الدولية الجادة والمُحكمة للتعامل مع أوضاع هشة.
وفي كل الأحوال كانت الإرادة السياسية المحلية على قدر المسؤولية، وفي هذا كتبتُ مقالاً هنا عن الجُزر الفلسطينية المبعثرة، طبعاً إضافة إلى أن إسرائيل ليست لديها نية في إنهاء الاحتلال، بل نيتها دوماً التوسع.
ربما كان الفرق الأوضح بين أوسلو وباقي الاتفاقات هو طبيعة الدعم الدولي والإقليمي. اتفاق أوسلو وُلد برعاية نرويجية محدودة التأثير، واعتمد على وعود أميركية غير مُلزِمة. لم تكن هناك آلية تنفيذ دولية تُراقب التطبيق أو تفرض العقوبات عند الانتهاك. الشيء ذاته كان فيما يخص وقف إطلاق النار في غزة.
اتفاق أوسلو لم يفشل لأنه طُبّق بشكل سيئ فحسب، بل لأنه كان اتفاقاً هشاً من حيث المضمون، غير متوازن سياسياً، وغامضاً في بنوده، ومن دون دعم دولي حقيقي أو نية صادقة من الأطراف الأساسية. في المقابل، مثلت اتفاقات الطائف، آيرلندا، وأروشا محاولات أكثر جدية لتأسيس بيئة سياسية مستقرة.
نحن ضحية الاستعجال والسذاجة الدبلوماسية وعدم تجميع القوى لخلق توازن مع احتلال لا يفهم إلا لغة القوة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
منذ 12 ساعات
- Independent عربية
فات الأوان على بريطانيا لحصد ثمار ضبط العلاقات مع أوروبا
خلافاً للعادة، يتجه حزب العمال هذه المرة للوفاء بما تعهد به في بيانه الانتخابي. فقد تحققت "إعادة ضبط" العلاقات في إطار بريكست بصورة شبه كلية، تلبية لوعد قديم قطعه كير ستارمر. أصبحت الخطوط الأساسية واضحة، وإن كانت بعض التفاصيل المتعلقة ببرنامج تنقل الشباب ودخول بريطانيا إلى سوق الدفاع الأوروبي الذي توسع حديثاً غير نهائية بعد. وهذا كان تحديداً ما وعد به حزب العمال خلال حملته الانتخابية العام الماضي "سوف يعمل حزب العمال على تحسين العلاقة التجارية والاستثمارية مع الاتحاد الأوروبي عبر إزالة العوائق غير الضرورية أمام التجارة". وأيضاً "سوف نسعى إلى التفاوض على اتفاقية بيطرية لمنع عمليات التفتيش الحدودية غير الضرورية المساعدة على معالجة أسعار الأغذية، وسوف نساعد الفنانين المتجولين، ونسعى إلى التوصل إلى اتفاقية هدفها الاعتراف المتبادل ببعض المؤهلات المهنية لتيسير فتح بعض الأسواق أمام مصدري الخدمات البريطانيين". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) كذلك جاء في الوعود "كما سيسعى العمال إلى إبرام اتفاقية أمنية جديدة وشاملة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي لتعزيز أصر التعاون في سبيل التصدي للتهديدات التي تواجهنا". تحقق عدد كبير من هذه النقاط وما من احتمال واقعي بسعي الحكومة إلى إعادة الانضمام للاتحاد الأوروبي أو سوقه الموحدة أو اتحاده الجمركي، تماشياً مع ما ورد في البيان أيضاً. وقد يفسر أحد المتحذلقين- وما أكثرهم في أوساط المشككين بالاتحاد الأوروبي- برنامج تنقل الشباب على أنه انتهاك لتعهد حزب العمال "بعدم العودة إلى حرية الحركة [بين أوروبا وبريطانيا]". لكن نظراً إلى أن البرنامج سيحدد بسقف ويقيد بمدة زمنية ويشترط الحصول على تأشيرة دخول من دون أن يحمل أي حقوق إضافية - أقله بالنسبة إلى أفراد العائلة المعالين - ولا أي حق بالانتفاع من الضمان الاجتماعي كما يشترط دفع ضريبة إضافية لقاء الاستفادة من هيئة الخدمات الصحية الوطنية في بريطانيا، فلا يبدو أنه برنامج مفتوح للجميع مجاناً. لن يهدد بضعة آلاف من الشباب الإيطاليين نسيج المجتمع البريطاني. بل إن "التضحية" الوحيدة التي يبدو أن البريطانيين يقدمونها هي فتح مجال أكبر أمام سفن صيد الأسماك الأوروبية للصيد في المياه البريطانية مقارنة بالحصص المتاحة لهم بموجب اتفاقية بوريس جونسون. بعبارة مبسطة سيحق لأساطيل صيد الأسماك الأوروبية اصطياد كمية أكبر من الأسماك التي لا يريد البريطانيون أن يستهلكوها أساساً، والتي لا يمكن للصيادين البريطانيين بيعها في السوق الأوروبية أساساً بسبب، ببساطة، بريكست. لكن حتى لو شكلت هذه النقطة خسارة- والأمر خاضع للنقاش- فـ"المكاسب" البريطانية أكبر بكثير من منتجات الأسماك غير المرغوب بها. سوف يستعيد الشباب البريطاني قدرته على المشاركة في برنامج إيراسموس في مجال التعليم والتدريب، وفرصه بالعمل في أوروبا. وسوف نوطد التعاون في مجال الدفاع والأمن في وقت أعلنت فيه الولايات المتحدة صراحة نيتها التقليل من شأن أوروبا والتعامل مع حلف "الناتو" بمنطق النفعية. لذا، يمكننا التصدي لروسيا بصورة أفضل مما لو كنا وحدنا. وسوف تتقلص طوابير الانتظار للحصول على جواز السفر. وسيصبح من الأيسر بالنسبة إلى الفنانين أن يقوموا بجولات فنية في أوروبا مجدداً. وسوف يتاح المجال أمام الشركات البريطانية المتخصصة بالصناعات العسكرية لبيع منتجاتها والاستفادة من صندوق الدفاع الأوروبي. كما سيستعيد المزارعون ومنتجو الأغذية البريطانيون أسواقاً خسروها في القارة وتتمكن النقانق البريطانية العظيمة من شق طريقها الرائد نحو المطابخ عبر القناة الإنجليزية مرة أخرى. يطالبنا الأوروبيون باحترام معاييرهم الغذائية ومواكبة تطورها وقد قبلنا بذلك. يمكننا أن نحل خلافاتنا داخل المحكمة الأوروبية لكن للمملكة المتحدة الحق في رفض هذه القرارات- لأنه لو اعتبرناها غير مقبولة في وقت من الأوقات، يمكننا أن نلغي الصفقة، وفي الحقيقة يجب علينا أن نحاول التأثير في بعض السياسات قبل أن نصل إلى هذه المرحلة. كما هي الحال مع أي اتفاق تجاري، فإن إعادة ضبط بريكست ليست مثالية. فالتسوية ضرورية، والسيادة ليست مطلقة أبداً، بل هي تمارس دائماً ضمن أطر من التفاهم أو الشراكة. أي أخذ وعطاء. هذا ما حدث في جميع الاتفاقات التي أبرمت بعد بريكست — مع أستراليا، ونيوزيلندا، والشراكة عبر المحيط الهادئ، والهند، واتفاق الازدهار الاقتصادي بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. لكن إعادة ضبط العلاقات بعد بريكست تخلف تداعيات على نطاق أوسع. فمن الناحية السياسية، يتوافق هذا الاتجاه مع الرأي العام البريطاني الذي بات يعتبر بريكست أكثر فأكثر حلماً كاذباً، كما هي بالفعل. وإن كان في ذلك "خيانة" لعملية بريكست، فسيقول كثر في المملكة المتحدة "هذا جيد". فهم يريدون إقامة علاقات أوثق وأكثر وداً وتعاوناً مع أقرب جيراننا ولا تعنيهم مفاهيم السيادة المبهمة. فهم لا يعتبرون اتساق المعايير في شأن تدابير الصحة النباتية في اللحوم تعدياً على حقوقهم السيادية. ولا يثير التبادل الطلابي مع فنلندا حفيظتهم. بل إنهم في الواقع معارضون بصورة متزايدة للبريكست، والسبب الوحيد الذي يجعلهم يحجمون عن العودة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي هو أنهم يخشون إعادة نكء الجراح المؤلمة التي خلفتها حرب بريكست الأهلية بين عامي 2016 و2019 (إضافة إلى أن الشروط القديمة لعضوية المملكة المتحدة ما عادت قائمة). يخطئ المحافظون إذاً في موقفهم الحاد من اتفاق إعادة ضبط العلاقات، الذي رفضوه قبل أن يطلعوا عليه حتى وفي كلامهم الأحمق عن الاستسلام والخيانة. هذا يجعل كيمي بادنوك وزملاءها يبدون نزقين، وعلى أية حال، لا يمكنهم أبداً أن يضاهوا نايجل فاراج في سردية تأييد بريكست. أما بالنسبة إلى ستارمر، فمن المحزن أن نجاحه الدولي الأخير لن يفيده كثيراً، أقله في القريب العاجل. لا شك أنه سيجعله يبدو رجل دولة أكثر ولا ريب في أن إبرام اتفاق بريكست أفضل هو أمر إيجابي، ومن الإيجابي أيضاً الوفاء بتعهدات الانتخابات، لكنه لن يستعيد شعبيته، سواء على مستوى شخصه أو حكومته أو حزبه، إلا حين (أو في حال) تحسنت مستويات المعيشة والخدمات العامة.


الوئام
منذ 18 ساعات
- الوئام
توترات تجارية.. 150 دولة تنتظر قرارات أمريكية جديدة
خاص – الوئام يرفع الرئيس الأمريكي دونالد ترمب سقف الخطاب التجاري مجددًا معلنًا عن احتمال فرض رسوم جمركية جديدة على نحو 150 دولة شريكة للولايات المتحدة. هذه الخطوة تأتي في وقت تتزايد فيه المخاوف من تراجع التعاون الاقتصادي متعدد الأطراف، وتعكس تصعيدًا واضحًا في سياسة الحماية الأمريكية التي تهدد بإعادة تشكيل خريطة التجارة العالمية. في مواجهة هذا التحول الجذري، يقف العالم أمام تحدٍ كبير في كيفية إدارة مصالحه الاقتصادية وسط تصاعد المنافسة والضغوط السياسية، وسط تساؤلات حاسمة حول مستقبل العلاقات التجارية الأمريكية مع حلفائها وشركائها الاقتصاديين. فرض تعريفات جمركية في خطوة غير متوقعة، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب خلال اجتماع مع رجال أعمال خلال زيارته الأخيرة للخليج؛ أن واشنطن ستبدأ في فرض تعريفات جمركية جديدة على شركائها التجاريين خلال 'الأسابيع القليلة القادمة'، رافعًا احتمالية تصاعد النزاع التجاري العالمي. وأوضح ترمب أن نحو '150 دولة' ترغب في إبرام اتفاقيات تجارية مع الولايات المتحدة، لكنه أكد أن ذلك 'غير ممكن' من حيث الوقت والجهد، مضيفًا أن وزيري الخزانة والتجارة سيخطران هذه الدول قريبًا بما 'ستدفعه لممارسة الأعمال داخل أمريكا'. رسوم تصاعدية وتمديد سبق لترمب أن أعلن في أبريل عن رسوم جمركية تصل إلى 50% على معظم الشركاء التجاريين، قبل أن يُخفضها مؤقتًا إلى 10% لمدة 90 يومًا لمنح فرصة للمفاوضات. ووفق ما ذكرت فاينانشال تايمز البريطانية، فإن إعلان ترمب الأخير يضيف مزيدًا من الغموض إلى السياسة التجارية الأمريكية، التي تتسم بالتقلب والتراجع عن قرارات سابقة، ما يثير قلق الأسواق والدول الشريكة. إجراءات إضافية تطال عدة قطاعات إلى جانب فرض رسوم على معظم الشركاء التجاريين، أعلنت الإدارة الأمريكية عن تعريفات بنسبة 25% على واردات الحديد والألمنيوم والسيارات، بالإضافة إلى تحقيقات قد تقود لفرض رسوم على قطاعات أخرى مثل الرقائق الدوائية والمعادن النادرة وقطع الطيران. وكانت قد تمكنت المملكة المتحدة من التوصل إلى اتفاق جزئي مع واشنطن لخفض بعض الرسوم على صادراتها من السيارات والحديد والألمنيوم، لكنها لم تنجح في خفض التعريفة 'المتبادلة' إلى أقل من 10%، وهو الحد الأدنى بحسب المسؤولين الأمريكيين. بوادر تهدئة مع الصين تواصل الولايات المتحدة محادثاتها مع عدد من الشركاء التجاريين من بينهم كوريا الجنوبية واليابان والهند والاتحاد الأوروبي، في محاولة للتوصل إلى اتفاقيات تقلل من تأثير التعريفات الجديدة. خلال الأسبوع الماضي، عقد وزير الخزانة والممثل التجاري الأمريكي اجتماعات مع نظرائهم الصينيين، أسفرت عن خفض كبير في الرسوم المتبادلة، وفتح باب المحادثات مجددًا بين الطرفين.

سودارس
منذ يوم واحد
- سودارس
الجنجويد: من التوظيف السلطوي إلى التموضع السياسي
"التمسك بالتاريخ بوصفه قدَراً هو أحد أخطر أشكال التنميط؛ لأنه يُحوّل الظلم من حدث قابل للنقد إلى حقيقة لا يمكن تغييرها." — إدوارد سعيد، الاستشراق إن محاولة فهم ظاهرة الجنجويد بوصفها "ظاهرة إنسانية عالمية" متجذّرة في التراث البشري، كما ورد في بعض المقولات التي تم تداولها مؤخراً دون التعرف على هوية كاتبها، تمثل انزلاقًا خطيراً نحو الجوهرنة التاريخية (essentializing through historicizing). فباسم المقارنة الحضارية يتم سحب الظاهرة من سياقها السياسي والاقتصادي المعاصر، وتقديمها كاستمرارٍ لسلوك بدائي متجذر في "الهامش البشري"، وكأنّ الجنجويد مجرد إعادة إنتاج للتتار أو الفاندال أو المغول، يمرون في الفضاء التاريخي كقدر لا يُردّ، وكأن السودان مسرح أبدي للفوضى، لا فكاك منه. غير أن هذه القراءة المسطحة تتجاهل تماماً الشروط البنيوية التي أدت إلى نشوء وتضخّم هذه الظاهرة في السودان الحديث. فهي ليست نتيجة فورة عرقية، ولا تعبيراً عن "الطبيعة البدوية الجامحة"، بل نتاج مباشر لتحولات الدولة ما بعد الاستعمار، التي أعادت إنتاج المركزية القهرية والتهميش العنيف في هوامشها الجغرافية والاجتماعية. لقد تم تصنيع الجنجويد سياسياً، وتمويلهم وتسليحهم وتأطيرهم أيديولوجيًا، ضمن مشروع سلطوي واضح، هدفه الأساس تفكيك حركات المقاومة في دارفور، وتجفيف منابع التمرد الاجتماعي والثقافي. وكما وصف ميشيل فوكو أدوات "القوة الحيوية " (biopower)، فقد استخدمت الدولة الجنجويد للضبط والتأديب، لا كخارجين عن الدولة، بل كامتداد لها. إن القول بأن "الجنجويد ظاهرة بشرية متكررة" هو في جوهره خطاب نزع للسياق، يحذر منه إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق، حيث أوضح أن أخطر ما يفعله المثقف هو تقديم العنف والمظلومية في صورة قدر ثقافي أو جغرافي. فبهذا المنطق، يتحول الجنجويد من كيان وظيفي داخل المنظومة السلطوية إلى كائنات فوضوية، خارجة عن التاريخ، عن الدولة، عن القانون، وعن المسؤولية. وتصبح الجرائم التي ارتكبت في دارفور وجنوب كردفان والخرطوم، مجرد نتوءات عشوائية في سردية الغابة، لا ما هي عليه: مشروع عنف منظم ذو بُعد سياسي طبقي عرقي واضح. بل إن هذا النوع من الخطاب يُعيد إنتاج منطق الاستعمار المعرفي، في تصوير شعوب الجنوب على أنهم "همج بالفطرة"، لا يصنعون تاريخهم بل يُستدرجون إليه. إنها الأطروحة ذاتها التي فندها فرانز فانون، حين بيّن أن العنف الاستعماري لا يقتصر على احتلال الأرض، بل يحتل الوعي، ويُنتج نخباً فكرية محلية تبرر القمع، لا باسم المصلحة، بل باسم "الهوية" و"الطبيعة" و"التراث". هنا تكمن خطورة الخطاب التأصيلي: أنه يخلط بين التحليل والتبرير. فبدل أن يُفكك الجنجويد كظاهرة اجتماعية معقدة نتجت عن التحالف بين السلطة المركزية والإقطاع العسكري، يُقدَّم لنا وكأنهم "صدى تاريخي"، يتكرّر حيثما كان الجن والجيم والجواد. وهكذا يُمحى الجاني، ويُعاد تشكيل الضحية كجزء من مسرحية لا مسؤول فيها ولا حساب. غير أن القراءة الأكثر عمقًا لا تقف عند لحظة الاستخدام السلطوي للجنجويد، بل تتجاوزها إلى لحظة التحوّل اليوم: حين بدأ هؤلاء الذين صُنِعوا في هوامش الدولة، يتجاوزون منطق التوظيف العسكري إلى التموضع السياسي. لقد بدأت هذه الجماعة، بفضل المواجهة الأخيرة مع العصابة الإنقاذية، في إدراك مكانتها خارج المركز، لا بوصفها أداة، بل كفاعل. وبهذا المعنى، تحوّل بعض أفرادها من مجرّد مرتزقة إلى ساعين – بصدق أو بمصلحة – إلى تحالفات ريفية جديدة، وإلى إعادة تشكيل معادلات السلطة. هنا تبرز المفارقة: فظاهرة الجنجويد التي ولدت في أحشاء الدولة السلطوية، قد تكون في طريقها إلى التحلل من تبعيتها القديمة، لتصبح فاعلًا ضمن صراع جديد حول الهوية الوطنية، والمواطنة، وتوزيع الموارد. وهذه مرحلة تتطلب قراءةً جديدة، لا تكتفي بالإدانة ولا تسقط في التبرير الواهي (المتمثل في عبارة "عرب الشتات")، بل تسعى لفهم الظاهرة في ضوء توازنات القوة الاجتماعية، وتركيبة الهوية، وخطاب المقاومة. ختاماً، إننا إذ نُعيد النظر في ظاهرة الجنجويد، مطالبون بتفكيكها لا كمجرد فئة مقاتلة، بل كمؤشر على أزمة الدولة السودانية في علاقتها بهوامشها، وعلى فشل المشروع الوطني في استيعاب التعدد والتنوع والتهميش. وإلا فإننا نخاطر بإعادة إنتاج ظواهر أكثر عنفًا، لا لأنها متأصلة في "ثقافتنا"، بل لأننا فشلنا في مواجهة بنيتنا السياسية نفسها. May 17, 2025