logo
الفيزياء تشرح قدرات التخفي الاستثنائية للمقاتلة سوخوي سو-57

الفيزياء تشرح قدرات التخفي الاستثنائية للمقاتلة سوخوي سو-57

الجزيرة٢٠-٠٢-٢٠٢٥

تعد سوخوي سو-57 مقاتلة من الجيل الخامس المتعددة المهام، صُنعت بواسطة شركة سوخوي الروسية لتكون منافسًا مباشرًا للطائرات الأميركية مثل إف-22 وإف-35.
عادة ما تمتلك هذه الطائرات ميزات السرعة الفائقة، حيث تستطيع الطيران بسرعة تصل إلى 2 ماخ (نحو 2,450 كيلومترا في الساعة)، مع قدرة عالية على المناورة بفضل محركات الدفع الموجه، ولذلك يمكنها القيام بحركات مذهلة في الجو، وبالطبع تمتلك ميزة التسليح الثقيل.
قدرات التخفي
لكن تظل الميزة الرئيسية لهذه الطائرات هي القدرات الشبحية المتقدمة مما يجعلها صعبة الاكتشاف، ويسهل ذلك عليها الدخول إلى أراضي الخصوم وأداء مهام عسكرية دون أن يتم اكتشافها.
ولكن لفهم الكيفية التي تعمل بها تلك الخاصية الاستثنائية يجب أولا أن نتعرف إلى طبيعة الرادار، هو نظام يستخدم الموجات الراديوية للكشف عن الأشياء، مثل الطائرات والسفن.
الموجات الراديوية هي نفسها التي نستقبلها على المذياع (الراديو) الخاص بنا، والتي ترسلها محطات الإذاعة، وفي حالة الرادار العسكري تقوم وحدة متخصصة بإرسال نبضات راديوية تتحرك بسرعة الضوء في كل مكان ضمن نطاق محدد، وإذا اصطدمت هذه الموجات بجسم (مثل طائرة)، فإنها ترتد إلى الرادار.
إعلان
في هذه الحالة، يستقبل الهوائي الخاص بالرادار الموجة المرتدة ثم يتم حساب الوقت الذي استغرقته الموجة في الذهاب والعودة لتحديد المسافة، ثم مع حسابات إضافية يتم تحديد السرعة والاتجاه.
والفكرة الأساسية وراء الرادار في هذا السياق بسيطة، هي نفسها الطريقة التي يستخدمها الخفاش لتجنب العوائق، حيث يطلق الأخير موجات صوتية للأمام فترتد إليه فيعرف أن هناك حائط أمامه.
فيزياء التشتيت
تعتمد طائرات الجيل السادس مثل السوخوي سو-57 على عدة مبادئ أساسية في الفيزياء لتقليل المقطع العرضي للرادار، ويظهر ذلك بشكل أساسي في تقليل مقدار انعكاس موجات الرادار إلى رادارات العدو.
حيث تم تصميم شكل جسم هذه الطائرات باستخدام "مبدأ الانعكاس المرآوي"، وهو الانعكاس الذي يرتد فيه الضوء أو أي موجة كهرومغناطيسية عند اصطدامه بحائل من جهة واحدة بحيث تكون زاوية الانعكاس مساوية لزاوية السقوط.
لفهم الفكرة يمكنك استخدام قلم ليزر، وفي غرفة مظلمة قم بتوجيهه ناحية مرآة، هنا سينعكس بزاوية مساوية تماما للزاوية التي سقط بها، وكلما وسّعت من الزاوية بإمالة القلم اتسعت زاوية انعكاس شعاع الليزر.
في هذا السياق تصمم مقاتلات الجيل الخامس مثل السوخوي سو-57 بمزيج من الأسطح المائلة، والنتوءات على الحواف، وحجرات الأسلحة الداخلية، لتقليل الانعكاسات، مما يعني أن موجات الرادار ستنحرف بعيدًا بدلا من ارتدادها إلى الرادار، لأنها مضطرة للاستجابة إلى مبدأ الانعكاس المرآوي.
لكن إذا تمكنت الطائرة من تشتيت تلك الأشعة، لا ردها إلى الرادار، بشكل يشبه ألعاب تشتيت الضوء في متاحف المرايا، فإنها قد امتلكت ميزة التخفي، ولذلك ستلاحظ أن الطائرات المتخفية من الجيل الخامس تمتلك جميعا الشكل نفسه تقريبا مع اختلافات ليست كبيرة، مثل إف-22 الأميركية أو جيه-20 الصينية أو سو-57 الروسية، وذلك لأن الفيزياء واحدة، والهندسة المعتمدة عليها تكون واحدة كذلك مع اختلافات طفيفة.
مركبات خارقة
إلى جانب ذلك، فإن الطائرات من هذا النوع تكون عادة مطلية بمركبات تمتص الموجات الراديوية وتحول الموجات الكهرومغناطيسية إلى حرارة بدلا من عكسها.
من أمثال هذه المواد ما يسمى "بالمواد الخارقة"، ولفهم الفكرة تخيل أنك تلعب بقطع الليجو. عادة، تقوم ببناء أشكال بسيطة مثل المنازل أو السيارات. ولكن ماذا لو رتبت قطع الليجو بطريقة تجعل البنية بأكملها تتصرف بشكل غريب، مثل ثني الضوء أو جعل الأشياء غير مرئية؟ هذا هو بالضبط ما تفعله المواد الخارقة، ولكن باستخدام الموجات بدلا من الليجو.
المواد الخارقة هي مواد خاصة من صنع الإنسان يمكنها التحكم في الضوء والصوت والموجات الأخرى بطرق لا تحدث في الطبيعة. وهي مصممة بهياكل صغيرة تغير كيفية تحرك الموجات من خلالها.
فمثلا نعرف أن الضوء ينحني عندما يمر عبر الزجاج أو الماء، وهذا ما يسمى بالانكسار، ونعرف أن الموجات الصوتية ترتد عن الجدران، مما يخلق أصداء، وترتد الموجات الراديوية عن المعدن، وهذا هو السبب في أن الرادار يمكنه اكتشاف الطائرات.
تغير المواد الخارقة قواعد كيفية عمل الموجات، وهي تفعل ذلك باستخدام هياكل صغيرة مرتبة بعناية، بحيث تكون أصغر بكثير من الموجات نفسها.
فكر في الموجات مثل نهر يتدفق عبر الصخور. إذا تم ترتيب الصخور بالطريقة الصحيحة، فيمكنك التحكم في كيفية تدفق المياه بحيث لا ترتد، بل تمتص بين الصخور، أو يتم تشتيتها. وبالمثل، تتحكم المواد الخارقة في الموجات من خلال تشكيل هياكلها الداخلية الصغيرة.
ويقوم العلماء يوما بعد يوم بتطوير هذه المواد، ففي دراسة نشرت في 2023 بدورية "يوروبيان فيزكال جورنال" قام الباحثون بتصميم مادة خارقة جديدة يمكنها العمل على نطاق ترددي واسع، مما يعني أنها فعالة ضد أنواع مختلفة من الموجات الكهرومغناطيسية، ويمكّنها ذلك من امتصاص أو حرف أقوى من المواد الخارقة السابقة، مما يعزز التكنولوجيا التي تساعد في إنتاج طائرات الأجيال المستقبلية.
تخفيف البصمات
تعتمد فئة أخرى من الرادارات على بصمة الأشعة تحت الحمراء الخاصة بالطائرة، حيث إن محركات الطائرة تنتج حرارة، تطلق بدورها إشعاعا في نطاق الأشعة تحت الحمراء.
الأشعة تحت الحمراء هي نوع من الضوء غير المرئي الذي لا تستطيع عين الإنسان رؤيته، لكنه موجود حولنا طوال الوقت، وتنطلق عادة بسبب الحرارة، فأي شيء دافئ، مثل الشمس أو النار وحتى جسمك، يُصدر أشعة تحت الحمراء، ولذلك فإن كاميرات المراقبة الليلية تعمل بالأشعة تحت الحمراء.
وفي المقاتلات مثل السوخوي سو-57 تعمل فوهات المحرك المسطحة والمسننة على تشتيت غازات العادم، وبالتالي تقليل الانبعاثات الحرارية. وإلى جانب ذلك، توضع المحركات عميقًا داخل جسم الطائرة لحماية الأجزاء الساخنة.
ومن جانب آخر، تساعد الدورة المبردة الخاصة في المناطق الحرجة (مثل المحرك ومناطق خروج العادم) على امتصاص وتشتيت الحرارة قبل أن تشع للخارج، تمزج مثبطات الأشعة تحت الحمراء داخل نظام العادم الغازات الساخنة بالهواء البارد.
الحرب الإلكترونية
التخفي لا يتعلق فقط بالشكل والمواد، تلعب الفيزياء أيضًا دورًا في التدابير المضادة الإلكترونية (حيث قد تستخدم مثل هذه الطائرات إلغاءً نشطًا للموجات الصادرة من رادارات الخصوم، حيث تصدر أنظمتها الموجودة على متنها إشارات تتداخل مع موجات الرادار الواردة، مما يقلل من إمكانية اكتشافها.
لفهم الفكرة تخيل أنك في حفلة موسيقية صاخبة وتريد إلغاء الضوضاء. إحدى الطرق للقيام بذلك هي استخدام سماعات الرأس التي تعمل على إلغاء الضوضاء.
تتلقى سماعات الرأس هذه الضوضاء الخارجية وتنشئ موجة صوتية معاكسة تعمل على إلغائها، مما يجعل صوت الحفلة الموسيقية أكثر هدوءًا.
تعمل خاصية إلغاء الرادار النشط بنفس الطريقة، ولكن بدلا من إلغاء الضوضاء، فإنها تلغي موجات الرادار! وتستخدم هذه الخاصية في المقاتلات الشبحية، وكذلك مجموعة من السفن والغواصات والصواريخ.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

"انهيار دالة الموجة".. كيف تشكل ميكانيكا الكم واقعنا اليومي؟
"انهيار دالة الموجة".. كيف تشكل ميكانيكا الكم واقعنا اليومي؟

الجزيرة

timeمنذ يوم واحد

  • الجزيرة

"انهيار دالة الموجة".. كيف تشكل ميكانيكا الكم واقعنا اليومي؟

مقدمة الترجمة في العالم الكمومي، حيث تتراقص الجسيمات في بحر من الغموض والاحتمال، يبرز سؤال قديم: ما هو الواقع؟ هل هو ثابت كما نراه بأعيننا، أم أنه متغير، يتشكل ويتلون بحسب ملاحظاتنا له؟ في هذا العالم الكمومي المليء بالشكوك، تقف مشكلة القياس كعائق رئيسي، تسأل عن كيفية تأثيرنا في ما نراه من حولنا. تفسيرات متعددة تتقاطع وتتنافر، كل واحدة تحمل مفتاحًا لفهم ما وراء الستار، وتفتح أمامنا أبوابًا من التساؤلات التي تتعلق بمفهومنا عن الواقع وهل هو مستقل عن ملاحظاتنا أم متشابك معها. نص الترجمة لا تكمن المعضلة الحقيقية لميكانيكا الكم، أو السبب في أن يقف حتى الفيزيائيون أمامها حائرين؛ في أنها ترسم لنا واقعًا غريبًا وغير مألوف، فليس من الصعب أن نتقبل أن عالم الجسيمات الأولية، ذاك العالم الخفي الذي يتعذر علينا أن نراه أو نلمسه، يختلف كليًا عن عالمنا الذي نعيشه ونُدركه بحواسنا. فما إن نتساءل عما يحدث فعليًا للجسيم قبل إجراء القياس عليه، حتى نلاحظ أن نظرية الكم لا تُجيب عن هذا التساؤل، إذ لا تكمن المشكلة الحقيقية في أن ميكانيكا الكم ترسم عالمين مختلفين، بل في أنها تترك المساحات الرمادية بينهما دون تفسير. بمعنى أنها لا ترسم لنا الطريق الذي يعبر من عالم الجسيمات الغامض إلى واقعنا الملموس. ونتيجة لذلك، وبعد قرنٍ من نقشها على جدار العلم بوصفها تحفة علمية، لم تكشف لنا بعدُ عن جوهرها في تفسير الواقع. لسنا في عوزٍ من الأفكار، بل العكس من ذلك، فالتفسيرات تتكاثر، والمفاضلة بينها ليست مسألة دليلٍ علمي حاسم، بل أقرب إلى الذوق الشخصي أو إلى اعتبارات فلسفية، إذ إن معظمها عصيّ على التجربة ولا يخضع للاختبار. وكما قال الفيزيائي ن. ديفيد ميرمين مازحًا ذات مرة: "تتوالى التفسيرات الجديدة عامًا تلو آخر، ولا يكاد يختفي منها شيء". هل ما نراه هو الواقع حقًا؟ غير أنه في العقد الأخير، بدأت الأمور تأخذ منحًى مختلفًا، فمثلًا، أحد التوجهات الجديدة في النظرية هي أنها أصبحت تقدِّم توقعات قابلة للرصد تجريبيًا، مما أيقظ الأمل بإمكانية تحقيق تقدم علمي حقيقي يُضيء فهمنا لهذه النظرية. وفي الوقت نفسه، اكتسب توجه آخر في نظرية الكم زخمًا قويًا لأنه يبدو قادرًا على حل العديد من الألغاز المُحيِّرة في نظرية الكم دفعة واحدة. ولكن هذا التوجه يُثير تساؤلًا كبيرًا، حيث يفترض أنه لا يوجد شيء يُسمى "الواقع الموضوعي". وما قد يبعث على التفاؤل أكثر في مجال نظرية الكم، هو أن الفيزيائيين بدؤوا استكشاف طرق جديدة لاختبار صحة الافتراضات التي تقوم عليها النظرية. تتمثل هذه الخطوة في تحويل التجارب الذهنية المعقدة إلى اختبارات حقيقية على أرض الواقع، وهو ما سيفسح المجال لإحراز تقدم حقيقي في فهم ما تحاول نظرية الكم أن تشرحه أو تكشفه. وتعليقًا على ذلك، يقول إريك كافالكاني، عالم الفيزياء الكمية في جامعة غريفيث في كوينزلاند بأستراليا: "نحن الآن قادرون على تقليص الاحتمالات". زعزع تطور ميكانيكا الكم في منتصف عشرينيات القرن العشرين الأفكار الراسخة حول آلية عمل الكون، فمنذ أن صاغ إسحاق نيوتن قوانينه للحركة والجاذبية في القرن 17، بنى الفيزيائيون نظرياتهم بطريقة معينة تتضمن نظاما فيزيائيا (مثل حركة الأجسام)، ومعادلات رياضية تحدد كيف سيتغير هذا النظام مع مرور الوقت. لكن الميكانيكا الكلاسيكية تعجز عن تفسير سلوك الجسيمات دون الذرية، مثل الإلكترونات والفوتونات. وتشير التجارب إلى أن هذه الجسيمات تتصرف بطرق غريبة جدًا لا تتوافق مع المنطق الكلاسيكي. فعلى سبيل المثال، نجدها تتصرف أحيانا كموجات ويبدو أنها توجد في حالة "تراكب"، أي أنها تكون في عدة حالات أو أماكن في الوقت نفسه، بدلًا من أن تكون في حالة واحدة محددة. لكن هذا التراكب لا يستمر إلى الأبد، فعند قياس الجسيم، سرعان ما يكتسب خصائص مُحددة. تُجسّد معادلة شرودنغر هذا الغموض العميق، إذ تحتضن في طياتها مفهومًا رياضيًا يُعرف بدالة الموجة، تلك التي تضم في نسيجها كل الاحتمالات الممكنة لما قد نرصده. ومن خلالها يمكننا حساب احتمال ظهور الجسيم في مكان معين لحظة القياس، وهي اللحظة التي يُقال فيها إن دالة الموجة قد "انهارت" إلى واقع محدد. لكن، حتى في أفضل أحوالها، لا تملك هذه المعادلة أن تمنحنا يقينًا بنتيجة واحدة، فما قبل القياس ليس إلا عالمًا من الاحتمالات، لا من الحقائق. مجهولات الكون المهيبة ما الذي يحدث قبل لحظة القياس؟ الحقيقة أن نظرية الكم لا تُجيب على هذا السؤال، بل إنها لا توضح حتى ما الذي يُعَدُّ "قياسًا" من الأساس. ولا تُخبرنا إن كانت دالة الموجة -التي تُعرف غالبًا بالحالة الكمومية- تمثل واقعًا ماديًا فعليًا. وهنا تبرز المفارقة، فنظرية بهذا المستوى من القوة والنجاح العلمي، تحمل بين طياتها كمًّا كبيرًا من الغموض. لكن جميع هذه الأسئلة ينتهي بها الحال إلى سؤال جوهري واحد: كيف ينبثق هذا العالم المنظم، الواضح، والقابل للتنبؤ (عالمنا اليومي المصنوع من ذرات وجسيمات*) من عالم كمومي ضبابي وغير مرئي؟ هذا ما يُعرف في أوساط الفيزيائيين بمشكلة القياس التي لا تزال إلى يومنا هذا أعقد أسرار ميكانيكا الكم وأكثرها إرباكًا. إن التفسير التقليدي والأكثر شيوعًا لميكانيكا الكم يُعرف باسم "تفسير كوبنهاغن"، وقد سُمي كذلك نسبة إلى المدينة الدنماركية التي نشأ فيها هذا التوجه. ووفقًا لهذا التفسير، لا يمكننا معرفة أو قول أي شيء عن حالة الجسيم قبل قياسه، (بعبارة أخرى، الواقع لا يتحدد إلا في لحظة القياس*). ورغم غرابة هذا الطرح، فإن الرياضيات التي تستند إليها النظرية تعطي نتائج صحيحة، ولهذا أصبح شعار بعض الفيزيائيين كما قال الفيزيائي ميرمن ساخرًا: "اصمت واحسب!". لكن هذا التفسير لم يكن مقبولًا لدى الجميع، فقد كان آينشتاين نفسه من أبرز المعارضين، ورفض فكرة أن الكون يعمل على أساس الاحتمالات، وآمن بأن هناك قوانين حتمية تحكم الطبيعة، وعبّر عن رفضه الشهير لتفسير كوبنهاغن بقوله: "الله لا يلعب النرد مع الكون". لا يزال الكثير من الفيزيائيين يرون في تفسير كوبنهاغن نوعًا من التهرّب الفكري في مواجهة الأسئلة العميقة حول طبيعة الواقع. وعن ذلك، يقول الفيزيائي النظري رودريش تومولكا من جامعة توبنغن في ألمانيا، إن هذا التفسير لا يقدِّم إجابة جادة على سؤال جوهري: "ما الذي يوجد فعليًا في هذا الكون؟"، مشيرًا إلى أن ما يريده العلماء هو فهم حقيقي لطبيعة الواقع ذاته، لا مجرد أدوات رياضية تعطي نتائج صحيحة. وما يزيد من غرابة هذا التفسير أنه يترك الباب مواربًا أمام فكرة تبدو عبثية للوهلة الأولى، وهي أن الإنسان الواعي، المُراقِب، هو من يتسبب في انهيار دالة الموجة، وكأن الواقع لا يتبلور إلا حين ننظر إليه. ينتمي الفيزيائي رودريش تومولكا إلى المدرسة التي تُفضل تفسيرًا لميكانيكا الكم، التي ترى في دالة الموجة شيئًا حقيقيًا ماديًا، أي أنها تمثل العالم كما هو، سواء كنا نراقبه أم لا. هذا النوع من التفسيرات لا يربط وجود الواقع الفيزيائي بوعي الإنسان أو عملية القياس. ومن أشهر هذه التفسيرات يأتي "تفسير العوالم المتعددة"، الذي يفترض أن جميع النتائج المحتملة التي تحتويها دالة الموجة تحدث فعليًا، لكن في أكوان متعددة تتفرع عن عالمنا، ويشهد كل منها حدوث واحدة من هذه النتائج، ليشكل بذلك سلسلة من الأكوان المنفصلة التي تتوالد من تجربتنا الكونية. لكنّ ثمة اتجاهًا آخر يُعرف باسم "الانهيار الموضوعي"، يضم مجموعة من النماذج التي ترى أن ميكانيكا الكم ليست مكتملة، وأن شيئًا ما لا بد أن يُضاف إلى معادلة شرودنغر كي يُفسّر ظاهرة انهيار دالة الموجة. وتأكيدًا على ذلك، يقول أنجيلو باسي، الفيزيائي النظري في جامعة ترييستي الإيطالية: "الفرق الجوهري بين هذا التفسير والتفسير التقليدي هو أن انهيار دالة الموجة لا يحدث كأنه تعويذة سحرية تُلقى عند نهاية القياس، بل هو ببساطة جزء طبيعي من الديناميكا التي تحكم النظام". في السنوات الأخيرة، حظيت نماذج الانهيار باهتمام أكبر من معظم التفسيرات الأخرى، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنها تقدّم تفسيرًا معقولًا لكيفية نشوء الواقع الكلاسيكي دون الحاجة للرجوع إلى المراقب البشري. فوفقًا لهذا الطرح، فإننا لا نرى الأجسام الكبيرة مثل إطارات الصور أو فرش الرسم في حالة تراكب كمومي (أي في حالتين أو أكثر في آنٍ واحد)، لأن عملية الانهيار تعمل بطريقة طبيعية كلما زاد عدد الجسيمات المتفاعلة في النظام. بمعنى آخر، كلما زاد تعقيد الجسم وحجمه، زادت سرعة انهيار حالته الكمومية إلى حالة واحدة محددة، مما يجعل الواقع الذي نراه مستقرًا وموحدًا دون تدخل أو ملاحظة من الإنسان. لكن، ما الذي يُشعل فتيل هذا الانهيار المتواصل؟ الحقيقة أن الغموض ما زال يحيط بالإجابة. بعض النماذج تصمت تمامًا، وأخرى تهمس بأن الجاذبية هي السبب. لكن أنجيلو باسي يرى أن السر قد لا يُجاب عليه بجواب قاطع، بل ربما يكون الانهيار سِمة أصيلة من سمات الطبيعة، لا تفسير لها سوى أنها كذلك. ويقول: "لهذا أحب نماذج الانهيار، لأنها لا تغلق الباب على ما نجهله، بل تفتحه على مصراعيه أمام عالم جديد لم تُسبر أغواره بعد.. شيء يتجاوز حدود ميكانيكا الكم، ويقبع خارج مدى فهمنا الراهن". أما الفرق الحقيقي الذي يميز نماذج الانهيار عن غيرها هو أنها قابلة للاختبار. فعلى عكس العديد من تفسيرات ميكانيكا الكم التقليدية، فإنها تُقدِّم تنبؤات تجريبية واضحة يمكن قياسها عمليًا. تكمن الفكرة الأساسية وراء هذه النماذج في أن عملية الانهيار العفوي المستمرة للأجسام الكمومية يجب أن تؤدي إلى اهتزاز مستمر للجسيمات، وهو ما يؤدي بدوره إلى إصدار طاقة زائدة من هذه الجسيمات. ويجب أن تكون هذه الطاقة الزائدة قابلة للرصد، حتى وإن كانت الإشارة الناتجة عنها في غاية الضعف. على مدار العقد الماضي، انخرط باسي وزملاؤه من مختلف أنحاء العالم في برنامج تجريبي طموح، بحثًا عن إشارة قد تكشف السر وراء الانهيار الكمومي. وقد استعانوا بشكل أساسي بأجهزة الكشف التي كانت مُصمَمة للكشف عن آثار المادة المظلمة أو جزيئات النيوترينو المراوغة، مثل الأدوات فائقة الحساسية المدفونة في أعماق الأرض تحت جبال غراند ساسو في إيطاليا. وبمرور الوقت، بدأت نتائج تلك الجهود تظهر تدريجيا. ففي عام 2020، على سبيل المثال، استطاع فريق يضم باسي وكاتالينا كورسيانو، الباحثة في المعهد الوطني الإيطالي للفيزياء النووية، أن يستبعد أبسط أشكال أحد النماذج التي افترضت أن الجاذبية هي المسؤولة عن الانهيار الكمومي. ما زالت التجارب المماثلة جارية، ومع كل تحليل جديد نواجه قيودًا إضافية تحدد أيا من هذه النماذج قد يكون قابلا للتطبيق. ورغم أن فرصة استبعاد الانهيار الموضوعي باستخدام التجارب تُعد تقدمًا في حد ذاتها، فإن عملية تحقيق ذلك ما تزال بطيئة جدًا. ومن جانبه، يعلِّق باسي قائلًا: "حتى الآن، لم نرَ أي إشارة، لكن هذه مجرد البداية". لو تمكّنا من رصد إشارة يتفق الجميع على أنها تدعم فرضية الانهيار الموضوعي، فستكون بلا شك جديرة بجائزة نوبل. لكن، بحسب ما تشير إليه ماغدالينا زيخ، من جامعة ستوكهولم في السويد، فإن هذا لا يعني بالضرورة أننا سنفهم فورًا ما تعنيه نظرية الكم، إذ لا يزال علينا أن نكتشف ما هو العامل في البيئة الذي يسبب هذا الانهيار في المقام الأول. في السياق ذاته، تقول زيخ إن الكشف عن إشارة تدعم الانهيار الموضوعي سيكون بمثابة حل لمشكلة القياس، بمعنى إذا كنتَ تؤمن بأن نظرية الكم تفتقر إلى عنصر مفقود، فإن هذا هو العنصر المقصود. لكنها تضيف أن هذا لا يعني أننا سنفهم بالضرورة ما الذي تحاول نظرية الكم أن تخبرنا به عن طبيعة الواقع، إذ ما زال علينا أن نمنحها معنى، أن نُسمي ذلك الهمس الغامض في البيئة، ذلك "الضجيج" الذي يتسبب في انهيار دالة الموجة. وما هو أعمق من كل ما سبق -كما تقول زيخ- هو أننا حتى لو نجحنا في حل لغز "الانهيار الكمومي"، فلن نقترب كثيرًا من فهم لماذا تظهر خصائص الجسيمات عند القياس بطريقة احتمالية لا تخضع لقانون صارم. إننا رغم شغفنا باليقين مضطرون إلى الحديث عن الاحتمالات. وتتابع زيخ: لا يوجد سبب بديهي يمنع الجسيمات من أن تسلك سلوكًا حتميًّا، تحكمه قوانين لا تحتمل الشك. لكن حقيقة أنها لا تتبع مثل هذه القوانين تستدعي تفسيراً. عندما يتحكم الوعي في الواقع بالنسبة للباحثة زيخ، فإن النظرة إلى ميكانيكا الكم التي تتعامل مع هذا التحدي مباشرة تنتمي إلى فئة مختلفة تمامًا من التفسيرات. فبينما يُصر علماء مثل باسي وتومولكا على أن الحالات الكمومية تمثل واقعًا حقيقيًا ومستقلًا، يتخذ بعض الفيزيائيين موقفًا مغايرًا تمامًا: فهم يرون أن هذه الحالات لا تعبّر عن واقع مستقل على الإطلاق. يُعدُّ أبرز مثال على هذا التوجه هو تفسير "كيوبيزم"، الذي عُرف في البداية باسم "النظرية الكمية الكيوبية البانيزيانية". هذا التفسير يستند إلى إطار فكري لتأويل الاحتمالات، ووُضع في الأصل على يد الوزير توماس بايز في القرن 18. في التفسير التقليدي المعروف بالنهج "التكراري"، تُفهَم الاحتمالات على أنها نسب عددية تُستخلص من تكرار التجربة. فمثلاً، من خلال تكرار رمي العملة المعدنية مرات كثيرة، يمكن استنتاج أن احتمال الحصول على صورة أو كتابة هو 50/50. وبالمثل، فإن إجراء العديد من القياسات لجسيم كمومي يتيح لنا حساب احتمال وجوده في حالة معينة عند قياسه. أما النهج البايزي، فينظر إلى الاحتمال بطريقة مختلفة تمامًا، إذ يعتبره قيمة ذات طابع ذاتي (شخصي)، تمثل مستوى ثقتك أو اعتقادك بنتيجة معينة، وتُحَدَّث هذه القيمة مع توفر معلومات جديدة. تنطلق فلسفة "كيوبيزم" من رؤية بايزية للكون، تُحيل الاحتمالات إلى انعكاسٍ شخصي للتجربة لا إلى حقيقة موضوعية. وفق هذا المنظور، لا تُقدِّم ميكانيكا الكم وصفًا مطلقًا للواقع، بل توصيات لما ينبغي أن يعتقده الراصد حيال ما قد يراه عند القياس. هذا يعني أن ميكانيكا الكم، بحسب تفسير كيوبيزم، لا تصف حالة الجسيمات ذاتها، بل تساعد كل مراقب على توقع النتائج اعتمادًا على تجاربه السابقة، وتحديث توقعاته بناءً على التجارب الجديدة. يصف روديغير شاك، أحد مطوري هذا التوجه من جامعة ماساتشوستس في بوسطن، الأمر ببساطة: "إنها نظرية للذات الواعية، لتشقّ سبيلها في هذا الكون"، (أي أنها وسيلة لفهم وتوقع ما قد يحدث، وليست مرآة حقيقية لطبيعة الواقع المادي نفسه*). تكمن جاذبية هذا التفسير في قدرته على التعامل مع عدة ألغاز كمومية في آنٍ واحد، فهو يعالج مشكلة القياس من خلال إسناد دور محوري وأساسي للتجربة الذاتية للراصد، وبدلًا من اعتبار انهيار دالة الموجة حدثًا غامضًا أو فيزيائيًا، يرى روديغير شاك أن هذا الانهيار لا يعدو كونه مجرد عملية تحديث يقوم بها الراصد لمعتقداته بعد إجراء القياس. يرى تفسير "كيوبيزم" أن الواقع الكلاسيكي الذي نعيشه ليس شيئًا ينشأ تلقائيًا من عالم الكم الغامض، بل هو نتيجة تفاعلاتنا المستمرة مع العالم من حولنا، وانعكاس لتحديثنا المتواصل لمعتقداتنا عنه. تقدِّم هذه النظرة حلاً بسيطًا لما يُعرف بمفارقة "صديق فيغنر"، وهي تجربة فكرية شهيرة طرحها الفيزيائي يوجين فيغنر في خمسينيات القرن الماضي، تُظهر كيف يمكن لراصدين مختلفين (فيغنر وصديقه) أن يختبرا واقعين متناقضين عند مراقبة نظام كمومي. بالنسبة لمؤيدي هذه النظرية، لا توجد مفارقة في تجارب مثل مفارقة "صديق فيغنر"، لأن نتيجة أي قياس كمومي تُعتبر دائمًا تجربة شخصية ترتبط بالراصد نفسه فقط. وبهذا، يرفض تفسير "كيوبيزم" رفضًا قاطعًا الفكرة التي تشير إلى إمكانية الوصول إلى رؤية موضوعية شاملة للكون، أي نظرة "من منظور الطرف الثالث" المجرد. لكن هذا الرفض ليس عيبًا في النظرية، بل هو جوهرها، كما يؤكد روديغير شاك. فبرأيه، هذه هي الرسالة العميقة التي تحملها ميكانيكا الكم: أن الواقع أكبر من أن يُختزل في منظور خارجي محايد، إنه تجربة ذاتية في جوهره. وبالتالي تقدِّم لنا هذه النظرية طريقة جذرية ومختلفة تمامًا لفهم العالم. على الجانب الآخر، يجد بعض الأشخاص تفسير "كيوبيزم" صعبًا للغاية إلى الحد الذي قد يصعب هضمه. فمثلًا، يُصرّ "باسي" على أن الاعتراف بالواقع الموضوعي له ثمن باهظ لا يمكن دفعه، وذلك بقوله: "ما تهدف إليه الفيزياء هو وصف الطبيعة بأسلوب موضوعي". وهناك مشكلة أخرى تتمثل في أن هذه النظرية لا تبدو أنها تقدِّم تنبؤات يمكن ملاحظتها قد تختلف عن تلك التي تُقدِّمها ميكانيكا الكم التقليدية. وفي هذا الصدد، يعلِّق شاك قائلًا: "إقناع الناس قد يتطلب الإشارة إلى عيوب البدائل الأخرى". يبدو إذن أننا ندور في حلقة مفرغة، نعود فيها إلى نقطة البداية، فإن كان أملنا الأكبر في حلٍّ تجريبي لمعضلة القياس سيُخلّف وراءه أبوابًا مواربة من الأسئلة حتى وإن ثبتت صحته. وإذا كان البديل القادر على فتح تلك الأبواب عصيًّا على التجربة والاختبار، فإلى أين تمضي خُطانا من هنا!؟ ما زال في الأفق بصيص أمل، ففي الأعوام القليلة الماضية، بدأ بعض الفيزيائيين يشقّون طريقاً جريئاً في ميدان طالما ظُنّ أنه حكرٌ على التأمل الفلسفي لا على التجريب العلمي، حيث أظهروا أن الأسس التي تقوم عليها تصوراتنا لمعنى نظرية الكم -تلك التي بدت أقرب إلى ميتافيزيقا غامضة- قد تخضع هي الأخرى لمجهر الاختبار والتحقق. يُطلقون على هذا التوجه اسم "الميتافيزيقا التجريبية"، ويوضح الفيزيائي كافالكانتي، أحد روّاد هذا المسار، أن الهدف هو كشف الفرضيات الميتافيزيقية الكامنة خلف تفسيرات ميكانيكا الكم المختلفة، ثم إخضاعها لما يُمكن التحقق منه تجريبيًا. من بين هذه الفرضيات: أن تكون نتائج القياس واحدة في نظر كل من يراها، وأن يكون لدينا بالفعل حرية في اختيار طريقة القياس دون تدخل خفي، وألا يؤثر قرار ما في تجربة بعيدة أو حتى في الماضي. في السياق ذاته، يضيف كافالكانتي: "على الرغم من أن كل فرضية على حدة قد تبدو عصيّة على الاختبار، فإن جمعها في إطار متكامل قد يمنحنا القدرة على نفي بعض التفسيرات الكمّية بالكامل، أو على الأقل، إقصاء ما لا يتماشى مع الواقع". كان كافالكانتي جزءًا من الفريق الذي قدّم في عام 2020 أقوى برهان عملي حتى الآن لنهج "الميتافيزيقا التجريبية". في هذه التجربة، استعانوا بفوتونات لتنفيذ نسخة موسّعة من تجربة "صديق فيغنر" الفكرية، مضيفين إليها ظاهرة "التشابك الكمومي"، وهي خاصية غريبة تجعل الجسيمات مترابطة بشكل عجيب حتى لو فُصلت بمسافات شاسعة. ما توصلوا إليه كان مثيرًا: إذا كانت ميكانيكا الكم بصيغتها التقليدية صحيحة -أي إذا لم نجد أي إشارة لانهيار موضوعي للدالة الموجية- فإننا مضطرون للتخلي عن أحد المبادئ الثلاثة التالية: مبدأ "المحلية" (أن ما يحدث هنا لا يمكن أن يتأثر بما يحدث بعيدًا بشكل فوري)، أو "حرية الاختيار" (أن خياراتنا في القياس لا تخضع لعوامل خفية)، أو "ثبات الأحداث المرصودة" (أن نتيجة القياس يجب أن تكون واحدة في نظر الجميع. استخدم كافالكانتي وفريقه تجربة متطورة لتقييد افتراضات الواقع الفيزيائي. توصل الفريق إلى أنه إذا أردنا الحفاظ على مبدأ حرية الاختيار مع مبدأ المحلية، يجب أن نتخلى عن فكرة أن الأحداث المرصودة ثابتة لجميع المراقبين. وعلى الرغم من أننا لم نصل بعدُ إلى مرحلة يمكننا فيها القول بأن أي تفسير آخر هو التفسير الصحيح لما تعنيه ميكانيكا الكم، فإننا من خلال التجارب والاختبارات الحالية، أصبحنا قادرين على تقليص الاحتمالات والتوجه نحو التفسير الأنسب. عوالم معلّقة على خيط من الهشاشة على الجانب الآخر، يسعى كافالكانتي وزملاؤه للتقدم في التجربة إلى أبعد من ذلك. ففي تلك التجربة، استخدموا كواشف للفوتونات بدلاً من فيغنر، واستخدموا الفوتونات نفسها كبديل لصديقه. ومع ذلك، من الواضح أن الفوتونات تختلف جذريًا عن المراقبين البشريين الذين تخيلهم فيغنر في الخمسينيات. فالفوتونات لا تعتبر من المراقبين بالمعنى التقليدي. كما أنه يصعب الحفاظ على جزيء يحتوي على عدة آلاف من الذرات في حالة تراكب كمومي بسبب هشاشة الحالات الكمومية، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بتعقيد إنسان! غير أن كافالكانتي وزملاءه اقترحوا أن الذكاء الاصطناعي المتقدِّم في المستقبل قد يكون قادرًا على إجراء تجربة مماثلة باستخدام حاسوب كمومي كبير، حيث يمكنه إجراء تجربة محاكاة في المختبر. ويعتقد الفريق أن هذا النوع من التجارب قد يُظهر ما إذا كان علينا فعلاً التخلي عن فكرة الموضوعية التي نتمسك بها، حتى وإن كنا بعيدين عن القدرة على إجراء مثل هذا النوع من التجارب حاليًا. إذن، هل نحن قريبون من الوصول إلى تفسير نهائي لما تقوله ميكانيكا الكم عن طبيعة الواقع؟ الحقيقة أننا في كثير من النواحي لم نتقدم كثيرًا عن زمن العلماء الأوائل الذين أسّسوا ميكانيكا الكم واختلفوا حول معناها. يقول الفيزيائي كافالكانتي إن الشيء الوحيد الذي نعرفه بيقين هو أن الطريقة الكلاسيكية في فهم العالم لم تعد صالحة لفهم الظواهر الكمومية. وقد أثبتنا فشل هذا المنظور التقليدي من خلال الرياضيات والتجارب العلمية بدرجة من اليقين تُضاهي أقصى ما يمكن أن نصل إليه في أي علم. في الوقت الراهن، علينا أن نقرر بأنفسنا أيا من التفسيرات المختلفة لمعنى ميكانيكا الكم يبدو لنا أكثر إقناعًا من الناحية النظرية، أي أن نختار ما إذا كنا مستعدين للتخلي عن فرضية معينة، وما الثمن الذي نحن على استعداد لدفعه مقابل التمسك بالمبادئ أو الفرضيات التي نعتبرها الأهم والأكثر قيمة بالنسبة لنا؟ ويضيف كافالكانتي أن بوصلة الفهم قد تهتدي إلى الاتجاه الصحيح إذا ما بحثنا في العلاقة بين ميكانيكا الكم ونظرية النسبية العامة لآينشتاين، تلك التي ترى في الجاذبية انحناءً في نسيج الزمكان تُحدثه الكتلة. فإن استطاع أحد التفسيرات الكمومية أن يفتح لنا بابًا لفهم هذه العلاقة الغامضة، فربما يكون ذلك هو الخيط الذي يقودنا إلى الحقيقة. ويتابع: "أرى أن التجارب التي تخوض في أساسيات النظرية ليست عبثًا، بل لعلها المفتاح، فمسألةُ هل الأحداث في الكون مطلقة أم لا، ليست مجرد تأملات فلسفية، بل هي أساس لا غنى عنه لبناء نظرية كمومية متماسكة للجاذبية". في هذه الأثناء، بدأنا نخوض أولى خطوات الفهم، من خلال إعادة صياغة ألغاز ميكانيكا الكم بلغة أقرب إلى عقولنا، وتصميم تجارب تسهم في تضييق هوّة الاحتمالات. وكل ما بوسعنا فعله هو المضيّ قُدماً في ابتكار أدوات أعمق وأكثر دقة لفهم هذا العالم المتشابك. وكما يقول كافالكانتي: "لا يمكن أن يتضاءل فهمك للعالم حين تنظر إليه من أكثر من زاوية، بل تتّسع رؤيتك كلما تعددت سُبُل التأمل". ____________ * إضافة المترجم

لأول مرة.. علماء يحولون الرصاص إلى ذهب لحظيًا
لأول مرة.. علماء يحولون الرصاص إلى ذهب لحظيًا

الجزيرة

timeمنذ 4 أيام

  • الجزيرة

لأول مرة.. علماء يحولون الرصاص إلى ذهب لحظيًا

لطالما حَلَم الناس قديمًا -وربما في أيامنا الحالية أيضًا- بتحويل المعادن إلى ذهب، وهو الحلم الذي سعى "الخيميائيون" القدامى إلى تحقيقه، لكن محاولاتهم لم تكلل بالنجاح مطلقا. وانتقالًا من القرن الثاني عشر إلى القرن الحالي، تحديدا 7 مايو/أيار 2025، تمكن مجموعة من الباحثين في مختبر فيزياء الجسيمات "سيرن" بسويسرا من إنتاج عدد ضئيل من جزيئات الذهب باستخدام الرصاص، باستخدام "مصادم الهدرونات الكبير"، الأكبر في العالم. وتعد هذه التجربة الأولى من نوعها التي ترصد إنتاج الذهب وتحلله معمليًا، بحسب الدراسة التي نشرت في دورية "فيزيكال ريفيو سي". هل نحن بصدد تحويل المعادن إلى ذهب؟ يُصَرِّح الدكتور مصطفى بهران -الأستاذ الزائر في قسم الفيزياء بجامعة كارلتون الكندية- للجزيرة نت: "الهدف الرئيس من هذا العمل دراسة أنماط انبعاث البروتونات في هذه التصادمات من أجل تعزيز فهم الفيزياء الأساسية، ما قد يساعد في تطوير النظريات المتعلقة بالتفاعلات النووية وإنتاج الجسيمات". ويضيف بهران "البحث تقني تمامًا ولا توجد له تطبيقات مباشرة خارج المعرفة الفيزيائية، ولا يرتبط البحث كذلك بهدف إنتاج الذهب". جدير بالذكر أن الرصاص يحتوي على 82 بروتونًا، بينما يضم الذهب 79 بروتونًا، ومن أجل أن يتحول الرصاص إلى ذهب، ينبغي أن يفقد الرصاص 3 بروتونات، الأمر الذي يحتاج إلى طاقة شديدة القوة، وهو الدور الذي مارسه "مصادم الهدرونات الكبير". تصادمات من نوع مُخْتَلِف تعتمد طريقة عمل مصادم الهدرونات الكبير على توجيه أشعة تحوي الهدرونات (جسيمات تحت ذرية غالبًا ما تتكون من البروتونات أو النيوترونات التي تمتلك قدرًا هائلًا من الطاقة) بسرعة مقاربة لسرعة الضوء، وهو سبب تسمية هذه الآلة باسم "مسارع الجزيئات". ويُطلِق الجهاز حزمتي أشعة من هذا النوع حيث يعمل الباحثون على توجيههما -أي حزمتي الأشعة- باستخدام المجالات المغناطيسية إلى أن يكونا في اتجاه معاكس، الأمر الذي يؤدي إلى تصادم الجزيئات. يوضح بهران أن التصادم الحادث في هذه الدراسة "تصادمات طرفية، بمعنى أن النوى (جمع نواة) لا تصطدم مباشرة ببعضها بعضًا، وبدلًا من ذلك تتفاعل من خلال القوى الكهرومغناطيسية دون أن تتلامس، إن صح التعبير". ومرور هذه الأيونات بعضها بالقرب من بعض يُطلق قدرًا من الطاقة في صورة فوتونات، وتسبب هذه الفوتونات عالية الطاقة فقدان نواة ذرات الرصاص -المستخدمة في التجربة- لثلاثة بروتونات، مما يعني التَحَوّل إلى ذرات من الذهب. ذهب غير مستقر ما بين العامين 2015 و2018 رصد الباحثون كمية ذرات الذهب المتكونة جراء هذه التصادمات الطرفية، فقدروها بنحو 86 مليار ذرة من الذهب، أو ما يساوي نحو 29 تريليون من الغرام الواحد (1/29 تريليون غرام). واتسمت هذه الذرات بانعدام استقرارها، فقد رصد الباحثون بقاء ذرات الذهب مدة ميكروثانية واحدة قُبيل اصطدامها بمكونات مصادم الهدرونات، أو تكسرها إلى جزيئات أخرى. تتميز هذه الدراسة بأنها الأولى التي استطاعت رصد إنتاج ذرات الذهب وتحليلها معمليًا، نظرًا لوجود جهاز مخصص للكشف عن هذه الذرات ضئيلة الكم، بحسب بوليانا دمتريفا عالمة الفيزياء النووية الروسية. فهم أكبر لكوننا الكبير ويرى بهران هذه التجربة تمثل خطوة جديدة نحو فهم عالمنا بصورة أفضل من خلال الكشف عن مزيد من خبايا علم الفيزياء. إعلان ويضيف "استنادًا إلى هذا البحث يمكن استكشاف عدة اتجاهات محتملة مستقبلًا، منها تحسين النماذج النظرية لفهم انبعاث البروتون في هذه التصادمات، سواء بالأعمال النظرية الأساسية أو المحاكاة". ويوضح بهران أنه "يُمكن أيضًا إجراء مزيد من التجارب التي تتضمن تصادمات مماثلة باستخدام طاقات مختلفة أو أنواع مختلفة من النوى، لمعرفة كيفية تَغَيُر أنماط انبعاث البروتون، وقد يسهم البحث في تطور فهمنا للفيزياء الفلكية". الاستكشافات العلمية الكبرى تبدأ بأحلام بدأت محاولات تحويل المعادن مثل الرصاص والنحاس قديمًا، مارسها من أُطْلِق عليهم آنذاك الخيميائيون، والخيمياء تمثل نوعًا من العلوم الأولية التي اعتمدت على المزج بين التجريب والفلسفة، وظهرت هذه الممارسات مبكرًا في مصر القديمة واليونان، ثم الدولة الإسلامية، إلى أن وصلت إلى أوروبا وذاع صيتها في القرن الثاني عشر. وحاول الخيميائيون تحويل المعادن إلى ذهب عبر مزج عدد من المواد وتسخينها فيما يُشبه العمليات الكيميائية المتعارف عليها، مما يجعل الخيمياء تمثل خطوة أولى نحو علم الكيمياء. وحلَم الخيميائيون -إلى جوار إنتاج الذهب- بالوصول إلى حجر المعرفة (حجر الفيلسوف) الذي اعتقدوا أنه سيساعدهم في الكشف عن سر الشباب والصحة الأبديَّتيْن، وهو بالطبع ما لم يتمكنوا من تحقيقه.

‫ مهارات الاستعداد للامتحانات
‫ مهارات الاستعداد للامتحانات

العرب القطرية

timeمنذ 6 أيام

  • العرب القطرية

‫ مهارات الاستعداد للامتحانات

-A A A+ مهارات الاستعداد للامتحانات المهارة: هي فن توظيف الممكن في اللامحدود. وقد عرفها الإطار الوطني للمؤهلات لدولة قطر: هي القدرة على القيام بأمر ما. وقسمها إلى مهارات إدراكية وعملية والتواصل والاتصال مع الآخرين. وفي ذات السياق الزمني ترد إشكالية: مدى تمكّن أبنائنا الطلبة من أدوات ومهارات المراجعة والاستذكار للامتحانات والأداء بالمستوى المطلوب؟ وسواء في مرحلة التعليم العام أو مرحلة التعليم الجامعي ما زلنا بحاجة ماسة لتطوير مثل هذه المهارات في الأجيال الحالية والقادمة لتحقيق أهداف منها: 1- تحقيق الأداء الذاتي والحقيقي في العملية التعليمية. 2- بناء معززات التعليم الذاتي والمستمر؛ وهو أحد أهم المخرجات التعليمية بالإطار الوطني للمؤهلات. 3- تحسين الذاكرة البشرية والمقومات الإدراكية التي من خلالها يتم القيام بعمليات التعلم والتفكير والوعي. أما بالنسبة لمهارات الاستذكار فهي عديدة ويمكن تقسيمها إلى مستويات منها: أولاً: المقدمات: وهي مجموعة من المهارات والأدوات التي تتقدم على عملية المراجعة مثل: 1- إدارة الوقت: خصوصاً أن زمن الاستذكار من ناحية الجودة التعليمية يخضع لمعايير معينة ويتم احتسابها وفقاً للأسس علمية وهي تساوي مجموع ضعف عدد الساعات التي يدرسها الطالب في المادة أو المقرر الواحد أسبوعياً فمثلاً إذا يدرس الطالب مقررا من ثلاث ساعات مكتسبة فإن عليه وقتاً للاستذكار والمراجعات والواجبات لا يقل عن ست ساعات أسبوعياً. وهذا يفترض أن تتم مراعاته في خطط وتوصيف المقررات الدراسية. 2- إدارة الأولويات: تنظيم المهمات من حيث طبيعتها ومدى حاجة الطالب لمراجعة مقررات أو مواد دراسية وإعطاؤها أهمية واهتماماً. 3- تشخيص التحديات: بعض الطلبة يصل إلى مستوى تعليمي متقدم ويعاني من صعوبات في المستوى وهذا يرجع إلى جذور ذات صلة في مستويات تعليمية سابقة. فمثلاً قد يعاني الطالب من صعوبات في مادة الرياضيات أو الفيزياء أو غيرهما في الثالث ثانوي وقد يرجع ذلك إلى عدم فهمه وإدراكه لمعلومات أولية في مادة الرياضيات بالصف الثالث إعدادي. ثانياً: مهارات أصيلة: مجموعة من المهارات والمكانزمات التي تساعد على عمليات الاستذكار وقد تختلف من طالب لآخر أهمها: 1- الخرائط الذهنية. 2- تصميم وإعداد الملخصات. 3- الانفوجرافيك والجرافيك. 4- تحويل المادة العلمية إلى مقاطع فيديو قصيرة باستخدام الذكاء الاصطناعي. 5- تحويل كل ما يتم دراسته إلى محسوسات وفقاً لنظرية التعلم المسرع. 6- استراتيجية 5 دقائق للمراجعة + 20 دقيقة للفهم والاستيعاب + 5 دقائق للاستراحة. 7- تحويل المادة العلمية أثناء الاستذكار إلى قصة مشوقة. 8- صياغة الأسئلة وهي تخضع لمستويات المعرفة بحسب الإطار الوطني للمؤهلات. 9- اتقان مستويات الفهم والتذكر والتطبيق والتحليل والتركيب والتقويم الإبداعي. ثالثاً: مهارات تابعة أو مكملة: مثل: 1- التغذية الجيدة. 2- مكان الاستذكار. 3- العلاقة بين وقت المراجعة والفترات الزمنية لعمليات الإيض. 4- العامل النفسي والتخلص من الضغوط والمؤثرات الخارجية (الجوال) وأخيراً للتفوق عدة مفاتيح ومقومات وكلما امتلك الطالب أكبر عدد من هذه المفاتيح والوسائل والأسباب كان للنجاح أقرب. تغريدة: ذاكر بذكاء لا بعناء. @maffatih

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store