
أسرار الاحتياطي الفيدرالي .. كيف تعامل "ملك المصارف" مع ضغوط البيت الأبيض عبر التاريخ؟
قبل 118 عاما، تلقى المصرفي الأمريكي جون بيربونت مورجان سيلا من برقيات المستثمرين ورجال البورصة يطالبونه فيها بإيجاد حل للأزمة المالية التي دفعت المودعين إلى سحب أموالهم فجأة من البنوك، ما أدى إلى انهيار النظام المصرفي، وكحل مؤقت دعاهم "مورجان" إلى مكتبه في وول ستريت لوضع تصورات نهائية لحل الأزمة، وكانت أبرز الاقتراحات تأسيس صندوق برأسمال قدره 10 ملايين دولار لدعم "البنوك المفلسة" وإنشاء مصرف مركزي يكون بمنزلة "ملاذ أخير" في وقت الاضطرابات، وهو ما حدث في 1913 حين تأسس البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، لكن "مورجان" لم يرَ تلك اللحظة إذ توفي قبلها بفترة قصيرة.
أهمية الاحتياطي الفيدرالي ظهرت منذ اللحظة الأولى باعتباره الكيان المسؤول عن السياسة المالية وصيانة الاستقرار والعملة الوطنية وتأمين النقود والتحكم في معدل الفوائد على القروض، إضافة إلى سلطة الإشراف على عمل البنوك والتأكد من عدم اتباعها سياسة احتيالية أو متهورة، كما أنه مسؤول أيضًا عن احتواء أي مخاطر تهدد هذا النظام، ومع تعاظم دور أمريكا الاقتصادي طوال القرن العشرين تخطى الاحتياطي الفيدرالي دوره الوطني وأصبح هو المؤثر الأكبر في حركة المال والأعمال العالمية، فيما تصفه الدراسات بـ"الحاكم الفعلي للعالم" من خلال 3 مسارات يمكن للاحتياطي الفيدرالي أن يتحكم في سعر رغيف الخبز في أكثر من نصف العالم، فـ60% من احتياطيات البنوك المركزية حول العالم بالدولار، 80% من حجم التجارة العالمية بالعملة الخضراء، أما المسار الثالث فمن خلال سعر الفائدة الذي يحدده الاحتياطي الفيدرالي، إذ عبره يتم تحديد اتجاه حركة الأموال عالميًا، وبسببه تعيد الدول تقييم عملتها لتواكب حركة السوق، كما أن سوق السندات الأمريكية تعد هي الأكبر عالميًا بقيمة تبلغ نحو 55 تريليون دولار، ويعد "الفيدرالي" أكبر لاعب في هذه السوق.
أهمية كتلك تتطلب شفافية كاملة في كيفية اتخاذ القرارات التي تتحكم في مصير العالم الاقتصادي ومئات الملايين من البشر، لكن هذا لا يحدث مع "الفيدرالي" الذي يحيط به الغموض في كثير من الأوقات، مثل اجتماعاته المغلقة التي يحظر خلالها على الأعضاء استخدام هواتفهم أو الوصول إلى الإنترنت، وتجنب استخدام لفظ "إنقاذ" خلال أزمة 2008 المالية خوفًا من إثارة غضب الرأي العام، بل أحيانًا يتعمد رئيس "الفيدرالي" الأمريكي الإدلاء بتصريحات غامضة مثل آلان جريسنبان الذي اشتهر بذلك مبررًا أسلوبه بقول "إذا بدوت واضحًا جدًا فربما أخطئ في التعبير" لكن الحقيقة كما رآها آخرون أنه كان لا يريد للأسواق العالمية أن تفهم نواياه بدقة.
هيكليًا يتكون مجلس الاحتياطي الفيدرالي من 7 محافظين يعينهم الرئيس وتبلغ مدة تعيينهم 14 عاما، ورغم أن البنك نفسه مؤسسة مستقلة لا تتبع جهة وليس من الضروري أن يقر الرئيس أو أي مسؤول ما يتخذه "الفيدرالي" من قرارات وسياسات، ويملك الكونجرس فقط حق المراقبة، إلا أن تلك الاستقلالية التامة لم تكن حاضرة طوال الوقت، فالرئيس ليندون جونسون ضغط على رئيس الفيدرالي وليام مارتن عام 1965 من أجل خفض الفائدة لدعم الإنفاق على حرب فيتنام، وكرر ذلك ريتشارد نيكسون 1974 لدعم الاقتصاد وخفض التضخم، حتى جون كينيدي وباراك أوباما فعلا نفس الأمر، لكن من خلال الاجتماعات المغلقة وفقًا لصحيفة "الجارديان" البريطانية.
سار ترمب على نفس النهج، ففي ولايته الأولى اختار جيروم باول لرئاسة الفيدرالي لكن سرعان ما دب الخلاف بين الرجلين بسبب رفع الفيدرالي للفائدة وهو ما أزعج "دونالد" الذي اتهم المؤسسة المالية العريقة بأنها السبب في إبطاء الاقتصاد خاصة قبل انتهاء ولايته الأولى 2020، ومع عودته إلى البيت الأبيض مرة أخرى تجدد الخلاف حول سياسة الفائدة، إذ دعا الرئيس الأمريكي في أكثر من مناسبة إلى خفض تكاليف الاقتراض لتعزيز النمو الاقتصادي وهو ما يعارضه رئيس المصرف المركزي تحت دعاوى احتواء التضخم، ولم يكن أمام ترمب سوى وصف باول عبر منصة "تروث سوشيال" بأنه "متأخر ومخطئ دائمًا".
كل خلاف بين الرئيس الأمريكي ورئيس الفيدرالي كانت له فاتورته الاقتصادية وتأثيره في العملات الأخرى، وبينما اختارت أوروبا أن تترك عملتها الموحدة "اليورو" في مواجهة العرض والطلب، اتخذت دول الخليج وفي مقدمتها السعودية مسارا آخر من خلال ربط العملة المحلية بالدولار عند سعر ثابت لا يتغير في مقابل بيع النفط بالدولار، وبتلك المعادلة التي طبقت منذ ثمانينيات القرن الماضي استطاعت دول الخليج حماية عملتها واقتصادها من أي توتر أو تقلبات في أسواق الطاقة، كما رأى ماتياس أنجونيون المحلل المالي في وكالة موديز، والسؤال الآن: أي الدول ستكون ضحية خلاف "ترمب – باول" إن تصاعدت حدته؟
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
ترمب وبوتين: التاريخ والاستراتيجية والمصالح
ثمةَ قناعة أنَّ ترمب يكنُّ الودَّ لبوتين ويجدُ له دائماً الأعذار، بدليل تكذيبه مخابراتِ بلده بأنَّ روسيا تدخَّلت في الانتخابات الرئاسية، وتصديقه بوتين، وتراجعه عن عقوبات كانَ سيفرضها بعد خمسين يوماً وتخفيضها لعشرة أيام، ثم مكافأة بوتين بقمة في ألاسكا، علاوة على كلمات الإطراء، والتعظيم، والأهم تهزّؤُه بزيلينسكي الشهير في البيت الأبيض. ويجهد ترمب لتخليد اسمه في التاريخ بتكراره دائماً استحقاقه جائزة نوبل للسلام، لكونه أوقفَ ست حروب في أفريقيا وآسيا، ولم يبقَ إلا أوكرانيا. ويرى المتتبع لسلوك ترمب قناعتَه المطلقة أنَّه صانعُ الصفقات، ولا مشكلة إلا وحلُّها عنده، وبالتالي يُسخِّر إمكانات أعظم دولة في العالم لحل النزاع الأوكراني دونما اعتبار لمصالح حلفائه وأمنهم، ولا يجرؤ أحد في إدارته على الاعتراض مخافة الطرد. بالمقابل يرفع بوتين، المهووس بالتاريخ وبعظمة روسيا وبرصيد كبيرٍ من العمل المخابراتي وخبرة واسعة في العلاقات الدولية، شعار المظلومية؛ لقناعته الجازمة أنَّ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 كان «أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين»؛ ولإصلاح الخلل بدأ بالشيشان فاحتلّه، وانتقل لجورجيا وضمَّ أجزاء منها، ثم وصل للعاصمة كييف قبل أن يبدأ التراجع تحت نيران المقاومة الأوكرانية وأسلحة حلف الناتو. بوتين، مهما تكن الصعاب، ماضٍ في التحدي، ومثالُه المحتذى بطرس الأكبر باني إمبراطورية روسيا، وستالين مؤسس الاتحاد السوفياتي، ولا يرى نفسَه أقلَّ منهما رتبةً ولا عزماً. هذه الخلفية السابق ذكرها تُحدد أُطر تفكير ترمب وبوتين، ونظرتيهما للتاريخ، واستراتيجيتيهما: بوتين نذَرَ نفسه لتوسيع حدود روسيا، ولن يتوقف في حربه الأوكرانية إلا بمعاهدةٍ تُعيدها قسراً لحضن روسيا الأم؛ فخلال سِنِي حُكمه الطويلة بنى قوة عسكرية، وجدَّد أسلحة الدمار الشامل، ونفّذ استراتيجية «الجوار القريب» الهادفة إلى حماية قلب روسيا بدول تابعة تدور في فلكها. كما وضع روسيا مجدداً على خريطة العلاقات الدولية، فتدخّل في نزاعات أفريقيا والشرق الأوسط، ورمّم صداقاته مع دول أميركا الجنوبية المناوئة لأميركا. ولكونه يملك أسلحة نووية، ومُخاطِراً في قراراته، لم يجرؤ جورج بوش على نقل أسلحة لحكومة جورجيا، مخافة أن يُسقطها بوتين وتنشب حرب عالمية، وطلب الرئيس أوباما من الرئيس ميدفيديف آنذاك أن ينقل لبوتين أنه سيكون أكثر ليونةً معه عند انتخابه ثانية. والآن، يعيش بوتين عصره الذهبي مع ترمب القوي داخلياً، والكاره للرئيس زيلينسكي؛ لرفض الأخير مساعدته في توفير أدلة تُدين نجل منافسه الرئيس بايدن. وقد قال لزيلينسكي موبّخاً: «ليس لديك أوراق»، وعليك أن تعقد صفقة مع بوتين قبل أن تخسر دعمنا. ترمب يريد صفقة، ولو غير عادلة، لإغلاق ملف أوكرانيا، ونَيل جائزة نوبل، وسحب روسيا استراتيجياً من فلك الصين المهدِّدة لهيمنة أميركا؛ ويدرك أن اليمين الأميركي المتشدد يتماهى مع روسيا دينياً وحضارياً، ويعرف رغبة رجال الأعمال الأميركان بالاستثمار في روسيا الغنية بالموارد الطبيعية، وبالذات المعادن النادرة التي تحتاج إليها الصناعات الأميركية. فترمب عندما يفكر لا يرى إلا المصالح الآنيّة، ولا يعطي بتحالفاته أهمية للتاريخ، ويرى العالم بمنظار علاقات ثنائية لا مكانَ فيها للقيم الديمقراطية ونشرها، وشعاره: ماذا أكسب، وماذا أخسر. هذه النزعة يركز عليها بوتين ويُسخِّرها استراتيجياً لدقّ إسفين بين أوروبا وأميركا؛ لذلك ركز، في كلمته في أعقاب القمة في ألاسكا، على العلاقات التاريخية مع أميركا، والفرص الاستثمارية، واحترامه لترمب، وخوفه أن تُخرِّب أوروبا ما اتفقا عليه في القمة. ويدرك بوتين قوة رباط أميركا بأوروبا، لكنه لا ييأس، وبأقل الحالات يكسب الوقت، رغم معرفته كراهية ترمب للمماطلة؛ لهذا كالَ المديح لترمب وقدراته التفاوضية وصبره. حفَرَ بوتين، خلال سنوات حكمه، اسمه في تاريخ روسيا، بينما لا يزال ترمب يحلم بجائرة نوبل للسلام. الفارق بينهما أن ترمب يفكر بنفسه ويقدمها على سُمعة أميركا ومصالح حلفائها، بينما يهتم بوتين بدوره في تسطير تاريخ بلاده؛ ترمب تهمُّه الجائزة، وبوتين ارتقاء روسيا. ما يخشاه بوتين تقلّب ترمب، ومزاجيته، وإدراكه حنكة أوروبا وقدراتها. ويدرك ترمب أن أوروبا عَقبة أمام الجائزة، ويدرك بوتين أنها عقبة أمام كسْبه ترمب؛ لأن أوروبا ترى الانتصار الروسي بأوكرانيا خطراً كبيراً على أمنها، وعلى سُمعتها كاتحاد أوروبي؛ وما دامت قادرة على الرفض بدبلوماسية لبقة، وعلى بناء قدراتها العسكرية، سيبقى بوتين دبلوماسياً مرناً مع ترمب، ومنصتاً له، ليبقى التناوش مع أوروبا، ويتمكن من احتلال أراض أوسع في أوكرانيا. أظهرت قمة ألاسكا أن ترمب يحب بوتين، ويريد حلاً سريعاً لأزمة وكرانيا التي أخذت حيزاً كبيراً من اهتماماته، وعليها تتوقف سُمعته كصانعٍ للسلام، وأظهرت أنه لا تسوية دون أوروبا، وأن النقاش كله حول المصالح والمغانم؛ وأثبتت لمن يتعظ أن القوة والتحالفات ضمانة وليس القانون الدولي.


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
ألاسكا... قمة صانع الصفقات ورجل المخابرات
لكلٍّ سمةٌ مميزةٌ، ومع ذلك فهناك تقاطعاتٌ ومشتركاتٌ كثيرة. الرئيس ترمب يفضل لقبَ صانع الصفقات. لا يهم كيف تكون الصفقة ومن الطرف الآخر، المهم أن تكون في صالح مجد بلاده، ورصيداً شخصياً يدعم رغبة دفينة لنيل لقب صانع السلام. الرئيس بوتين؛ الأصل رجل مخابرات، والامتداد رئيس روسيا؛ انتشلها من أصعب الأوقات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وصعد بها قليلاً وأعاد تموضعها العالمي، وأكسبها قدراً من الاحترام لدى كثير من الدول، وقدراً من العداء لدى الغرب المتوجس من روسيا دائماً. ولكنه يعاني وبلاده كثيراً من عواقب العملية العسكرية في أوكرانيا، التي لا يعرف أحد كيف ومتى تنتهي. قمة ألاسكا وصفت خطوةً من أجل البحث عن حل لتلك المعضلة في صيغة صفقة بين رجلين أحدهما يرغب في أن يحقق حلمه الأكبر؛ جائزة نوبل للسلام. والثاني يبحث عن مخرج من حرب مفتوحة وعقوبات قاسية وعزلة دولية، ولكن دون أن يتخلى عن المكاسب الإقليمية التي حققها في الأراضى الأوكرانية، فضلاً عن ضمانات أخرى مكتوبة وموثقة بوقف تمدد «الناتو» صوب حدود بلده، والمهم أيضاً تخفيف العقوبات الاقتصادية ولو تدريجياً، ووصولاً إلى رفعها كلياً. الرمزيات في قمة ألاسكا كانت كثيرة، وعبرت عن الأسلوب الذي أراد كل طرف أن يوثقه رسالةً عملية. ترمب من جانبه عبر عن قوة أميركا العسكرية؛ طائرات الشبح تحوم لحظة استقبال الضيف، وخلفية اللقطة الرئيسية الأولى عدد كبير من الطائرات المقاتلة حديثة الصنع. ألاسكا نفسها رمزية تاريخية عن قطعة من الأرض تم التنازل عنها بمقابل مادي، فلمَ لا تتنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها مقابل ضمانات أمنية مثلاً!؟ بوتين من جانبه قال: «صباح الخير يا جاري»، الجيرة هنا رسالة بأن يتواصل الطرفان إلى حل ما بينهما من مشكلات، لا أن يتعاركا أو يعاقب طرف الطرف الآخر. قيام بوتين بزيارة ضريح الطيارين السوفيات الذين شاركوا في عملية أميركية - سوفياتية قبل ثمانية عقود لمواجهة عدو مشترك (ألمانيا النازية)، لا يخلو من معنى كبير ركز عليه بوتين في كلمته الأخيرة أمام الصحافيين، فثمة إرث مشترك بين البلدين مُعبد بالدماء المشتركة، فلمَ لا نعيد البناء عليه، وننظر للمستقبل برؤية غير تلك السائدة الآن؟ أمام الصحافيين، الذين استفاضوا قبل القمة في وضع تصورات، عن المدة الزمنية الممتدة للمباحثات، وعن قدرة ترمب في انتزاع موافقة بوتين على إعلان وقف إطلاق النار، كما دعا إلى ذلك قادة أوروبا حلفاء الرئيس زيلينسكي، وهؤلاء الذين أفاضوا في المغريات الاقتصادية التي قد يقدمها ترمب لبوتين، لم يجدوا أياً من تلك الأمنيات في كلمة بوتين، أو تعليق ترمب الأخير. المؤكد هنا أن خيبة الأمل كانت كبيرة، ما دفع كثيرين إلى تصوير الأمر على أنه فشل لترمب وانتصار معنوي لبوتين. وكلا الأمرين بعيد تماماً عما حملته كلمات الرئيسين من أمور تم التباحث حولها. صحيح لم تصل إلى اتفاق كامل، ولكن الطرفين لمّحا إلى نقاط اتُفق عليها، وبقيت أخرى تحتاج إلى قرارات من قبل أصحابها؛ زيلينسكي والأوروبيين. وهو ما أكده لاحقاً ترمب في حواره التلفزيوني مع قناة «فوكس». الاستنتاج هنا بسيط ولكنه جوهري. فثمة أمور اتفق عليها ترمب وبوتين، بعضها يتعلق بأوكرانيا، و«الناتو»، والضمانات التي ستقدم لأوكرانيا بعد قبول مطالب روسيا المتعلقة بأمنها القومي غير القابلة للتصرف، ولو في خطوط عريضة. والأكثر يتعلق بالعلاقات الثنائية، والتي بدورها سوف تشهد لقاءات بين مسؤولين من الجانبين، تمهد لتطبيع العلاقات، وبحث آفاق الاستثمارات المتبادلة، ورفع العقوبات تدريجياً، وكذلك معاهدة «نيو ستارت» الخاصة بالقدرات النووية للبلدين التي تعد أحد أعمدة الأمن العالمي. كلمة الرئيس بوتين تؤكد هذا الاستنتاج، والذي تدعمه الدعوة العابرة حول إمكانية عقد لقاء ثانٍ قريب بين الرئيسيْن في موسكو، والتي استقبلها ترمب باحتمال الحدوث رغم ما قد يتعرض له من انتقادات. ستشهد الأيام المقبلة كيف سيتحرك الأوروبيون ورئيس أوكرانيا في ضوء المعلومات التي قدمها لهم الرئيس ترمب، والذي نصح أيضاً زيلينسكي بأن يعقد صفقة عن طيب خاطر توفر على بلاده كثيراً من المعاناة؛ اقتصادياً وإنسانياً وأمنياً، مع إشارة واضحة في لقاء قناة «فوكس»، إلى إعداد لقاء ثلاثي يجمع بوتين وزيلينسكي وترمب، فضلاً عن دعوة قادة أوروبا و«الناتو»، لبحث ملامح الصفقة المحتملة لوقف الحرب بأسس مستدامة. إشارات الرئيس بوتين بشأن الأصول المشتركة للشعبين الروسي والأوكراني، تفسر جزئياً اقتناع الرئيس ترمب بأن نظيره الروسي قادر على التوصل إلى اتفاق شامل، وليس مجرد وقف إطلاق النار، يوفر الأمن لبلاده ولكل القارة الأوروبية. وعلى الرغم من تضارب التقييمات، فقمة ألاسكا تُعد بداية نحو نمط أقل عدوانية، يسعى لتفكيك أعقد المشكلات بين قوتين، وإن اختلفتا في القدرات الاقتصادية والنفوذ السياسي العالمي، فإن كونهما الأكبر من حيث امتلاك الرؤوس النووية والقدرات الصاروخية المدمرة، يجعل لتلك البداية قيمة تاريخية كبرى.


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
العازف المنفرد وسجادة القيصر
يحقُّ لفلاديمير بوتين أن يحتفل. عامله دونالد ترمب باحترام شديد. لولا حصافته لتوهّم أنَّ الاتحاد السوفياتي لا يزال حيّاً، وأنَّ صفته الفعلية هي الأمين العام للحزب الشيوعي. لم يكتفِ ترمب بالاعتراف مرات عدة بأهمية روسيا دولةً كبرى. ذهب أبعد من ذلك. تصرّف وكأنَّ الغرب ارتكب خطيئة في أوكرانيا. فقد سبق له أن استدعى زيلينسكي إلى البيت الأبيض وأهانه. وصف الحرب في أوكرانيا بأنَّها «حرب بايدن» وليست حربه. ماذا يريد سيّد الكرملين أكثر من ذلك؟ غسل سيد البيت الأبيض يديه من مصير أوكرانيا، وقال لزيلينسكي إنَّ عليه أن ينسى الأراضي التي احتلتها القوات الروسية. أغلب الظَّن أنَّ بوتين لم يكن يحلم بصدور مثل هذا الكلام عن الرَّجل الذي يُفترض أنَّه زعيم المعسكر الغربي. لم يتوقف عند خطورة استخدام الدبابات لشطب الحدود الدولية. ولم يعلّق على خطورة تغيير حدود الخرائط على القارة الأوروبية التي شهدت في القرن الماضي أهوال حربين عالميتين. تحدّث ترمب عن تكاليف الحرب والثروات التي أنفقتها أميركا هناك، معتبراً أنَّها أضاعتها. ألقى بعبء استمرار النزاع على كاهل الأوروبيين. ليس بسيطاً أن يرى العالم بوتين يتقدَّم على السجادة الحمراء على الأرض الأميركية ومن دون أن يقدّم للرجل المتلهف لاستقباله ولو هدية متواضعة من باب وقف النار أو هدنة للتفاوض في ظلها. هذا القيصر بخيلٌ وعنيد وقاسي القلب ولا تخدعه ابتسامات الآخرين أو إشاداتهم. كسر ترمب عزلة بوتين التي تسبب فيها قراره غزو أوكرانيا ولم يحصل في المقابل على ما يوازي هذه الخدمة الذهبية. حصل على عبارات تحكّ غروره الشاسع. قال بوتين إنَّ ترمب محق في قوله إنَّ الحرب في أوكرانيا ما كانت لتقع لو كان رئيساً لأميركا ساعة اندلاعها. يحق لفلاديمير بوتين أن يحتفل. لم يعتبر ترمب حرب أوكرانيا قضية يجب أن تُعالج وفقاً للقوانين الدولية وحسابات الاستقرار وميزان القوى، بل اعتبرها ثمرة سوء تصرّف مع روسيا من أوكرانيا وأوروبا والإدارات الأميركية المتعاقبة. لا يتعامل ترمب مع الحرب الأوكرانية انطلاقاً من موقعها وخطورتها بل يقاربها وكأنَّه الأم تيريزا داعياً إلى وقف الجنازات وتدمير البنية التحتية. ويتخوَّف كثيرون في الغرب من أن يدفع العالم ثمن تطلع ترمب إلى جائزة نوبل للسلام واستعداده «لإيقاف الحروب كيفما اتفق». لعب بوتين ضد الغرب أوراقاً عدة. أولها قناعة حلفائه وخصومه بأنه لا يستطيع أن يخسر في أوكرانيا لأنه سيخسر حينها الاتحاد الروسي. حرّك ببراعة ورقة التخويف من مواجهة نووية خصوصاً عبر التصريحات الاستفزازية لظله ديمتري ميدفيديف. ونجح في الداخل الروسي في كبح أي صوت معارض للحرب وحتى في إسكات احتجاجات الأمهات أمام النعوش الراجعة من ساحة القتال. ونجح أيضاً في الإفادة من رغبة الصين العميقة في إضعاف أميركا والغرب قبل موعد الوليمة المقبلة في تايوان. والغريب أن ترمب يعتبر نفسه الغطاء والمظلة والضمانة وصِمَامَ الأمان. ليس بسيطاً على الإطلاق أن يقول إنَّ شي جينبينغ أبلغه بأنَّ الصين لن تهاجم تايوان ما دام رئيساً لأميركا، وهذا يعني بوضوح أنَّ سلامة تايوان معلّقة ببقاء ترمب في المكتب البيضاوي. أسلوب غريب في مقاربة الأزمات والمصائر والملفات. قاموس السيّد الرئيس غريب وأسلوبه يشبه قاموسه. لم يكن الحل أبداً أن تنخرط أميركا في الحرب وتجازف بتوسيع النزاع. لكن الخروج من هذا النزاع وعلى قاعدة التسليم بالرواية الروسية سيعمق المخاوف الأوروبية، وسيطرح علامات استفهام كبرى حول خطورة النوم على الوسادة الأميركية داخل حلف «الناتو» وخارجه. كان باستطاعة ترمب أن يعدّ، مع الحلفاء الأوروبيين، لإطار تفاوضي لا يدخله زيلينسكي عارياً من كل أوراقه. لكن ترمب ليس رئيساً لفريق. إنَّه عازف منفرد وليس قائداً لأوركسترا. في التسعينات وبداية القرن الحالي كان السؤال عمَّا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي يتقدم على ما عداه. في تلك الأيام سألت الأمناء العامين للأحزاب الشيوعية في العراق والسودان ولبنان. كان القاسم المشترك بين الأجوبة أن العالم لن يعيش طويلاً في ظل الخلل الهائل لمصلحة الغرب، وأن روسيا ستنهض لاستعادة موقعها، وربما لتثأر من الغرب. وبعد تولي بوتين الرئاسة، ثمة من تحدّث عن أن المطبخ العسكري - الاستخباراتي اختار بوتين لمهمة إنقاذ الاتحاد الروسي من التفكك والثأر من الذين اغتالوا الاتحاد السوفياتي من دون إطلاق رصاصة. في الغابة الدولية لا خيار غير أن تكون قوياً كي لا تكون الضحية. في الغابة الدولية الدول الصغيرة والضعيفة مأساة. هل يحق للقوي أن يصادر قرار جاره الضعيف، وأن يقتطع جزءاً من أراضيه متذرعاً بحكايات من التاريخ؟ وماذا عن الأمم المتحدة والقوانين الدولية وصمامات الأمان؟ هل الترسانات هي الوسائد الوحيدة، وهل السياسات العدوانية من ضرورات العيش في الغابة؟ من بعيد كانوا يراقبون خطوات القيصر على السجادة الحمراء في ألاسكا. زيلينسكي كان يراقب حزيناً. وكان المستشار الألماني قلقاً، وسيّد الإليزيه مرتبكاً، والمقيم في 10 دوانينغ ستريت تائهاً. ومن يدري فقد تكون الأزمة الأوكرانية مجرّد نموذج يُثبت أن باستطاعة القوي أن يُملي شروطه وأن يتلاعب حتى بالخرائط. ليت لجنة جائزة نوبل تسارع إلى منح سيّد البيت الأبيض جائزتها علّ العازف المنفرد يعود إلى إشراك الدول المعنية في صناعة مصائرها.