
لينين – حول الخلط بين السياسة والتربية
لدينا عددٌ لا بأس به من الاشتراكيين الديمقراطيين الذين يستسلمون للتشاؤم كلما مُنِيَ العمّال بهزيمة في معاركهم الفردية مع الرأسماليين أو مع الحكومة، ويتجاهلون بازدراء أيَّ ذِكرٍ للأهداف العظيمة والنبيلة لحركة الطبقة العاملة، مشيرين إلى ضعف تأثيرنا على الجماهير. يقولون: مَن نحن وأيَّ مساعٍ نبذل لتحقيق هذه الأهداف؟ لا جدوى من الحديث عن دور الاشتراكية الديمقراطية كطليعة الثورة، ونحن لا نعرف حتى حقيقة مزاج الجماهير، ولسنا قادرين على الاندماج معها وتحفيزها! لقد عزَّزت النكسات التي مُني بها الاشتراكيون الديمقراطيون في الأوّل من أيّار الماضي [1905] هذا المزاج بشكل كبير. وبطبيعة الحال، استغلَّ المناشفة، أو الإيسكريون الجدد، هذه الفرصة ليرفعوا من جديد شعار «إلى الجماهير!» - وكأنما بشكلِ نِكاية، وكأنما هو ردٌّ على من فكّروا وتحدّثوا عن الحكومة الثورية المؤقتة، وعن الديكتاتورية الديمقراطية الثورية، إلخ.
يجب الاعتراف بأنّه في هذا التشاؤم، وفي الاستنتاجات التي يستخلصها دعاةُ الإيسكرا المتسرّعون منه، توجد سمة خطيرة للغاية قد تسبب ضرراً كبيراً للحركة الاشتراكية الديمقراطية. من المؤكد أن النقد الذاتي ضروري للغاية لكل حزب حيّ وقويّ. لا يوجد شيء أكثر إثارة للاشمئزاز من التفاؤل المتغطرِس. لا يوجد شيء أكثر مبرراً من الحثّ على الاهتمام بالضرورة المستمرة والحتمية لتعميق وتوسيع، وتوسيع وتعميق، تأثيرنا على الجماهير، ودعايتنا وتحريضنا الماركسي الصارم، وارتباطنا الوثيق بالنضال الاقتصادي للطبقة العاملة، إلخ. ومع ذلك، نظراً لأنّ مثل هذا الحثّ مبرَّرٌ في جميع الأوقات، وفي جميع الظروف وفي جميع المواقف، فلا يجب تحويلُه إلى شعارات خاصّة، ولا ينبغي أنْ يبرِّر محاولات بناء اتجاه خاصّ في الديمقراطية الاجتماعية عليه. يوجد خط فاصل هنا؛ إنّ تجاوز الحدود هو تحويلُ هذا الحثّ المشروع بلا منازع إلى تضييق نطاق أهداف الحركة، وإلى عمى عقائدي تجاه المهام السياسية الحيوية والجوهرية في تلك اللحظة.
من واجبنا دائماً تكثيف وتوسيع عملنا وتأثيرنا بين الجماهير. الاشتراكي الديمقراطي الذي لا يفعل ذلك ليس اشتراكياً ديمقراطياً. لا يمكن اعتبار أيِّ فرع أو مجموعة أو حلقة منظَّمةً اشتراكية ديمقراطية إذا لم تعملْ لتحقيق هذه الغاية بثباتٍ وانتظام. إلى حدّ كبير، يتمثل هدف فصلنا الصارم كحزب للبروليتاريا متميِّز ومستقلٍ، في حقيقة أنّنا نؤدي دائماً وبلا انحراف هذا العمل الماركسي المتمثل في رفع الطبقة العاملة بأكملها، قدر الإمكان، إلى مستوى الوعي الاشتراكي الديمقراطي، دون السماح لأيّ عواصف سياسية، ناهيك عن التغيّرات السياسية، بأن تحرفنا عن هذه المهمة الملحّة. من دون هذا العمل، سينحط النشاط السياسي حتماً إلى لعبة، لأنه لا يكتسب أهمية حقيقية للبروليتاريا سوى عندما يثير، وبقدرِ ما يثير، جماهيرَ طبقةٍ محدَّدة، ويكسب اهتمامها، ويحرّكها للمشاركة الفعّالة والرئيسية في الأحداث. هذا العمل، كما ذكرنا، ضروريٌّ دائماً. بعد كل نكسة، يجب أن نعيدَ تذكيرَنا به ونُؤكِّدَ عليه، لأنَّ ضعفَ هذا العمل هو دائماً أحدُ أسبابِ هزيمةِ البروليتاريا. وبالمثل، يجبُ أن نُلفتَ الانتباهَ إليه دائماً ونُؤكِّدَ أهميَّته بعد كلِّ انتصار، وإلّا فسيكونُ انتصاراً ظاهرياً فقط، ولن تُؤمَّن ثمارُه، وستتقزَّمُ أهميتُه الحقيقيةُ في النضالِ الكبيرِ من أجلِ هدفِنا الأسمى، بل قد تكونُ ضارّةً (خاصةً إذا أضعفَ نصرٌ جزئيٌّ يقظتَنا، وخفَّفَ من ريبَتِنا تجاهَ حلفائِنا غيرَ الموثوقين، ودفعَنا إلى تفويتِ اللَّحظةِ المناسبةِ لهجومٍ مُجدَّدٍ وأكثرَ قوّةً على العدو).
ولكن لأنَّ القيام بتكثيف وتوسيع نفوذنا بين الجماهير ضروريٌّ دائماً، بعد كل انتصار كما بعد كلّ هزيمة، في أوقات الهدوء السياسي كما في أشدّ فترات الثورة عَصْفاً، يجب ألّا نحوِّلَ التركيز على هذا العمل إلى شعارٍ خاصّ أو نبني عليه أيَّ اتجاهٍ خاصّ، إذا كنا لا نرغب في المخاطرة بالانحدار إلى الديماغوجية [الشعبويّة، أو التطرّف بطرح سقوف وشعارات غير واقعية على الجماهير وباسمها - المُعرِّب]، وإهانة أهداف الطبقة المتقدمة والثورية الحقيقية الوحيدة. هناك دائماً وسيظل هناك عنصر تربوي في النشاط السياسي للحزب الاشتراكي الديمقراطي. يجب أن نثقف طبقة العمال بأجر بأكملها لدور المناضلين من أجل تحرير البشرية من كلّ اضطهاد. يجب أن نُعلِّمَ باستمرار المزيد والمزيد من أقسام هذه الطبقة؛ يجب أن نتعلّم كيف نقترب من أكثر أفراد هذه الطبقة تخلُّفاً وأقلِّهم تطوُّراً، أولئك الأقلّ تأثراً بعِلمنا وعِلم الحياة، حتى نتمكَّنَ من التحدُّث إليهم، والتقرُّب منهم، ورفعِهم بثباتٍ وصبر إلى مستوى الوعي الاشتراكي الديمقراطي، دونَ أنْ نجعلَ من عقيدتنا عقيدةً جافّة - أنْ نعلّمهم ليس من الكُتب فقط، بل من خلال المشاركة في النضال اليومي، من أجل وجود هذه الطبقات المتأخِّرة وغير المتطوِّرة من البروليتاريا. هناك، نكرر، عنصرٌ معيَّن من التربية في هذا النشاط اليومي. الاشتراكي الديمقراطي الذي يَغفَلُ عَن هذا النشاط سيتوقّف عن كَونه اشتراكيّاً ديمقراطياً. هذا صحيح. لكن بعضنا غالباً ما ينسى، في هذه الأيام، أنّ الاشتراكي الديمقراطي الذي يختزل مهامَ السياسة إلى التربية سيتوقّفُ أيضاً، وإنْ كان لسببٍ مختلف، عن كونِه اشتراكياً ديمقراطياً. إن كل من يفكر في تحويل هذه «التربية» إلى شعارٍ خاص، ووضعها في مقابل «السياسة»، وبناء اتّجاه خاصّ عليها، ومناشَدة الجماهير تحت هذا الشعار ضدَّ «سياسيِّي» الاشتراكية الديمقراطية، فإنّهُ سوفَ ينحدر على الفور وبشكل لا مفرَّ منه إلى الديماغوجيّة.
إنّ المقارنات بغيضةٌ ومُسلَّمٌ بها قديماً. ففي كل مقارنة، يُرسَمُ تشابهٌ فيما يتعلق بجانبٍ واحدٍ فقط أو جوانبَ متعددةٍ من الأشياء أو المفاهيم المُقارَنة، بينما تُجرَّد الجوانب الأخرى بتردّدٍ وتحفُّظ. لنُذكِّر القارئَ بهذه المُسلَّمة الشائعة، وإنْ كانت كثيراً ما يتمّ تجاهُلها، ولنبدأ بمقارنة الحزب الاشتراكي الديمقراطي بمدرسةٍ كبيرةٍ تجمع بين الابتدائية والثانوية والجامعية. إنّ تعليم مبادئ اللّغة الإنكليزية، وتعليم أساسيات المعرفة والتفكير المستقل، لن يُهمل أبداً، تحت أي ظرفٍ من الظروف، في هذه المدرسة الكبيرة. ولكن إذا سعى أحدٌ إلى التذرّع بضرورة تعليم مبادئ اللغة الإنكليزية كذريعةٍ لتجاهل مسائل التعليم العالي، وإذا حاول أحدٌ موازنة النتائج الزائلة والمشكوك فيها و»الضيقة» لهذا التعليم العالي (المتاحة لفئةٍ أصغر بكثير من الذين يتعلّمون مبادئ اللغة الإنكليزية) بالنتائج الدائمة والعميقة والواسعة والراسخة للمدرسة الابتدائية، فسيكون ذلك دليلاً على قصر نظرٍ مُذهل. بل قد يُساهم في تحريف هدف المدرسة الكبرى، إذ بتجاهله التعليم العالي، سيُسهّل على الدجَّالين والديماغوجيّين والرجعيّين تضليلَ الناس الذين لم يتعلّموا سوى الأبجدية. أو لنُشبّه الحزبَ بالجيش. لا نجرؤ على إهمال تدريب المجندين لا في زمن السّلم ولا في زمن الحرب، ولا على إهمال التدريب على الرماية، ولا على نشر أساسيات العلوم العسكرية بأكبر قدر ممكن من الكثافة والشمول بين الجماهير...

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


قاسيون
٢٧-٠٤-٢٠٢٥
- قاسيون
أساسيّات الفهم العلمي للأزمة الرأسمالية (1- مقدّمة)
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان في تشرين الأول 2023 نشر «معهد ترايكونتيننتال للأبحاث الاجتماعية»، ذو التوجّه الماركسي (بإدارة الناشط الهندي فيجاي براشاد وزملائه)، كُتيّباً أعدَّه اثنان من الباحثين في الاقتصاد السياسي (أرطغرل أحمد توناك، وسونغور سافران)، وتضمّن عرضاً لأبرز الأسس العلمية للنظرية الماركسية حول الأزمات الرأسمالية والركود الاقتصادي العالمي. اخترنا منه الآتي. الهدف الطبقي والسياسي للعلم الماركسي بالأزمات إنّ انعدام العدالة الذي تُنتجه الرأسمالية حتماً قد خلق عالماً يمتلك فيه أغنى 2153 مليارديراً ثروةً تفوق ما يمتلكه أفقر 4.6 مليار شخص، والذين يُشكلون 60% من سكان العالم. [أوكسفام 2020، والأرقام ستكون أسوأ اليوم بالتأكيد]. هذان الاتجاهان ليسا استثناءً اقتصر على جائحة كوفيد-19 وتأثيراتها، فهما مستمرّان منذ سنوات وعقود، مُتشابكان بفعل قوانين الرأسمالية وأزماتها. نسعى إلى تسليط الضوء على الأزمة العميقة التي يمرّ بها الاقتصاد العالمي، والتي تتكشف منذ أكثر من عقد. إن شرح الأزمة ليس مجرد تمرين فارِغ للتباهي بالبراعة التقنية للاقتصاديين المحترفين، بل هو ضرورة تتجاوز المظاهر السطحية لاكتشاف جوهر العملية برمتها. بهذه الطريقة، يُمكننا تسليط الضوء على مسار نضال الطبقة العاملة والشعوب المُضطهَدة في جميع بلدان العالم، في وجه أمواج الفقر والبؤس. وفي سعينا لتقديم نتائج ملموسة للبروليتاريا والمُعذَّبين في الأرض، من المهم شرح التناقضات الكامنة في الرأسمالية التي تُؤدِّي إلى هذه الأزمات. فالتفسيرات الخاطئة من شأنها تضليل الجماهير والإضرار بنضالاتهم. منذ 2008: «ركود» أم «كساد»؟ تاريخياً، شهدت الرأسمالية أنواعاً مُختلفة من الأزمات، مُتفاوتة الشدّة والمُدّة. وأكثرها شيوعاً يحدث عادةً مرة واحدة تقريباً كل عَقد، وقد دُرست ويُشار إليها في الأدبيات المُتخصصة باسم «دورات الأعمال/دورات البزنس». وعادةً ما تكون ذروة دورة الأعمال هي «الركود/recession»، وهي فترة وجيزة ينكمش خلالها الاقتصاد. تُعرَّف فترات الركود (في الأدبيات البرجوازية تقليدياً) بأنها فترات قصيرة نسبياً تستمر لأكثر من رُبعين (ستّة أشهر)، وتُحدَّد بمتغيِّر اقتصاديٍّ واحد، هو معدَّل النمو، عندما يدخل هذا الأخير في المنطقة السلبية - أي عندما ينكمش الاقتصاد. عادةً ما يتم التغلب على هذا النوع من الأزمات الركوديّة من خلال تعديل قوى السوق، وهو ما ساهمت فيه إلى حد ما السياسات الحكومية منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. أمّا «الكساد/depression» فهو نوع مختلف من الأزمات في تاريخ الرأسمالية. إنّه يستمر لفترة أطول بكثير، قد تصل لعقدٍ من الزمن، وأحياناً لعدة عقود. لا يمكن إدارته والتغلب عليه من خلال التعديل التقليدي لمتغيِّرات السوق، ويتطلب اضطرابات جذرية ليس فقط في المجال الاقتصادي، بل أيضاً في المجالات السياسية والأيديولوجية، وحتى العسكرية (الحروب). عندما كان الكساد يتكشف على مستوى الرأسمالية العالمية، كان العرف، حتى الآن، هو تسميتُه «كساداً كبيراً/great depression». وقعت أول أزمة من هذا النوع، والتي عُرفت آنذاك بـ«الكساد الطويل»، في نهاية القرن التاسع عشر، تقريباً بين عامي 1873 و1896. أمّا الثانية، فهي «الكساد الكبير» الأشهر، الذي بدأ بانهيار وول ستريت عام 1929 وانتشر على نطاق واسع طوال ثلاثينيّات القرن العشرين، واستمرّ في العديد من البلدان، وخاصةً في أوروبا، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. ويرى العديد من الاقتصاديين الماركسيّين، بمن فيهم مؤلِّفو هذا النصّ، أنَّ الأزمة المطوَّلة والعميقة التي نمرُّ بها منذ عام 2008 وحتى الآن هي أيضاً كسادٌ كبير. في بداية الأزمة عام 2008 استُخدِم اسم «الأزمة المالية العالمية» حصرياً لوصف الأزمة العميقة في الاقتصاد العالمي التي أطلق شرارتها انهيار ليمان براذرز (أحد بنوك الاستثمار الكبرى في وول ستريت). ولكن سرعان ما تبيَّن خطأ هذه التسمية، عندما انكشف أنّ الأزمة لم تكن مقتصرةً على مجال التمويل، بل امتدت إلى ما نسمّيه «الاقتصاد الحقيقي» أيْ إلى مجال الإنتاج... ثم بدأت الدوائر الحاكمة للاقتصاد الرأسمالي والحكومات في استخدام المصطلح الجديد «الركود الكبير» (recession) وليس الكساد (depression)، وتنسَب تسمية الأزمة بالركود الكبير (great recession) إلى الفرنسي دومينيك شتراوس كان (DSK كما كان يُعرف في الدوائر المالية والحكومية)، المدير الإداري لصندوق النقد الدولي آنذاك. ومع ذلك، اعترف كثيرون من داخل المؤسسات البرجوازية نفسها بأنّها «أزمة مالية تحدث مرة واحدة كل قرن»، في إشارة واضحة ومقارنة بالكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين، ومنهم آلان غرينسبان، الذي شغل منصب رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لما يقرب من عقدين من الزمن. وهكذا، فإنّ من يقتصرون على تسمية الأزمة منذ ذلك الحين بأنها مجرّد «ركود» أو حتى «ركود كبير» إنما يريدون التهرّب من ذكر الكلمة المرعبة (d-word) الحقيقية وهي «الكساد». كانت هذه مجرد مقدمة لهذه السلسلة من المقالات حول الأزمة. في الحلقة القادمة، سنتعمق في نظرية ماركس للأزمة وتشديده على المكانة المركزية للأزمات في الحركة التاريخية لنمط الإنتاج الرأسمالي، وهو أحد أبرز أسباب تفوُّق التحليل الماركسي للرأسمالية على النظريات الاقتصادية البرجوازية السائدة. وكما سنرى، لم يُقدّر ماركس الأزمات فحسب، وهي ظاهرة شائعة في الرأسمالية، بل قدّم تحليلاً شاملاً لها، باعتبارها المحور الذي يتوقف عليه مصير الاقتصاد والمجتمع الرأسماليَّين. * أرطغرل أحمد توناك: بروفسور في الاقتصاد السياسي، وخاصةً الماركسي، وتاريخ الفكر الاقتصادي، باحث وأستاذ جامعي في عدة جامعات تركية ودولية، من كتبه الحديثة 2024: «في مسارات رأس مال ماركس: نقاشات في الاقتصاد السياسي الماركسي ودروس لرأسمالية القرن الحادي والعشرين». سونغور سافران: مدرّس في جامعة أوكان إسطنبول ومحرّر مجلة «الماركسية الثورية».


قاسيون
٠٧-٠٤-٢٠٢٥
- قاسيون
لينين – حول الخلط بين السياسة والتربية
لدينا عددٌ لا بأس به من الاشتراكيين الديمقراطيين الذين يستسلمون للتشاؤم كلما مُنِيَ العمّال بهزيمة في معاركهم الفردية مع الرأسماليين أو مع الحكومة، ويتجاهلون بازدراء أيَّ ذِكرٍ للأهداف العظيمة والنبيلة لحركة الطبقة العاملة، مشيرين إلى ضعف تأثيرنا على الجماهير. يقولون: مَن نحن وأيَّ مساعٍ نبذل لتحقيق هذه الأهداف؟ لا جدوى من الحديث عن دور الاشتراكية الديمقراطية كطليعة الثورة، ونحن لا نعرف حتى حقيقة مزاج الجماهير، ولسنا قادرين على الاندماج معها وتحفيزها! لقد عزَّزت النكسات التي مُني بها الاشتراكيون الديمقراطيون في الأوّل من أيّار الماضي [1905] هذا المزاج بشكل كبير. وبطبيعة الحال، استغلَّ المناشفة، أو الإيسكريون الجدد، هذه الفرصة ليرفعوا من جديد شعار «إلى الجماهير!» - وكأنما بشكلِ نِكاية، وكأنما هو ردٌّ على من فكّروا وتحدّثوا عن الحكومة الثورية المؤقتة، وعن الديكتاتورية الديمقراطية الثورية، إلخ. يجب الاعتراف بأنّه في هذا التشاؤم، وفي الاستنتاجات التي يستخلصها دعاةُ الإيسكرا المتسرّعون منه، توجد سمة خطيرة للغاية قد تسبب ضرراً كبيراً للحركة الاشتراكية الديمقراطية. من المؤكد أن النقد الذاتي ضروري للغاية لكل حزب حيّ وقويّ. لا يوجد شيء أكثر إثارة للاشمئزاز من التفاؤل المتغطرِس. لا يوجد شيء أكثر مبرراً من الحثّ على الاهتمام بالضرورة المستمرة والحتمية لتعميق وتوسيع، وتوسيع وتعميق، تأثيرنا على الجماهير، ودعايتنا وتحريضنا الماركسي الصارم، وارتباطنا الوثيق بالنضال الاقتصادي للطبقة العاملة، إلخ. ومع ذلك، نظراً لأنّ مثل هذا الحثّ مبرَّرٌ في جميع الأوقات، وفي جميع الظروف وفي جميع المواقف، فلا يجب تحويلُه إلى شعارات خاصّة، ولا ينبغي أنْ يبرِّر محاولات بناء اتجاه خاصّ في الديمقراطية الاجتماعية عليه. يوجد خط فاصل هنا؛ إنّ تجاوز الحدود هو تحويلُ هذا الحثّ المشروع بلا منازع إلى تضييق نطاق أهداف الحركة، وإلى عمى عقائدي تجاه المهام السياسية الحيوية والجوهرية في تلك اللحظة. من واجبنا دائماً تكثيف وتوسيع عملنا وتأثيرنا بين الجماهير. الاشتراكي الديمقراطي الذي لا يفعل ذلك ليس اشتراكياً ديمقراطياً. لا يمكن اعتبار أيِّ فرع أو مجموعة أو حلقة منظَّمةً اشتراكية ديمقراطية إذا لم تعملْ لتحقيق هذه الغاية بثباتٍ وانتظام. إلى حدّ كبير، يتمثل هدف فصلنا الصارم كحزب للبروليتاريا متميِّز ومستقلٍ، في حقيقة أنّنا نؤدي دائماً وبلا انحراف هذا العمل الماركسي المتمثل في رفع الطبقة العاملة بأكملها، قدر الإمكان، إلى مستوى الوعي الاشتراكي الديمقراطي، دون السماح لأيّ عواصف سياسية، ناهيك عن التغيّرات السياسية، بأن تحرفنا عن هذه المهمة الملحّة. من دون هذا العمل، سينحط النشاط السياسي حتماً إلى لعبة، لأنه لا يكتسب أهمية حقيقية للبروليتاريا سوى عندما يثير، وبقدرِ ما يثير، جماهيرَ طبقةٍ محدَّدة، ويكسب اهتمامها، ويحرّكها للمشاركة الفعّالة والرئيسية في الأحداث. هذا العمل، كما ذكرنا، ضروريٌّ دائماً. بعد كل نكسة، يجب أن نعيدَ تذكيرَنا به ونُؤكِّدَ عليه، لأنَّ ضعفَ هذا العمل هو دائماً أحدُ أسبابِ هزيمةِ البروليتاريا. وبالمثل، يجبُ أن نُلفتَ الانتباهَ إليه دائماً ونُؤكِّدَ أهميَّته بعد كلِّ انتصار، وإلّا فسيكونُ انتصاراً ظاهرياً فقط، ولن تُؤمَّن ثمارُه، وستتقزَّمُ أهميتُه الحقيقيةُ في النضالِ الكبيرِ من أجلِ هدفِنا الأسمى، بل قد تكونُ ضارّةً (خاصةً إذا أضعفَ نصرٌ جزئيٌّ يقظتَنا، وخفَّفَ من ريبَتِنا تجاهَ حلفائِنا غيرَ الموثوقين، ودفعَنا إلى تفويتِ اللَّحظةِ المناسبةِ لهجومٍ مُجدَّدٍ وأكثرَ قوّةً على العدو). ولكن لأنَّ القيام بتكثيف وتوسيع نفوذنا بين الجماهير ضروريٌّ دائماً، بعد كل انتصار كما بعد كلّ هزيمة، في أوقات الهدوء السياسي كما في أشدّ فترات الثورة عَصْفاً، يجب ألّا نحوِّلَ التركيز على هذا العمل إلى شعارٍ خاصّ أو نبني عليه أيَّ اتجاهٍ خاصّ، إذا كنا لا نرغب في المخاطرة بالانحدار إلى الديماغوجية [الشعبويّة، أو التطرّف بطرح سقوف وشعارات غير واقعية على الجماهير وباسمها - المُعرِّب]، وإهانة أهداف الطبقة المتقدمة والثورية الحقيقية الوحيدة. هناك دائماً وسيظل هناك عنصر تربوي في النشاط السياسي للحزب الاشتراكي الديمقراطي. يجب أن نثقف طبقة العمال بأجر بأكملها لدور المناضلين من أجل تحرير البشرية من كلّ اضطهاد. يجب أن نُعلِّمَ باستمرار المزيد والمزيد من أقسام هذه الطبقة؛ يجب أن نتعلّم كيف نقترب من أكثر أفراد هذه الطبقة تخلُّفاً وأقلِّهم تطوُّراً، أولئك الأقلّ تأثراً بعِلمنا وعِلم الحياة، حتى نتمكَّنَ من التحدُّث إليهم، والتقرُّب منهم، ورفعِهم بثباتٍ وصبر إلى مستوى الوعي الاشتراكي الديمقراطي، دونَ أنْ نجعلَ من عقيدتنا عقيدةً جافّة - أنْ نعلّمهم ليس من الكُتب فقط، بل من خلال المشاركة في النضال اليومي، من أجل وجود هذه الطبقات المتأخِّرة وغير المتطوِّرة من البروليتاريا. هناك، نكرر، عنصرٌ معيَّن من التربية في هذا النشاط اليومي. الاشتراكي الديمقراطي الذي يَغفَلُ عَن هذا النشاط سيتوقّف عن كَونه اشتراكيّاً ديمقراطياً. هذا صحيح. لكن بعضنا غالباً ما ينسى، في هذه الأيام، أنّ الاشتراكي الديمقراطي الذي يختزل مهامَ السياسة إلى التربية سيتوقّفُ أيضاً، وإنْ كان لسببٍ مختلف، عن كونِه اشتراكياً ديمقراطياً. إن كل من يفكر في تحويل هذه «التربية» إلى شعارٍ خاص، ووضعها في مقابل «السياسة»، وبناء اتّجاه خاصّ عليها، ومناشَدة الجماهير تحت هذا الشعار ضدَّ «سياسيِّي» الاشتراكية الديمقراطية، فإنّهُ سوفَ ينحدر على الفور وبشكل لا مفرَّ منه إلى الديماغوجيّة. إنّ المقارنات بغيضةٌ ومُسلَّمٌ بها قديماً. ففي كل مقارنة، يُرسَمُ تشابهٌ فيما يتعلق بجانبٍ واحدٍ فقط أو جوانبَ متعددةٍ من الأشياء أو المفاهيم المُقارَنة، بينما تُجرَّد الجوانب الأخرى بتردّدٍ وتحفُّظ. لنُذكِّر القارئَ بهذه المُسلَّمة الشائعة، وإنْ كانت كثيراً ما يتمّ تجاهُلها، ولنبدأ بمقارنة الحزب الاشتراكي الديمقراطي بمدرسةٍ كبيرةٍ تجمع بين الابتدائية والثانوية والجامعية. إنّ تعليم مبادئ اللّغة الإنكليزية، وتعليم أساسيات المعرفة والتفكير المستقل، لن يُهمل أبداً، تحت أي ظرفٍ من الظروف، في هذه المدرسة الكبيرة. ولكن إذا سعى أحدٌ إلى التذرّع بضرورة تعليم مبادئ اللغة الإنكليزية كذريعةٍ لتجاهل مسائل التعليم العالي، وإذا حاول أحدٌ موازنة النتائج الزائلة والمشكوك فيها و»الضيقة» لهذا التعليم العالي (المتاحة لفئةٍ أصغر بكثير من الذين يتعلّمون مبادئ اللغة الإنكليزية) بالنتائج الدائمة والعميقة والواسعة والراسخة للمدرسة الابتدائية، فسيكون ذلك دليلاً على قصر نظرٍ مُذهل. بل قد يُساهم في تحريف هدف المدرسة الكبرى، إذ بتجاهله التعليم العالي، سيُسهّل على الدجَّالين والديماغوجيّين والرجعيّين تضليلَ الناس الذين لم يتعلّموا سوى الأبجدية. أو لنُشبّه الحزبَ بالجيش. لا نجرؤ على إهمال تدريب المجندين لا في زمن السّلم ولا في زمن الحرب، ولا على إهمال التدريب على الرماية، ولا على نشر أساسيات العلوم العسكرية بأكبر قدر ممكن من الكثافة والشمول بين الجماهير...


الشرق الأوسط
٢٣-١١-٢٠٢٤
- الشرق الأوسط
الصراع الطبقي في بريطانيا
الحكومة العمالية البريطانية بزعامة كير ستارمر اشتراكية بكل المقاييس، مثلما يتضح من نوعية مشروعات القوانين المطروحة في البرلمان، ومن الميزانية التي قدمتها هذا الخريف. ولأن الفلسفة الماركسية من أهم مكونات الآيديولوجيات الاشتراكية وتياراتها، فإن «الصراع الطبقي» لا ينفصل عملياً عنها رغم محاولة ساسة ووزراء العمال تغليفها بعبارات وشعارات مبهمة. مثلاً «إعادة توزيع الثروة» هي عملياً الاستيلاء على أموال وأرصدة فئات مستهدفة؛ أو «الملكية العامة»، نوع آخر من السرقة «المشروعة» يسمى «التأميم» سواء بالمصادرة، أو بشراء أسهم المشروع أو المنشأة الاقتصادية؛ والأخيرة سرقة مزدوجة لأن الشعب عن طريق الضرائب سيدفع التعويضات وثمن الأسهم المؤممة. حكومة ستارمر طورت الصراع الطبقي من مفهومه الكلاسيكي الماركسي (استيلاء البروليتاريا على مصادر الثروة ووسائل الإنتاج) إلى صراعات أخرى. الطرف المهاجم في الصراع الجديد هو الحكومة بوصفها ممثل «الناس العاملين» (التعبير غير المحدد بديلاً للطبقة العاملة). الصراع الطبقي تحول إلى صراع المدينة، أو الحضر، ضد الريف والمزارعين؛ الأجيال الشابة ضد كبار السن والمتقاعدين؛ موظفي الدولة والقطاع العام ضد الحرفيين وأصحاب المهن الحرة؛ الاتحادات العمالية (الممولة لحزب العمال) ضد المستثمرين وأصحاب الأعمال؛ الجماعات المؤدلجة من محترفي التظاهر والاحتجاجات (جماعات غير منتجة وبعضها مرتبط مباشرة بحزب العمال) ضد المستثمرين في الصناعات والمشروعات التقليدية التي يرتكز عليها الاقتصاد. وهذه النماذج على سبيل المثال لا الحصر، تتضح من اللوائح المالية والضرائبية، ومن القوانين التي تعدها الحكومة العمالية مستغلة أغلبيتها البرلمانية الكبيرة لتطبيقها. ورغم أن الإجراءات «الاشتراكية» في مظهرها تستهدف استلاب «الثروة» من فئات معينة يشيطنها الخطاب السياسي للعمال (ملاك المزارع والوحدات السكنية وأصحاب المشروعات الكبرى)، فإن ضررها عام على الاقتصاد الوطني وعلى معظم الفئات الاجتماعية والاقتصادية خصوصاً الفقراء، والطبقات المتوسطة ذات الدخل المحدود. ألكسندر بيرغهارت، الوزير بحكومة الظل في مواجهته يوم الأربعاء مع نائبة رئيس الوزراء أنجيلا راينر، اتهم حكومة العمال بوضع ميزانية «انتقامية تستهدف بالعقاب الفئات التي لم تصوت للعمال»، مثل سكان الريف وكبار السن والحرفيين وأصحاب الأعمال والمزارعين. وليومين هذا الأسبوع، تظاهر المزارعون (في بريطانيا هم أصحاب المزارع التي تنتج الغذاء واللحوم والألبان والدواجن) بالجرارات والآلات الزراعية أمام «داوننغ ستريت»، والبرلمان، ومبنى الخزانة، ووزارة الأغذية والبيئة وشؤون الريف. حكومة العمال يراها المزارعون وسكان الريف تمثل الحضر (المدينة) ولا تفهم شؤون الريف أو اقتصاديات المزارع مما يهدد إنتاج الأغذية، وليس بين الوزراء من لهم خبرة في شؤون الريف أو استثمارات في قطاعات الإنتاج الزراعي - بعكس حكومة المحافظين السابقة. ميزانية حكومة العمال تفرض لأول مرة 20 في المائة ضريبة تركة على المزارع التي تزيد قيمتها على مليون جنيه. المزارع المنتجة كانت مستثناة من الضريبة التي يدفعها الورثة على تركة المتوفى (40 في المائة من قيمة التركة)؛ والحكمة في ذلك أنه في معظم الأحوال لا يمتلك الأبناء سيولة نقدية (200 ألف جنيه في حالة أقل المزارع ثمناً) لدفع الضريبة، فيضطروا لبيع الأرض أو جزء منها، مما يهدد بتفتيت الملكية الزراعية ونقص رقعة الأراضي الإنتاجية، وبالتالي يهدد الأمن الغذائي للأمة. أيضاً قوانين العمل الجديدة التي ترفع الحد الأدنى من الأجور وتلزم أصحاب الأعمال والمزارع بدفع رسوم تأمين إضافية للعاملين، بجانب الالتزامات بالطاقة الخضراء والتخلي عن محروقات الكربون، بدورها تهدد أيضاً المزارع وتؤدي إلى بطالة في الريف ورفع تكلفة الإنتاج الغذائي على المستهلكين، خصوصاً الفقراء. الفئات الأخرى التي لا يصوت أغلبها للعمال وتستهدفها حكومتهم، في قول بيرغهارت، هم كبار السن وأصحاب المعاشات (ما يزيد على 11 مليون شخص)، فبجانب إلغاء منحة وقود التدفئة الشتوية للمتقاعدين، يستهدفون بقوانين ولوائح أخرى، منها زيادة ضريبة البلدية على قيمة العقار (وليس وفقاً لعدد سكانه المستفيدين من خدمات البلدية). المتقاعدون مساكنهم ذات قيمة عالية نسبياً، والخطاب الإعلامي لليسار الاشتراكي يشيطن كبار السن لحاجتهم الأكثر للرعاية الصحية والاجتماعية في نظرة الجيل الأصغر، بجانب رسم صورة سلبية لأصحاب البيوت الإسكانية «بوصفهم مستغلين للمستأجر»؛ خصوصاً أن كثيراً من المتقاعدين استبدلوا بالمعاش النقدي، الاستثمار في العقار الإسكاني بوصفه دخلاً مستقلاً بعد التقاعد. وبجانب الضرائب العالية، فإن قوانين ولوائح تسوقها آيديولوجيا «حماية البيئة» وضرائب الطاقة الخضراء، تضاعف التكاليف فتؤدي إلى هروب المستثمرين، ونقص آلاف الوحدات السكنية، وبالتالي رفع الإيجارات على شرائح تصوت تقليدياً للعمال.