
مستقبل القوة الناعمة
رحيل جوزيف ناي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد مؤخرا ، فقدت السياسة الدولية أحد أبرز مفكريها ومبتكري مفاهيمها المؤثرة. صاغ ناي في نهاية الثمانينيات مفهوم «القوة الناعمة» كبديل حضاري وذكي للقوة الصلبة التقليدية التي تعتمد على العسكر والاقتصاد. القوة الناعمة، كما شرحها، هي قدرة الدولة على التأثير في سلوك الآخرين وجذبهم دون إكراه، من خلال الثقافة، القيم، السياسات العامة، والتعليم، والإعلام، وغيرها من أدوات الجاذبية.
لم يكن ناي منظّرا سياسيا فحسب ، بل مارس دورا مؤثرا فعليًا داخل المؤسسة الأمريكية، وكان من دعاة الجمع بين القيم الليبرالية والمصالح الاستراتيجية. برزت أفكاره خلال مرحلة ما بعد الحرب الباردة، حين احتاجت الولايات المتحدة إلى أدوات نفوذ أكثر ليونة في عالم يتجه نحو التعددية ويبتعد عن المواجهات الصلبة المباشرة. استخدمت أمريكا مفهوم القوة الناعمة في نشر الديمقراطية، وتوسيع تأثيرها الثقافي والتعليمي، واستقطاب العقول والمواهب من شتى بقاع الأرض.
بعض المحللين يرون أن عالم اليوم، الذي يموج بالصراعات العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، قد تجاوز مرحلة القوة الناعمة التقليدية. فالحروب في أوكرانيا وغزة، وصعود الصين، وتوتر العلاقات الدولية، أعادت العالم إلى منطق الردع والتسلح. في مثل هذا المناخ، تبدو القوة الناعمة وكأنها رفاهية فكرية في زمن الضرورة الأمنية والاقتصادية.
لكن هذا الرأي يتجاهل واقعًا مهمًا: أن القوة الناعمة لا تموت، بل تتغير أدواتها وتتجدد سياقاتها. والدليل أن روسيا والصين، رغم اعتمادهما على القوة الصلبة، تحاولان تطوير أدوات تأثير ناعمة عبر الإعلام، التعليم، والتكنولوجيا.
في كتاباته الأخيرة، أدرك جوزيف ناي حدود القوة الناعمة منفردة، فصاغ مفهومًا أكثر شمولًا هو «القوة الذكية»، التي تجمع بين الصلابة والنعومة، بين الردع والإقناع، بين الضغط والجاذبية. إنها وصفة تجمع بين الهيمنة العسكرية والاقتصادية من جهة، والتأثير الثقافي والإعلامي والدبلوماسي من جهة أخرى. وبات هذا المفهوم يمثل التيار الرئيسي في الاستراتيجيات الدولية، خاصة في ظل عالم تتشابك فيه التهديدات بين الإرهاب والقرصنة والتغير المناخي والتضليل الإعلامي. لم يعد يكفي أن تكون محبوبا أو أن تكون قويا فقط؛ يجب أن تكون الاثنين معًا.
برحيل ناي، لا ينتهي المفهوم بل يبدأ طور جديد. ثمة حاجة اليوم لتحديث أدوات القوة الناعمة لتواكب الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي ومنصات التواصل الاجتماعي، التي أصبحت ساحات تأثير تتجاوز جاذبية الأفلام والجامعات والمسلسلات. كذلك، فإن الحرب على الرواية الإعلامية، وصناعة «الصورة الذهنية»، أصبحت جزءًا من القوة الناعمة الحديثة.
من المتوقع أن يسهم الباحثون الجدد في تطوير هذا المفهوم، بالتركيز على أدوات مثل : الذكاء الاصطناعي القيمي الذي يعكس مبادئ الدولة في تصميم التكنولوجيا. والدبلوماسية الرقمية حيث تتحول شبكات التواصل إلى أدوات سياسية. والنفوذ الثقافي التفاعليالذي لا يكتفي بتصدير الثقافة بل يدعو إلى التفاعل الحضاري.
رغم قوة حضورها، تواجه القوة الناعمة تحديات كبرى أبرزها : صعود الشعبوية والقومية المتطرفة في كثير من الدول. وتراجع الإيمان بالقيم الليبرالية الغربية في مناطق كثيرة من العالم. وسيطرة شركات التكنولوجيا على أدوات التأثير، مما يجعل القوة الناعمة أحيانًا بيد كيانات غير حكومية.
كل هذا يجعل استمرار تأثير القوة الناعمة مرهونًا بقدرتها على التكيف والتحول إلى «قوة ذكية ناعمة» أكثر واقعية وارتباطًا بمصالح الدول.
ليس من الدقة القول إن القوة الذكية ستقضي على القوة الناعمة. بل الصحيح أن القوة الذكية هي تطوير طبيعي للقوة الناعمة، لا إلغاؤها. فكما تطورت الدبلوماسية من الخطاب الكلاسيكي إلى الدبلوماسية العامة، ثم إلى الرقمية، فإن القوة الناعمة تمضي في طريق التكامل لا الانزواء.
علينا أن نستفيد من دروس جوزيف ناي في بناء قوة ناعمة عربية تنطلق من قيمنا وثقافتنا وهويتنا. فالقوة الناعمة ليست حكرًا على الغرب، بل يمكن للعرب – عبر الإعلام والفن والتعليم والدين المعتدل واللغة – أن يكون لهم تأثير عالمي. المهم أن تتكامل هذه القوة مع مشروع سياسي واقتصادي يعزز من حضورها.
رحيل ناي، لا يعني موت أفكاره، بل هي تنمو في عقول الباحثين وصنّاع القرار والمثقفين، وتنتقل من حقل النظرية إلى واقع السياسة. وإذا كان ناي قد نظر للعالم كشبكة مصالح تتفاعل بالقيم والمصالح، فعلينا أن نطوّر هذا الفكر ليواكب عالمًا بات أكثر تعقيدًا.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ 29 دقائق
- الشرق الأوسط
روسيا تعلن إحراز تقدم نحو منطقة في وسط شرقي أوكرانيا
قالت روسيا، اليوم الأحد، إن قواتها تقدمت صوب طرف منطقة دنيبروبتروفسك في وسط شرقي أوكرانيا، في وقت يشهد خلافاً علنياً بين موسكو وكييف بشأن مفاوضات السلام وتبادل آلاف من جثث الجنود الذين سقطوا في الحرب. ورغم الحديث عن السلام، لا تشهد الحرب إلا التصعيد مع سيطرة القوات الروسية على مزيد من الأراضي في أوكرانيا وشن كييف هجمات بطائرات مسيَّرة على أسطول قاذفات قنابل روسي قادر على حمل أسلحة نووية. وتقول موسكو أيضاً إن أوكرانيا تنفذ هجمات على السكك الحديد. ووفق ما ذكرته وكالة «رويترز» للأنباء، تُظهر خرائط مفتوحة المصدر يعدها موالون لأوكرانيا أن روسيا، التي تسيطر على ما يقل قليلاً فحسب عن 20 في المائة من مساحة أوكرانيا، سيطرت على أكثر من 190 كيلومتراً مربعاً من منطقة سومي في شرق أوكرانيا في أقل من شهر. ووفقاً لوزارة الدفاع الروسية الآن، وصلت وحدات من فرقة مدرعات روسية إلى الجبهة الغربية لمنطقة دونيتسك وتهاجم منطقة دنيبروبتروفسك المحاذية لها. ولم يصدر بعدُ تعليق من كييف على ما أعلنته روسيا من تقدم على الأرض، لكن خرائط من موقع «ديب ستيت» الموالي لأوكرانيا أظهرت وجود قوات روسية في منطقة قريبة جداً من دنيبروبتروفسك التي كان يقطنها أكثر من ثلاثة ملايين نسمة قبل الحرب. واتهمت موسكو، أمس السبت، كييف بتأخير تبادل أسرى وإعادة رفات 12 ألف جندي لكن أوكرانيا نفت ذلك. وقالت روسيا، اليوم الأحد، إنها تنقل جثث جنود صوب الحدود. ويوم الخميس، وصف الرئيس الأميركي دونالد ترمب الحرب في أوكرانيا بأنها شجار أطفال، وألمح إلى أنه قد يترك الصراع دائراً ببساطة. وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوم الأربعاء، إنه لا يعتقد أن القادة الأوكرانيين يريدون السلام واتهمهم بإصدار أمر بقصف بريانسك في غرب روسيا مما أسفر عن مقتل سبعة وإصابة 115 قبل يوم من عقد محادثات في تركيا. ولم تعلق كييف على الهجوم الذي استهدف جسر بريانسك، واتهمت بدورها روسيا بعدم الجدية في السعي للسلام مشيرة إلى مقاومة روسيا لفكرة وقف إطلاق النار الفوري. وقالت روسيا، اليوم الأحد، إنها أسقطت 61 طائرة مسيَّرة أطلقتها أوكرانيا خلال الليل على منطقة موسكو؛ مما أسفر عن إغلاق مؤقت لمطارين.


الشرق الأوسط
منذ 29 دقائق
- الشرق الأوسط
زيلينسكي: بوتين يسعى لإنزال «الهزيمة الكاملة» بأوكرانيا
قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لشبكة تلفزيون «إيه بي سي» الأميركية، اليوم (الأحد)، إن نظيره الروسي فلاديمير بوتين لا يرغب في وقف إطلاق النار، بل يريد «الهزيمة الكاملة» لأوكرانيا. وأضاف أن الضغط القوي من الولايات المتحدة وأوروبا فقط هو ما يمكن أن يجبر بوتين على التراجع. وقال: «حينه سيتوقفون عن الحرب». وشدد زيلينسكي خلال المقابلة على أهمية دعم الولايات المتحدة، وحاول بحذر توضيح أن تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترمب بأن بوتين يريد السلام، غير دقيق. وقال زيلينسكي: «مع كل الاحترام للرئيس ترمب، أعتقد أنها مجرد وجهة نظر شخصية لديه». وأضاف: «أنا أشعر بقوة أن بوتين لا يريد إنهاء هذه الحرب. في ذهنه، من المستحيل إنهاء هذه الحرب دون هزيمة كاملة لأوكرانيا». وتابع: «ثق بي، نحن نفهم الروس وعقليتهم بشكل أفضل بكثير من الأميركيين لهم. نحن جيران منذ زمن طويل». لكن الرئيس الأوكراني حرص على عدم إغضاب ترمب، مشيراً إلى أن علاقته مع الرئيس الأميركي، بعد اجتماع كارثي في المكتب البيضوي في وقت سابق من هذا العام، قد تحسنت، خاصة بعد لقائهما وجهاً لوجه في الفاتيكان في أبريل (نيسان) الماضي، على هامش جنازة البابا فرنسيس. وقال: «خمس عشرة دقيقة في الفاتيكان، وجهاً لوجه، فعلت أكثر لإقامة الثقة مما فعل الاجتماع مع وجود الكثير من الأشخاص في المكتب البيضوي». وأضاف أنه «يريد أن يؤمن بأن لدينا علاقة مهنية طبيعية ومتساوية مع الولايات المتحدة».


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
أوكرانيا تعلن أن تبادل الأسرى مع روسيا سيتم «الأسبوع المقبل»
أعلنت أوكرانيا، اليوم الأحد، أن عملية تبادل الأسرى وجثامين جنود قتلى التي كان يفترض أن تتم في نهاية الأسبوع، ستجري «الأسبوع المقبل»، بعدما تبادلت موسكو وكييف الاتهامات بعرقلتها. ووفقاً لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، قال رئيس الاستخبارات العسكرية الأوكرانية كيريلو بودانوف إن «بدء عمليات إعادة (الأسرى إلى البلد) مرتقب وفق نتائج مفاوضات إسطنبول الأسبوع المقبل (...) وكل شيء يجري كما هو متوقع»، متهماً موسكو بممارسة «لعبة إعلامية غير نزيهة».