
داعش والجولانى.. قراءة فى خطاب الكراهية والتكفير المتبادل
تمثل هذه الافتتاحية نموذجًا مكثفًا لما يمكن تسميته بـ«الخطاب التكفيرى التعبوي»، الذى لا يكتفى برصد الأحداث وتفسيرها، بل يعيد تأويلها ضمن منظومة مغلقة من المفاهيم الدينية المؤدلجة. وهذا ما يستدعى قراءة تحليلية معمّقة، لا تكتفى بسطح النص، بل تنفذ إلى بناه العميقة، وتفكك استراتيجياته البلاغية والتأويلية، وتكشف السياقات التى يعمل ضمنها، والوظائف التى يؤديها، وما يخفيه من رسائل خبيثة تدفع نحو مزيد من العنف والانقسام.
فى هذا السياق، تعتمد الدراسة على منهج تحليل الخطاب «Discourse Analysis» كأداة منهجية لفهم البنية الداخلية للنص، وتحديد وظائفه التداولية، والكشف عن الرسائل المسكوت عنها، وكذلك تتبع التأثيرات الاجتماعية والسياسية لهذا الخطاب على المشهدين السورى والإقليمي. وينقسم التحليل إلى خمسة محاور أساسية: السياق السياسى والأمنى للنص، تفكيك بنية الخطاب، الرسائل الضمنية والمسكوت عنها، الوظائف التداولية، ثم الأثر الاجتماعى والسياسي.
تهدف هذه الدراسة إلى إبراز خطورة هذا النوع من الخطابات التى لا تُنتج فقط الكراهية، بل تُضفى عليها شرعية دينية مغلوطة، وتُسهم فى تمديد أمد الصراع، وزيادة تعقيد المشهد، وتوسيع رقعة الإرهاب العابر للحدود. كما تسعى إلى فضح البنية الذهنية التى يُغذّى بها التنظيم أتباعه، ويدفعهم بها نحو العنف الدموى الممنهج، مستخدمًا نصوص الدين فى غير موضعها، ومتلاعبًا بالتراث والرموز لخدمة مشروع إقصائى شمولي.
أولًا: السياق السياسى والأمنى للنص
تأتى افتتاحية العدد ٥٠٦ من صحيفة النبأ فى إطار تصعيد خطابى يعكس حالة التوتر العسكرى والأمنى المتفاقم فى الشمال السوري، وتحديدًا فى مدينة الباب الخاضعة لنفوذ فصائل المعارضة المدعومة من تركيا، وفى مقدمتها «الجيش الوطنى السوري». تشير الافتتاحية إلى «عملية أمنية مشتركة» قادها التحالف الدولى ضد ما تصفه بـ«بيت للمسلمين»، وتتهم هيئة تحرير الشام والجولانى تحديدًا بأنه رأس الحربة فى هذه العملية، مستخدمة عبارات مثل: «غزو بيت للمسلمين بمدينة الباب»، و«مقتل مجاهد ونجليه وأسر ذويه»، فى محاولة لبناء صورة ضحية للتنظيم، وتقديم العملية كدليل جديد على «العدوان الصليبي» المتواصل ضد ما تسميه «الدولة الإسلامية».
النص، وإن كان مكسوًا برداء ديني، إلا أنه فى جوهره خطاب سياسى موجه بوضوح ضد هيئة تحرير الشام وأجهزتها الأمنية. فداعش لا يهاجم فحسب العملية الأمنية، بل يربطها بسياق أوسع من «الردة والعمالة»، حيث يعتبر أن ما جرى فى الباب هو «مظاهرة ومعاونة وموالاة صريحة للمشركين على المسلمين»، فى تكرار لمعادلة التكفير التى يُجريها التنظيم تلقائيًا على أى فصيل يتعامل مع القوى الدولية، سواء بالتحالف العسكرى أو التنسيق الأمني.
رسم خريطة العداء
ومن خلال استدعاء حادثة الباب كمحور للخطاب، يعيد التنظيم رسم خريطة العداء من جديد. فعدوه الأول لم يعد فقط التحالف الدولى أو الأنظمة الإقليمية، بل التنظيمات الجهادية الأخرى التى تمارس نوعًا من البراجماتية السياسية، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام. ويأتى وصف الجولانى بـ«الطاغوت» و«الخائن» و«جندى فى التحالف الصليبي»، ليدشن فصلًا جديدًا فى الصراع الداخلى بين الفصائل الإسلامية، معتمدًا على «تحقيق مناط الردة» كما ورد فى النص، لاستخدامه كسلاح لشرعنة استهدافهم وتصفيتهم.
ما يكشفه هذا الخطاب هو أن التنظيم يُطوّع الأدوات الدينية لتكفير خصومه السياسيين، ويرتّب على ذلك أحكامًا خطيرة تمهّد للعنف والاقتتال. فالهجوم على الجولانى وهيئته لا يقف عند حدود النقد السياسى أو الفكري، بل يتحول إلى توثيق شرعى للحكم عليهم بالردة، مما يعنى إباحة دمائهم واستباحة مناطقهم، وهو ما نراه فى العبارة الصريحة: «وما جرى فى واقعة الباب.. هو مناط كفر وردة وناقض من نواقض الدين».
ويجب ألا نغفل عن أن هذا النوع من الخطاب ليس معزولًا عن واقع النزاع الإقليمى والدولى على الأرض السورية. فعملية الباب لم تكن سوى ذريعة لإعادة طرح خطاب المظلومية الجهادية وتأكيد سردية «التآمر العالمى على الدولة الإسلامية»، وتقديم داعش بوصفه الضحية الوحيدة التى لا تزال ترفع راية الشريعة. بهذا، يصبح النص جزءًا من حرب ناعمة تُخاض بالكلمات والآيات، لكنها تجهّز الأرض لمزيد من سفك الدماء وتحشيد الأنصار، كما جاء فى قولهم:
«لقد بات ثابتًا لدى الجميع أن التعاون بين الطاغوت الجولانى والصليبيين فى الحرب على الإسلام ليس جديدًا.. فما جرى فى واقعة الباب مظاهرة ومعاونة وموالاة صريحة للمشركين على المسلمين».
ثانيًا: تفكيك بنية الخطاب
تكشف افتتاحية النبأ عن خطاب متماسك ظاهريًا، لكنه مشحون بالأحكام المطلقة، والأساليب البلاغية التحريضية، والانتقائية التأويلية، التى تُستخدم لتغليف مشروع سياسى عنيف بغطاء ديني. هذا الخطاب يتأسس على ثلاث ركائز رئيسية: التكفير، التجريد من الإنسانية، والتلاعب بالتاريخ. من خلال تحليل هذه الركائز، يمكن فهم كيف يبنى التنظيم شرعية زائفة لعملياته، ويبرر عنفه، ويشيطن خصومه ضمن سردية دينية مغلقة.
١. التحريض الدينى عبر تكفير الخصم
يرتكز الخطاب منذ بدايته على ما يُعرف بـ«تحقيق مناط الردة»، وهو مفهوم فقهى خطير حين يُنزّل على الخصوم السياسيين دون معايير علمية أو اجتهادية. فيقول النص:
«ما جرى فى واقعة الباب مظاهرة ومعاونة وموالاة صريحة للمشركين على المسلمين، وهى مناط كفر وردة وناقض من نواقض الدين».
هنا لا يكتفى الكاتب بتوصيف سلوك الخصوم، بل يصدر حكمًا دينيًا نهائيًا لا رجعة فيه، يُسقط فيه الفعل السياسى على قواعد «الولاء والبراء»، التى طالما استخدمها التنظيم لبناء معادلة «نحن مقابل الكفار».
ويعزز الكاتب هذا التوجه بانتقاء نصوص قرآنية لتأكيد حكمه، من أبرزها قوله تعالى:
"وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ"،
ثم يستشهد بابن حزم فى المحلى ليؤكد أن الآية «على ظاهرها» وتعنى الكفر الصريح. لكن النص يتجاهل تمامًا سياق الآية فى سورة المائدة، وإجماع جمهور العلماء على أن «التولي» هنا له ضوابط، وأنه لا يجوز استسهال التكفير دون إقامة الحجة ووجود الشروط وانتفاء الموانع. إلا أن التنظيم يُقصى هذا المنهج العلمى ويستبدله بآلية ميكانيكية للتكفير الفوري.
بهذا، يتحول الخطاب من كونه تحليلًا سياسيًا لما جرى فى الباب، إلى دعوة مبطّنة لاستباحة الدماء. فعندما يُوسم الجولانى وأتباعه بالردة، فإن كل من ينتظم فى فصيله أو يُنسَب إليه يصبح حلال الدم والمال وفق منطق التنظيم. وهذا النوع من التكفير الممنهج هو ما يمهّد الطريق نفسيًا وشرعيًا لأى هجوم إرهابى لاحق.
٢. شيطنة الآخر ووصمه
واحدة من أكثر الأدوات وضوحًا فى خطاب الافتتاحية هى التجريد التام من الإنسانية. إذ لا يتعامل النص مع الخصم بوصفه فاعلًا سياسيًا له رؤية، ولا حتى منحرفًا عن الصواب، بل يصوّره ككائن نجس، دخيل على الإسلام، عميل للغرب، وخادم للصهاينة. يستخدم الخطاب ألفاظًا مثل:
«جنودها الكفرة الفجرة»، «رعاة خنازير الإفرنج»، «خدم للتحالف الصليبي»، «الطاغوت الجولاني»، «من ركع تحت أقدام أمريكا الصليبية»، وكلها تهدف إلى سحب أى صفة شرعية أو أخلاقية من الآخر.
هذا التجريد يُعد أداة مركزية فى كل خطاب متطرف، لأنه يزيل أى حاجز نفسى يمنع الأتباع من قتل الخصوم. حين يصبح الآخر «خنزيرًا»، لا يعود قتله جريمة، بل «تطهيرًا». وحين يتحوّل الجولانى إلى «طاغوت»، لا يُعد الخروج عليه فتنة، بل فريضة دينية. هذه الاستراتيجية البلاغية تُغلق باب التسامح، وتفتح باب الجهاد الدموي.
كما أن الخطاب لا يكتفى بالتجريد اللغوي، بل يُعيد إنتاجه بصريًا عبر الوصف الرمزي. فحين يقول مثلًا:«بات يسعى إلى رعى خنازير اليهود»،فهو لا يعبّر عن نقد سياسى لعلاقات الجولانى الإقليمية، بل يُنتج صورة كاريكاتورية تهدف إلى صدم الأتباع واستفزاز مشاعرهم، ودفعهم باتجاه «الثأر» ممن يوصف بهذا الشكل. إنها بلاغة محمّلة بالكراهية والمجاز الدموي.
٣. التلاعب بالتاريخ لتثبيت سردية دينية
فى محاولة لصناعة شرعية تاريخية «نقية» لمشروع داعش، يستدعى الخطاب حادثة المعتمد بن عباد فى الأندلس، والذى رفض الاستعانة بالصليبيين على خصومه المسلمين، رغم الخطر المحدق به. وينقل عن المعتمد قوله الشهير:
«لأن يرعى أولادنا جمالهم، أحب إلينا من أن يرعوا خنازير الإفرنج!»
ثم يقارن ذلك بسلوك الجولانى قائلًا:
«أما لسان حال الجولانى وجنوده اليوم: لأن نرعى خنازير الإفرنج أحب إلينا من بقاء الدولة الإسلامية».
هذه المقارنة، رغم جاذبيتها البلاغية، تتجاهل تمامًا الفروقات السياقية والزمنية. فالمعتمد كان حاكمًا فى ظل تهديد استئصال سياسى وثقافى من قوة غازية، بينما الجولانى يتحرك فى واقع دولى وإقليمى مركب، تسوده تحالفات ظرفية وتوازنات ميدانية دقيقة. لكن التنظيم يُعيد تدوير القصة التاريخية لتثبيت فكرة «الخيانة الكبرى» وتكريس صورة «داعش» كآخر معاقل الإسلام الصافي.
التلاعب بالتاريخ هنا ليس بريئًا، بل مقصود لبناء سردية ملحمية تصنع ثنائية «الأبطال والخونة»، «الطهر والتلوث»، و«الشريعة والديمقراطية». فداعش لا يستخدم التاريخ للعبرة أو التأمل، بل لخدمة أيديولوجيا الكراهية والفرز الديني. هكذا يتحول المعتمد بن عباد من شخصية تاريخية معقدة إلى رمز فى معركة معاصرة ضد من يوصفون بـ«عملاء الغرب».
وفى نهاية هذا البناء الرمزي، يظهر «مشروع الدولة الإسلامية» بوصفه الامتداد الوحيد للحكم بالشريعة، بينما جميع المشاريع الأخرى، سواء كانت ثورية أو إصلاحية، تتحول إلى نُسخ مخففة من الكفر العالمي. وهنا يكمن الخطر الأكبر: فقدرة هذا الخطاب على تبسيط الواقع وتحويله إلى ثنائيات قاتلة، هى ما يجعله جذابًا وقاتلًا فى آنٍ معًا.
ثالثًا: الرسائل المسكوت عنها
بالاعتماد على افتتاحية النص التى تمثل جوهر الخطاب الداعشى – حيث تُعلن «الدولة الإسلامية» نفسها طليعةً مقدّسة، باقيةً رغم الانهيارات، وأنها تعيش «مرحلة الابتلاء بعد الطهر»– يمكن تبيّن ثلاث رسائل مسكوت عنها تتغلغل فى السطور، دون أن تُصرّح بها صراحة، لكنها تؤدى دورًا بالغ الخطورة فى تشكيل وعى أتباع التنظيم. هذه الرسائل تكشف كيف يحاول الخطاب التمويه على الجرائم، والتملص من الفشل، وكبت التفكير النقدي، بما يعكس سلوكًا تبريريًا مقصودًا، يخدم بقاء الأيديولوجيا حتى فى لحظات الهزيمة.
١. طمس جرائم التنظيم
يستدعى النص واقعة قتل الدروز لا بوصفها مأساة إنسانية أو جرمًا فى حق الأقليات، بل كـ«تنفيذ لحكم الله». لا يُظهر الخطاب أى ندم، ولا حتى تبريرًا سياسيًا، بل يعرض الفعل كدليل على "طهارة المنهج". الإشارة عابرة ولكنها كافية لتثبيت الفكرة: أن قتل المختلفين عقائديًا جزءٌ مشروع من «نقاء الصف».
المُلفت أن المجازر التى ارتُكبت فى حق الدروز، والدمار الذى طال قراهم، وتهجير آلاف المدنيين، يتم القفز عليه بالكامل. لا ذكر للضحايا، ولا للمعاناة، ولا لأى أثر إنسانى لما جرى. بهذا الشكل، يتعمد النص محو الذاكرة الجمعية للضحايا، وتقديم جريمة إبادة طائفية كعلامة إيمان.
هذه المقاربة تُحوّل المذابح من واقع مُدان إلى سردية نصر عقائدي، يُمكّن التنظيم من فرض هيمنته الرمزية على الماضي. إنها عملية «تبييض للعنف» تجرى بلغة دينية، لتُظهر القتل كجزء من بناء الأمة المسلمة، لا كجريمة سياسية وأخلاقية.
٢. إسقاط الفشل على الآخرين
رغم أن التنظيم انهار جغرافيًا وخسر قاعدته الشعبية، إلا أن النص لا يواجه هذا الانهيار مواجهةً واقعية. بل يُعيد تدوير خطاب «الاصطفاء» ويعرض الهزيمة كـ«ابتلاء بعد طهر»، كما ورد فى الافتتاحية. هذه الحيلة النفسية تبرّر العزلة وتُقنع الأتباع بأنهم ضحايا «حرب كونية على الإسلام».
النص يُحمّل الآخرين مسئولية الفشل: الصحوات، الحركات الإسلامية، الدول الغربية، القبائل، وحتى الجهاديين «غير الملتزمين بالمنهج». الكل متآمر، والتنظيم وحده «الثابت». بذلك، يتم تجريد الجماعة من أى مسؤولية، وتُخلق بيئة ذهنية مغلقة ترفض النقد أو المراجعة.
هذا الإسقاط ليس بريئًا، بل يُعيد إنتاج منطق التمايز والطهر. فالفشل ليس ناتجًا عن خطأ استراتيجى أو غلوّ فكري، بل عن خيانة الخارج. وهكذا يُعاد ضبط العلاقة مع العالم من منطق المواجهة الدائمة، فيتحوّل التنظيم إلى «قلعة محاصَرة»، مما يُمهّد لعودة أكثر تطرفًا.
٣. إسكات أى خطاب عقلانى أو نقدي
فى لحظة ما، كانت بعض الأوساط الجهادية قد بدأت بمراجعات داخلية، وظهرت مناظرات ونقاشات عن شرعية البيعة، وأساليب العنف، وشرعية الدولة. لكن النص الذى نحن بصدده يُهاجم هذا المسار، ويصفه بـ«السفسطائية» و«الارتياب»، بل يُلمّح إلى أن هذه المراجعات خطرٌ على الطهارة العقائدية.
الخطاب يشن حملة على «الجهاديين المرتابين»، ويصف التفكير المستقل كعلامة ضعف أو خيانة. فى المقابل، يُكرّس الانصياع للنصوص «كما فُهمت من قِبل الدولة» باعتباره واجبًا شرعيًا. بهذا، يتم دفن أى أفق للاجتهاد، ويُحوَّل التنظيم إلى منظومة مغلقة من الطاعة المطلقة.
هذه النزعة التكفيرية المضادة للنقد تخلق بيئة فكرية خانقة، تُعيد تدوير الغلوّ وتمنع أى تصحيح داخلي. فحتى النقد من داخل الدائرة الجهادية يُعامل كرجس يجب استئصاله. النتيجة: خطاب يعادى العقل، ويُؤسس لدكتاتورية دينية ترفض حتى أقرب مقاتليها إذا تساءلوا أو تردّدوا.
رابعًا: الوظائف التداولية للخطاب
بالنظر إلى افتتاحية داعش، يتّضح أن الخطاب ليس مجرد تحليل ظرفى أو تعليق عابر على "خيانات الجولاني" كما يسميها، بل هو جزء من استراتيجية أيديولوجية مدروسة تهدف إلى إعادة ضبط البوصلة القتالية والشرعية لدى جمهور التنظيم. فى هذا السياق، تتجلّى الوظائف التداولية للنص، ليس باعتباره أداة للتواصل فقط، بل كوسيلة للتأثير والتوجيه والتجنيد وإعادة إنتاج الصراع.
١. التحريض على القتل باسم الدين
النص يُعيد إنتاج البنية الفقهية التى طالما اعتمد عليها التنظيم لتبرير العنف، إذ يقدّم هيئة تحرير الشام ليس فقط كخصم عسكري، بل كعدو عقدى «مرتد»، ما يفتح الباب أمام تسويغ استهدافها وتصفيتها بوصف ذلك «حكمًا شرعيًا». لا يكتفى الخطاب بوصف الجولانى بالخيانة، بل يربط موقفه بالخروج عن الدين، وهو تأصيل مقصود يهدف إلى إزالة أى حرج دينى من عمليات الاغتيال أو القتال الموجهة ضد فصائل أخرى، بل يجعل منها واجبًا دينيًا. بهذه الطريقة، يهيئ النص الأرضية النفسية والفقهية لأى عمليات انتقامية مقبلة ضد هذه الفصائل.
٢. تثبيت الهوية الداعشية مقابل الآخر المرتد
الخطاب لا يترك مساحة رمادية فى تحديد الهويّات، بل يرسم حدودًا صارمة بين «الفرقة الناجية»– أى داعش – و«المرتدين والخونة»، وهو ما يُعيد التأكيد على مركزية التنظيم باعتباره المُمثل الأوحد للإسلام الصحيح، حسب زعمه. يُوظّف النص لغة حصرية تُمجّد «الطهر العقائدي» لداعش مقابل «التلوث» الذى أصاب الفصائل الأخرى، ما يُعزز من شعور النخبوية لدى عناصره ويُبرّر قطيعة تنظيمية وعقدية مع كل من لا ينتمى لهم.
٣. خلق عدو دائم
لا يكتفى الخطاب بإدانة الجولانى أو هيئة تحرير الشام، بل يوسّع من دائرة «العدو المرتد»، لتشمل كل من تعاون مع هذه الفصائل أو سكت عن «انحرافها»، ما يُبقى التنظيم فى حالة استنفار وجودى دائم. هذه التقنية تُعد من أدوات التعبئة المركزية لدى داعش: تحويل كل نزاع سياسى أو تنظيمى إلى معركة دينية حتمية، تُبرّر استمرار القتال وتُضفى عليه قداسة. إنها آلية لإبقاء الحرب مفتوحة دائمًا، حتى فى حال غياب عدو مباشر.
٤. استقطاب الهامش المتطرف
فى لحظة تراجع التنظيم وتفكّك أذرعه، يخاطب النص من تبقّى من المتشددين الذين لم يجدوا فى الجولانى أو غيره "خصمًا كافرًا"، ويحثّهم على اتخاذ موقف قاطع وحاسم. يستخدم خطابًا عاطفيًا وعقائديًا يلامس مخاوف هؤلاء من «الذوبان»، ويُقدّم داعش كآخر معاقل الصفاء العقائدي. بهذا المعنى، لا يسعى النص إلى كسب جمهور واسع، بل إلى اجتذاب الشريحة الأكثر تطرفًا التى قد تشعر بالتيه أو خيبة الأمل من فصائل المعارضة، وبالتالى تميل إلى العودة لأحضان تنظيم أكثر راديكالية.
خامسًا: الأثر الاجتماعى والسياسى للخطاب
يفاقم الخطاب الداعشى الانقسامات الأيديولوجية والتنظيمية بين الفصائل الجهادية، لا سيما بين تنظيم «الدولة» وهيئة تحرير الشام، التى يصفها النص بأنها «سلالة صحوات الردة». عبر هذه اللغة، لا يكتفى الخطاب بتكفير «العدو»، بل يشيطنه بأبشع الأوصاف، ما يغلق أبواب المصالحة أو التهدئة بين الفصائل المتصارعة، ويحول الصراع من تنافس نفوذ إلى صراع وجودي، حيث كل طرف يسعى لإلغاء الآخر ماديًا ومعنويًا. وهذا يطيل أمد الحرب الأهلية فى سوريا، ويجعل من أى مشروع سياسى لحل النزاع أمرًا بعيد المنال.
الخطاب يكرّس كراهية طائفية حادة، ليس فقط ضد العلويين الذين يُتهمون صراحةً بموالاة «النصيرية الصفوية»، بل يمتد ليشمل الشيعة والإسماعيليين والدروز، وحتى المسلمين الذين لا يتبنّون رؤية التنظيم. فى ظل هذا التصنيف، تصبح دماء هؤلاء مباحة، ويجرى استدعاء مفردات فقهية مثل «التترس» و«الولاء والبراء» لتبرير أعمال إبادة جماعية ممنهجة، تُصوَّر على أنها جهاد تطهيرى لا بد منه لتثبيت «التوحيد الخالص» على الأرض.
يعيد النص توظيف مفاهيم دينية مثل «تحكيم الشريعة» و«الطاغوت» و«الحاكمية» فى سياق سياسى صرف، يخدم أجندة التنظيم فى نزع الشرعية عن خصومه، وفرض تصور أحادى للإسلام. فى الافتتاحية، يُقدَّم مشروع التنظيم على أنه امتداد لـ«دولة الإسلام»، فى مقابل ما يُسمّى بـ«ديمقراطيات الكفر» أو «أنظمة الردة»، ما يجعل أى شكل من أشكال المشاركة السياسية أو التعددية مرفوضًا شرعًا. وبهذا يتحول الدين إلى أداة للإقصاء والسيطرة لا وسيلة للهداية أو الإصلاح.
لا يتوقف الخطاب عند حدود الساحة السورية، بل يتعمد تصدير النموذج الداعشى بوصفه المثال الأعلى لأتباع التنظيم فى مناطق أخرى مثل الساحل الإفريقى وولايات خراسان وآسيا الوسطى. الرسالة تتجاوز المحلى لتخاطب «الموحدين فى كل مكان»، مطالبةً إياهم بتكرار التجربة، واستهداف «المرتدين» فى مجتمعاتهم. بهذا الشكل، يتحول الخطاب إلى وقود لعنف عابر للحدود، يعيد إنتاج الفوضى فى أماكن مختلفة، ويوفر شرعية «عقائدية» للهجمات الإرهابية التى تنفذها خلايا مرتبطة بالتنظيم فى بلدان لا علاقة مباشرة لها بالصراع السوري.
بين الكفر السياسى والتقديس الدموي
تكشف افتتاحية النبأ عن خطاب هجين يجمع بين التكفير، والتاريخ المشوّه، والرمزية اللاهوتية، والدعاية السياسية. لا ينطق النص باسم الدين، بل باسم مشروع سياسى مهووس بالدماء والخراب.
وبينما يُكرّس الخطاب مبدأ الطهارة عبر الإبادة، فإنّه فى الحقيقة ينتج منظومة عنف دائمة لا تعرف إلا التشظي، ويغلق كل أبواب الحوار والاجتهاد، ويقود الأتباع إلى طريق تفخيخ الجغرافيا والوعى معًا.
لقد آن الأوان لمواجهة هذا الخطاب بما هو أكثر من الردّ الأمني، إذ يحتاج الأمر إلى تفكيك لغوى ومعرفى يُظهِر زيف ادعاءاته، ويفضح استغلاله للنصوص، ويحرّر العقول من أسر التقديس الزائف للسلاح.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


سبوتنيك بالعربية
منذ 5 ساعات
- سبوتنيك بالعربية
لبنان يعلن نتائج التحقيق الأولي بشأن "مقبرة جرود عرسال"
لبنان يعلن نتائج التحقيق الأولي بشأن "مقبرة جرود عرسال" لبنان يعلن نتائج التحقيق الأولي بشأن "مقبرة جرود عرسال" سبوتنيك عربي أعلنت الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرا، أنها "أنهت التحقيق السياقي بشأن موقع الدفن الذي تم اكتشافه بتاريخ 9 أيار/ مايو الماضي، في منطقة عقبة المبيّضة ... 07.08.2025, سبوتنيك عربي 2025-08-07T09:38+0000 2025-08-07T09:38+0000 2025-08-07T09:38+0000 لبنان أخبار لبنان الأخبار أخبار العالم الآن العالم العربي ووفقا للتقرير، "يُرجّح أن تعود المقابر لأشخاص غير لبنانيين شاركوا في المعارك بين الفصائل المسلحة في المنطقة بين 2016 و2017"، مشيرا إلى أنه تم التوصل إلى هذه النتائج بناء على شهادات متطابقة من المخاتير والسكان المحليين والقوى الأمنية المتواجدة في المنطقة، إضافة إلى التحقق من صور الأقمار الصناعية التي بينت التغيرات الحاصلة في الموقع وتاريخها المحتمل، حسب وكالة الأنباء اللبنانية.وبحسب التقرير، "لا توجد معطيات تشير إلى وجود مفقودين من أبناء بلدة عرسال أو من عناصر الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، ما يعزز الفرضية بأن المدفونين في الموقع هم من غير اللبنانيين، وقد يكونون مقاتلين من تنظيمات مثل جبهة النصرة أو تنظيم داعش الإرهابيين، أو من جنسيات أخرى. كما أن الشهادات والمعطيات المتطابقة أفادت عن وجود عدد كبير من القبور المرتجلة في هذه المنطقة العسكرية والحدودية، الأمر الذي يتطلب اعداد خطة متكاملة للتعامل مع هذا الواقع".وأضاف البيان، أنه "نظرًا لطبيعة الموقع وخطورته الأمنية، أوصت الهيئة بتعليق أي أعمال نبش حالياً، والحفاظ على الموقع مغلقًا ومحميًا، إلى حين توافر معطيات إضافية أو طلب رسمي من عائلات أشخاص مفقودين"، مطالبة وزارة الدفاع إجراء مسح ميداني شامل لهذه المنطقة الحدودية والعسكرية ووضع خريطة دقيقة للقبور المرتجلة المنتشرة فيها.وأعلن لبنان، في مايو/ آيار الماضي، العثور في محلة عقبة المبيّضة في جرود عرسال، على مقبرة جماعيّة، تضمّ خمس جثث متحلّلة"، مشيرًا إلى أنّ "على الفور، تحرّكت الأجهزة الأمنيّة وباشرت الكشف على المكان". لبنان أخبار لبنان سبوتنيك عربي +74956456601 MIA 'Rossiya Segodnya' 252 60 2025 سبوتنيك عربي +74956456601 MIA 'Rossiya Segodnya' 252 60 الأخبار ar_EG سبوتنيك عربي +74956456601 MIA 'Rossiya Segodnya' 252 60 1920 1080 true 1920 1440 true 1920 1920 true سبوتنيك عربي +74956456601 MIA 'Rossiya Segodnya' 252 60 سبوتنيك عربي لبنان, أخبار لبنان, الأخبار, أخبار العالم الآن, العالم العربي


البوابة
منذ 2 أيام
- البوابة
داعش والجولانى.. قراءة فى خطاب الكراهية والتكفير المتبادل
فى ظل صراع متشابك ومعقد تشهده الساحة السورية، وبينما تتغيّر التحالفات وتتبدّل مواقع القوى العسكرية والسياسية، يواصل تنظيم "داعش" حربه الإعلامية والدعوية عبر منصاته الرسمية، وعلى رأسها صحيفة النبأ. ففى عددها 506 الصادر بتاريخ 31 يوليو 2025، أطلقت الصحيفة هجومًا لاذعًا على هيئة تحرير الشام بقيادة أبو محمد الجولاني، متهمة إياها بالردة والتبعية للتحالف الصليبي، ومستندة فى ذلك إلى خطاب دينى مشحون بالتكفير والتحريض، يغلف مشروعًا سياسيًا يقوم على الإقصاء والعنف والتطرف. تمثل هذه الافتتاحية نموذجًا مكثفًا لما يمكن تسميته بـ«الخطاب التكفيرى التعبوي»، الذى لا يكتفى برصد الأحداث وتفسيرها، بل يعيد تأويلها ضمن منظومة مغلقة من المفاهيم الدينية المؤدلجة. وهذا ما يستدعى قراءة تحليلية معمّقة، لا تكتفى بسطح النص، بل تنفذ إلى بناه العميقة، وتفكك استراتيجياته البلاغية والتأويلية، وتكشف السياقات التى يعمل ضمنها، والوظائف التى يؤديها، وما يخفيه من رسائل خبيثة تدفع نحو مزيد من العنف والانقسام. فى هذا السياق، تعتمد الدراسة على منهج تحليل الخطاب «Discourse Analysis» كأداة منهجية لفهم البنية الداخلية للنص، وتحديد وظائفه التداولية، والكشف عن الرسائل المسكوت عنها، وكذلك تتبع التأثيرات الاجتماعية والسياسية لهذا الخطاب على المشهدين السورى والإقليمي. وينقسم التحليل إلى خمسة محاور أساسية: السياق السياسى والأمنى للنص، تفكيك بنية الخطاب، الرسائل الضمنية والمسكوت عنها، الوظائف التداولية، ثم الأثر الاجتماعى والسياسي. تهدف هذه الدراسة إلى إبراز خطورة هذا النوع من الخطابات التى لا تُنتج فقط الكراهية، بل تُضفى عليها شرعية دينية مغلوطة، وتُسهم فى تمديد أمد الصراع، وزيادة تعقيد المشهد، وتوسيع رقعة الإرهاب العابر للحدود. كما تسعى إلى فضح البنية الذهنية التى يُغذّى بها التنظيم أتباعه، ويدفعهم بها نحو العنف الدموى الممنهج، مستخدمًا نصوص الدين فى غير موضعها، ومتلاعبًا بالتراث والرموز لخدمة مشروع إقصائى شمولي. أولًا: السياق السياسى والأمنى للنص تأتى افتتاحية العدد ٥٠٦ من صحيفة النبأ فى إطار تصعيد خطابى يعكس حالة التوتر العسكرى والأمنى المتفاقم فى الشمال السوري، وتحديدًا فى مدينة الباب الخاضعة لنفوذ فصائل المعارضة المدعومة من تركيا، وفى مقدمتها «الجيش الوطنى السوري». تشير الافتتاحية إلى «عملية أمنية مشتركة» قادها التحالف الدولى ضد ما تصفه بـ«بيت للمسلمين»، وتتهم هيئة تحرير الشام والجولانى تحديدًا بأنه رأس الحربة فى هذه العملية، مستخدمة عبارات مثل: «غزو بيت للمسلمين بمدينة الباب»، و«مقتل مجاهد ونجليه وأسر ذويه»، فى محاولة لبناء صورة ضحية للتنظيم، وتقديم العملية كدليل جديد على «العدوان الصليبي» المتواصل ضد ما تسميه «الدولة الإسلامية». النص، وإن كان مكسوًا برداء ديني، إلا أنه فى جوهره خطاب سياسى موجه بوضوح ضد هيئة تحرير الشام وأجهزتها الأمنية. فداعش لا يهاجم فحسب العملية الأمنية، بل يربطها بسياق أوسع من «الردة والعمالة»، حيث يعتبر أن ما جرى فى الباب هو «مظاهرة ومعاونة وموالاة صريحة للمشركين على المسلمين»، فى تكرار لمعادلة التكفير التى يُجريها التنظيم تلقائيًا على أى فصيل يتعامل مع القوى الدولية، سواء بالتحالف العسكرى أو التنسيق الأمني. رسم خريطة العداء ومن خلال استدعاء حادثة الباب كمحور للخطاب، يعيد التنظيم رسم خريطة العداء من جديد. فعدوه الأول لم يعد فقط التحالف الدولى أو الأنظمة الإقليمية، بل التنظيمات الجهادية الأخرى التى تمارس نوعًا من البراجماتية السياسية، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام. ويأتى وصف الجولانى بـ«الطاغوت» و«الخائن» و«جندى فى التحالف الصليبي»، ليدشن فصلًا جديدًا فى الصراع الداخلى بين الفصائل الإسلامية، معتمدًا على «تحقيق مناط الردة» كما ورد فى النص، لاستخدامه كسلاح لشرعنة استهدافهم وتصفيتهم. ما يكشفه هذا الخطاب هو أن التنظيم يُطوّع الأدوات الدينية لتكفير خصومه السياسيين، ويرتّب على ذلك أحكامًا خطيرة تمهّد للعنف والاقتتال. فالهجوم على الجولانى وهيئته لا يقف عند حدود النقد السياسى أو الفكري، بل يتحول إلى توثيق شرعى للحكم عليهم بالردة، مما يعنى إباحة دمائهم واستباحة مناطقهم، وهو ما نراه فى العبارة الصريحة: «وما جرى فى واقعة الباب.. هو مناط كفر وردة وناقض من نواقض الدين». ويجب ألا نغفل عن أن هذا النوع من الخطاب ليس معزولًا عن واقع النزاع الإقليمى والدولى على الأرض السورية. فعملية الباب لم تكن سوى ذريعة لإعادة طرح خطاب المظلومية الجهادية وتأكيد سردية «التآمر العالمى على الدولة الإسلامية»، وتقديم داعش بوصفه الضحية الوحيدة التى لا تزال ترفع راية الشريعة. بهذا، يصبح النص جزءًا من حرب ناعمة تُخاض بالكلمات والآيات، لكنها تجهّز الأرض لمزيد من سفك الدماء وتحشيد الأنصار، كما جاء فى قولهم: «لقد بات ثابتًا لدى الجميع أن التعاون بين الطاغوت الجولانى والصليبيين فى الحرب على الإسلام ليس جديدًا.. فما جرى فى واقعة الباب مظاهرة ومعاونة وموالاة صريحة للمشركين على المسلمين». ثانيًا: تفكيك بنية الخطاب تكشف افتتاحية النبأ عن خطاب متماسك ظاهريًا، لكنه مشحون بالأحكام المطلقة، والأساليب البلاغية التحريضية، والانتقائية التأويلية، التى تُستخدم لتغليف مشروع سياسى عنيف بغطاء ديني. هذا الخطاب يتأسس على ثلاث ركائز رئيسية: التكفير، التجريد من الإنسانية، والتلاعب بالتاريخ. من خلال تحليل هذه الركائز، يمكن فهم كيف يبنى التنظيم شرعية زائفة لعملياته، ويبرر عنفه، ويشيطن خصومه ضمن سردية دينية مغلقة. ١. التحريض الدينى عبر تكفير الخصم يرتكز الخطاب منذ بدايته على ما يُعرف بـ«تحقيق مناط الردة»، وهو مفهوم فقهى خطير حين يُنزّل على الخصوم السياسيين دون معايير علمية أو اجتهادية. فيقول النص: «ما جرى فى واقعة الباب مظاهرة ومعاونة وموالاة صريحة للمشركين على المسلمين، وهى مناط كفر وردة وناقض من نواقض الدين». هنا لا يكتفى الكاتب بتوصيف سلوك الخصوم، بل يصدر حكمًا دينيًا نهائيًا لا رجعة فيه، يُسقط فيه الفعل السياسى على قواعد «الولاء والبراء»، التى طالما استخدمها التنظيم لبناء معادلة «نحن مقابل الكفار». ويعزز الكاتب هذا التوجه بانتقاء نصوص قرآنية لتأكيد حكمه، من أبرزها قوله تعالى: "وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ"، ثم يستشهد بابن حزم فى المحلى ليؤكد أن الآية «على ظاهرها» وتعنى الكفر الصريح. لكن النص يتجاهل تمامًا سياق الآية فى سورة المائدة، وإجماع جمهور العلماء على أن «التولي» هنا له ضوابط، وأنه لا يجوز استسهال التكفير دون إقامة الحجة ووجود الشروط وانتفاء الموانع. إلا أن التنظيم يُقصى هذا المنهج العلمى ويستبدله بآلية ميكانيكية للتكفير الفوري. بهذا، يتحول الخطاب من كونه تحليلًا سياسيًا لما جرى فى الباب، إلى دعوة مبطّنة لاستباحة الدماء. فعندما يُوسم الجولانى وأتباعه بالردة، فإن كل من ينتظم فى فصيله أو يُنسَب إليه يصبح حلال الدم والمال وفق منطق التنظيم. وهذا النوع من التكفير الممنهج هو ما يمهّد الطريق نفسيًا وشرعيًا لأى هجوم إرهابى لاحق. ٢. شيطنة الآخر ووصمه واحدة من أكثر الأدوات وضوحًا فى خطاب الافتتاحية هى التجريد التام من الإنسانية. إذ لا يتعامل النص مع الخصم بوصفه فاعلًا سياسيًا له رؤية، ولا حتى منحرفًا عن الصواب، بل يصوّره ككائن نجس، دخيل على الإسلام، عميل للغرب، وخادم للصهاينة. يستخدم الخطاب ألفاظًا مثل: «جنودها الكفرة الفجرة»، «رعاة خنازير الإفرنج»، «خدم للتحالف الصليبي»، «الطاغوت الجولاني»، «من ركع تحت أقدام أمريكا الصليبية»، وكلها تهدف إلى سحب أى صفة شرعية أو أخلاقية من الآخر. هذا التجريد يُعد أداة مركزية فى كل خطاب متطرف، لأنه يزيل أى حاجز نفسى يمنع الأتباع من قتل الخصوم. حين يصبح الآخر «خنزيرًا»، لا يعود قتله جريمة، بل «تطهيرًا». وحين يتحوّل الجولانى إلى «طاغوت»، لا يُعد الخروج عليه فتنة، بل فريضة دينية. هذه الاستراتيجية البلاغية تُغلق باب التسامح، وتفتح باب الجهاد الدموي. كما أن الخطاب لا يكتفى بالتجريد اللغوي، بل يُعيد إنتاجه بصريًا عبر الوصف الرمزي. فحين يقول مثلًا:«بات يسعى إلى رعى خنازير اليهود»،فهو لا يعبّر عن نقد سياسى لعلاقات الجولانى الإقليمية، بل يُنتج صورة كاريكاتورية تهدف إلى صدم الأتباع واستفزاز مشاعرهم، ودفعهم باتجاه «الثأر» ممن يوصف بهذا الشكل. إنها بلاغة محمّلة بالكراهية والمجاز الدموي. ٣. التلاعب بالتاريخ لتثبيت سردية دينية فى محاولة لصناعة شرعية تاريخية «نقية» لمشروع داعش، يستدعى الخطاب حادثة المعتمد بن عباد فى الأندلس، والذى رفض الاستعانة بالصليبيين على خصومه المسلمين، رغم الخطر المحدق به. وينقل عن المعتمد قوله الشهير: «لأن يرعى أولادنا جمالهم، أحب إلينا من أن يرعوا خنازير الإفرنج!» ثم يقارن ذلك بسلوك الجولانى قائلًا: «أما لسان حال الجولانى وجنوده اليوم: لأن نرعى خنازير الإفرنج أحب إلينا من بقاء الدولة الإسلامية». هذه المقارنة، رغم جاذبيتها البلاغية، تتجاهل تمامًا الفروقات السياقية والزمنية. فالمعتمد كان حاكمًا فى ظل تهديد استئصال سياسى وثقافى من قوة غازية، بينما الجولانى يتحرك فى واقع دولى وإقليمى مركب، تسوده تحالفات ظرفية وتوازنات ميدانية دقيقة. لكن التنظيم يُعيد تدوير القصة التاريخية لتثبيت فكرة «الخيانة الكبرى» وتكريس صورة «داعش» كآخر معاقل الإسلام الصافي. التلاعب بالتاريخ هنا ليس بريئًا، بل مقصود لبناء سردية ملحمية تصنع ثنائية «الأبطال والخونة»، «الطهر والتلوث»، و«الشريعة والديمقراطية». فداعش لا يستخدم التاريخ للعبرة أو التأمل، بل لخدمة أيديولوجيا الكراهية والفرز الديني. هكذا يتحول المعتمد بن عباد من شخصية تاريخية معقدة إلى رمز فى معركة معاصرة ضد من يوصفون بـ«عملاء الغرب». وفى نهاية هذا البناء الرمزي، يظهر «مشروع الدولة الإسلامية» بوصفه الامتداد الوحيد للحكم بالشريعة، بينما جميع المشاريع الأخرى، سواء كانت ثورية أو إصلاحية، تتحول إلى نُسخ مخففة من الكفر العالمي. وهنا يكمن الخطر الأكبر: فقدرة هذا الخطاب على تبسيط الواقع وتحويله إلى ثنائيات قاتلة، هى ما يجعله جذابًا وقاتلًا فى آنٍ معًا. ثالثًا: الرسائل المسكوت عنها بالاعتماد على افتتاحية النص التى تمثل جوهر الخطاب الداعشى – حيث تُعلن «الدولة الإسلامية» نفسها طليعةً مقدّسة، باقيةً رغم الانهيارات، وأنها تعيش «مرحلة الابتلاء بعد الطهر»– يمكن تبيّن ثلاث رسائل مسكوت عنها تتغلغل فى السطور، دون أن تُصرّح بها صراحة، لكنها تؤدى دورًا بالغ الخطورة فى تشكيل وعى أتباع التنظيم. هذه الرسائل تكشف كيف يحاول الخطاب التمويه على الجرائم، والتملص من الفشل، وكبت التفكير النقدي، بما يعكس سلوكًا تبريريًا مقصودًا، يخدم بقاء الأيديولوجيا حتى فى لحظات الهزيمة. ١. طمس جرائم التنظيم يستدعى النص واقعة قتل الدروز لا بوصفها مأساة إنسانية أو جرمًا فى حق الأقليات، بل كـ«تنفيذ لحكم الله». لا يُظهر الخطاب أى ندم، ولا حتى تبريرًا سياسيًا، بل يعرض الفعل كدليل على "طهارة المنهج". الإشارة عابرة ولكنها كافية لتثبيت الفكرة: أن قتل المختلفين عقائديًا جزءٌ مشروع من «نقاء الصف». المُلفت أن المجازر التى ارتُكبت فى حق الدروز، والدمار الذى طال قراهم، وتهجير آلاف المدنيين، يتم القفز عليه بالكامل. لا ذكر للضحايا، ولا للمعاناة، ولا لأى أثر إنسانى لما جرى. بهذا الشكل، يتعمد النص محو الذاكرة الجمعية للضحايا، وتقديم جريمة إبادة طائفية كعلامة إيمان. هذه المقاربة تُحوّل المذابح من واقع مُدان إلى سردية نصر عقائدي، يُمكّن التنظيم من فرض هيمنته الرمزية على الماضي. إنها عملية «تبييض للعنف» تجرى بلغة دينية، لتُظهر القتل كجزء من بناء الأمة المسلمة، لا كجريمة سياسية وأخلاقية. ٢. إسقاط الفشل على الآخرين رغم أن التنظيم انهار جغرافيًا وخسر قاعدته الشعبية، إلا أن النص لا يواجه هذا الانهيار مواجهةً واقعية. بل يُعيد تدوير خطاب «الاصطفاء» ويعرض الهزيمة كـ«ابتلاء بعد طهر»، كما ورد فى الافتتاحية. هذه الحيلة النفسية تبرّر العزلة وتُقنع الأتباع بأنهم ضحايا «حرب كونية على الإسلام». النص يُحمّل الآخرين مسئولية الفشل: الصحوات، الحركات الإسلامية، الدول الغربية، القبائل، وحتى الجهاديين «غير الملتزمين بالمنهج». الكل متآمر، والتنظيم وحده «الثابت». بذلك، يتم تجريد الجماعة من أى مسؤولية، وتُخلق بيئة ذهنية مغلقة ترفض النقد أو المراجعة. هذا الإسقاط ليس بريئًا، بل يُعيد إنتاج منطق التمايز والطهر. فالفشل ليس ناتجًا عن خطأ استراتيجى أو غلوّ فكري، بل عن خيانة الخارج. وهكذا يُعاد ضبط العلاقة مع العالم من منطق المواجهة الدائمة، فيتحوّل التنظيم إلى «قلعة محاصَرة»، مما يُمهّد لعودة أكثر تطرفًا. ٣. إسكات أى خطاب عقلانى أو نقدي فى لحظة ما، كانت بعض الأوساط الجهادية قد بدأت بمراجعات داخلية، وظهرت مناظرات ونقاشات عن شرعية البيعة، وأساليب العنف، وشرعية الدولة. لكن النص الذى نحن بصدده يُهاجم هذا المسار، ويصفه بـ«السفسطائية» و«الارتياب»، بل يُلمّح إلى أن هذه المراجعات خطرٌ على الطهارة العقائدية. الخطاب يشن حملة على «الجهاديين المرتابين»، ويصف التفكير المستقل كعلامة ضعف أو خيانة. فى المقابل، يُكرّس الانصياع للنصوص «كما فُهمت من قِبل الدولة» باعتباره واجبًا شرعيًا. بهذا، يتم دفن أى أفق للاجتهاد، ويُحوَّل التنظيم إلى منظومة مغلقة من الطاعة المطلقة. هذه النزعة التكفيرية المضادة للنقد تخلق بيئة فكرية خانقة، تُعيد تدوير الغلوّ وتمنع أى تصحيح داخلي. فحتى النقد من داخل الدائرة الجهادية يُعامل كرجس يجب استئصاله. النتيجة: خطاب يعادى العقل، ويُؤسس لدكتاتورية دينية ترفض حتى أقرب مقاتليها إذا تساءلوا أو تردّدوا. رابعًا: الوظائف التداولية للخطاب بالنظر إلى افتتاحية داعش، يتّضح أن الخطاب ليس مجرد تحليل ظرفى أو تعليق عابر على "خيانات الجولاني" كما يسميها، بل هو جزء من استراتيجية أيديولوجية مدروسة تهدف إلى إعادة ضبط البوصلة القتالية والشرعية لدى جمهور التنظيم. فى هذا السياق، تتجلّى الوظائف التداولية للنص، ليس باعتباره أداة للتواصل فقط، بل كوسيلة للتأثير والتوجيه والتجنيد وإعادة إنتاج الصراع. ١. التحريض على القتل باسم الدين النص يُعيد إنتاج البنية الفقهية التى طالما اعتمد عليها التنظيم لتبرير العنف، إذ يقدّم هيئة تحرير الشام ليس فقط كخصم عسكري، بل كعدو عقدى «مرتد»، ما يفتح الباب أمام تسويغ استهدافها وتصفيتها بوصف ذلك «حكمًا شرعيًا». لا يكتفى الخطاب بوصف الجولانى بالخيانة، بل يربط موقفه بالخروج عن الدين، وهو تأصيل مقصود يهدف إلى إزالة أى حرج دينى من عمليات الاغتيال أو القتال الموجهة ضد فصائل أخرى، بل يجعل منها واجبًا دينيًا. بهذه الطريقة، يهيئ النص الأرضية النفسية والفقهية لأى عمليات انتقامية مقبلة ضد هذه الفصائل. ٢. تثبيت الهوية الداعشية مقابل الآخر المرتد الخطاب لا يترك مساحة رمادية فى تحديد الهويّات، بل يرسم حدودًا صارمة بين «الفرقة الناجية»– أى داعش – و«المرتدين والخونة»، وهو ما يُعيد التأكيد على مركزية التنظيم باعتباره المُمثل الأوحد للإسلام الصحيح، حسب زعمه. يُوظّف النص لغة حصرية تُمجّد «الطهر العقائدي» لداعش مقابل «التلوث» الذى أصاب الفصائل الأخرى، ما يُعزز من شعور النخبوية لدى عناصره ويُبرّر قطيعة تنظيمية وعقدية مع كل من لا ينتمى لهم. ٣. خلق عدو دائم لا يكتفى الخطاب بإدانة الجولانى أو هيئة تحرير الشام، بل يوسّع من دائرة «العدو المرتد»، لتشمل كل من تعاون مع هذه الفصائل أو سكت عن «انحرافها»، ما يُبقى التنظيم فى حالة استنفار وجودى دائم. هذه التقنية تُعد من أدوات التعبئة المركزية لدى داعش: تحويل كل نزاع سياسى أو تنظيمى إلى معركة دينية حتمية، تُبرّر استمرار القتال وتُضفى عليه قداسة. إنها آلية لإبقاء الحرب مفتوحة دائمًا، حتى فى حال غياب عدو مباشر. ٤. استقطاب الهامش المتطرف فى لحظة تراجع التنظيم وتفكّك أذرعه، يخاطب النص من تبقّى من المتشددين الذين لم يجدوا فى الجولانى أو غيره "خصمًا كافرًا"، ويحثّهم على اتخاذ موقف قاطع وحاسم. يستخدم خطابًا عاطفيًا وعقائديًا يلامس مخاوف هؤلاء من «الذوبان»، ويُقدّم داعش كآخر معاقل الصفاء العقائدي. بهذا المعنى، لا يسعى النص إلى كسب جمهور واسع، بل إلى اجتذاب الشريحة الأكثر تطرفًا التى قد تشعر بالتيه أو خيبة الأمل من فصائل المعارضة، وبالتالى تميل إلى العودة لأحضان تنظيم أكثر راديكالية. خامسًا: الأثر الاجتماعى والسياسى للخطاب يفاقم الخطاب الداعشى الانقسامات الأيديولوجية والتنظيمية بين الفصائل الجهادية، لا سيما بين تنظيم «الدولة» وهيئة تحرير الشام، التى يصفها النص بأنها «سلالة صحوات الردة». عبر هذه اللغة، لا يكتفى الخطاب بتكفير «العدو»، بل يشيطنه بأبشع الأوصاف، ما يغلق أبواب المصالحة أو التهدئة بين الفصائل المتصارعة، ويحول الصراع من تنافس نفوذ إلى صراع وجودي، حيث كل طرف يسعى لإلغاء الآخر ماديًا ومعنويًا. وهذا يطيل أمد الحرب الأهلية فى سوريا، ويجعل من أى مشروع سياسى لحل النزاع أمرًا بعيد المنال. الخطاب يكرّس كراهية طائفية حادة، ليس فقط ضد العلويين الذين يُتهمون صراحةً بموالاة «النصيرية الصفوية»، بل يمتد ليشمل الشيعة والإسماعيليين والدروز، وحتى المسلمين الذين لا يتبنّون رؤية التنظيم. فى ظل هذا التصنيف، تصبح دماء هؤلاء مباحة، ويجرى استدعاء مفردات فقهية مثل «التترس» و«الولاء والبراء» لتبرير أعمال إبادة جماعية ممنهجة، تُصوَّر على أنها جهاد تطهيرى لا بد منه لتثبيت «التوحيد الخالص» على الأرض. يعيد النص توظيف مفاهيم دينية مثل «تحكيم الشريعة» و«الطاغوت» و«الحاكمية» فى سياق سياسى صرف، يخدم أجندة التنظيم فى نزع الشرعية عن خصومه، وفرض تصور أحادى للإسلام. فى الافتتاحية، يُقدَّم مشروع التنظيم على أنه امتداد لـ«دولة الإسلام»، فى مقابل ما يُسمّى بـ«ديمقراطيات الكفر» أو «أنظمة الردة»، ما يجعل أى شكل من أشكال المشاركة السياسية أو التعددية مرفوضًا شرعًا. وبهذا يتحول الدين إلى أداة للإقصاء والسيطرة لا وسيلة للهداية أو الإصلاح. لا يتوقف الخطاب عند حدود الساحة السورية، بل يتعمد تصدير النموذج الداعشى بوصفه المثال الأعلى لأتباع التنظيم فى مناطق أخرى مثل الساحل الإفريقى وولايات خراسان وآسيا الوسطى. الرسالة تتجاوز المحلى لتخاطب «الموحدين فى كل مكان»، مطالبةً إياهم بتكرار التجربة، واستهداف «المرتدين» فى مجتمعاتهم. بهذا الشكل، يتحول الخطاب إلى وقود لعنف عابر للحدود، يعيد إنتاج الفوضى فى أماكن مختلفة، ويوفر شرعية «عقائدية» للهجمات الإرهابية التى تنفذها خلايا مرتبطة بالتنظيم فى بلدان لا علاقة مباشرة لها بالصراع السوري. بين الكفر السياسى والتقديس الدموي تكشف افتتاحية النبأ عن خطاب هجين يجمع بين التكفير، والتاريخ المشوّه، والرمزية اللاهوتية، والدعاية السياسية. لا ينطق النص باسم الدين، بل باسم مشروع سياسى مهووس بالدماء والخراب. وبينما يُكرّس الخطاب مبدأ الطهارة عبر الإبادة، فإنّه فى الحقيقة ينتج منظومة عنف دائمة لا تعرف إلا التشظي، ويغلق كل أبواب الحوار والاجتهاد، ويقود الأتباع إلى طريق تفخيخ الجغرافيا والوعى معًا. لقد آن الأوان لمواجهة هذا الخطاب بما هو أكثر من الردّ الأمني، إذ يحتاج الأمر إلى تفكيك لغوى ومعرفى يُظهِر زيف ادعاءاته، ويفضح استغلاله للنصوص، ويحرّر العقول من أسر التقديس الزائف للسلاح.


العين الإخبارية
منذ 2 أيام
- العين الإخبارية
تقرير أممي يكشف إمبراطورية «الشباب».. 18 ألف عنصر وتسليح بلا هوادة
معلومات مهمة كشفها تقرير أممي عن بنية حركة "الشباب" الصومالية التابعة لتنظيم "القاعدة" الإرهابي. التقرير الذي قُدم إلى مجلس الأمن الدولي من فريق الدعم التحليلي ورصد الجزاءات بشأن تنظيمي "داعش" و"القاعدة" وما يرتبط بهما من أفراد وكيانات، في يوليو/تموز الماضي، قدر عدد أفراد الحركة بنحو 10 إلى 18 ألف عنصر، يحققون إيرادات ربما تتجاوز 200 مليون دولار في العام الواحد، ربعها يُنفق على التسليح. وذكر التقرير الذي أطلعت "العين الإخبارية" على نسخة منه، أن حركة "الشباب" بقت "صامدة وكثفت عملياتها في جنوب ووسط الصومال". هيكل القيادة وأوضح التقرير، الذي يُغطي الفترة الممتدة من 14 ديسمبر/كانون الأول إلى 22 يونيو/حزيران الماضيين، أن "الشباب" شنت "هجمات منسقة" على منشآت عسكرية واستولت مؤقتا على بلدات وسيطرت على جسور وطرق إمداد رئيسية تؤدي إلى مقديشيو. وأوضح التقرير أنه "لم يطرأ تغيير كبير في قيادة حركة الشباب بعد مقتل محمد مير، الذي كان يشغل منصب رئيس الشؤون الداخلية للحركة في 24 ديسمبر/كانون الأول 2024. وأبلغت عدة دول خبراء الأمم المتحدة بأنه المحتمل أن يكون خليفة مير هو ظاهر جعامي، الرئيس السابق لمحاكم حركة "الشباب". وأشار التقرير إلى أن "تناقص قادة حركة الشباب لم يؤثر على استقرار الحركة على الأرجح". وقدرت عدة دول أن العدد الإجمالي لمقاتلي حركة "الشباب" ازداد وأصبح يتراوح بين نحو 10 إلى 18 ألفا. مصادر التمويل وواصلت حركة الشباب منح الأولوية لتعزيز قدراتها التسليحية، ولذا خصصت نحو ربع أمولها التشغيلية للوصول على الأسلحة من "الحوثيين" ومن تنظيم "القاعدة" في اليمن، وفقا للتقرير. وحافظت حركة الشباب على "نظام مالي قوي"، إذ كانت تمول عملياتها أساسا من خلال "الابتزاز وفرض الضرائب بشكل قسري"، حسب التقرير، الذي أشار إلى أن الحركة عمدت إلى "تعزيز إيراداتها"، عبر "فرض ضريبة قدرها 20 دولارا على كل أسرة بدءا من يونيو/حزيران الماضي". وأبلغت إحدى الدولة فريق خبراء الأمم المتحدة بأن الإيرادات السنوية لحركة الشباب "أعلى بكثير من المبلغ الشائع، وهو 100 مليون دولار"، ورجحت أن تتجاوز تلك الإيرادات 200 مليون دولار. داعش في الصومال أما بخصوص تنظيم "داعش"، فأشار التقرير إلى تعطل الشبكة المالية لمكتب الكرار (المسؤول عن فرع التنظيم في الصومال وشرق أفريقيا)، بما في ذلك عدم القدرة على جمع الأموال. وأضاف "لم تعد الجماعات الإقليمية المنتسبة لمكتب الكرار تتلقّى أموالا، مما دفعها إلى البحث عن وسائل بديلة لجمع الأموال من قبيل الخطف طلبا للفدية. وأوضح أن "داعش تطلب دفعات فورية ضئيلة (50 إلى 100 دولار) عبر تطبيقات تحويل الأموال على الأجهزة المحمولة من أجل الإفراج عن المخطوفين". وأفاد التقرير بأن "مكتب الكرار سعى إلى إخفاء المدخرات عن طريق إيداعها في حسابات مصرفية لرجال أعمال متعاطفين معه، أو عن طريق استثمارها في مشاريع تجارية محلية". وأكد التقرير أن عبد القادر مؤمن لا يزال رئيسا لمكتب الكرار ومن المرجح أنه زعيم تنظيم "داعش" في الصومال. وأشار إلى أن "نائب مؤمن ويدعى عبدالرحمن فاهية أصبح يتولى دورا قياديا أكبر بكثير داخل التنظيم". ورجح الخبراء أن مؤمن كان مختبئا بالقرب من منطقة "مدلحي في قندلا" في أعقاب عملية مكثفة لمكافحة الإرهاب في "بونتلاند"، هدفت إلى اقتلاع التنظيم من "بور طحاد" وشبكة كهوفه ومخابئه في جبال "كال مسكات". وقدرت عدة دول بأن "أكثر من نصف مقاتلي تنظيم داعش في الصومال البالغ عددهم بين 600 و 800 عنصر، هم من المقاتلين الإرهابيين الأجانب". ولفت التقرير إلى "توترات برزت داخل التنظيم بسبب المعاملة التضليلية للمقاتلين العرب، حيث يُعهد إلى المقاتلين الأفارقة بالأعمال اليدوية ويُدفعون إلى الجبهات الأمامية في الهجمات الفتاكة اللاحقة". LV