logo
مذكرات تشرشل حول الحرب العالمية الثانية في مهب نقاد جائزة نوبل

مذكرات تشرشل حول الحرب العالمية الثانية في مهب نقاد جائزة نوبل

Independent عربيةمنذ يوم واحد

طبعاً لا يمكن لأحد أن يزعم أن ثمة مرجعاً أفضل من غيره أو يبدو أصح من المراجع الأخرى للحديث بصدق ونزاهة عن أي حدث من أحداث التاريخ. ولعل هذه الحقيقة تنطبق أول ما تنطبق على تلك "المراجع" التي تحمل توقيعات من شاركوا حقاً في صنع تلك الأحداث، من يقفون في صفهم. ويصدق هذا خاصة على الأحداث السياسية والتاريخية أكثر مما في أي مجال آخر. فكيف إذا كان ما نود تناوله هنا حرباً كتلك العالمية الثانية كتب تاريخها واحد من كبار المشاركين فيها، وهو بالطبع رئيس الوزراء البريطاني خلال سنوات الحرب ونستون تشرشل؟ يقيناً أن لجنة جائزة نوبل الأدبية التي منحت تشرشل جائزتها في عام متزامن تقريباً مع عام صدور سفره عن تلك الحرب، كانت تعرف هذه الحقيقة، بل حتى تؤمن بمقولة الفرنسي غوستاف ليبون: "لو كانت الحجارة تنطق لأصبح التاريخ كله كذبة كبرى"، والقول المأثور الآخر "إن المنتصرين هم الذين يكتبون التاريخ دائماً... وعلى هواهم". ومن هنا سيبدو من الخطأ التاريخي ما يزعمه كثر من أن اللجنة منحت تشرشل جائزتها الأسمى عن هذا الكتاب بالذات. فهي لا تذكر الكتاب في حيثيات منح الجائزة، ثم أن الكتاب نفسه لم يكن قد صدر حين منحت. وتشرشل نفسه لم يتوانَ دائماً عن القول إن كل ما منحه له ظهور الكتاب، إنما كان ثروة مالية وقته الجوع وأغنته عن معاش الدولة التقاعدي.
توثيق لا يعرف الحياد
ونعرف على أية حال أن "مذكرات حول الحرب العالمية الثانية" هي مذكرات تشرشل عن زمن الحرب، توثق تاريخ الحرب العالمية الثانية، من بدايتها وحتى يوليو (تموز) 1945. وهو على أية حال سفر في كتابة التاريخ، بصرف النظر عن شكوكنا بصدد صحة أو عدم صحة كل ما جاء فيه. فنحن في نهاية الأمر نترصد من خلاله مواقف وتعليقات كاتبه حول مرحلة كان لاعباً أساساً فيها، ونرتاح إلى ذلك ولا سيما بعدما نتيقن بصدد ما جاء في أول هذا الكلام من "تبرئة" لجنة نوبل من التبجيل الذي نسب إليها بموضوع هذا الكتاب. والكتاب على أية حال عمل جبار من الناحية الكمية وجريء من ناحية الطروحات. ولئن كنا سنعود إلى هذه الطروحات في الجزء الأخير من كلامنا هذا، نتوقف هنا عند بعده الكمي، حيث نجده موزعاً على ألوف الصفحات التي توفر متعة قراءة مدهشة، وتوغلاً محموداً في جوانية كاتبه.
مراحل التاريخ في عناوين
فالكتاب يتألف في نهاية الأمر من ستة مجلدات لكل منها ضخامته الخاصة، إذ يتألف بدوره من قسمين. ما يعني أننا في النهاية أمام 12 كتاباً متكاملاً، حيث في المجلد الأول "العاصفة تقترب" يمهد الكاتب في الكتاب الأول "من حرب إلى أخرى" للحديث عن الحرب الثانية من خلال تأريخ للسنوات الفاصلة بين الحربين من 1919 إلى 1939 ليتلو ذلك كتاب ثانٍ عنوانه "حول حرب غريبة" يتركز على بدايات الحرب الثانية والهزيمة الفرنسية بين صيف عام 1939 وربيع تاليه. وفي المجلد الثاني بعنوان "الزمن المأسوي" يتناول الكاتب المؤرخ الأشهر الحاسمة والفاصلة بين ربيع وخريف عام 1940 نفسه ليحدثنا في كتابي هذا القسم، "معركة فرنسا" و"إنجلترا وحيدة"، عن أحداث كان هو لاعباً أساساً فيها في مواجهة الجبروت الألماني الهتلري. غير أنه في المجلد الثالث وكما يدل عنوانه، "التحالف الكبير"، لن يبقى هو أو بلده وحيدين في المعمعة، بعدما غزا النازيون روسيا، في الكتاب الأول، ودخلت الولايات المتحدة الحرب في الكتاب الثاني، ليشتد أوار الحرب وتبلغ ذروتها عند بدايات عام 1942. وهو ما ينتقل بنا إلى المجلد الرابع من الكتاب وعنوانه "الدائرة تدور"، وهو بدوره ينقسم إلى كتابين يتناول أولهما "الهجمة اليابانية"، إذ يتابع خاصة أحداث الشرق الأقصى بين أوائل 1942 ومنتصف صيف العام نفسه، فيما يتناول الثاني بعنوان "إنقاذ أفريقيا" أحداث الحرب الأقرب إلى أوروبا، والتي بدأت مع صيف 1942 وتواصلت حتى بدايات صيف العام التالي.
زمن الحسم
وفي المجلد الخامس وتحت عنوان عام هو "الكماشة تشتد" يتناول تشرشل أحداث بدء نهايات الحرب من خلال كتابين يعنون أولهما "إيطاليا تستسلم"، وفيه متابعة لأحداث تلك الفترة المفصلية الواقعة بين بين يونيو (حزيران) وأواسط نوفمبر (تشرين الثاني) من العام 1943. وهي الحقبة التي في الواقع التاريخي كما في كتاب تشرشل، ستكون حاسمة بالنسبة إلى الحرب العالمية الثانية ولكن ليس بالنسبة إلى الإنسانية بعد. فبالنسبة إلى هذه الأخيرة سيحدثنا الكتاب الثاني من هذا المجلد عن البعد الذي بدأ يتحول إلى بعد سياسي تحت عنوان "من طهران إلى روما" ويشمل الفترة الفاصلة بين أواخر وبدايات صيف 1944، وهو ما يوصلنا بالطبع إلى المجلد السادس والأخير وعنوانه "انتصار ومأساة". وهو التعبير الذي يبدو تشرشل فيه وكأنه يعني به الانتصار كما يحدثنا عنه في الكتاب الأول من هذا المجلد، رابطاً الانتصار طبعاً بالإنزال الحليف في النورماندي يوم السادس من يونيو (حزيران)، بينما نراه يكرس الكتاب الأخير من المجموعة بأكملها والثاني من هذا المجلد، لـ"المأساة" التي لن نفهم أبداً ما إذا كان الحديث فيها يتناول "قنبلتي هيروشيما وناغازاكي" أم بروز ما سيكون تشرشل نفسه من يطلق عليه اسم الستار الحديدي، إشارة إلى فصل الكتلة الشرقية عن "العالم الحر" وبزوغ الاتحاد السوفياتي كـ... عدو جديد/ قديم للغرب نتيجة من نتائج الحرب العالمية الثانية واندحار هتلر فيها.

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دروس التاريخ
لعل أول ما يمكننا أن نلاحظه في كتاب تشرشل الضخم هذا هو الكيفية التي يلخص بها ما يعتبره درس الكتاب كما درس التاريخ: "الحزم في الحرب، والتحدي في الهزيمة، والشهامة في النصر، وحسن النية في السلام". ولقد وضع الزعيم البريطاني الكتاب مع فريق من المساعدين، مستخدماً ملاحظات كان قد دونها وربما بصورة يومية طوال سنوات الحرب، مستغلاً قدرته على الوصول إلى الوثائق الرسمية، التي وفرها له رئيس الوزراء الذي تلاه، كليمنت أتلي. وفي المقابل، راجع مسؤول كبير كتابه للتأكد من عدم إفشائه أسرار الدولة. ويخبرنا تشرشل على أية حال أنه فكر في وضع هذا الكتاب منذ بداية الحرب، قائلاً مراراً: "سأترك هذه النقطة للتاريخ ليحكم عليها... لكنني سأكون أحد مؤرخيها". ونعرف أن هذا الكتاب قد حقق، إذ نشر في البداية في طبعة من ستة مجلدات، نجاحاً تجارياً كبيراً في المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
تصفية حسابات
ولكن بعد وفاة تشرشل وفتح الأرشيف، ظهرت بعض أوجه القصور في العمل. فبسبب منصبه والظروف التاريخية، لم يتمكن المؤلف من الكشف عن الأسرار العسكرية كما كان ينبغي، ولا سيما الأدوار التي لعبها خبراء فك الشفرات في بليتشلي بارك وبرنامج القنبلة الذرية. علاوة على ذلك، كان اهتمامه الأساس بالمجهود الحربي البريطاني. تم التعامل مع الجبهة السوفياتية وحرب المحيط الهادئ بتسرع نسبي. علاوة على ذلك، وعلى رغم سعي تشرشل عموماً لمعالجة القضايا بتوازن، نراه يدخل أحياناً في بعض "تصفية الحسابات"، ناهيك بأن الزعيم البريطاني، وبعد أن علم بترشح الجنرال دوايت د. أيزنهاور لرئاسة الولايات المتحدة، وأن لديه فرصة جيدة للفوز، سارع إلى مراجعة فقرات الجزء المعنون "النصر والمأساة" التي وصف فيها الصعوبات التي واجهها مع حليفه الأميركي في نهاية الحرب. وهكذا، خفف من حدة نصه الأولي خلال شتاء 1952-1953، حرصاً على عدم كتابة أي شيء قد يسيء إلى الرئيس الجديد. بالنسبة إلى تشرشل، كانت الأولوية المطلقة، حتى قبل الاهتمام بالحقيقة التاريخية، هي الحفاظ على العلاقة الخاصة التي كان ينوي إدامتها أو إعادة بنائها مع رئيس الولايات المتحدة. وتجدر الإشارة هنا أيضاً إلى أن تشرشل راعى جزئياً الاحتجاجات التي رافقت نشر الكتاب في بعض البلدان. على سبيل المثال، في بلجيكا، أضاف تحية للجيش البلجيكي عام 1940 في الطبعة الثانية من المجلد الثاني (مع الحفاظ على انتقاده اللاذع للملك ليوبولد الثالث). تجدر الإشارة أيضاً إلى أن الترجمات كانت تكيف أحياناً مع الجمهور المستهدف، حرصاً على عدم الإساءة إليهم. وهكذا، أصبح العنوان الإنجليزي للكتاب الأول من المجلد الثاني، "أروع ساعاتهم: سقوط فرنسا"، في الطبعات الفرنسية.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الرئيس العليمي يضع إكليل الزهور على ضريح الجندي المجهول في موسكو
الرئيس العليمي يضع إكليل الزهور على ضريح الجندي المجهول في موسكو

حضرموت نت

timeمنذ 7 ساعات

  • حضرموت نت

الرئيس العليمي يضع إكليل الزهور على ضريح الجندي المجهول في موسكو

ضمن زيارته الرسمية إلى روسيا الاتحادية، قام رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد محمد العليمي، اليوم الأربعاء، بوضع إكليل من الزهور على ضريح الجندي المجهول بجوار جدار الكرملين في حديقة الكسندر بالساحة الحمراء في العاصمة الروسية موسكو. وعقب المراسم، شهد الرئيس العليمي عرضًا رمزيًا لحرس الشرف، تخلله عزف السلام الوطني للجمهورية اليمنية من قبل الفرقة الموسيقية العسكرية، في إطار تقاليد الاستقبال الرسمية التي تعكس متانة العلاقات بين البلدين. يعد الضريح من أبرز المعالم التذكارية في روسيا، وقد أُقيم في أواخر الستينات تخليدًا لصمود وتضحيات الجنود السوفيات في الحرب العالمية الثانية، وتجسيدًا للانتصار التاريخي على النازية. ويحتوي الضريح على رفات جنود مجهولين قضوا في معركة موسكو عام 1941، وقد نُقلت رفاتهم من مدينة سان بطرسبيرغ (ليننغراد سابقًا) إلى موقعهم بمحاذاة الجدار الغربي للكرملين. رافق رئيس مجلس القيادة الرئاسي خلال الزيارة عدد من المسؤولين اليمنيين، وهم، وزير الخارجية وشؤون المغتربين الدكتور شائع الزنداني ومستشار رئيس المجلس للدفاع والأمن الفريق محمود الصبيحي، ومستشار التنمية والإعمار المهندس عمر العمودي، ومستشار الشؤون الثقافية مروان دماج، وسفير اليمن لدى روسيا الاتحادية أحمد سالم الوحيشي. مباحثات مرتقبة مع القيادة الروسية وكان الرئيس العليمي قد وصل إلى موسكو يوم الثلاثاء في زيارة رسمية تلبية لدعوة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وكان في استقباله بمطار فونكوفو نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين، وسفير اليمن لدى موسكو أحمد سالم الوحيشي. وتأتي الزيارة في إطار تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، حيث من المقرر أن يجري الرئيس العليمي مباحثات مع نظيره الروسي حول سبل تطوير التعاون المشترك، إلى جانب مناقشة تطورات الأزمة اليمنية وجهود إحلال السلام. كما تشمل أجندة الزيارة لقاءات مع عدد من كبار المسؤولين في مجلس الدوما والحكومة الروسية، وذلك في سياق توسيع مجالات الشراكة السياسية والاقتصادية. وفي تصريح لوكالة الأنباء اليمنية 'سبأ'، أعرب الرئيس العليمي عن تقديره للعلاقات التاريخية بين اليمن وروسيا، التي تعود إلى أكثر من قرن، مشيدًا بموقف موسكو الداعم للشرعية اليمنية وتطلعات الشعب اليمني في استعادة دولته ومؤسساته.

السودان- الجندي المظلوم والراية الممزقة: من الخيرات إلى هارلم: (فيديو)
السودان- الجندي المظلوم والراية الممزقة: من الخيرات إلى هارلم: (فيديو)

سودارس

timeمنذ 9 ساعات

  • سودارس

السودان- الجندي المظلوم والراية الممزقة: من الخيرات إلى هارلم: (فيديو)

في مشهد مهيب ومفارق، وقفت سيدة سودانية قد تكون في الخمسينات من عمرها، تكسوها ثياب الوقار السوداني، وتتحدث بحنق منضبط أمام حشد من النساء والأطفال والرجال معظمهم كبار في السن، في قلب قرية الخيرات المهدمة حديثا. كان الغضب يمور تحت جلد الكلمات، لكنه منظم، عقلاني، واعي بل أخلاقي وحكيم في جوهره وان اختلف البعض مع الموقف. تحدثت السيدة عن المفارقة الجارحة: أن من يُطلب منهم القتال باسم الوطن، يُحرمون من السكن فيه. وتقول، أن الجنود الذين يدافعون عن الدولة في الخطوط الأمامية، حينما يعودون سيجدوا بيوتهم مهدمة، وأطفالهم في العراء. كانت السيدة تقف بثقة، خلفها مبنى نصف مكتمل، وتحت ظله عشرات النساء والأطفال الرجال يجلسون في الأرض أو على كراسٍ بلاستيكية متناثرة، وعلى وجوههم علامات الغضب، الذهول، والانكسار. تلك السيدة لم تصرخ باسم قبيلة، بل باسم المواطنة، باسم العدالة، باسم سودان حر يليق بأبنائه الذين يُجلدون ثلاث مرات: مرة في ميدان المعركة، ومرة في ميدان الحياة، وثالثة في وجدان وطن لا يراهم. تحدثت عن "الدعامة"، الجنود القادمين من مناطق الهامش، الذين احتضنتهم العاصمة في أحيائها الشعبية دون أن يحملوا معهم شيئاً سوي (هويتهم العربية) تساءلت: لماذا لم تُهدم الأحياء الراقية التي سكنها الدعامة حينها، ولماذا لاتهدم الاحياء والبيوت التي يسكنها أبناء النخب؟ ولماذا يُعامل أبناءها هي، أبناء الهامش كغرباء؟ وهل لأنهم من مناطق يُنظر إليها دوماً بعين الشك والازدراء وانهم "عبيد" وقد قالتها مباشرة دون مواربة؟ هذه المفارقة التي تسكن جسد الدولة السودانية الحديثة، ليست غريبة عن التاريخ البشري، بل هي جزء من بنية عالمية من الجحود البنيوي تجاه المهمشين الذين يضحون في سبيل دول لا تعترف بإنسانيتهم. ونجد مرآة ساطعة لها في تجربة الأميركيين الأفارقة بعد الحرب العالمية الثانية. أولئك الذين قاتلوا في كل الجبهات، من نورماندي إلى صقلية، وساهموا في كسر آلة الفاشية والنازية في أوروبا، باسم الحرية والكرامة وحقوق الإنسان. لكنهم حين عادوا إلى وطنهم، امريكا لم يجدوا لهم فيه وطناً، بل وجدوا الأبواب مغلقة، والعنصرية مستمرة، والهياكل الاجتماعية مُصممة ضدهم. جنود وحدات "توسكيجي"، أول وحدة طيران من السود في الجيش الأميركي، قاتلوا ببسالة، وحصلوا على أوسمة الشرف. لكنهم، عند العودة، مُنعوا من دخول المطاعم التي دخلها زملاؤهم البيض، ورفضت البنوك منحهم قروض السكن، ولم يستفيدوا من امتيازات قانون "جي آي" الذي منح المحاربين القدامى فرصاً في التعليم والملكية والرعاية الصحية. وكأن الوطنية كانت مشروطة باللون والانتماء العرقي. إن قانون "جي آي بيل"" (G.I. Bill of Rights) الذي صدر عام 1944، وُضع نظريًا لمكافأة الجنود الأميركيين، لكنه صُمم بطريقة حرمت غالبية السود من الاستفادة منه، خصوصاً في مجالات السكن والتعليم العالي. فقد قامت البنوك برفض منحهم القروض، وتواطأت معها إدارات التعليم والبلديات، وكانت الضمانات الفيدرالية تُرفض لمن يسكنون في أحياء السود. وهكذا، تكرّس نظام تمييزي، عنصري، أخفى نفسه خلف الأدوات البيروقراطية، كما تفعل الدولة السودانية اليوم حين تهدم قرى بأكملها دون قرارات قضائية، بل تحت ذريعة "الوجوه الغريبة" أو "محاربة التخريب" او "السكن العشوائي" او عقوبة لمن يعتقدوا انهم "تواطؤوا مع الدعم السريع" كتب جيمس بالدوين، أحد أكثر الأصوات بلاغةً واحتجاجًا في أدب الأميركيين الأفارقة، في مقاله الشهير "The Fire Next Time" عن المفارقة الفاضحة التي تعصف بوجدان أي إنسان أسود قاتل من أجل دولة لا تعترف به مواطنًا كاملاً: "تطلب الدولة دمك في الحرب، لكنها لا تعترف بدموعك في السلم". لقد فهم بالدوين أن أخطر ما يمكن أن يُرتكب في حقّ المهمشين هو إقناعهم أن التضحية من أجل وطن لا يعترف بهم، تُعدّ بطولة، لا خيانة للذات! إذا كنت تحارب من أجل الحرية في الخارج، فاسأل نفسك: "أين هي حريتي هنا؟" هكذا صاح مالكوم إكس، رافعًا إصبعه في وجه مؤسسة لا تعرف سوى القهر، ومتوجّهًا بكلماته مباشرة لأبناء جلدته الذين تورطوا – عن جهل أو اضطرار – في خدمة نظام عنصري. لم يكن ذلك سؤالًا شعريًا، بل كان نداءً سياسيًا، أخلاقيًا، وتحريضيًا بامتياز. هذا السؤال لا يزال معلقًا، طافحًا بالمرارة، لكنه ليس بلا عنوان. هو اليوم يُطرح مجددًا، على أبناء البلاد الذين حملوا أعباء التاريخ، ودفعوا ثمن الانتماء في الهامش وفي الهضاب وفي السهول. هؤلاء الذين يلبسون زي الدولة، ويحملون سلاحها، يجدون أنفسهم أحيانًا في خنادق لا تخصهم، يُطلب منهم أن يصوبوا النار إلى صدور إخوانهم، بينما لا يجدون في مؤسسات الدولة ذاتها مكانًا يُشبههم أو يحميهم. في لحظة كهذه، قد يبدو السؤال حول "الولاء" سؤالًا ثقيلًا ومربكًا، لكن التباس الولاء لا يعفي من ضرورة مساءلته. فهل يكون الانتماء لوطنٍ لا يعترف بك هو نوع من الوفاء؟ أم استسلامٌ لتاريخ يعيد إنتاج الإقصاء في ثوب الواجب؟ ليس القصد أن يُشهر المرء السلاح في وجه من كان معه بالأمس، بل أن يعيد النظر في أين يقف، ولماذا يقف، ولأجل من يقف. إن أولئك الذين يتقدمون الصفوف اليوم، ليسوا مجرد جنود، بل مواطنون ذوو ذاكرة، يعرفون جيدًا أي القرى احترقت، وأي المدارس دُمرت، وأي الأمهات بكت أبناءها أمام الركام. وإذا كان الانضباط قيمة عسكرية، فإن الوعي قيمة أخلاقية لا تقل شأنًا. فلا يليق بمن يحمل بندقية أن يُسقط عقله معها، ولا يليق بمن يعرف الألم أن يُمارسه على غيره. من هنا، يصبح السؤال الأخلاقي أكبر من مجرد موقع في الميدان؛ إنه سؤال عن الغاية، عن المعنى، عن الانحياز في لحظة الحقيقة. لا أحد يُنكر صعوبة الخيارات في زمن التشظي، لكن التاريخ لا يرحم من صمت أو تواطأ. فليس كل من يرفع الراية يمثل الوطن، وليس كل من يقف في صف الدولة يمثل العدالة! جيمس بالدوين كتب: "أن تولد أسودًا في أميركا هو أن تكون في حالة غضب دائمة." واليوم، أن تولد هامشيًا في السودان هو أن تكون مُستباحًا دائمًا. لكن الغضب يجب أن يتحول إلى فعل. إلى تمرّد. إلى إعادة تموضع. إلى سحب البندقية من كتف الطغاة، وتوجيهها إلى من يستعبد الوطن. لن يغفر التاريخ لمن قاتل في الجانب الخطأ، لا بحجّة الطاعة، ولا بدافع الفقر، ولا تحت ذريعة الانتماء. آن الأوان أن تعرفوا من أنتم، ولمن تقاتلون. فالسودان الجديد قادم، وهو لا يُبنى ببنادق المرتزقة، بل بوعي الأحرار، وبقرار الجنود الشجعان الذين يرفضون أن يُستخدموا كأدوات ضد أهلهم. اسأل نفسك اليوم: هل بندقيتك تحمي أهلك أم تقتلهم؟ إن كانت الثانية، فقد خانتك البوصلة، وحان وقت العودة إلى الصف الصحيح من التاريخ. المفارقة الأخلاقية في السودان، تماماً كما في الولايات المتحدة حينها، هي أن من يُطلب منهم القتال من أجل وحدة الوطن، يُنظر إليهم كمصدر تهديد داخل الوطن. تُستخدم شجاعتهم لتثبيت نظام لا يراهم شركاء بل أدوات. كما قالت السيدة في قرية الخيرات: "نحن لسنا عبيداً. نحن من حرر الوطن. وسنظل سودانيين، غصبا عن عين أي زول" هذه الكلمات تشبه، في بلاغتها الأخلاقية، ما كتبته توني موريسون عن جدها الذي حارب في أوروبا، ثم عاد ليُمنع من التصويت. وهي ذات النبرة التي نسمعها في خطب مارتن لوثر كينغ، عندما تحدث عن "الشيك المرتجع" سلّمته أميركا لمواطنيها السود، دون رصيد من العدالة. كتب د. كينغ: "لقد أتينا إلى العاصمة لنصرف هذا الشيك، شيك الحرية، شيك العدالة، لكنه عاد إلينا غير قابل للصرف". ومن جنوب أفريقيا، تكررت ذات المأساة: السود الذين قاتلوا ضمن القوات البريطانية في الحرب العالمية الثانية، لم يُعترف بهم بعد الحرب، بل عادوا ليواجهوا قوانين الفصل العنصري (الأبارتايد) التي حرمتهم من السكن، من التعليم، من حق التصويت، بل من الحق في العيش بكرامة. وهكذا، يتكرر التاريخ ذاته: تستخدم الدولة أجساد المهمشين وقت الحرب، ثم تُقصيهم في السلم دون اكتراث لتضحياتهم وتضحيات اسرهم وذويهم. تجارب مماثلة ظهرت في المستعمرات الفرنسية والبريطانية، حيث قاتل الجنود الأفارقة والهنود من أجل إمبراطوريات لم تعترف أبدًا بمواطنتهم الكاملة. في الجزائر ، مثلًا، قاتل آلاف الجزائريين مع الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الثانية، لكنهم قُتلوا أو سُجنوا لاحقًا عندما طالبوا بالمساواة والحرية. وتكررت هذه المفارقة في الفلبين ، وفي الكاريبي، حيث تم سحق المطالبات بالمساواة بعد التضحية. إن التجربة السودانية تتقاطع بشكل أكثر فجاجة مع هذا الإرث، لأن الدولة السودانية الحديثة، ومنذ تأسيسها، استبطنت مفهوم المواطن من الدرجة الثانية، واستخدمت أدوات شتى لتكريس هذا التمييز: في الإعلام، في التعليم، في توزيع الثروة، وفي حرمان أهل الهامش من الحق في المدينة والحق في الأرض. و"الخيرات" ليست استثناء، بل نموذج كثيف لهذا المسار التاريخي. عندما يُقال لسكانها أن "وجوههم غير مرغوب فيها"، فذلك ليس سوى استمرار لنفس الخطاب الذي قيل لجنود توسكيجي، ولسكان هارلم، ولسود جنوب إفريقيا: أنتم أدوات عند الحاجة، عبء عند السلم. إن المفارقة الكبرى في كل هذه التجارب، هي أن الحرب – بما تحمله من خطاب التضحية والوطنية – لم تُلغِ البنية العنصرية، بل كشفتها بشكل فج. فقد ظنت الدول أن باستطاعتها استخدام المهمشين في أوقات الشدة، ثم إعادتهم إلى الهامش بعد النصر. لكن التاريخ يُظهر أن هؤلاء العائدين من الجبهات، هم أنفسهم من قادوا الموجات الثورية الكبرى: من الحقوق المدنية في أميركا، إلى الانتفاضات في جنوب إفريقيا، إلى المقاومة المسلحة في الجزائر ، إلى ثورات الهامش في السودان. إن ما جرى في قرية الخيرات ليس مجرد فعل محلي. هو مرآة لأزمنة قبيحة تكررت في التاريخ، حيث يلتقي التهميش بالبطولة، ولا يعترف الوطن بأبطاله إلا حين يموتون، لا حين يطالبون بحياة كريمة. في الخيرات، كما في هارلم، كما في سويتو، كما في القصبة، يقف الجنود المظلومون في مواجهة السؤال الجوهري: لمن يُرفع علم الوطن؟ ومن يحق له أن يقول "أنا من هذا البلد"؟ بالمنظور الجذري الذي تتبناه رؤية السودان الجديد، كما صاغتها الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال ومنظور تحالف "تأسيس" الذي تبناها، لا تُفهم قضية المهمشين بوصفها مظلومية ظرفية أو معاناة أخلاقية فحسب، بل تُقرأ بوصفها نتاجًا لبنية اقتصادية – سياسية غير عادلة، أقامت دولة المركز على إقصاء الأغلبية وإدامة الاستغلال. وعليه، فإن إعادة بناء السودان لا تبدأ من المصالحة بين نخب الخرطوم ، بل من قلب الهامش، حيث تصعد أصوات جديدة، وتجارب مقاومة، وشروط مغايرة للتنمية والعدالة والكرامة. إذا كان الأميركيون السود قد ساهموا في تحرير أوروبا من النازية ليُعادوا إلى أحياء مفصولة، وإن كان جنود جنوب إفريقيا قد دافعوا عن الإمبراطورية البريطانية ليُقصَوا بعدها في وطنهم، فإن المهمشين السودانيين – الذين يقاتلون الآن في الصفوف الأمامية، ويُستشهدون دون أن تُذكر أسماؤهم – هم من سيفرضون معادلة جديدة على هذا البلد ان وعوا الي من هو عدوهم الحقيقي. إنهم لم يعودوا عبيد ولاء لا يُكافَأ، بل حملة مشروع وطني صاعد، يريد أن يُعيد كتابة مفهوم العدالة التاريخية و التنمية من جذوره. رؤية السودان الجديد للتنمية لا تنطلق من ضخ الأموال في مشاريع تجميلية فوقية، بل من اعتراف تاريخي بحقوق الناس في الأرض، في السلطة، في الموارد، وفي صناعة القرار. وهي رؤية تفكك ربط التنمية بالخضوع للمركز، وترى أن الأجسام السياسية والاجتماعية المنحازة للهامش – من الحركات المسلحة إلى الروابط القاعدية ومنظمات المجتمع المدني الحية – هي التي ستعيد توجيه البوصلة التنموية نحو ما يستحقه السودانيون فعلاً: تنمية عادلة، شاملة، ومؤسسة على الحقوق، لا على الامتيازات، و مستقبل السودان يجب ان يؤسس علي هذا. لا بد إذًا من إعادة كتابة عقد المواطنة بما يجعله عقدًا للعدالة والكرامة والتنمية، لا عقدًا للطاعة والخضوع. لا بد من تفكيك الدولة القديمة التي جعلت من الانتماء الجغرافي أو العرقي شرطًا للعيش بكرامة، وبنت اقتصادًا ينزف من الأطراف ليصب في المركز. وكما قال فرانز فانون: "كل جيل، عليه أن يجد مهمته التاريخية، ويُنجزها أو يخونها". جيل الخيرات، الذي رأى أمهاته يُهَنَّ، وبيوته تُهدم، وأحلامه تُسحق، لن يخون مهمته. بل سيبني وطنًا لا يقتل أبناءه، ولا يطردهم من أرضهم، ولا يحرمهم من الحياة التي يستحقونها. سيبني وطنًا تُوجَّه فيه التنمية حيث توجد الحاجات لا حيث يقيم الحكّام، وطنًا تُكرَّم فيه التضحيات لا تُجازى بالإهانة، وطنًا جديدًا بعد أن تُفكَّك المنظومة القديمة التي حوّلت الأغلبية إلى أدوات، واحتكرت الحداثة والثراء في أيدي قلة. هذا هو منطق السودان الجديد: أن تصبح السلطة خادمة للتنمية، والتنمية خادمة للعدالة، والعدالة خادمة للكرامة الإنسانية، ولا شيء غير ذلك. النضال مستمر والنصر اكيد.

قمة "الناتو"... هل تكون الأكثر سلبية في تاريخ الحلف؟
قمة "الناتو"... هل تكون الأكثر سلبية في تاريخ الحلف؟

Independent عربية

timeمنذ 11 ساعات

  • Independent عربية

قمة "الناتو"... هل تكون الأكثر سلبية في تاريخ الحلف؟

في الفترة الممتدة من الـ24 إلى الـ26 من يونيو (حزيران) المقبل، تشهد مدينة لاهاي الهولندية الشهيرة قمة حلف "الناتو" السنوية، وهي القمة الأولى للأمين العام الجديد الهولندي الأصل مارك روته، رئيس وزراء هولندا السابق، والأولى أيضاً في ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترمب الثانية. هل هي قمة الإرادات المتضادة، أم قمة البحث في نهاية الحرب الروسية - الأوكرانية؟ الشاهد أن القمة تأتي، هذه المرة، وسط شكوك عريضة في توجهات الولايات المتحدة الأميركية من جهة، بالنسبة إلى مستقبل "الناتو"، وعلى الجانب الآخر شكوك أكثر عمقاً من ناحية الدول الأوروبية التي يعتريها القلق الكبير من أن تصحو يوماً ما لتجد نفسها بمفردها في مواجهة روسيا الاتحادية في الحال، وربما الصين في المستقبل القريب وليس البعيد. على قمة جدول أعمال القمة تأمل المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا ودول الشمال الأوروبي في صياغة خطة متعددة الأعوام لإدارة تخفيضات التمويل في حال انسحاب أميركا من "الناتو"، وسؤال الانسحاب هذا لم يعد في حقيقة الأمر مزعجاً للأوروبيين، بل ربما بات احتمالاً قريباً، قد تهيأوا لها نفسياً من قبل بضعة أعوام، ولعل ما طرحه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن جيش أوروبي موحد كان إرهاصات أولية لفكرة أوروبا من غير "الناتو". الأسئلة في واقع الحال قبل انطلاق هذه القمة عديدة وجوهرية، ومنها، هل سيشارك الرئيس ترمب في أعمالها، وإذا شارك فأي خريطة يود أن يرسم لـ"الناتو"، وبما يحقق أهدافه الاستراتيجية ضمن سياسة "أميركا العظيمة ثانية"؟ تنطلق أعمال قمة "الناتو"، وهناك إشكالية كبرى تلقي بظلالها على العلاقات الأميركية - الأوروبية، تلك المتعلقة بالرسوم الجمركية التي فرضها ترمب على الدول الحلفاء في "الناتو"، والتي تركت من دون شك أثراً مؤكداً معدلات التنمية في القارة الأوروبية. وفي كل الأحوال يبدو السؤال الرئيس: هل لا يزال هناك من يؤمن بأهمية حلف "الناتو" للجانبين الأميركي والأوروبي؟ مخاوف من سلبية القمة المقبلة قبل أسابيع من انطلاق أعمال القمة، هناك من يتساءل: "ماذا لو لم تسر الأمور في شكل إيجابي؟ بمعنى أن تسود رؤى الوفاق على مواقف الافتراق، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً بين الدول التي جمع بينها حلف استطاع الانتصار على النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية، وتالياً وقف صامداً في وجه حلف وارسو طوال أكثر من أربعة عقود ولا يزال قائماً حتى الساعة؟ الجواب المقلق لكثير من المراقبين هو أن هذه القمة يمكن أن تضحى قولاً وفعلاً الأكثر تأثيراً سلبياً في تاريخ الحلف. في المقابل، لن يقاس النجاح بالإنجازات الاستراتيجية، بل بمدى تماسك "الناتو" وانسجامه وصدقيته بعد عودة القادة إلى أوطانهم. على عتبات القمة، تبدو الأخطار جلية وواضحة للعيون، ولعل الناظر يمكنه أن يدرك بقليل من التبصر كيف أن الولايات المتحدة الأميركية متلهفة على زيادة الأوروبيين حصصهم في الحلف، لا سيما أنه بعدما كان الرئيس الأميركي يطالب بزيادة قدرها اثنان في المئة من إجمالي الموازنات الأوروبية، إذ به يسعى إلى قرابة خمسة في المئة. ولا تبدو إشكالية التمويل هي نقطة الصدام الأكبر والأخطر، بل الموقف من روسيا والحرب الدائرة في أوكرانيا هي بيت القصيد. تبدو إدارة ترمب معنية بصورة سريعة بإنهاء الأزمة الأوكرانية، حتى ولو حقق الدب الروسي امتيازات واضحة، بعد صراع تجاوز ثلاثة أعوام، في حين تبدو أوروبا غاضبة من النهج التصالحي والتسامحي الذي يبديه دونالد ترمب تجاه روسيا، وسعيه الحثيث إلى تعميق العلاقات الروسية - الأميركية، حتى ولو جاءت على حساب المصالح الاستراتيجية الأوروبية. تبدو إدارة ترمب معنية بصورة سريعة بإنهاء الأزمة الأوكرانية حتى ولو حقق الدب الروسي امتيازات واضحة (أ ف ب) هنا يبدو أن الخلاف عميق وليس سطحياً، استراتيجي وليس تكتيكياً، فواشنطن - ترمب، تؤمن بأن التوصل إلى اتفاق في شأن أوكرانيا سيتيح فرصة أفضل لفصل روسيا عن الصين وكوريا الشمالية. في زمن التحضير للقمة، يجد الأوروبيون أنفسهم قلقين في شأن أمنهم، بينما يقلق الكنديون على حرياتهم، فيما تعطي الولايات المتحدة أولوياتها لاحتواء طموحات بكين. ويتساءل أي مراقب سياسي محقق ومدقق "ما الرابط الرئيس بالنسبة إلى الولايات المتحدة في علاقتها مع أعضاء حلف 'الناتو' من الجانب الأوروبي؟". الجواب يستدعي العودة إلى رؤية بطريرك السياسة الأميركية هنري كيسنجر الذي استلهم فهماً عميقاً من رجل الدولة البريطاني اللورد بالمرستون في القرن الـ19. يقطع كيسنجر بأن "ليس لأميركا أصدقاء ولا أعداء دائمين، بل مصالح فقط"، وقد انبثق حلف "الناتو" من التقاء المصالح الوطنية للديمقراطيات الأوروبية مع الولايات المتحدة عينها، وهنا كانت نقطة الشراكة الرئيسة والانطلاقة المحققة والمدققة للحلف ونجاحاته. بعد يوم واحد من النصر في أوروبا، بات جلياً أن الاتحاد السوفياتي يحكم قبضته على أوروبا الشرقية التي حررها من سيطرة النازيين في المراحل الأخيرة من الحرب العالمية الثانية. ورأت الولايات المتحدة أن من مصلحتها مواجهة التوسع الأيديولوجي والسياسي والعسكري والاقتصادي للاتحاد السوفياتي، وهو تحول دافع عنه، ببراعة، جورج كينان (دبلوماسي ومؤرخ أميركي) في برقيته الطويلة الشهيرة. هل تغيرت الأجواء الدولية في الوقت الحاضر لتتراجع أهمية "الناتو" بالنسبة إلى الولايات المتحدة بنوع خاص، أم إن هذا قول يشوبه القصور إذ تظل واشنطن، على رغم تسنمها هرم السياسات العالمية والقوتين العسكرية والاقتصادية، عطفاً على العلمية، في حاجة إلى بقية دعم دول "الناتو" من الجانب الآخر من الأطلسي حيث الامتداد الجغرافي الأوراسي التقليدي؟ أولويات واشنطن في القمة المقبلة لفهم أبعاد قمة "الناتو" المقبلة، ربما يجب علينا النظر إلى أولويات الولايات المتحدة الآنية، وكيف تتسق مع رؤى وتوجهات الحلف بشكل عام وأفضل قراءة يمكن أن يجدها المرء في سعيه إلى معرفة تلك الأولويات، ما جاء في قراءة مطولة قام عليها كل من الباحث المشارك في مركز "مارغريت تاتشر للحرية" التابع لمؤسسة "التراث الأميركية" "هيرتاج فاونديشن" التي تشكل عقل إدارة ترمب الحالية، جوردان إمبري، بالشراكة مع مستشار سياسات أول لموازنة الدفاع في مركز "دوغلاس وسارة أليسون" للأمن القومي التابع لـ"مؤسسة التراث"، ويلسون بيفر، ومن الواضح للغاية أن ما يهم واشنطن هو الجانب المالي أكثر من أي أمر آخر. في القراءة المشار إليها يرى الباحثان أنه في ظل تدهور البيئة الأمنية في أوروبا ومنطقة المحيطين الهادئ والهندي، يجب رفع هدف إنفاق "الناتو" إلى 3.5 في المئة كحد أدنى لتمويل زيادة القدرات اللازمة لردع الانتقام الروسي ومواجهة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط وأفريقيا. وينبغي أن تكون هذه الزيادة في التمويل وتوسيع القدرات العسكرية الأوروبية الهدف الأساس للرئيس ترمب في قمة لاهاي، ذلك لأن التزام حلفاء "الناتو" بتقاسم حقيقي للأعباء سيحقق وعد المادة الثالثة (الخاصة بتحقيق أهداف الدول المشاركة) من ميثاق الحلف، مع تحرير الأصول الأميركية الضرورية لردع أي عدوان في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. يقطع كيسنجر بأن "ليس لأميركا أصدقاء ولا أعداء دائمين، بل مصالح فقط" (رويترز) ومن أجل إعادة إرساء الردع الموثوق به، يتعين على الرئيس ترمب تشجيع حلف "الناتو" على عدد من الإجراءات، بحسب الدراسة، من تلك الإجراءات: - تعيين ضابط أميركي كقائد عسكري قادم لحلف "الناتو". وقد صرح الأمين العام الأول للحلف اللورد إسماي، بأن أحد الأهداف الأساسية للحلف هو إبقاء الأميركيين في أوروبا إلى جانب إبعاد الروس وإبقاء الألمان تحت السيطرة. - تكليف "الناتو" بوضع استراتيجية تجاه الصين، لا سيما بعدما أقر الحلف في قمته السابقة في واشنطن 2024، بالتهديدات والتحديات التي تشكلها جمهورية الصين الشعبية في المفهوم الاستراتيجي لعام 2022 والتقارير السنوية السرية التي تبين المخاوف الاستراتيجية في شأن الصين. ومع ذلك فمن دون استراتيجية شاملة لتفعيل هذه النتائج وتحديد أولوياتها، يخاطر "الناتو" بالوقوع في فخ التردد الاستراتيجي مما يضر بأميركا وحلفائها. - ينبغي على الدول الأوروبية الأعضاء في "الناتو"، بطبيعة الحال، التركيز بصورة أساسية على ردع روسيا وتحقيق الاستقرار في محيطها القريب، ولكن يمكنها أن تساعد في ردع الصين من خلال منع نقل التقنيات المستخدمة في الدفاع، وإدانة العدوان الصيني على دول مثل الفيليبين وفيتنام، والتعاون في بناء قاعدة صناعية دفاعية مع دول مثل أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان. خلاصة ورقة التراث تبين لنا أن الولايات المتحدة لا تضع أوروبا في مقدم أولوياتها، والدليل أنها بحكم الضرورة الاستراتيجية، باتت مجبرة على نقل بعض مواردها الاستراتيجية الحيوية من أوروبا إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ، إذ تمثل الصين تحدياً لا مثيل له للأمن الأميركي على المدى القريب. يقول الباحثان الأميركيان إنه، لحسن الحظ، أن الولايات المتحدة تمتلك حلفاء أثرياء وأكفاء في حلف "الناتو" في أوروبا، قادرين على توفير معظم عناصر الردع التقليدية في مسرح العمليات. هل يعني ذلك أن أميركا في طريقها بصورة أو بأخرى للتحلل من التزاماتها الدفاعية في أوروبا، التي حرصت عليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وطوال الحرب الباردة، بذريعة التحضر لمواجهة الصين؟ هل تخشى أوروبا بالفعل من الموقف الأميركي من حلف "الناتو" في المدى الزمني المنظور؟ (رويترز) أوروبا ومخاوف الهوية المتنامية هل تخشى أوروبا بالفعل من الموقف الأميركي من حلف "الناتو" في المدى الزمني المنظور؟ المؤكد أن مشاركة وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، في الاجتماع الذي عقد في نهاية أبريل (نيسان) الماضي، لوزراء خارجية دول الحلف، وعلى رغم التطمينات التي حاول تقديمها، لم تطمئن الأوروبيين بالفعل. في ذلك اللقاء قال روبيو، وهو يقف بجوار الأمين العام للحلف مارك روته "الولايات المتحدة نشطة في حلف الناتو أكثر من أي وقت مضى، لقد أوضح الرئيس ترمب دعمه للحلف، سنبقى في الناتو". لكن على رغم ذلك التصريح الواضح، لم تطمئن قلوب الأوروبيين، لا سيما أن ترمب، ومنذ تولى منصبه للمرة الثانية في يناير (كانون الثاني) الماضي، لمح مراراً إلى أن الولايات المتحدة قد ترفض مساعدة حلفائها الذين لم يحققوا أهداف الإنفاق الدفاعي للحلف في حال تعرضهم لهجوم، مما يقوض اتفاقية الدفاع المشترك التي تعد مبدأ أساساً من مبادئ "الناتو". من جانب آخر، فاجأ الرئيس الأميركي الأوروبيين برغبته في ضم غرينلاند، وهو إقليم شبه مستقل يشكل جزءاً من الدنمارك، مما يمكن أن يلقي بظلال مستقبلية على قضية السيادة الأوروبية بصورة عامة، ذلك أن السؤال الذي يطرح في المخادع "ماذا لو رغب ترمب في تكرار المشهد عينه مع دول أخرى في أوروبا؟". لم يكن مفاجئاً، إذاً، أن حلفاء "الناتو" الأوروبيين، يستعدون لفك الارتباط مع توجه الولايات المتحدة نحو آسيا، هنا يبدو أن أحد أهم السيناريوهات التي تشغل أوروبا هو أن الولايات المتحدة قد تسحب قواتها البالغ عددها نحو 100 ألف جندي، التي تتمركز في أوروبا حالياً، وهو الرقم الذي عُزز بنحو 20 ألف جندي في عهد الرئيس الأميركي السابق جو بايدن بعدما شنت روسيا هجومها الكامل على أوكرانيا عام 2022. لم يكن الأمين العام الجديد لحلف الأطلسي مارك روته واضحاً بما فيه الكفاية للأوروبيين حين سئل عن هذا الاحتمال، وبخاصة بعدما أجاب بالقول "إن هذه قضية ليست جديدة، وإنه لا توجد لدى الجانب الأميركي مخططات لتقليص الوجود الأميركي في أوروبا بصورة مفاجئة". هل كانت رسائل روبيو مقنعة للحلفاء الأوروبيين؟ يرى رافائيل لوس من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أنه من غير المرجح أن ينجح روبيو في طمأنة الحلفاء في ضوء الضوضاء الأخيرة القادمة من الولايات المتحدة. وفي تصريحات للوس لشبكة "دويتشه فيله" يضيف "الأوروبيون لا يجدون هذا الأمر مطمئناً بصورة خاصة، بخاصة بعد إعلان الرسوم الجمركية واشتعال الحرب التجارية مع الولايات المتحدة". وعنده أنه من غير المرجح أن ينفق أي عضو في حلف "الناتو" خمسة في المئة من ناتجه المحلي الإجمالي على الدفاع، وتابع: "لكي نحقق ذلك، نحتاج فعلياً إلى اقتصاد موجه مثل الاقتصاد الروسي. خلال الحرب الباردة أنفق بعض حلفاء الناتو خمسة في المئة، أو أكثر على الدفاع، لكنهم شكلوا استثناء إذ تجاوز إنفاقهم في الغالب ثلاثة في المئة". هل بات على الأوروبيين البحث عن شراكات دفاعية مختلفة، لكن داخل سياق ونطاق حلف الأطلسي عينه، لا كبديل مطلق عن الولايات المتحدة، ولكن كتعويض موقت في أقل تقدير؟ أوروبا وتركيا وشراكة براغماتية يستذكر المرء التعبير الشهير: الضرورات تبيح المحظورات، ولهذا بات هناك تفكير أوروبي مثير من نوعه، يتصل بتفعيل التعاون الأوروبي - التركي، لكن ضمن نطاق "الناتو". ليس سراً أن الاتحاد الأوروبي قد رفض طويلاً فكرة انضمام تركيا إلى جماعته السياسية، لكن الأيام الـ100 الأولى من إدارة دونالد ترمب، جعلت بعض الأصوات تطرح التساؤل التالي "هل يمكن لأوروبا وتركيا العمل معاً؟". صاحب التساؤل روبرت إليس المستشار الدولي في معهد بحوث الدراسات الأوروبية والأميركية في أثينا، وعنده أن الأثر السلبي الذي تركته إدارة ترمب في وقت قصير، يستدعي تفكيراً جدياً في بناء هيكلية أمنية أوروبية في حال انسحاب أميركا من حلف شمال الأطلسي أو تقليص حضورها فيه بصورة كبيرة. هل كان لنائب الرئيس الأميركي جي دي فانس تأثير ما في هذا التفكير؟ المؤكد أن الأمر كذلك بالفعل، فقد أوضح دي فانس ذلك في خطابه أمام مؤتمر ميونيخ للأمن في فبراير (شباط) الماضي، عندما أخبر المشاركين أنه في الأعوام المقبلة، يجب على أوروبا أن تكثف جهودها لتوفير دفاعها الذاتي، لكن ليس هذا بالأمر الجديد، فقد كان هذا متوقعاً منذ أعوام، أي منذ ولاية ترمب الأولى. في مقابلة له مع صحيفة "فايننشيال تايمز" خلال مارس (آذار) الماضي، تحدث وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بالقول "إن تصرفات الرئيس ترمب كانت دعوة لنا للتوحد وبناء مركز ثقلنا الخاص". جاءت التصريحات على هامش مؤتمر لندن الذي شاركت فيه تركيا، وظهر فيدان في الصورة كعضو من العائلة الأوروبية، ويومها أضاف "تركيا ترغب في أن تكون جزءاً من أي هيكل أمني أوروبي جديد في حال انهيار حلف الناتو"، لكن نسبة غالبة من الأوروبيين لا تزال تنظر إلى تركيا كنظام استبدادي كامل، عطفاً على أن تركيا حتى الساعة تحتل شمال قبرص، كما أن لها ميولاً واضحة تجاه روسيا، حتى وإن كانت عضواً في حلف "الناتو". هناك كذلك مسألة المعارضة الأوروبية الداخلية لفكرة انضمام تركيا لأي بنية هيكلية أوروبية أمنية جديدة، فالنرويج وفنلندا والسويد وبولندا، إلى جانب المملكة المتحدة وفرنسا، والآن ألمانيا، هذه جميعها تقف بحزم ضد روسيا. يعلو تساؤل في الداخل الأوروبي "هل تفقد فكرة إدماج أوروبا لتركيا في سياقات بنيتها الأمنية المستقبلية، حضورها وألقها، ارتكاناً للماضي فحسب؟ المعروف جيداً للقاصي والداني، أن صراعات عميقة نشبت في القرون الماضية بين الدولة العثمانية، وعدد كبير من الدول الأوروبية، ولهذا فإن هناك من يستدعي هذا الإرث السيئ الذكر. لكن الأرجح، أن صعود التيارات الشعبوية اليمينية في نسبة معتبرة من الدول الأوروبية، يدفع في اتجاه معاكس للتفكير في التعاون المستقبلي الأوروبي - التركي على صعيد بناء رؤية أمنية جديدة، تملأ فراغاً محتملاً للولايات المتحدة. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) ستار حديدي في مواجهة روسيا هل يجب على أوروبا اليوم، وربما بمساعدة الولايات المتحدة الأميركية، التفكير في أمر مثير وخارج الصندوق لمواجهة التهديدات الروسية المحتملة تجاه أوروبا؟ لا ينكر أحد في القارة العجوز اليوم أن المخاوف من أن يكرر القيصر بوتين أو أي من يخلفه في قادم الأعوام، تجربة أوكرانيا مرة أخرى، لا سيما بعدما أثبتت سردية أوكرانيا أن الماضي لا يموت، فقد استمع العالم إلى أصوات كثير من الجنود الأوروبيين يصرخون عالياً بأنهم عما قريب سيعودون إلى برلين، التي حررها أجدادهم. كانت تلك العبارات هي رد الفعل الطبيعي، على ما كشفت عنه الأنباء وقتها من أن الاستخبارات الألمانية خططت لقصف جسر القرم بصواريخ متقدمة. والطرح الجديد، حملته مجلة "ناشيونال إنترست" الأميركية، عبر باول ماركيفيتش مؤرخ أوروبا القرون الوسطى، وماتشي أولشاو الباحث في جامعة "لويولا" في شيكاغو. ما مقترحاتهم لأوروبا حال فكرت واشنطن، وربما لظروف جيوسياسية قاهرة، كأن تسعى الصين مثلاً إلى غزو تايوان، الانسحاب بدرجة أو أخرى من أوروبا؟ القصة يمكن روايتها كالتالي "عندما ألقى ونستون تشرشل خطابه الشهير: أوتار السلام، عام 1946، في فولتون بولاية ميسوري الأميركية، كانت دول وسط وشرق أوروبا عالقة في دائرة النفوذ السوفياتي على رغم عنها. اليوم معظمها إما أعضاء في حلف شمال الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي، أو كليهما، فيما يتشكل تحالف جديد بين دول الشمال الأوروبي ودول البلطيق وبولندا، ذلك أن الدول الواقعة على طول الجناح الشرقي للتحالف هي الأكثر عرضة للعدوان الروسي، لكنها الأكثر تصميماً على مواجهته". هنا يقترح الباحثان أنه، بدعم من الولايات المتحدة، بصورة أو بأخرى، يمكن لهذه الدول أن تشكل حاجزاً حديدياً يشكل الرادع النهائي ضد مخططات الكرملين الإمبريالية، حسب تعبيرهما. هنا فإنه من شأن تشكيل تحالف دفاعي محكم يضم أعضاء حلف "الناتو" في شمال ووسط وشرق أوروبا أن يشكل نقطة التقاء طبيعية لمواجهة شراكة موسكو اللامحدودة مع الصين في منطقة من العالم يمكن أن تشكل فيها هذه الشراكة خطراً على الولايات المتحدة وحلفائها. ولعل الأهم من تقديم الدعم المالي لهذه الدول، فإن مواطنيها، هم الأكثر استعداداً لتحمل الكلف المالية للحفاظ على السلام، لأنهم أكثر استعداداً للدفاع عن أوطانهم من أي عدوان روسي محتمل. في استطلاع رأي حديث حول استعداد البالغين حول العالم للقتال من أجل وطنهم في حال نشوب حرب، أجاب 78 في المئة من الإيطاليين و57 في المئة من الألمان بـ"لا". وجاءت تلك المعطيات مقاربة بـ32 في المئة فقط من بولندا، وبينما أعلن 41 في المئة من الأميركيين استعدادهم للقتال من أجل وطنهم، فإن وجود ردع قوي في شمال ووسط أوروبا سيضمن عدم اضطرارهم إلى ذلك. واشنطن وتقديم بدائل لـ"الناتو" الأوروبي يمكن للمرء أن يتساءل "هل إشكالية الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو مع الرئيس ترمب شخصياً؟ أم أن هناك أبعاداً تتعلق بالتحركات الجيوسياسية الأممية، وبصراع الأقطاب الدولية، وملامح ومعالم النظام العالمي الجديد، الذي لم يولد بعد، تلعب كلها دوراً فاعلاً بعيداً من شخص الجالس في البيت الأبيض؟". ربما تكون رؤية ترمب MAGA أو "جعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، ركناً مهماً في القلاقل التي يعيشها الفرع الأوروبي من "الناتو" اليوم وهذا صحيح. وقد يوفي الحظ لرئيس ديمقراطي آخر، خلال ثلاثة أعوام، يعيد الطمأنينة إلى أوروبا، كما فعل بايدن من قبل. لكن هناك في واقع الأمر حقيقتان مؤكدتان: - الأولى: تتصل بفكرة تحرك الولايات المتحدة شرقاً، والاستدارة نحو آسيا في مدى زمني قريب، وبخاصة إذا صدقت توقعات بعض العسكريين الأميركيين، حول الصدام المسلح مع الصين من جراء تايوان أو بحر الصين الجنوبي، عطفاً على النفوذ في منطقة المحيط الهادئ بحلول عام 2027. هنا، يكون من الطبيعي جداً أن تفكر واشنطن في تركيز حضورها العسكري بعيداً من الجانب الأوروبي، إذ ظل التمركز منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم. - الثانية: تتصل بالرؤى الروسية والصينية لغرب أوروبا، كل منهما على حدة من ناحية، أو مجتمعتين من ناحية ثانية، وكيف يمكن أن تصحو بعض دول البلقان بداية على ما يشبه الغزو الأوكراني من جديد. علامة الاستفهام في هذا المقام "ما الذي يمكن أن تفعله واشنطن للناتو الذي تظل الحاجة إليه قائمة وقادمة في العقود المقبلة؟". المؤكد أنه إذا أرادت واشنطن سلاماً دائماً في أوروبا، فعليها أن تكون مستعدة لمساعدة حلفائها وشركائها الذين يساعدون أنفسهم بالفعل، ماذا يعني ذلك؟ بداية، سيشكل التمركز الدائم للقوات الأميركية في بولندا رادعاً سياسياً لروسيا، سيعزز ذلك مكانة البلاد الاستراتيجية كمركز لوجيستي ساعد في تسليح أوكرانيا بعد عام 2022، وقد يعود إلى هذا المركز عندما تهاجم روسيا جيرانها في المستقبل. وعليه فإنه إذا كان إرسال قوات أميركية إضافية إلى أوروبا يمثل مشكلة، فإن نقلها من قاعدة "رامشتاين" الجوية في ألمانيا إلى بولندا خيار ثانوي جدير بالاهتمام. سيرسل هذا إشارة قوية إلى حلفاء "الناتو" بأن أولئك الذين يستثمرون في أمنهم سيقابلهم وجود أميركي متزايد. علاوة على ذلك، من الواضح أن هدف إدارة ترمب هو تحويل "الناتو" من خلال دفع الحلفاء الأوروبيين إلى زيادة قدراتهم على نشر القوات التقليدية اللازمة لردع روسيا. هل يجب على واشنطن أن تستخلص من قمة "الناتو" القادمة أمراً مهماً ما؟ مؤكد أن التخفيض الجذري في وضع القوات الأميركية في أوروبا ستكون له نتائج عكسية على هذا الجهد. وعليه ينبغي لواشنطن أن تبني سمعتها الهشة أصلاً لدى حلفائها الإقليميين في ظل النمط الجديد للأمن الأوروبي على ما يذكره مشروع 2025، وهو الردع النووي، إذ لا يزال بإمكانهم الاعتماد على الولايات المتحدة. إن الحفاظ على هذه المظلة يسمح لمجموعة الدول القريبة حدودياً من روسيا لا سيما بولندا، بتعزيز قدراتها على تقاسم الأعباء مع الولايات المتحدة التي لا يزال لديها بعض المصلحة في اللعبة، لكنها مستعدة للتدخل وتغيير خطة اللعب في أي وقت.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store