
على هامش ما يجري في ليبيا
ليبيا تواجه أخطاراً عظمى... مرحلة جديدة حمراء بلون الدم والرصاص والاغتيالات، يذكرني الوضع الحالي بالعشرية التي جرت عقب الثورة الفرنسية 1789، عندما اندلع عهد الدم والإرهاب كما يوصف في الأدبيات السياسية.
لا نتمنى أن تستعاد الحكاية في بلد هو المفصل بين المغرب العربي، والمشرق العربي، وصاحب الموقع الاستراتيجي بين العرب وأوروبا، فهو ليس مجرد بلد صحراوي أو نفطي، بل كانت ليبيا دائماً نقطة فاصلة في الأمن والأمان والاستقرار والرابط بين مصر في الشرق والجزائر في الغرب، وإيطاليا على الجانب الآخر من البحر المتوسط وأوروبا عموماً، وكانت دائماً الممر الهائل لزوار بيت الله من شمال أفريقيا، وتمر القوافل العابرة، فمثلت تفاعلاً حضارياً، كما أنها البوابة الثقافية والحضارية بين أوروبا والعرب على مدى التاريخ.
إذا عدنا للتاريخ قليلاً، فقد تفاعلت على أرضها الحضارتان الإغريقية والرومانية، وكذلك عندما أصبح العرب هم الرقم الأهم في العالم بعد دخول الإسلام، وفيها امتزج كل شيء كبلد، وموقع، وبشر.
قلت إن ليبيا تواجه أخطاراً عظمى... وأعني ما أقول، فثمة تفاعلات تجري على الأرض، تخرج الخلايا الكامنة، والنائمة من مرابضها، فظهر في سماوات ليبيا الرصاص والاغتيالات، وسالت الدماء على الأرض، إنه قتال الإخوة الذي يجب ألا يكون... ما الحل إذن؟ وما العمل، كما قال فلاديمير لينين ذات مرة؟
الحل يكمن في ليبيا الدولة، وليس ليبيا الساحة، نقترب من نصف العقد الثاني، والفوضى تضرب أرجاء البلد العربي المهم؛ انقسامات، وميليشيات، وتدخلات أجنبية، ومسارح للتجريب السياسي، أطماع ومطامح دولية متربصة تغذي النعرات الجهوية، والقبائلية، والمناطقية من أجل الإشعال والفتن، ثم الانقضاض حين تتهيأ الفرصة، ثمة سؤال ضاغط على مخيلتي، هل الشعب الليبي يريد استمرار هذا النزف؟
بالقطع لا... إنما هي المخططات، والمؤامرات، وغياب الرشد السياسي، والحكمة الوطنية التي طالما تمتع بها الشعب الليبي، حين واجه المستعمر الإيطالي في العصر الحديث، وأستدعي هنا مقولة الشهيد عمر المختار، حين قال قبل صعوده إلى منصة الإعدام: «حياتي أطول من حياة شانقي»، وكان يعني أنه سيعيش للأبد، بينما لا يعرف العالم اسم قاتله، فقد طواه النسيان، وبقي المختار علامة على قوة وروح الشعب الليبي، وهنا أستعيد حكمة عمر المختار، وأقول إن ليبيا تستحق أن تكون كتلة واحدة، فقد طالت إقامة الخطر في هذا البلد، وبعض المتشائمين يقولون إن حرباً أهلية بين جميع الأطراف، قد تقود ليبيا إلى مزالق وأخطار، ربما لا يمكن إصلاحها أو العودة منها، ولا شك في أنَّ تلك الأخطار نفسها تؤثر في محيطها العربي القريب، والأوروبي الذي يخشى اندفاع الهجرة غير الشرعية، والتوتر جنوب وشرق المتوسط.
ما يحدث في ليبيا الآن يدفعني لتكرار عبارة الرئيس الراحل أنور السادات حينما قال: «ارفعوا أيديكم عن لبنان»، عندما اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، وبات لبنان مسرحاً لكل القوى الخارجية ومختبرات للموت. الآن أكرر عبارة السادات وأقول: «ارفعوا أيديكم عن ليبيا»، فسقوط هذا البلد الغني بموارده المتنوعة والشاسع حضارياً وثقافياً وإنسانياً، وصاحب الموقع الاستراتيجي، هو سقوط لجزء من منظومة الأمن القومي العربي، لذا فإنَّ المشهد الحالي الذي يموج بالأخطار على المستقبل الليبي يتطلَّب مصالحة سياسية شاملة، تقوم على مرجعيات وطنية، يتم التوافق عليها من الجميع، وذلك يعطي مساراً سياسياً يفضي إلى ضرورة انتخابات رئاسية وبرلمانية في وقت واحد، على أن يدور كل هذا، ضمن إطار وطني حر وشفاف، يجعل الشعب الليبي قادراً على اختيار ما يراه مناسباً لمستقبله، حتى تكون ليبيا الكاملة لشعبها وحده، دون ميليشيات أو قوات أجنبية، لكن هذا لن يتأتى من دون فتح حوار وطني غير استقصائي لجميع الأطياف السياسية والوطنية.
أدرك جيداً أنَّ بناء الدول صعب، خصوصاً بعد ضربات ما يسمى الربيع العربي، وآثار التدخلات الدولية، وبالقدر نفسه أدرك أيضاً أنَّ الشعب الليبي يمتلك كثيراً من الوعي والثقافة، وهذا يجعله قادراً على كسر حاجز الخوف، واستعادة بلاده، وقطع الطريق على ما تعيشه الآن ليبيا من خطر استئناف للفوضى، وربما وجود اتفاق مظلة قد يصبح محطة فاصلة بين التلاشي والوجود.
أخيراً أقول إنَّ الشعب الليبي يجب ألا يرى بلاده من خلف الزجاج، أو أن يجلس على قارعة التاريخ، بل إنه لا بديل عن الانخراط والإقدام والمشاركة في بناء ليبيا التي يجب ألا تستسلم لما يحاك لها في الظلام، وهو كثير.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

العربية
منذ 2 ساعات
- العربية
مصر تعيد 71 من رعاياها في ليبيا.. إثر أحداث طرابلس
أعادت مصر مساء الجمعة 71 من رعاياها المتواجدين في ليبيا في التفاصيل أرسلت الحكومة المصرية طائرة تابعة لشركة مصر للطيران مساء الجمعة إلى ليبيا. حيث تم إعادة 71 مصرياً سجلوا بياناتهم مع سفارة بلادهم في العاصمة الليبية طرابلس وغرفة العمليات التي تم تشكيلها في وزارة الخارجية طالبين العودة إلى مصر. جاء قرار الحكومة تنفيذاً لتوجيهات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بمتابعة أوضاع المصريين في ليبيا والعمل على ضمان أمنهم وسلامتهم وإعادة الراغبين منهم إلى البلاد إثر التوترات الأخيرة التي شهدتها طرابلس. وكانت مصر قد أعربت عن قلقها البالغ إزاء التطورات الجارية في ليبيا والاشتباكات القائمة في العاصمة طرابلس، مؤكدة أنها "قد تؤدي إلى تصعيد مفتوح وتهدد مقدرات وأرواح الشعب الليبي الشقيق". كما أهابت وزارة الخارجية بجميع المواطنين المصريين المتواجدين في ليبيا، بتوخي أقصى درجات الحيطة والحذر، والتزام منازلهم لحين تبين الأوضاع وعودة الهدوء والاستقرار، والتواصل مع سفارة بلادهم في طرابلس حال وجود أية أحداث تمس أمنهم وسلامتهم. فيما دعت كافة الأطراف الليبية لإعلاء المصالح الوطنية وإنهاء حالة التصعيد القائمة، والاحتكام لصوت العقل حفاظاً على مقدرات الدولة. يذكر أنه خلال الأيام القليلة الماضية، اندلعت مواجهات مسلحة في طرابلس، في أعقاب مقتل عبد الغني الككلي، المعروف باسم غنيوة، قائد "جهاز دعم الاستقرار" (ومقره في حي أبو سليم المكتظ بالسكان) على يد فصائل متحالفة مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة في 12 مايو.


الشرق الأوسط
منذ 2 ساعات
- الشرق الأوسط
ترمب يتوعد أوروبا و«أبل» برسوم جديدة
صعّد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أمس، تهديداته التجارية، مستهدفًا شركة «أبل» العملاقة للهواتف الذكية، بالإضافة إلى الواردات القادمة من الاتحاد الأوروبي بأكمله، في خطوة أحدثت اضطراباً واسعاً في الأسواق العالمية بعد أسابيع من التهدئة التي كانت قد منحت المستثمرين بعض الاطمئنان. وأعلن ترمب عزمه على فرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على أجهزة «آيفون» المبيعة في الولايات المتحدة إذا لم تُصنّع داخل أراضيها، كما كشف عن توصية بفرض رسوم جمركية بنسبة 50 في المائة على واردات الاتحاد الأوروبي ابتداء من الأول من يونيو (حزيران)، وفق «رويترز». وتفاعلت الأسواق سلباً مع هذه التصريحات؛ إذ انخفضت العقود الآجلة لمؤشر «ستاندرد آند بورز 500» بنسبة 1.5 في المائة وهبط مؤشر «يورو ستوكس 600» الأوروبي بنسبة 2 في المائة، كما تراجعت أسهم «أبل» بنسبة 3.5 في المائة.


الشرق الأوسط
منذ 4 ساعات
- الشرق الأوسط
جيورجيا ميلوني... من التطرف إلى البراغماتية
أواخر عام 2012، وبعدما كان نجم سيلفيو برلوسكوني قد بدأ يأفل في المشهدين السياسيين الإيطالي والأوروبي، أقدمت مجموعة من قيادات حزبه، تتزعمها رئيسة الوزراء الحالية جيورجيا ميلوني ورئيس مجلس الشيوخ إيغناسيو لا روسّا، على الانشقاق عن الحزب الذي كان أسسه برلوسكوني وحمله أربع مرات إلى رئاسة الحكومة، وقرّرت تأسيس حزب جديد تحت مسمّى «إخوان إيطاليا»؛ تيمناً بعنوان النشيد الوطني الإيطالي. الدافع المعلن لهذه الخطوة كان رغبة المجموعة المنشقّة في إبراز الهوية اليمينية للتيار الذي كانت تمثله، والذي كان في معظمه من ركام الحزب الفاشي الإيطالي المحظور بموجب الدستور تحت مسمّى «التحالف الوطني» الذي تدرّجت ميلوني في صفوفه صبيّة في التاسعة عشرة رئيسةً لتيّار الشباب. غير أن السبب الحقيقي غير المعلن للانشقاق كان التموضع في المشهد السياسي تحسباً للانهيار الذي كانت بدأت تظهر تباشيره في صفوف اليمين الإيطالي، والذي كان حزب «الرابطة»، الانفصالي سابقاً، يتربّص لوراثة قيادته. في تلك المرحلة كان رصيد «إخوان إيطاليا» يقتصر على عشرة مقاعد في مجلس الشيوخ وستة في مجلس النواب. ولم يتمكن خلال الانتخابات العامة والإقليمية التي أجريت حتى عام 2020 من تجاوز حاجز الـ6 في المائة من أصوات الناخبين، أي ما يقارب نصف التأييد الذي كان يحظى به حزب «الرابطة» («رابطة الشمال» أساساً) الذي كان زعيمه ماتّيو سالفيني قد بدأ يحلم بقيادة اليمين الإيطالي على وقع تدهور صحة برلوسكوني. ولكن في عام 2022 انهارت الحكومة الائتلافية التي كان يقودها حزب «النجوم الخمس» بالتحالف مع «الرابطة»، فقرّر رئيس الجمهورية حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة عن موعدها أواسط صيف ذلك العام، خاضها اليمين ضمن تحالف ضمّ برلوسكوني وسالفيني وميلوني، بشرط أن يتولّى تشكيل الحكومة الحزب الذي يحصل على أكبر عدد من الأصوات في حال فوز التحالف. وفي المقابل، وكعادته، خاض اليسار الانتخابات منقسماً على نفسه وسط تناحر تياراته. وكانت المفاجأة نيل حزب «إخوان إيطاليا» أكبر عدد من الأصوات بين قوى اليمين. وهكذا أصبحت رئاسة الحكومة من نصيب ميلوني، التي كان يهزأ برلوسكوني من احتمال وصولها إلى ذلك المنصب. عندما أقسمت جورجيا ميلوني يمين الولاء لمنصبها كأول امرأة تتولّى رئاسة الحكومة في إيطاليا، كانت قد سبقتها صورة اليمين المتطرف الصاعد من كهوف الفاشية، الذي تتسع شعبيته باطراد ويوقظ أشباح الماضي المخيف في المشهد الأوروبي. وفي العواصم الأوروبية الكبرى، كما في بروكسل «عاصمة» الاتحاد الأوروبي، سادت أجواء الترقّب من تداعيات وقوع السلطة، للمرة الأولى في تاريخ الاتحاد، بيد حزب مناهض للمشروع الأوروبي، على الأقل في صيغته الراهنة. ومعلومٌ أن «إخوان إيطاليا» يرفض أن تصدر عن زعيمته إدانة صريحة للنظام الفاشي، وأن يُزال رمزه التاريخي «الشعلة» عن شعار الحزب، بينما يفاخر رئيس مجلس الشيوخ – وساعد ميلوني الأيمن – بتمثال نصفي للزعيم الفاشي بنيتو موسوليني في دارته. الزعيم المجري فيكتور أوربان (رويترز) إلا أن الخطوات الأولى التي أقدمت عليها ميلوني، خاصةً نحو الخارج، أظهرت استعدادها للبقاء ضمن «السرب» الأوروبي، والتنسيق مع الشركاء في جميع الملفات الكبرى، مع الحفاظ على تمايز في ملف الهجرة الذي كان الرافعة الأساسية في صعودها السريع حتى وصولها إلى رئاسة الحكومة. إذ سارعت ميلوني إلى تأكيد الاصطفاف الإيطالي بجانب التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد الغزو الروسي لأوكرانيا، وبنت علاقات وثيقة مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون در لاين، وفتحت قنوات الحوار التي كانت متعثرة مع فرنسا، مُبحرة بذلك عكس التيار السائد داخل الائتلاف الحاكم الذي تقوده. لقد أدركت ميلوني بسرعة أن الخروج عن خط الحليف الأميركي في السياسة الخارجية ليس وارداً، وأن المواجهة الصدامية مع الشركاء الأوروبيين مكلفة جداً بالنسبة للبلد الذي يرزح تحت عبء أعلى نسبة من الدين الخارجي والعجز العام داخل الاتحاد، وأن العداء مع فرنسا يجرّ متاعب كثيرة لا قدرة لإيطاليا على تحملها في المدى الطويل. في غضون ذلك، كانت ميلوني ترسّخ شعبيتها في الداخل وتدفع بأجندتها اليمينية من دون عقبات تذكر، مطمئنة إلى رصيدها الشعبي، والغالبية الساحقة التي تدعمها في البرلمان قبالة معارضة ضعيفة مشتتة. إلا أنه مع ظهور البوادر الأولى لانهيار الديمقراطيين في الولايات المتحدة، وما يستتبعه ذلك الانهيار من تداعيات خارجية - بخاصة على الجبهة الأوروبية - ومع اتساع دائرة الصعود اليميني المتطرف في أوروبا، بدأ كثيرون يرون في ميلوني «المرأة الحديدية» الجديدة في أوروبا. صارت ميلوني، بالفعل، الشخصية السياسية التي تنظر إلى قيادتها القوى والأحزاب اليمينية المتطرفة الطامحة إلى السلطة في الاتحاد، الذي يعاني منذ سنوات تراجع الأحزاب التقليدية التي قام عليها مشروعه. من جهتها، حرصت ميلوني في التحالفات التي نسجتها على الجبهة اليمينية في أوروبا، على تجنّب الذهاب بعيداً نحو القوى المتطرفة في أقصى هذه الجبهة، مثل حزب «البديل من أجل ألمانيا» أو «التجمع الوطني» الذي تقوده مارين لوبان في فرنسا، بل حافظت دائماً على «شعرة معاوية» مع المؤسسات والأحزاب التقليدية، خاصةً بالنسبة للدعم الذي يقدمه الاتحاد لأوكرانيا منذ بداية الاجتياح الروس. رغم هذا، لم يمنع الحرص على تجنب الشطط أوروبياً الزعيمة الإيطالية من الانفتاح على جهات يمينية متطرفة خارج الإطار الأوروبي، مثل خابيير ميلي في الأرجنتين، أو الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي تفاخر بصداقتها معه... وتطرح نفسها «وسيطاً» بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لاحتواء أزمة الرسوم الجمركية التي ما زالت تراوح مكانها. كذلك حافظت ميلوني، من موقعها رئيسةً للحكومة الإيطالية، أكثر من زعامتها لحزب يميني متطرف قام على أنقاض الفاشية، على علاقات جيدة مع البابا الراحل فرنسيس الذي كان طوال حبريته في مرمى سهام القوى اليمينية المتطرفة، خاصةً في موضوع الهجرة. ثم سارعت إلى تجديد هذه العلاقة مع خلفه لاوون الرابع عشر، مستفيدة من «الرافعة الفاتيكانية» لتعزيز حضورها على الصعيد الدولي. وحقاً، خلال أقل من سنتين تمكّنت ميلوني من تغيير صورة اليمين المتطرف في أوروبا، وأقامت علاقات مؤسسية سلسة مع كتلة الحزب الشعبي الأوروبي (يمين متطرف)، من غير أن تنضوي تحت لوائه، وأصبحت بمثابة «جسر» بين أقصى اليمين والمحافظين التقليديين، كما نجحت حتى الآن في احتواء الجناح المتطرف داخل حزبها. في هذه الأثناء، شكّلت القوى اليمينية المتطرفة التي حرصت ميلوني على النأي عنها في التحالفات التي نسجتها، بدورها «جبهتها» المستقلة. وبايعت هذه «الجبهة» رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، بمباركة مزدوجة من واشنطن وموسكو، ريثما تتضح الصورة التي سيرسو عليها اليمين الأوروبي بعد الانتخابات المقررة حتى أواخر العام المقبل لمعرفة الحصان الفائز بين ميلوني وأوربان. الخطوات الأولى التي أقدمت عليها ميلوني خاصةً نحو الخارج أظهرت استعدادها للبقاء ضمن «السرب» الأوروبي والتنسيق مع الشركاء في جميع الملفات الكبرى في الواقع، كثيرة هي الأمور التي تجمع بين ميلوني وأوربان، لكنهما يختلفان كثيراً من حيث أسلوب الزعامة وممارستها، وذلك بسبب التباين في المسار السياسي، وتاريخ البلدين، والعلاقة مع المؤسسات الأوروبية. أولاً، لا بد من التمييز بين الواقع السياسي في كل من المجر وإيطاليا. فالمجر خارجة من نظام خضع طيلة عقود للنير السوفياتي، غير أنها تحمل إرثاً غنيّاً بالنضال من أجل الاستقلال، أولاً عن الإمبراطورية النمساوية، ثم عن هيمنة موسكو. ويجمع كثيرون على أن الصفات اللغوية والثقافية والتاريخية التي تميّز المجريين عن جيرانهم السلاف والجرمان، تجعل منهم شعباً مندفعاً بقوة نحو التمرّد والإصلاح. أما الواقع السياسي الإيطالي، فهو وليد مخاض سياسي مديد يبدأ مع أول تجربة فاشية قبل الحرب العالمية الثانية، ويرسو عند نظام ضبابي سيطرت عليه الديمقراطية المسيحية طوال عقود، وقام لهدف أساسي هو كبح صعود الحزب الشيوعي، إلى أن تهشّم بفعل الفضائح والفساد، وانهار معه الحزبان الكبيران الاشتراكي والديمقراطي المسيحي اللذان تناوبا على السلطة في إيطاليا منذ سقوط موسوليني. من هنا يجد اليمين الأوروبي، التقليدي والجديد والناشئ، نفسه اليوم أمام زعامتين مختلفتين من حيث المسار والواقع السياسي. فيكتور أوربان، الذي ظهر في المشهد السياسي المجري عام 1989 زعيماً شاباً مناهضاً للشيوعية، تنقّل بين تجمّعات وأحزاب ليبرالية حتى انتخابه رئيساً للوزراء عام 2010. يومذاك قاد حكومة يمينية معتدلة إلى أن بدأت المفوضية الأوروبية تضغط عليه لإجراء تغييرات اقتصادية كان يرفض معظمها، أو يعجز عن تنفيذها، إلى أن راح يجنح نحو المواجهة الصدامية مع المؤسسات الأوروبية، بل ويطالب بالعودة إلى «جذور» المشروع الأوروبي وإعادة الصلاحيات إلى الدول الأعضاء، حتى أصبح القدوة التي ألهمت بعده العديد من قادة اليمين الأوروبي المتطرف. جورجيا ميلوني، من جهتها، هي وليدة التحول الذي شهده اليمين الإيطالي المتطرف في تسعينات القرن الفائت، إلى أن أصبح مقبولاً على الصعيد الأوروبي بفضل الذكاء الاستراتيجي الذي كان يتمتع به زعيمه (يومذاك) ورئيس مجلس النواب جيانفرنكو فيني، وتعاون سيلفيو برلوسكوني الذي كان يسعى إلى استقطاب أصوات اليمين من كل الاتجاهات. إلا أن ميلوني، التي تولّت إحدى الحقائب الوزارية في إحدى حكومات برلوسكوني، كانت لها الرؤية والشجاعة لتأسيس حزبها الخاص «إخوان إيطاليا» بالرصيد الضئيل الذي كان يملكه فيني مع حزب «التحالف الوطني». وعندما تولّى ماريو دراغي تشكيل «حكومة الإنقاذ الوطني» التكنوقراطية، انفردت ميلوني وحدها بمعارضة حكومته... لتغدو الملاذ الأول للناخبين اليمينيين بعد الفشل الذريع الذي أصاب حزب برلوسكوني المترهّل. > إيطاليا، كما يرى كثيرون، هي أقرب ما يكون إلى المختبر السياسي الأوروبي. والسياسة الإيطالية دائماً «مشفّرة» ليس من السهل قراءتها واستبيان مندرجاتها. والحقيقة أن الإيطاليين ليسوا في اليمين ولا في اليسار... ليسوا جمهوريين ولا ملكيين... بل إنهم يرفضون دائماً التموضع في مواقف متطرفة، أو الذهاب إلى المواجهة الصدامية لحسم الخلافات العقائدية. ومن هذا المنطلق يسهل فهم التقلبات التي طرأت على المشهد اليميني الإيطالي، والتي لم يرصدها المراقبون الأوروبيون قبل حدوثها أو حتى بعده. في البداية، تعرضت ميلوني لهجوم لاذع في وسائل الإعلام الأوروبية وكواليس العواصم الكبرى في الاتحاد. ولكن مع مرور الوقت اكتشف الأوروبيون زعيمة جديدة لليمين الأوروبي تحظى بنفوذ دولي غير مسبوق منذ أيام المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. ويوم الأربعاء الماضي، وبعد المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس الأميركي دونالد ترمب بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، وإطلاعه الأوروبيين على ما دار فيها، سارعت ميلوني إلى الاتصال بالبابا لاوون الرابع عشر للتنسيق معه حول العرض الذي قدمه الفاتيكان الأسبوع الماضي لاستضافة مفاوضات سلام بين موسكو وكييف. ويذكر أن رئيسة الوزراء الإيطالية جمعت نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون در لاين على مائدتها بُعيد تنصيب الحبر الأعظم؛ بهدف «فتح قناة» حوار بين واشنطن وبروكسل حول حرب الرسوم الجمركية. وثمة كلام أيضاً عن احتمال استضافة إيطاليا مفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بمباركة أميركية وفاتيكانية. في أي حال، أسهُم ميلوني في الداخل الإيطالي مرشحة للصعود، أو الاستقرار في أسوأ الأحوال؛ نظراً للانقسامات الحادة في صفوف المعارضة. وهي إلى صعود أيضاً على الجبهة الأوروبية، شريطة ألاّ تسير في ركاب الرئيس ترمب وسعيه إلى التفرقة بين الشركاء الأوروبيين خلال الأشهر المقبلة. وللعلم، لعل ميلوني الوحيدة بين الزعامات اليمينية المتطرفة في أوروبا، التي صعدت إلى السلطة على متن الانتقاد المباشر للمؤسسات الأوروبية والعديد من سياساتها، لكنها منذ وصولها إلى الحكم تتصرف بحرص شديد على هذه المؤسسات وتسعى إلى تغييرها من الداخل. وتساعدها في ذلك التقلبات الجيوسياسية الأخيرة وانعطاف أقصى اليمين الأوروبي نحو الواقعية السياسية التي تفرضها ممارسة السلطة.