logo
كان يا ما كان.. أنا وأنت والزمان

كان يا ما كان.. أنا وأنت والزمان

الجزيرة٢٨-٠٦-٢٠٢٥
وُلدتُ في بيت يتجنب كل من فيه شرب المنبهات، فلم أعهد من أمي إعداد قهوة الصباح أو شاي العصر. ولكن، مع الوقت نقل أخي "عدوى الشاي"، ونقلت أنا "عدوى القهوة" إلى البيت؛ فصرت إذا ما حلّ ضيف يطلب الشاي، أذهب مسرعةً لعقد صفقة مع أخي: "اعمل شاي، ومقابل هذا سأعد القهوة لأصدقائك".
واستمر هذا الحال إلى أن نزحت في الإبادة إلى مطبخ آخر.. إلى بيت فيه سيدة ستينية لا تبدأ يومها إلا بكوب من الشاي، بشرط أن يكون "شديد الحلاوة"!. لم أفهم حينها سبب أنسها به، ولم أدرك انتقال العدوى إليّ إلا بعد عام من الإبادة.
فما رأيك الآن بكوب من الشاي بالنعناع؟ ولكن، اعذرني هذه المرة.. لا يوجد سكر!
ذاكرة من سكر
في صغري، كنت أعتقد أن جدي يمتلك آلةً سحرية؛ تحول السكر إلى غيمة في لمحة بصر! آنذاك، كنت أقف بجانبه، أنتظر دوري في طابور الأحفاد، وعيناي مندهشة مما تريانه. وبذات الدهشة، كنت -بعد وفاة جدي- أقف متأملةً في خالي، في ابن يحاول إحياء ذكرى أبيه.. أقف مستذكرةً لهفة قلبي الصغير، بمجرد رؤيتي غيمتي الملونة!
أذكر أن آخر مرة رأيت فيها مشهد تدافع الأطفال حول بائع حلوى "شعر البنات"، أو "الغيوم الملونة" كما أسميها أنا، كانت أمام مدرستي الابتدائية في مخيم جباليا.
منذ ذلك الحين، اعتقدت أن جميع شبيهات آلة جدي السحرية قد انقرضت! ولكن من المدهش أنه مع انقطاع دخول السكاكر في الإبادة، ودخول السكر بين الحين والآخر، عاد لتلك الآلة مجدها؛ فظهرت الغيوم الملونة مجددًا، وعادت لقلوب الأطفال لهفتها، وعاد صوت المنادي يجوب الشوارع: "شعر بنات.. شعر بنات.. للحلوين وللحلوات"! فصرت كلما سمعت ذاك الصوت، أو رأيت طفلًا يركض خلفه، أبتسم للماضي.
حبال من الود
يعلو صوت والدتي في المطبخ متسائلة: "في حد عنده أواعي بدهم غسيل؟ بسرعة، جيبوهم!"، ثم يبدأ كل منا في رحلة البحث عن ملابسه في جميع أنحاء البيت، وفي بعض الأحيان تفوض أمي أحدنا لجمع الملابس المبعثرة هنا وهناك.
بعد جمعها، تبدأ بفرزها وفقًا لمعايير عدة، منها الألوان ونوع القماش والأولوية؛ فكانت تبدأ أحيانًا بزي كرة القدم لأخي "عمر" الملقب في حارتنا بـ"ميسي"؛ فمن غير المعقول أن يذهب للمباراة بزي غير مجفف، أو قذر! وعلى الرغم من عديدنا، وتقدمنا في العمر، فإنها ما زالت كما هي؛ تبادر في مد حبال الود.
من هنا بدأت علاقتي مع حبال الغسيل؛ فأضع عليها ثقل ما يحمله المرء على جسده، وما يستر به نفسه، وما يختاره من ألوان تعبر عن شخصيته.
من خلال تلك الحبال يمكنك القول: هنا حياة، هنا طفل قد ولد، وهنا ضيف قد حل، وهناك من رحل.. ويمكنك معرفة ما إن كان البيت عامرًا بساكنيه، أم هجره ساكنوه! فمنذ أكثر من عام ونصفٍ، وملابسنا تحاول إيجاد مستقر لها. ولأكثر من عام، غاب زي كرة القدم عن حبالنا، غاب على أمل النجاة بموهبته وحلمه.
ولكن! صبغة غزة تميزك عن الجميع؛ تشجع كل من في قلبه مرض على الاستغلال، وسلب أبسط الحقوق منك وإن كنت خارجها؛ فالعالقون بين حدود الأمل واليأس.. كثر!
عاد الغائب الذي مات أبوه قهرًا عليه، عاد الغائب الذي انتظرته أمه بدموعها.. عاد إلى بيته، وأصبح الإهداء ليس واقعًا فحسب، بل ذكرى تُدق لها المسامير في الحائط؛ لتصبح الشاهد والراوي الوحيد للحكاية بعد غياب أبي
اللوحة الأخيرة
في زنزانة بأحد سجون الاحتلال الإسرائيلي، يجلس شاب على الأرض، يمسك بيده أقلامًا ملونة، وقطعة قماش أحضرتها له أمه في زيارتها الأخيرة.. يرسم على تلك القطعة البيضاء رحلة العائد بعد غياب طويل، يرسم شوقه إلى بيته، إلى وطنه، إلى رؤية الشمس، إلى العصافير وغنائها! إلى كرسي يجلس عليه متأملًا، منتظرًا.. كرسي يختلف عن كرسي التحقيق اللعين!
كان ذاك الشاب والدي، الذي سلبه الاحتلال الإسرائيلي بيت أبيه وجده، ثم سلبه طفولته، وشبابه، وبيته. ومع هذا، كان يحلم بيوم يجتاز فيه حدود الشوق، كان يحلم بأن يتحول الإهداء إلى واقع، وإن كان في الزمن البعيد..
"للذكرى.. متى يا كرام الحي عيني تراكم، وأسمع من تلك الديار نداكم.. إهداء".. ثم؟.. لم يكتب شيئًا سوى التوقيع؛ فالتفاصيل كلها تكمن في اللوحة.
في المستقبل، على باب البيت تزغرد جدتي: "إيوي لا تحسبونا من السجن ذلينا.. إيوي يا بارودنا في كتوفنا وقنابلنا بإيدينا.. إيوي يا باب المدينة عالي.. إيوي وأشرعه بإيدي.. إيوي خلي قليبي يفرح.. إيوي ياما بكن عيني".
عاد الغائب الذي مات أبوه قهرًا عليه، عاد الغائب الذي انتظرته أمه بدموعها.. عاد إلى بيته، وأصبح الإهداء ليس واقعًا فحسب، بل ذكرى تُدق لها المسامير في الحائط؛ لتصبح الشاهد والراوي الوحيد للحكاية بعد غياب أبي.
غاب أبي، وهجَّرنا الاحتلال من بيته، كما هجَّر أجدادنا سابقًا.. وبات حلمُنا يشبه حلم والدي: العودة.. الحرية.. بيت آمن!
عدنا إلى البيت يا أبي بعد غياب لم نملك فيه رفاهية الغياب، وانتشلنا الحكاية من تحت أنقاض الغرفة. أما العصافير، فقد عادت بعد قرابة شهر من وقف إطلاق النار المؤقت، ولكن.. لم يدم هذا طويلًا؛ فقد عادت الإبادة يا أبي، وعادت معها هجرة البشر والعصافير.. إلى روح وريحان وجنة نعيم.
أكتب لك يا صغيري عن حكايات لم تكتمل، وعن أصوات فقدت صداها؛ فالكتابة يا صغيري، ليست مجرد سرد، بل هي مقاومة وذاكرة.. وإرث
إلى صغيري
بقيت لأكثر من عشر سنوات أقرأ الكتب، وأشتريها من مصروفي الشخصي؛ لأكون أمًّا تحضر لك مكتبةً قبل أن تحضر، أمًّا تمنحك عالمًا من القصص قبل أن تولد، أمًّا تؤمن أن الحكايات تربي كما تفعل القلوب.
إعلان
بعض الكتب اشتريتها مع زميل لي من "أمازون"، وانتظرنا وصولها على أحر من الجمر، وبعضها أوصيت أصدقائي لتأمينها من مصر، والأكثر -بالطبع- من هنا.. من غزة. القليل منها نسخ أصلية، ومعظمها بجودة طباعة معتبرة، وبأسعار تناسب طالبةً في الثانوية والجامعة.. أما أقدمها وأقيمها فكتابان لجد والدي، نجا بهما من قريته في نكبة عام 1948م، ثم مات بغزة لاجئًا!
وددت لو استطعت الهرب ولو بكتاب واحد؛ ولكن.. اعذرني، فقد أُحرِقت جميعها!
أما ذاك الزميل الذي حدثتك عنه، فقد قتله الاحتلال، وأولئك الأصدقاء سافروا، وبتعبير أدق: هجروا من ضيق الحال، وبعضهم ما زال ينتظر.
لذلك، قررت الكتابة.. عن تفاصيل يجهلها كثيرون، وعن أحلام أُجهضت.. عن صديقتي التي تشاركني ذات الاسم، والكثير من الطباع: "سمية"، التي حرمت من وداعها الأخير.. عن فتاة لم ترَ عائلتها طوالَ سبعة أشهر، عن حلمها بإنجاب طفل! ولكن.. قتلها الاحتلال ليلة العيد، وبقي حلمها وآخر ذكرياتها عندي.. عدت بها إلى أمها دون أن تكون هي معي.. اعذريني يا خالتي، عدت دون عيدي!
أكتب لك يا صغيري عن حكايات لم تكتمل، وعن أصوات فقدت صداها؛ فالكتابة يا صغيري، ليست مجرد سرد، بل هي مقاومة وذاكرة.. وإرث.
أكتب.. لأن الصمت قاتل.
أكتب.. لئلا تُسرق حكايتي، وحكايات الأصدقاء، والآباء، والأجداد.
ولكن، إذا كان لا بد أن أموت..
‏"إذا كان لا بد أن أموت، فلا بد أن تعيش أنت؛ ‏لتروي حكايتي! إذا كان لا بد أن أموت، فليأتِ موتي بالأمل.. فليصبح حكاية".
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

طوفان موسيقي.. الأغنية الفلسطينية بعد 7 أكتوبر
طوفان موسيقي.. الأغنية الفلسطينية بعد 7 أكتوبر

الجزيرة

timeمنذ 4 ساعات

  • الجزيرة

طوفان موسيقي.. الأغنية الفلسطينية بعد 7 أكتوبر

منذ النكبة العربية في فلسطين عام 1948، ارتبطت الفنون الفلسطينية بقضيتها التحررية، فحين اقتُلِع الشعب الفلسطيني من أرضه وبيوته، تحوّلت الأغنية الفلسطينية إلى أكثر من مجرد تعبير فني. صارت ذاكرة حيّة للمنفى والتهجير، وسلاحًا رمزيًا لمواجهة النسيان، بل حتى أداة للحفاظ على الهوية مثلها في ذلك مثل الحطة الفلسطينية، ومفاتيح البيوت القديمة التي هُجّر منها أصحابها. الأغنية لم تكن مجرد فن، بل حملت في كلماتها وألحانها حكاية اللاجئين وحنينهم إلى القرى وحقول الزعتر والزيتون والبرتقال، والمفاتيح المعلقة في الرقاب يتوارثها الرجال والنساء كوعد محتوم للعودة. وفي كل مراحل الصراع العربي الإسرائيلي وقضيته المحورية الفلسطينية، كانت الفنون الفلسطينية لاسيما الأغنية حاضرة بقوة تعبّر وتحفّز وتوثق، حتى في مرحلة ما بعد عملية "طوفان الأقصى" والعدوان الإسرائيلي على غزة والضفة في أعقاب 7 أكتوبر/تشرين الأول، واصلت الأغنية الفلسطينية إثبات حضورها، ليس فقط داخل الأراضي العربية لكنها تجاوزت حدود الجغرافيا واللغة كأحد أبرز تأثيرات "طوفان الأقصى" التي أعادت القضية الفلسطينية إلى بؤرة الخطاب العالمي وأبرزت حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه وأكسبته تعاطفا حتى داخل أروقة الجامعات الأوروبية والأميركية. "تحيا فلسطين" عقب أحداث طوفان الأقصى والممارسات التي ارتكبها الاحتلال في حق المدنيين الفلسطينيين على مدار قرابة عامين منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، عادت الأغنية إلى دورها الأصلي كجزء من المقاومة الثقافية، داخل فلسطين وخارجها، وكانت من أبرز شواهد هذه المقاومة الموسيقية عودة أغنية "Leve Palestina" أو بالعربية "تحيا فلسطين"، والتي غنتها فرقة "الكوفية" السويدية، والتي كوّنها المغني الفلسطيني السويدي "جورج طوطري" العضو السابق بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. "تحيا فلسطين، وتسقط الصهيونية حرثنا الأرض، حصدنا القمح، وقطفنا الليمون، وعصرنا الزيتون والعالم كله يعرف أرضنا حين صدرت الأغنية لأول مرة عام 2016، كتبت الكلمات باللغة السويدية، وترجمت إلى العربية والإنجليزية، لكن في أعقاب طوفان الأقصى تمت ترجمتها إلى 20 لغة، من بينها العبرية وحققت انتشارها على منصات التواصل الاجتماعي ما بين يوتيوب وفيسبوك وإنستغرام وحتى تيك توك، لتسجل اعتراضًا واضحًا على الانتهاكات الإسرائيلية في حق المدنيين الفلسطينيين في المستشفيات والملاجئ وحتى المخيمات. ثبت جذورك في التراب ظهرت أغانٍ تستحضر ذاكرة النكبة كحدث متواصل، يؤكد أن ما يجري اليوم في غزة ليس سوى امتداد لما يحدث منذ أكثر من 75 عاما، حيث تمثل الأغنية الفلسطينية اليوم جسرًا بين أجيال 3: جيل النكبة، جيل المخيمات، وجيل الإنترنت، فبعد نحو 6 شهور من انطلاق طوفان الأقصى، أُطلقت أغنية "أصحاب الأرض"، بصوت رئيسي للمطربة السورية أصالة نصري، وبمصاحبة فرقة "أكابيلا مصرية"، وشعر ألقاه فارس قطرية. جاءت الأغنية التي نُشرت عبر منصة يوتيوب مزيجا بصريا وسمعيا يحمل العديد من الرموز، إذ تنفتح الأغنية بمقطع يغنيه الكورال، مستخدمًا الشفرة التي اعتادت النساء الفلسطينيات استخدامها قديمًا لتمويه رسائلهن ليصعب على قوات الاحتلال فهمها، بمقطع يستلهم خدعة إضافة حرف "لام" في مواضع مختارة وسط الكلام مع موسيقى استلهمت اللحن المميز للترويدة الفلسطينية التراثية: شمالي لالي يا هوالي لديرة شمالي لالي يا وريللووو "شمالي يا هوا الديرة شمالي" ع لالي للبواب هولولم تفتح شمالي لالي يا رويللووو "على اللي بوابهم تفتح شمالي" وانا ليليلبعث معليلريح الشمالي لالي يا رويللووو "وأنا الليلة لبعث مع الريح الشمالي" ياصليلار ويدور ليللي على لحبيليلابا يا رويللووو "يوصل ويدور على الحباب يابا" مع لقطات ورقصات تسرد بشكل، بصري تراث أصحاب الأرض الحقيقيين، وتتداخل مع صوت أصالة التي استعانت بلهجتها الشامية التي تقارب اللهجة الفلسطينية، في غناء مقطعها: "ريت المركب اللي أخذه و ما رده، يبلاه بكسره و بنار عقده، ريت المصاري تقلب حديدة، تسفر شبابنا لبلاد بعيدة". وتنتهي الأغنية بوصية شاعرية اللغة بأن ثبت جذورك في التراب فأنت باقٍ هاهنا، الأرض أرضك يا فتى هذه البلاد بلادنا. دمي فلسطيني بنقرات الدبكة التي تهز الأرض، اشتهرت الرقصة الفلسطينية بأنها رقصة أصحاب الأرض، وانتشرت فيديوهاتها عبر غالبية منصات الفيديو، لكثيرين حول العالم يحاولون تقليدها، وانتشرت الرقصة مع أغنية "أنا دمي فلسطيني"، الأغنية التي صارت ظاهرة، تذاع في المظاهرات العالمية، وحتى في حفلات الزفاف في المدن العربية، ورغم أن الأغنية يزيد عمرها على 10 سنوات، فإنها عادت بقوة إلى الساحة العربية والعالمية وفضاءات التواصل الاجتماعي في أعقاب عملية "طوفان الأقصى" كأن الجميع يصدر بيانه الواضح بصوت المغني الفلسطيني محمد عساف، نجم "محبوب العرب" Arab Idol أن "على عهدي على ديني على أرضي تلاقيني. أنا لأهلي أنا أفديهم، أنا دمي فلسطيني فلسطيني فلسطيني". مثلما أعادت عملية "طوفان الأقصى" القضية الفلسطينية إلى محور الأحداث العالمية، داخل الجامعات والمدن الأوروبية، وجعلتها موضوعًا رئيسًا للحديث والنقاشات، أعادت كذلك إحياء الأغنية الفلسطينية ورفعت تراثها الموسيقي إلى سطح الاهتمام والاستماع والترديد متجاوزة حواجز اللغة والجغرافيا لتصبح الأغنية سلاحًا من بين أسلحة المقاومة الثقافية وقوتها الناعمة، جنبًا إلى جنب السينما والأدب وحتى الأكلات الفلسطينية الشهيرة.

"لقد أحرقوا الخبز".. أغان من غزة تصنعها التكنولوجيا وتروي الصمود
"لقد أحرقوا الخبز".. أغان من غزة تصنعها التكنولوجيا وتروي الصمود

الجزيرة

timeمنذ 5 ساعات

  • الجزيرة

"لقد أحرقوا الخبز".. أغان من غزة تصنعها التكنولوجيا وتروي الصمود

في خضم الحرب، تظل الموسيقى لغة قادرة على كشف الألم وتجسيد الصمود، تتجاوز حدود الفن لتصبح فعل مقاومة ورسالة توثّق المأساة. بهذا التصور، اختار الفلسطيني محمد الأطرش أن يبتكر أغنيات عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، لتكون صوتا يروي حكاية شعبه ويصل بها إلى العالم. الأطرش، ابن غزة الذي عاش بين أزقتها منذ 40 عاما، فقد عمله ومصدر رزقه بسبب الحرب، لكنه لم يفقد شغفه بالتكنولوجيا. كأب لثلاثة أطفال، قرر أن يحوّل خساراته إلى طاقة إبداعية، مستخدما الذكاء الاصطناعي في كتابة الكلمات وتلحينها وتوليد الأصوات، إضافة إلى اهتمامه بالرسوم المتحركة، ليطلق أعمالا غنائية حظيت باهتمام واسع لما تحمله من رسائل عن الحرب والإصرار على البقاء. "لقد أحرقوا الخبز" قبل أيام انتشرت أغنيته "لقد أحرقوا الخبز قبل أن نتمكن حتى من لمسه" (They burned the bread before we could even touch it)، رغم أنه لم يطرحها رسميا بعد. ويقول الأطرش في تصريحاته للجزيرة نت إنه أرسلها إلى عدد من أصدقائه المهتمين بالمجال، لكنه فوجئ بنشرها، موضحا أنها ستُطلق قريبا عبر إحدى المنصات الفلسطينية التي اشترت حقوقها. ويضيف أنه تفاجأ بحجم التفاعل مع الأغنية، إذ تلقى ردود فعل مشجعة ومحفزة، معتبرا نفسه لا يزال في بداية الطريق، لكنه يحمل شغفا وأملا كبيرا بأن تتوقف الحرب. ويأمل أن يتمكن يوما من امتلاك منزل ولابتوب ومصدر كهرباء ثابت وإمكانيات أفضل، تتيح له الاستمرار في عمله وإيصال رسالة غزة إلى العالم. تقول كلمات الأغنية: "غزة ليست عنوانا رئيسيا إنها نبضة قلب.. لكل صرخة صامتة لكل طفل جائع لكل حلم مدفون في التراب.. العالم شاهد لكن الصمت هو خيار.. دع هذه الأغنية يتردد صداها حيث غابت العدالة.. هذه ليست النهاية هذه هي الحقيقة". View this post on Instagram A post shared by Ahmad Abu Ghannam (@ahmadabughannam97) إعلان قدّم الأطرش أغنية أخرى بعد استشهاد الصحفي ومراسل الجزيرة أنس الشريف في العاشر من أغسطس/آب الجاري، وأهداها إلى روحه. وكتب عبر حسابه على إنستغرام "كلماتنا وألحاننا ليست سوى محاولة لالتقاط صدى الحقيقة التي نقلتها عدستك وصوتك إلى العالم. لقد حملت الكاميرا كسلاح في وجه الظلم، ونقلت وجع غزة بصدق. هذا العمل إهداء لروحك الحرة، ولكل من جعل من الكلمة والصورة أمانة، ومن الصمت خيانة. رحلت، لكن رسالتك باقية ما بقيت الحقيقة". ويضيف الأطرش في حديثه للجزيرة نت أن فكرة الأغنية ولدت بعد استشهاد أنس الشريف، متأثرا برمزيته كصحفي من غزة صامد في أرضه ومتمسك بمبادئه. ويوضح أنه اختار أن يكتبها باللغة الإنجليزية لسببين؛ الأول كونها لغة عالمية تتيح وصول الرسالة إلى جمهور أوسع، والثاني لأن أدوات الذكاء الاصطناعي تتعامل مع الإنجليزية بكفاءة واحترافية أكبر. View this post on Instagram A post shared by Mohammad El Atrash | صحفي فلسطيني – غزة (@mohammadelatrash) جمع محمد الأطرش بين شغفه بالتصميم والمونتاج وعالم الـ3D والجرافيك، وبين ما أتاحته ثورة الذكاء الاصطناعي، ليكون ذلك الدافع وراء سلسلة من الأغنيات التي بدأ بإنتاجها ونشرها عبر حساباته على فيسبوك وإنستغرام وتيك توك. View this post on Instagram A post shared by Mohammad El Atrash | صحفي فلسطيني – غزة (@mohammadelatrash) ويقول محمد الأطرش "رغم الإبادة والمجاعة، لا بد أن نحافظ على تواصلنا مع العالم، خصوصا في ظل ثورة الذكاء الاصطناعي. بدأت قبل عام تقريبا بأغنية أهديتها في ذكرى رحيل والدي، ثم راحت الأفكار تكبر وتتوسع، وصولا إلى آخر عمل قدمته عن أنس الشريف رحمه الله". ويعترف الأطرش بضعفه في كتابة الكلمات، موضحا: "أحيانا أستعين بالذكاء الاصطناعي لصياغة النصوص، ثم أعدلها لتناسب الغناء". وأضاف أنه فوجئ بحجم التفاعل الذي حصدته أعماله، لاسيما أغنيته الأخيرة التي تصدرت الترند على إنستغرام وتيك توك، محققة مشاهدات ومشاركات لم يكن يتوقعها. وعن الظروف التي يعمل فيها أوضح "لا يوجد فريق يساعدني، أملك فقط اتصال إنترنت ضعيف 2 ميغا أو 4 ميغا في أفضل الأحوال، إضافة إلى هاتف قديم وإمكانات متواضعة جدا". ويتابع "استخدمت الرسوم المتحركة لأنها قادرة على مخاطبة الجميع، ويمكن صياغتها وتحريكها بحرية. في البداية كنت ألجأ إلى مواد مصورة متاحة على الإنترنت، لكن معظمها كان يحمل توقيعات من التقطوها، وهو ما جعل الأمر مزعجا. مع تجربة أغنية أنس الشريف قررت استخدام الرسوم المتحركة، ونجحت الفكرة أكثر وأوصلت الرسالة بشكل أفضل". يعيش محمد الأطرش في غزة منذ 4 عقود، وهو أب لثلاثة أطفال فقد مصدر رزقه مع اندلاع الحرب. آخر عمل له كان عام 2017 في قناة "الكتاب" التابعة للجامعة الإسلامية قبل أن تنهار وتُغلق نتيجة الحصار. على مدى سنوات، ساهم الأطرش في تأسيس عدد من المشاريع الإعلامية، من بينها إذاعة "القرآن التعليمية" التابعة للجامعة الإسلامية، وإذاعة "الإرادة" الموجهة لدعم ذوي الاحتياجات الخاصة، كما عمل في مؤسسات وإذاعات محلية عدة. بدأ مسيرته في المونتاج الصوتي، ثم طور مهاراته ليعمل في مونتاج الفيديو ويتعلم الجرافيك، وصولا إلى تجربته الحالية في التصميم والإنتاج باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.

من الأرقام إلى الحكايات الإنسانية.. رواية "لا بريد إلى غزة" تكشف عزلة المدينة المحاصرة
من الأرقام إلى الحكايات الإنسانية.. رواية "لا بريد إلى غزة" تكشف عزلة المدينة المحاصرة

الجزيرة

timeمنذ 6 ساعات

  • الجزيرة

من الأرقام إلى الحكايات الإنسانية.. رواية "لا بريد إلى غزة" تكشف عزلة المدينة المحاصرة

ينتمي محمد جبعيتي (1993) إلى جيل جديد من الكتاب الفلسطينيين، الجيل الذي يحمل على عاتقه مهمة حمل القضية الفلسطينية ويكتب عن تفاصيل حياة الفلسطينيين بكل تناقضاتها اليومية، ليس كترف، وإنما كضرورة. ساعيا بذلك لفتح نافذة للحلم ومقاومة النسيان، ولمنح صوت لمن أسكتهم الموت. وقد عرف جبعيتي بكتاباته التي تمزج الحس الإنساني بالخيال الجامح، وتستند إلى وعي سياسي وثقافي متين، وذلك بعد عدة إصدارات روائية أبرزها "المهزلة"، "غاسل صحون يقرأ شوبنهاور"، "رجل واحد لأكثر من موت"، "عالم 9″ و"الطاهي الذي التهم قلبه". "لا بريد إلى غزة".. عنوان روايته الصادرة حديثا عن دار الآداب، عنوان يختصر عزلة مدينة محاصرة، تمارس عليها جميع أشكال الظلم الإنساني وأكثرها فظاعة في التاريخ، وغياب أبسط أشكال التواصل الإنساني، فلا رسائل تصل ولا كلمات تستطيع التعبير، وكأن غزة تركت لتواجه مصيرها وحيدة، "محاطة بالأمل والأعداء" كما قال محمود درويش. مما يجعل من الرواية نفسها رسالة تفتح أفقا واسعا حول الحياة والموت والقدر، وحلم النجاة في مكان تغمره الوحشية ويطارده الخراب. في هذه الرواية يروي محمد جبعيتي حكاية شاب غزي مولع برياضة الباركور، يجد نفسه مجبرا على العمل حفارا للقبور مثل والده. ومن خلال هذه المفارقة بين القفز على الأسطح والحفر في الأرض، أراد الكاتب أن يقول "إن الفلسطيني يعلو بالأحلام إلى أن يلامس السماء، لكن واقعه الأليم يشده إلى الأرض،" لتأتي الرواية مزيجا بين الواقعية السحرية والخرافات الشعبية والتراجيديا العائلية، وتعيد بذلك بناء مشهد الحياة الغزية قبل حرب الإبادة: أفراح الناس الصغيرة، قصص الحب المبتورة، الأمل الذي يطل برأسه وسط الركام، والرعب اليومي الذي يفرضه الاحتلال. بهذا المعمار السردي، يكتب محمد عن غزة كمن يرسل، في غياب البريد، رسالة طويلة لا تحتاج طابعا كي تصل. عن رواية "لا بريد إلى غزة"، وعن مسيرته الإبداعية كان للجزيرة نت هذه المقابلة مع محمد جبعيتي: دعنا نبدأ من البدايات، كنت طفلا في عائلة غير قارئة، لكن ذلك ساهم في تشكيل علاقتك الحميمية بالكتب التي اعتبرتها طوق نجاة، مم أنقذتك الكتب تحديدا، وماذا منحتك بالمقابل ككاتب؟ نشأت في بيت لا يقرأ، لكنني كنت محاطا بالطبيعة وبحكايات الناس. لم تنقذني الكتب من الاحتلال أو الحصار، لكنها منحتني لغة أعبر بها عن حزني وأتواصل مع من رحلوا وكأنهم لا يزالون جالسين أمامي. بدأ وعيي يتفتح خلال الانتفاضة الأولى ، ولم أجد أمام الرعب اليومي سوى الكتب التي منحت حياتي معنى. كانت الكتب ملجئي الأول وصوتي في وجه الظلم. أشرت في إحدى مقابلاتك إلى أن دراستك للكمياء الحيوية في إيطاليا علمتك الدقة، كيف انعكس ذلك على أسلوبك في الكتابة الروائية؟ في إيطاليا، حيث درست الكيمياء الحيوية، تعلمت أن التفاصيل تصنع الفارق. خطأ بسيط في المختبر يفسد التجربة ، كما أن كلمة في غير موضعها تخلخل إيقاع النص. منذ ذلك الوقت، صرت أرى الرواية مثل تركيب كيميائي حساس، يحتاج إلى توازن دقيق بين العناصر، وإلى وقت كاف لينضج. إلى جانب الكتابة الروائية، تعمل في حقلي التعليم والصحافة، كيف تنعكس هاتان التجربتان على منظورك الأدبي؟ وهل تعتبر التدريس والكتابة الصحفية امتدادا طبيعيا لمشروعك الإبداعي؟ علمني التعليم كيف أصغي بعمق للحكايات المختبئة خلف وجوه الناس ونظراتهم. فهمت أن الإنسان يحمل في داخله تعقيدات وصمتا وألما لا يظهر دائما بالكلمات. أما الصحافة، فقد دربتني على التقاط المشاهد بسرعة، وتكثيف الأحداث في كلمات واضحة وقوية دون إهدار. التعليم والصحافة ليسا مجرد مهنتين، بل أداتين لفهم الإنسان بأبعاده المختلفة، وهذا الفهم هو الوقود الحقيقي الذي يغذي كتابتي الروائية ويمنحها صدقها. أنت أحد وجوه الجيل الجديد من الكتاب الفلسطينيين، برأيك، ما الذي يميز هذا الجيل عن الأجيال السابقة؟ بينما حملت الأجيال السابقة أعباء الرواية الوطنية الكبرى، ركزنا نحن على التفاصيل الصغيرة. نكتب عن حياة الفلسطيني بكل تناقضاتها اليومية، حيث الحب يتفتح رغم الحصار والقيود. الموت هنا ليس حدثا استثنائيا، بل جزء من الواقع اليومي الذي يتعايش معه الناس. هذا الواقع القاسي لا يمنعنا من التمسك بالحياة، بل يدفعنا للبحث عن أمل جديد رغم كل الصعوبات. في كتاباتنا، نسعى لتصوير التشظي والانكسار الذي يعيشه الفرد الفلسطيني، لكننا أيضا نرسم صورة للحياة التي تستمر رغم مرارة الواقع. تبقى الكتابة نافذتنا للحلم. نكتب لنقاوم النسيان، ونمنح صوتا لمن أسكتهم الموت. لا أرى في الكتابة ترفا، بل ضرورة. أكتب كي لا أتآكل، وكي أبقي الحكايات حية. أكتب لأن الصمت لا يكفي، ولأن اللغة، بكل ما فيها من هشاشة وقوة، هي وسيلتي الوحيدة للنجاة، ولإعادة تشكيل العالم كيف تتعامل مع الذاكرة الفلسطينية كذاكرة سياسية في أعمالك، دون أن يتحول النص إلى خطاب سياسي مباشر؟ لا أرى في الكتابة ترفا، بل ضرورة. أكتب كي لا أتآكل، وكي أبقي الحكايات حية. أكتب لأن الصمت لا يكفي، ولأن اللغة، بكل ما فيها من هشاشة وقوة، هي وسيلتي الوحيدة للنجاة، ولإعادة تشكيل العالم. أريد للقارئ أن يشعر بالسياسة دون أن يقرأ خطابا سياسيا. الذاكرة هنا مثل الملح في الطعام؛ غيابها يفسد المذاق، لكن زيادتها تفسد الطبق. إعلان السخرية في أعمالك تبدو كسلاح لمواجهة الظلم الذي يعيشه الفلسطينيون؛ فهل تراها أداة لتخفيف وطأة المأساة على القارئ، أم وسيلة لتسليط الضوء عليها بعمق واستفزاز أكبر، أم إنك – على رأي كونديرا – تؤمن بأن السخرية من مآسينا هي السبيل للتحرر منها؟ السخرية بالنسبة لي ليست مجرد وسيلة لتخفيف الألم أو استفزازه، بل طريقة لاختبار هشاشة المأساة أمام قدرتنا على الضحك. كما يقول كونديرا، حين نضحك على مصائبنا نحرر أنفسنا منها. السخرية في فلسطين أحيانا هي آخر خطوط الدفاع عن العقل. في روايتك "لا بريد إلى غزة"، الصادرة مؤخرا عن دار الآداب، نتابع شابا مولعا برياضة الباركور، لكنه يجبر على العمل حفارا للقبور مثل والده. ما الذي أردت إبرازه من خلال هذه المفارقة بين القفز فوق الأسطح وحفر الأرض؟ أردت أن أقول إن الفلسطيني يعلو بالأحلام حتى يلامس السماء، لكن واقعه الأليم يشده إلى الأرض، وأحيانا تحتها. الباركور يمثل الحرية القصوى، بينما في حفر القبور ملامسة القدر في أكثر أشكاله حتمية. بين القفز والحفر يعيش البطل، كما يعيش الفلسطيني بين التطلع للمستقبل والانشغال بدفن الحاضر. مواجهة الموت تمنح نوعا من التصالح، لكنها أيضا تترك ندوبا غير مرئية. حين ترى الموت كل يوم، لا تعود تخافه بالطريقة التي يخافه بها الآخرون، كما تدرك أن الحياة هشة، وأن كل لحظة تستحق أن تعاش. الرواية تمنح وجوها وأسماء لأولئك الذين يختزلون في تقارير إعلامية أو عناوين سياسية. أما بالنسبة للقارئ العربي، فإن الرواية تحثه على العودة إلى جذور القضية الفلسطينية، لا بوصفها صراعا بعيدا أو قضية سياسية فقط، بل قضية إنسانية تمس كرامة الإنسان العربي ووجوده ما هو الأثر الذي تأمل أن تتركه هذه الرواية على القارئ العربي والعالمي تجاه الواقع في غزة؟ وما دور الكاتب الفلسطيني في ظل ما يحدث اليوم؟ نقل المعاناة من إطار الأرقام والأخبار العاجلة إلى حكاية إنسانية حية. الرواية تمنح وجوها وأسماء لأولئك الذين يختزلون في تقارير إعلامية أو عناوين سياسية. أما بالنسبة للقارئ العربي، فإن الرواية تحثه على العودة إلى جذور القضية الفلسطينية، لا بوصفها صراعا بعيدا أو قضية سياسية فقط، بل قضية إنسانية تمس كرامة الإنسان العربي ووجوده. أما القارئ العالمي، فالرواية تخاطب ضميره، وتدفعه لإعادة النظر في الرواية الرسمية التي طالما هيمنت على وسائل الإعلام الدولية. وفي هذا السياق، يبرز دور الكاتب الفلسطيني بوصفه شاهدا ومؤرخا وناقلا للحقيقة، ولكن ليس فقط من موقع التوثيق، بل من موقع إعادة تشكيل الوعي والذاكرة الجمعية. الكلمة، رغم تواضعها أمام الطائرات والدبابات، إلا أنها تملك القدرة على أن تخلخل الصمت، وتوقظ الضمير، وتحفظ الذاكرة من النسيان.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store