
إشكالية الاستقرار والتحلل في العالم العربي!
حين تسقط السلطة في كثير من الدول العربية، تسقط معها الدولة، وكأن الكيان كله كان معلقًا على رأس السلطة لا على بنيان راسخ. فما الذي بنيناه فعلاً: دولة أم سلطة؟
لقد أظهرت التجارب العربية أن الفرق بين بناء السلطة وبناء الدولة ليس مجرد مسألة نظرية، بل هو الفرق بين استقرار الوطن وفوضى انحلاله
الفرق المفاهيمي بين الدولة والسلطة
بناء الدولة (State-Building): هو عملية تأسيس مؤسسات سياسية مستقرة، قانونية، تعمل على تنظيم العلاقات بين الدولة والمجتمع، مبنية على مبدأ المواطنة وسيادة القانون.
بناء السلطة: منظومة حكم تتركز حول أفراد أو عصبيات معينة، حيث تصبح مؤسسات الدولة أدوات لتحقيق مصالح هذه السلطة الشخصية أو الحزبية.
الفارق الجوهري هو أن الدولة تهدف إلى استمرارية النظام السياسي بغض النظر عن الأشخاص، بينما السلطة تتركز على قوة الأفراد ونفوذهم.
هيمنة منطق السلطة في التجربة العربية
في العراق، وليبيا، وسوريا، واليمن، تحولت مؤسسات الدولة إلى أدوات في يد السلطة أو الجماعات المتحكمة، ما جعل سقوط النظام يعني انهيار الدولة.
الأجهزة الأمنية، والجيش، والقضاء، وحتى التعليم، مسائل كانت مرتبطة برأس السلطة، فبمجرد سقوط النظام، انهارت هذه المؤسسات وحدث فراغ أدى إلى الفوضى.
نماذج مضادة وتجارب ناجحة
تونس: رغم هشاشة بنيتها السياسية، حافظت على حد أدنى من مؤسسات الدولة بعد الثورة، مما ساعد على صمود الدولة نسبيًّا.
تركيا: مرت بعدة انقلابات عسكرية، لكنها حافظت على مؤسسات مستقلة نسبياً، ما مكن الدولة من الصمود.
إندونيسيا: بعد نهاية نظام سوهارتو، استمرت مؤسسات الدولة المركزية، مما ساعد على الوحدة الوطنية واستقرار الحكم.
لم تكن سوريا دولة مؤسسات بقدر ما كانت نظامًا أمنيًّا صلبًا يدور في فلك رأس السلطة. حين هرب رأس السلطة إلى موسكو في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، انتهت هذه الدولة وذابت كما يذوب الملح في الماء
شروط الانتقال من منطق السلطة إلى منطق الدولة
إصلاح مؤسسات الدولة لتصبح عامة لا شخصية.
إعادة صياغة العقد الاجتماعي على أساس المواطنة.
الفصل الحقيقي بين السلطات.
بناء ثقافة سياسية جديدة تحترم المؤسسات.
بناء هوية وطنية جامعة تتجاوز هويات ما قبل الدولة وما فوق الدولة، لأن غياب الدولة الوطنية يجعل الناس يلجؤون إلى هذه الهويات، وهذا يعمق الانقسامات.
التخلص من ثقافة التقديس للأشخاص أو الحكومات التي تأتي لخدمة الشعب وبناء الدولة، لا لتجثم على صدره وتبني إمبراطوريات خاصة بها، أو تحوّل الدولة إلى مزرعة للحكومة، كما فعل آل الأسد الذين أطلقوا شعار "الأسد أو نحرق البلد"! وفعلاً أحرقوا البلد من أجل شخص.
سوريا: حين تذوب الدولة كما يذوب الملح في الماء
لم تكن سوريا دولة مؤسسات بقدر ما كانت نظامًا أمنيًّا صلبًا يدور في فلك رأس السلطة. حين هرب رأس السلطة إلى موسكو في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، انتهت هذه الدولة وذابت كما يذوب الملح في الماء.
يجب تعزيز انتماء الشعوب إلى الدولة كمؤسسات باقية، لا كحكومات زائلة؛ فـ"من يحكم اليوم قد يرحل غدًا، لكن الدولة التي تُبنى على قواعد راسخة، لا ترحل
لقد أظهرت التجارب العربية أن الفرق بين بناء السلطة وبناء الدولة ليس مجرد مسألة نظرية، بل هو الفرق بين استقرار الوطن وفوضى انحلاله. حين تُختزل الدولة في سلطة فرد أو عائلة أو حزب، تنهار الدولة بانهيارهم، وتنتشر الفوضى والاقتتال.
لذلك، لا بد من إعادة التفكير الجاد في مفهوم الدولة في العالم العربي، والتركيز على بناء مؤسسات قوية وقانونية تستند إلى عقد اجتماعي جديد، يرتكز على المواطنة والهوية الوطنية الجامعة.
ويجب تعزيز انتماء الشعوب إلى الدولة كمؤسسات باقية، لا كحكومات زائلة؛ فـ"من يحكم اليوم قد يرحل غدًا، لكن الدولة التي تُبنى على قواعد راسخة، لا ترحل.. إنه الفرق بين زوال الحاكم وزوال الوطن".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 12 ساعات
- الجزيرة
بين تقييد الحريات ووقف التخريب.. قانون جديد لمواجهة الشغب في ملاعب تونس
تونس – فجّر مشروع قانون جديد حول مكافحة العنف والشغب بالملاعب الرياضية في تونس جدلا واسعا في الأوساط الرياضية والحقوقية بعد عرضه الأسبوع الماضي على لجنة خاصة بالبرلمان قبل المصادقة عليه ودخوله حيز التنفيذ بداية من الموسم الرياضي 2025 ـ 2026. وأثار مشروع القانون الجديد الذي تقدمت به لجنة التربية والتكوين المهني والبحث العلمي والشباب والرياضة بمجلس نواب الشعب (البرلمان) مواقف متباينة بين من اعتبره مكبلا للحريات ولحقوق الجماهير الرياضية داخل الملاعب وبين أطراف ذهبت إلى كونه خطوة مهمة على طريق التقليص في منسوب العنف والتخريب في ملاعب كرة القدم بوجه خاص. وينص مشروع القانون الذي ينتظر أن يتم عرضه على البرلمان للتصويت الأسبوع المقبل على تشديد العقوبات على مرتكبي العنف ومثيري الشغب على المدرجات أو في الفضاءات الرياضية لا سيما ملاعب كرة القدم، والوصول بسلم العقوبات حتى السجن 5 سنوات ضد كل من تثبت إدانته في أعمال شغب داخل الملاعب. تقييد للحريات أم حفاظ على المنشآت؟ وأثار مشروع القانون ردود أفعال عنيفة في أوساط جماهير الأندية التي أبدت قلقها من أن تفتح حزمة الإجراءات الجديدة الباب نحو مزيد من تقييد الحريات للجماهير الرياضية وحرمانها من الدخول إلى الملاعب. وتشهد الأوساط الرياضية في تونس في السنوات الأخيرة أرقاما مفزعة لظاهرة العنف في الملاعب، وتأتي مباريات الدوري التونسي لكرة القدم ومشاركات الأندية في المسابقات الأفريقية في المرتبة الأولى كأكثر المنافسات التي تسجل أعمال شغب وفوضى على المدرجات، تليها مسابقة دوري كرة السلة ثم الكرة الطائرة. ورغم أن السلطات التونسية فرضت قيودا صارمة على حضور المشجعين في الملاعب الرياضية وحددت عدد الجماهير بنحو 50% من إجمالي طاقة استيعاب المدرجات، فإن نسق أعمال الشغب شهد تزايدا في السنوات الأخيرة خاصة في نهاية الموسم. تأتي حزمة القوانين الجديدة بهدف مكافحة ظاهرة العنف في الملاعب عبر تشديد أساليب الردع والعقوبات المستوجبة على الأندية التي يقع مشجعوها في أعمال شغب، لكنها تنطوي على تقييد لحريات جماهير كرة القدم وسائر الألعاب، وهو ما أفرز انتقادات لاذعة تجاه القانون الذي كان يقتصر على عقوبات جماعية للنوادي بغرامات مالية أو باللعب دون حضور الجمهور. ويقوم القانون الجديد الذي هو في الأصل تعديل للقوانين السابقة ليفرض عقوبة بالسجن تتراوح بين 6 أشهر و5 سنوات لكل من يرتكب أعمال عنف داخل الملاعب أو في محيطها، بجانب غرامة مالية لا تقل عن 5 آلاف دينار لكل من يُلقي مقذوفات أو يستخدم الشماريخ. وبينما أثار مشروع القانون الجديد انتقادات لاذعة من قِبل روابط مشجعي الأندية، يرى الاتحاد التونسي لكرة القدم أن مكافحة ظواهر العنف في الملاعب تحتاج إلى مقاربة شاملة تأخذ بعين الاعتبار حق المشجعين في الدخول إلى الفضاءات الرياضية وتشجيع أنديتهم مع وجوب الحفاظ على المنشآت والتجهيزات وتجنب أعمال الشغب. وقال وسام اللطيف عضو اتحاد الكرة التونسي للجزيرة نت: "يحتاج القانون الجديد إلى المصادقة عليه قبل بدء العمل به رسميا، لكن اتحاد الكرة ينضمّ إلى كل مبادرة تشريعية تهدف إلى القضاء على العنف وضمان خوض المنافسات الرياضية في إطار يضمن سلامة اللاعبين والمسؤولين والحكام والمشجعين، ويحفظ أيضا التجهيزات الرياضية من التخريب والإضرار بها". وتابع المتحدث أن "الاتحاد التونسي لكرة القدم سيقدم من جهته مشروعا ضمن المجلة القانونية لكرة القدم قبل بدء الموسم الجديد وسيتضمن فصولا تهدف إلى التصدي للعنف في الملاعب في إطار منظم يرتكز على تقليص منسوب الفوضى والشغب على المدرجات وداخل الملاعب مع ضمان حق الجماهير"، وفق قوله. نزيف متواصل وأضرار جسيمة ولم تنجح الإجراءات القانونية الردعية وحتى التحفيز المادي الذي أقره اتحاد كرة القدم ورابطة الدوري التونسي في السنوات الأخيرة لفائدة الأندية التي لا تقع جماهيرها في ارتكاب أعمال عنف، فإن نزيف الأحداث استمر بنسق متصاعد في الموسم الماضي ما وضع رابطة الدوري أمام حتمية البحث عن حلول جديدة قبل بداية الموسم الجديد. ومنحت رابطة الدوري في موسم 2022 ـ 2023 جائزة مالية أسبوعية يتم منحها للفريق الذي يحجم مشجعوه عن إتيان أعمال عنف على المدرجات، لكن ذلك لم يغير الوضع مما دفع بالرابطة إلى التخلي عن ذلك الإجراء. وقال رئيس رابطة الدوري التونسي، بوصيري بوجلال، للجزيرة نت إن ظاهرة العنف في الملاعب باتت بالفعل هاجس الهياكل الرياضية دون استثناء، مضيفا أن الرابطة واتحاد كرة القدم سيعملان على تطبيق القانون مع الالتزام بترسيخ العدل بين الأندية لتفادي الانفلات والغضب في أوساط الجماهير وعلى المدرجات. وبخصوص مشروع القانون الجديد الذي ينص على السجن حتى 5 سنوات في حال ارتكاب الأفراد لأعمال عنف خطيرة، قال بوجلال إن "رابطة الدوري تضع في المقام الأول حسن سير المنافسات وتفادي أية أعمال شغب وبالتالي فهي تدعم المبادرات القانونية التي يقدمها البرلمان للتصدي للعنف والإضرار بالتجهيزات والمنشآت الرياضية، ولكنها تحرص في الوقت ذاته على ضمان العدل بين الأندية واحترام حق الجماهير في الدخول إلى الملاعب". وسجل الموسم الماضي أحداث عنف وشغب على المدرجات في ما يقارب 20 مباراة أسفرت أغلبها عن أضرار مادية فادحة في تجهيزات الملاعب وإصابات في صفوف رجال الشرطة والمشجعين جراء حوادث الاشتباكات والمشاحنات بين الأمن والجماهير. ويبدأ الموسم الكروي الجديد في تونس في 3 أغسطس/آب المقبل بخوض نهائي كأس السوبر، فيما تنطلق منافسات دوري المحترفين في التاسع من الشهر ذاته.


الجزيرة
منذ 13 ساعات
- الجزيرة
خبير اقتصادي: مصر ثاني أكبر مدين في العالم وصندوق النقد يفرض شروطا مذلة
حذر الخبير الاقتصادي الدولي الدكتور محمد فنيش من خطورة إدمان الدول العربية على الاقتراض من صندوق النقد الدولي، مشيراً إلى أن مصر باتت ثاني أكبر مدين في العالم بعد الأرجنتين. كما دعا فنيش إلى إعادة النظر في هيكلة المؤسسات المالية الدولية التي تهيمن عليها القوى الغربية منذ عقود. وأكد أن 40 عاماً من الحكم العسكري في ليبيا شهدت أخطاء كبيرة ونهاية مأساوية، مقارناً ذلك بالعهد الملكي الذي وصفه بأنه لم تحدث فيه المظالم التي شهدتها الفترة اللاحقة. واعتبر الخبير الدولي أن إدريس (ملك ليبيا) كان رجلاً حكيماً يتمتع بنظرة مستقبلية، حيث حذر شعبه من مشاكل الرخاء عند تصدير أول شحنة نفط ليبية عام 1961. يُذكر أن فنيش ولد في طرابلس عام 1936، وشغل منصب المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي بين عامي 1978 و1992. وتنقل في مسيرته التعليمية من ليبيا إلى القاهرة حيث حصل على البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة القاهرة عام 1960، ثم سافر إلى الولايات المتحدة حيث نال الماجستير في الاقتصاد عام 1968 والدكتوراه من جامعة جنوب كاليفورنيا عام 1972. ولفت فنيش -في حديثه لحلقة (2025/20) من برنامج "المقابلة"- إلى تجربته الثرية مع المفكر الجزائري مالك بن نبي في القاهرة خلال الخمسينيات، حيث سكن معه لأكثر من سنتين وتأثر بأفكاره حول الحضارة والتنمية. ووصف الخبير الاقتصادي الدولي بن نبي بأنه شخصية مركبة تجمع بين روحانية الصوفي وحماس الداعية ودقة المهندس، مشيراً إلى أن حياته كانت مكرسة للإجابة عن سؤال: لماذا تقدم الآخرون وتأخر المسلمون. شروط مذلة وانتقد الخبير الاقتصادي شروط صندوق النقد التي يصفها بالمذلة، موضحاً أن هذه المؤسسات تطالب الدول المقترضة بتخفيض الإنفاق ورفع أسعار الفائدة وإلغاء الدعم، مما يضر بالاقتصادات المحلية. واستشهد بتجربة ماليزيا التي رفضت الاقتراض من هذا الصندوق أثناء الأزمة الآسيوية وكانت أول دولة تخرج من الأزمة. وأوضح فنيش أن الهيمنة الغربية على المؤسسات المالية الدولية تتجسد في كون رئيس البنك الدولي أميركياً ورئيس صندوق النقد أوروبياً، بينما تملك الولايات المتحدة حق النقض على جميع القرارات المهمة بحكم حصتها التصويتية البالغة 18%، واعتبر أن هذا النظام لم يتغير كثيراً منذ اتفاقية بريتون وودز بالأربعينيات. وتطرق الخبير الاقتصادي إلى الوضع الحالي في ليبيا، محذراً من تزايد تدخل القوى الخارجية كلما تأخر الليبيون في حل مشاكلهم. وأشار إلى أن ليبيا تملك كل المقومات للنجاح من موارد نفطية وموقع إستراتيجي وتجانس سكاني، لكنها تعاني من هجرة العقول حيث يوجد ألف طبيب ليبي في ألمانيا وحدها. وحذر من خطورة الحروب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، معتبراً أنها ليست في مصلحة أميركا ولا العالم، واعتبر أن السياسات الحمائية التي تتبناها إدارة الرئيس دونالد ترامب تتناقض مع دور أميركا كقائد للنظام الاقتصادي العالمي. وفي السياق الفلسطيني، انتقد فنيش صمت العالم العربي والإسلامي تجاه ما يحدث في فلسطين، مشيراً إلى أن مليارين من البشر و60 دولة إسلامية تقف صامتة أمام هذه الإبادة، في وقت يتظاهر الغربيون في شوارع أوروبا وأميركا. ودعا الخبير الاقتصادي الدولي إلى ضرورة إظهار الصوت العربي والإسلامي، حتى لو لم تكن المشاركة بالسلاح ممكنة.


الجزيرة
منذ 18 ساعات
- الجزيرة
تصحر إعلامي بتونس.. القضايا الوطنية تحل محلها برامج "بيع الأواني"
تونس- بعد مرور نحو 4 سنوات على إعلان الرئيس التونسي قيس سعيد إجراءاته الاستثنائية يوم 25 يوليو/تموز 2021، يعيش المشهد الإعلامي في تونس أزمة خانقة تتجاوز حدود ملاحقة الصحفيين واحتجازهم، لتشمل جوهر المحتوى الإعلامي نفسه، الذي انحسر بشكل ملحوظ في برامج سطحية وهزيلة، غابت عنها المعارضة ومواضيع النقاش الجاد. ويؤكد مراقبون أن المشهد الإعلامي يشهد "تصحرا" حقيقيا في المحتوى، وهيمنة شبه كاملة للبرامج التلفزيونية التي تحولت إلى منصات لبيع الأدوات المنزلية وآلات الطبخ وغيرها، محتلة ما يفوق نصف ساعات البث اليومي. ويضيف المراقبون أن هذا النمط من البرامج، الذي يركز على الإثارة والتفاهة، جاء على حساب القضايا الوطنية الجوهرية، وهو ما انعكس سلبا على جودة العمل الصحفي والإعلامي في البلاد. وطالما نفى الرئيس سعيد -في لقاءات سابقة مع عدد من الوزراء- تقييد حرية الصحافة، مؤكدا أن حرية التعبير مضمونة وأنه لا تراجع عنها، وذلك ردا على الانتقادات الموجهة له بسبب اعتقال عدد من الأشخاص، من بينهم صحفيون ومعلقون في برامج تلفزيونية وإذاعية بموجب المرسوم عدد 54. ويؤكد أنصار سعيد أن حرية التعبير مضمونة في البلاد وأن عديدا من أصحاب الأقلام المعارضة للرئيس ينشرون مقالات ناقدة للرئيس من دون أن تتم ملاحقتهم، مؤكدين أن توقيف عدد من الأشخاص -من بينهم صحفيون- بموجب المرسوم عدد 54 أو المجلة الجزائية يأتي نتيجة ارتكابهم جرائم تشويه وجرائم مالية. خطوط حمراء ويرى الصحفي زياد الهاني أن هذا "التصحر الإعلامي" ليس معزولا عن الإجراءات التي اتخذها الرئيس سعيد، والتي شكلت -وفق قوله- بداية لمرحلة استبدادية حدت من الحقوق والحريات، وعلى رأسها حرية التعبير. وفي حديثه للجزيرة نت، أوضح الهاني أن "الانقلاب على الدستور مهد الطريق نحو نظام يقيد حق النفاذ إلى المعلومة، ويكبل الحريات الصحفية"، مضيفا أن "ملاحقة الصحفيين بالقوانين الزجرية وغياب استقلالية القضاء خلقت مناخا من الخوف والرقابة الذاتية، مما جعل الممارسة الصحفية محفوفة بالمخاطر". ويشير الصحفي إلى أن تغييب المعارضة، وإغلاق المجال أمام النقد والنقاش السياسي، أفرغا الإعلام من مضمونه المهني، وأخضعاه لخطوط حمراء تفرضها السلطة. ويضيف أن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها تونس أثرت بدورها على تمويل المؤسسات الإعلامية، مما دفع عددا من القنوات إلى اعتماد برامج تجارية سهلة لجذب المعلنين، حتى وإن كان ذلك على حساب المضمون الإعلامي. ويجمع مراقبون على أن الأزمة الاقتصادية الخانقة دفعت وسائل إعلام عدة إلى البحث عن مصادر بديلة للدخل، فاختارت تقديم محتوى تسويقي وإعلاني، يسهل جلب التمويل ويحقق نسب مشاهدة عالية، لكنه يفتقر إلى القيمة الصحفية. ومنذ 25 يوليو/تموز 2021، صدرت عدة مراسيم رئاسية أثارت جدلا واسعا، أبرزها المرسوم عدد 54، الذي اعتبره صحفيون وحقوقيون "سيفا مسلطا" على حرية التعبير. وقد دانت منظمات حقوقية دولية هذه الخطوات، في حين سجلت البلاد توقيف عدد من الصحفيين والنشطاء البارزين، من بينهم مراد الزغيدي وشذى الحاج مبارك، في قضايا عدها كثيرون متصلة بالتضييق على حرية الرأي والتعبير. واقع الإعلام في السياق ذاته، يرى الصحفي عبد السلام الزبيدي أن الإعلام التونسي لا يمكن فصله عن الإطار السياسي العام. ويقول الزبيدي للجزيرة نت إن "الإعلام صناعة، لكنه في الأصل جزء لا يتجزأ من السياق السياسي"، مضيفا أن طبيعة الواقع الإعلامي اليوم تعكس تماما الوضع الذي أعقب إجراءات 25 يوليو/تموز. ويضيف الزبيدي "من يعرف الرئيس قيس سعيد يدرك أنه لا يؤمن بالوسائط، وفي مقدمتها المؤسسات الإعلامية". ويشير إلى أن الإعلام الذي نشأ بعد الثورة عام 2011، وجد نفسه في واقع لا يعترف به رأس السلطة، في حين انخرط جزء منه -نكاية في النظام السابق- في دعم منظومة جديدة لا تؤمن بالديمقراطية ولا بحرية التعبير. ويقر الزبيدي بأن الإعلام قبل إجراءات سعيد لم يكن مثاليا، وكان يعاني الفساد وغياب المهنية في بعض مكوناته، لكنه كان يتمتع بهامش من الحرية. أما اليوم، فهو يعيش حالة من الخنق التام وغياب شبه كلي للمساحات الحرة. ويقسم الزبيدي واقع الإعلام في تونس إلى 3 مسارات: الأول: إعلام يدور في فلك السلطة، ويتبنى خطابها ويشمل الإعلام العمومي وبعض المنصات الخاصة التي تحولت إلى أبواق دعاية. الثاني: إعلام مقاوم يسعى للحفاظ على الحد الأدنى من الحرية عبر صحافة التحقيق والاستقصاء. الثالث: إعلام آيل إلى الزوال، يعاني من أزمات تمويل مزمنة، ويعيش على الفتات الإعلاني وبرامج تسويقية مثل "بيع الأواني". انحدار مستمر وتؤكد تقارير محلية ودولية تواصل التراجع في مؤشرات حرية التعبير في تونس خلال السنوات الأخيرة. فقد كشفت منظمة "مراسلون بلا حدود" عن تراجع تونس 11 مركزا في مؤشر حرية الصحافة لعام 2025، مشيرة إلى تصاعد الخطاب العدائي تجاه الصحفيين، وتكرار الملاحقات القضائية بحقهم، مما أدى إلى تضييق مساحات النقاش الحر، وتنامي الرقابة الذاتية داخل غرف الأخبار. وفي مناسبات سابقة، نظم الصحفيون في تونس احتجاجات ووقفات احتجاجية للمطالبة بوقف الملاحقات والاعتقالات التعسفية، مؤكدين أن الدفاع عن حرية الصحافة لا يندرج فقط ضمن المطالب المهنية، بل هو أحد أعمدة النظام الديمقراطي، وشرط أساسي لتحقيق العدالة و الشفافية في إدارة الشأن العام.