
بين تقييد الحريات ووقف التخريب.. قانون جديد لمواجهة الشغب في ملاعب تونس
وأثار مشروع القانون الجديد الذي تقدمت به لجنة التربية والتكوين المهني والبحث العلمي والشباب والرياضة بمجلس نواب الشعب (البرلمان) مواقف متباينة بين من اعتبره مكبلا للحريات ولحقوق الجماهير الرياضية داخل الملاعب وبين أطراف ذهبت إلى كونه خطوة مهمة على طريق التقليص في منسوب العنف والتخريب في ملاعب كرة القدم بوجه خاص.
وينص مشروع القانون الذي ينتظر أن يتم عرضه على البرلمان للتصويت الأسبوع المقبل على تشديد العقوبات على مرتكبي العنف ومثيري الشغب على المدرجات أو في الفضاءات الرياضية لا سيما ملاعب كرة القدم، والوصول بسلم العقوبات حتى السجن 5 سنوات ضد كل من تثبت إدانته في أعمال شغب داخل الملاعب.
تقييد للحريات أم حفاظ على المنشآت؟
وأثار مشروع القانون ردود أفعال عنيفة في أوساط جماهير الأندية التي أبدت قلقها من أن تفتح حزمة الإجراءات الجديدة الباب نحو مزيد من تقييد الحريات للجماهير الرياضية وحرمانها من الدخول إلى الملاعب.
وتشهد الأوساط الرياضية في تونس في السنوات الأخيرة أرقاما مفزعة لظاهرة العنف في الملاعب، وتأتي مباريات الدوري التونسي لكرة القدم ومشاركات الأندية في المسابقات الأفريقية في المرتبة الأولى كأكثر المنافسات التي تسجل أعمال شغب وفوضى على المدرجات، تليها مسابقة دوري كرة السلة ثم الكرة الطائرة.
ورغم أن السلطات التونسية فرضت قيودا صارمة على حضور المشجعين في الملاعب الرياضية وحددت عدد الجماهير بنحو 50% من إجمالي طاقة استيعاب المدرجات، فإن نسق أعمال الشغب شهد تزايدا في السنوات الأخيرة خاصة في نهاية الموسم.
تأتي حزمة القوانين الجديدة بهدف مكافحة ظاهرة العنف في الملاعب عبر تشديد أساليب الردع والعقوبات المستوجبة على الأندية التي يقع مشجعوها في أعمال شغب، لكنها تنطوي على تقييد لحريات جماهير كرة القدم وسائر الألعاب، وهو ما أفرز انتقادات لاذعة تجاه القانون الذي كان يقتصر على عقوبات جماعية للنوادي بغرامات مالية أو باللعب دون حضور الجمهور.
ويقوم القانون الجديد الذي هو في الأصل تعديل للقوانين السابقة ليفرض عقوبة بالسجن تتراوح بين 6 أشهر و5 سنوات لكل من يرتكب أعمال عنف داخل الملاعب أو في محيطها، بجانب غرامة مالية لا تقل عن 5 آلاف دينار لكل من يُلقي مقذوفات أو يستخدم الشماريخ.
وبينما أثار مشروع القانون الجديد انتقادات لاذعة من قِبل روابط مشجعي الأندية، يرى الاتحاد التونسي لكرة القدم أن مكافحة ظواهر العنف في الملاعب تحتاج إلى مقاربة شاملة تأخذ بعين الاعتبار حق المشجعين في الدخول إلى الفضاءات الرياضية وتشجيع أنديتهم مع وجوب الحفاظ على المنشآت والتجهيزات وتجنب أعمال الشغب.
وقال وسام اللطيف عضو اتحاد الكرة التونسي للجزيرة نت: "يحتاج القانون الجديد إلى المصادقة عليه قبل بدء العمل به رسميا، لكن اتحاد الكرة ينضمّ إلى كل مبادرة تشريعية تهدف إلى القضاء على العنف وضمان خوض المنافسات الرياضية في إطار يضمن سلامة اللاعبين والمسؤولين والحكام والمشجعين، ويحفظ أيضا التجهيزات الرياضية من التخريب والإضرار بها".
وتابع المتحدث أن "الاتحاد التونسي لكرة القدم سيقدم من جهته مشروعا ضمن المجلة القانونية لكرة القدم قبل بدء الموسم الجديد وسيتضمن فصولا تهدف إلى التصدي للعنف في الملاعب في إطار منظم يرتكز على تقليص منسوب الفوضى والشغب على المدرجات وداخل الملاعب مع ضمان حق الجماهير"، وفق قوله.
نزيف متواصل وأضرار جسيمة
ولم تنجح الإجراءات القانونية الردعية وحتى التحفيز المادي الذي أقره اتحاد كرة القدم ورابطة الدوري التونسي في السنوات الأخيرة لفائدة الأندية التي لا تقع جماهيرها في ارتكاب أعمال عنف، فإن نزيف الأحداث استمر بنسق متصاعد في الموسم الماضي ما وضع رابطة الدوري أمام حتمية البحث عن حلول جديدة قبل بداية الموسم الجديد.
ومنحت رابطة الدوري في موسم 2022 ـ 2023 جائزة مالية أسبوعية يتم منحها للفريق الذي يحجم مشجعوه عن إتيان أعمال عنف على المدرجات، لكن ذلك لم يغير الوضع مما دفع بالرابطة إلى التخلي عن ذلك الإجراء.
وقال رئيس رابطة الدوري التونسي، بوصيري بوجلال، للجزيرة نت إن ظاهرة العنف في الملاعب باتت بالفعل هاجس الهياكل الرياضية دون استثناء، مضيفا أن الرابطة واتحاد كرة القدم سيعملان على تطبيق القانون مع الالتزام بترسيخ العدل بين الأندية لتفادي الانفلات والغضب في أوساط الجماهير وعلى المدرجات.
وبخصوص مشروع القانون الجديد الذي ينص على السجن حتى 5 سنوات في حال ارتكاب الأفراد لأعمال عنف خطيرة، قال بوجلال إن "رابطة الدوري تضع في المقام الأول حسن سير المنافسات وتفادي أية أعمال شغب وبالتالي فهي تدعم المبادرات القانونية التي يقدمها البرلمان للتصدي للعنف والإضرار بالتجهيزات والمنشآت الرياضية، ولكنها تحرص في الوقت ذاته على ضمان العدل بين الأندية واحترام حق الجماهير في الدخول إلى الملاعب".
وسجل الموسم الماضي أحداث عنف وشغب على المدرجات في ما يقارب 20 مباراة أسفرت أغلبها عن أضرار مادية فادحة في تجهيزات الملاعب وإصابات في صفوف رجال الشرطة والمشجعين جراء حوادث الاشتباكات والمشاحنات بين الأمن والجماهير.
ويبدأ الموسم الكروي الجديد في تونس في 3 أغسطس/آب المقبل بخوض نهائي كأس السوبر، فيما تنطلق منافسات دوري المحترفين في التاسع من الشهر ذاته.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 8 ساعات
- الجزيرة
في الذكرى الرابعة لإجراءات سعيّد الاستثنائية.. هل تحولت تونس لسجن كبير؟
تونس- يُوافق غدا الجمعة الذكرى الرابعة للإجراءات الاستثنائية التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيّد. وعلى امتداد كل هذه السنوات، عرف المشهد السياسي تحولات عميقة، يعتبرها أنصار الرئيس تصحيحا لمسار الثورة، وترى المعارضة أنها مرحلة "صفحة سوداء" في تاريخ البلاد. وبموجب تلك التدابير الاستثنائية قبل 4 سنوات، قام سُعيد بحل البرلمان ، وعزل حكومة هشام المشيشي، وحل المجلس الأعلى للقضاء وعددا آخر من المؤسسات الدستورية كالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. وأصدر سعيد المرسوم 117، ليكون دستورا مؤقتا حكم من خلاله البلاد بصلاحيات رئاسية واسعة غير مسبوقة، وقام بعزل عشرات القضاة ورفض إرجاعهم لعملهم رغم قرار المحكمة الإدارية. كما قام بصياغة دستور بنفسه في 25 يوليو/تموز 2022، وغير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، يتمتع فيه بصلاحيات مطلقة، ورغم أنه عرضه على الاستفتاء الشعبي لكن لم تشارك فيه إلا نسبة قليلة من الناخبين. ونهاية سنة 2022، دعا سعيد لانتخابات تشريعية لم تشارك فيها إلا نسبة قليلة أيضا، وقاطعتها أحزاب المعارضة، ليتم تنصيب برلمان موال له ذي مهمة وظيفية، ولا يتمتع بأي صلاحيات قوية أمام الرئيس. وفي فبراير/شباط 2023 قامت السلطات التونسية بحملة أمنية واسعة ضد عشرات المعارضين الذين اعتقلوا وزج بهم في السجون، ثم حوكموا ابتدائيا بتهمة التآمر على أمن الدولة بموجب قانون الإرهاب، وحكم عليهم بأحكام قاسية. يرى أنصار الرئيس أن الإجراءات الاستثنائية التي أعلنها في يوليو/تموز 2021 مثّلت تصحيحا ضروريا لمسار الثورة، بعد ما اعتبروه عشرية من الفوضى والتجاذب السياسي وتفشي الفساد في الفترة ما بين عامي 2011 و2021، كما يعتبرون أن محاكمة المعارضين تتم وفق القانون على جرائم إرهابية ومالية حقيقية. ويؤكد مؤيدوه أن الرئيس لا يزال يحظى بثقة شريحة واسعة من التونسيين الذين يرونه رمزًا لنظافة اليد والتعفف، في وقت يتهمون فيه ما يُعرف بالإدارة العميقة بمحاولات متواصلة لتعطيل مساره الإصلاحي وإفشال مشروعه السياسي، سواء من داخل أجهزة الدولة أو عبر حملات التشويه الإعلامي والمعارضة السياسية. ويرى أنصار الرئيس أنه يسعى إلى ترسيخ أسس دولة اجتماعية عادلة، تحمي الفئات الهشّة وتقطع مع مظاهر الاستغلال والتمييز، ويستشهدون بجملة من التشريعات التي يصفونها بـ "التاريخية" على غرار القانون المتعلق بمنع المتاجرة باليد العاملة، والمبادرات القانونية الرامية إلى تحسين وضعية العاملات الفلاحيات وضمان حقوقهن، مؤكدين أن هذه الخطوات تعبّر عن توجّه جديد يجعل من العدالة الاجتماعية جوهر المشروع السياسي لسعيّد. ملاحقات قضائية وفي المقابل يؤكد معارضون بارزون أن تونس تحولت إلى "سجن كبير" خلال فترة حكم سعيّد، بعد إيداع عشرات المعارضين والنشطاء السجون، من بينهم زعيم حركة النهضة ورئيس البرلمان المحلول راشد الغنوشي (84 عاما) المعتقل منذ أكثر من عامين في قضايا يصفها خصوم سعيّد بأنها سياسية بامتياز. كما طالت حملة التوقيفات والسجون عددا من أمناء الأحزاب، من بينهم الأمين العام ل لحزب الجمهوري عصام الشابي، والأمين العام السابق لحزب التيار الديمقراطي غازي الشواشي، والأمين العام لحزب الاتحاد الشعبي الجمهوري لطفي المرايحي، إلى جانب قيادات بارزة من جبهة الخلاص المعارضة. كما امتدت الإجراءات لتشمل صحفيين ونقابيين ونشطاء المجتمع المدني، من خلال استخدام المرسوم رقم 54 الذي يعتبره ناشطون سيفا مصلتا على رقاب المنتقدين، إلى جانب قوانين مكافحة الإرهاب والمجلة الجزائية وقانون الاتصالات، ويصفه مراقبون بحملة ممنهجة للتضييق على الحريات. ومؤخرا، أصدر القضاء -المتهم بالتبعية لسلطة الرئيس- أحكاما سجنية قاسية في حق عشرات المتهمين في قضايا تتعلق بالتآمر على أمن الدولة، وذلك في الطور الابتدائي. ومن المنتظر أن ينظر القضاء في طور الاستئناف، بعد انتهاء العطلة الصيفية، في إمكانية تثبيت تلك الأحكام. حصيلة سلبية وفي تقييمه السياسي لمسار سعيّد، يرى القيادي في حركة النهضة رياض الشعيبي أن هذا المسار كان منذ البداية يرتكز على توظيف بعض المطالب الاجتماعية كغطاء للسيطرة على البلاد وتوسيع نفوذه، دون أن يحمل أي برنامج سياسي حقيقي أو رؤية اقتصادية. ويؤكد أن الحصيلة بعد 4 سنوات من الحكم الفردي كانت "سلبية جدا" على المستوى السياسي، معتبرا أن السلطة لم تكتف بتهميش المعارضة من المشهد العام، بل صعّدت استهدافها من خلال محاكمة المعارضين وغلق مقرات أحزاب كحركة النهضة، وملاحقة نشطاء المجتمع المدني، لترهيب المجتمع. ويرى الشعيبي أن تونس، التي كانت تمثل تجربة ديمقراطية واعدة وتطمح لأن تكون أول ديمقراطية ناشئة في المنطقة بعد ثورة 2011 ، قد شهدت انتكاسة خطيرة أعادت البلاد إلى مربع الاستبداد، حتى باتت أشبه بسجن كبير، بعد أن كانت تقدم نموذجا يُحتذى به في مسار الانتقال الديمقراطي، وفق تعبيره. وبعيدا عن الملف السياسي، يشير الشعيبي إلى تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي، إذ يرى أن البلاد لم تشهد تحسنا يذكر، حيث ظلت معدلات النمو منخفضة، وتفاقمت معاناة المواطنين بسبب ارتفاع نسب البطالة وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب الأزمات المتكررة في تأمين المواد الأساسية. ويوضح أن الفجوة بين الواقع الاقتصادي والشعارات التي ترفعها السلطة واسعة جدا، فخطابات مثل "سياسة التعويل على الذات" لم تنعكس في سياسات واضحة أو نتائج ملموسة، بل كانت مجرد أدوات خطابية تُوظف لإضفاء مشروعية شعبية على خيارات فاشلة، ولبناء ولاءات سياسية موالية لسعيد. ويقول أيضا إن السلطة استندت إلى إصدار ترسانة من القوانين والإجراءات الشكلية، لكنها فشلت في أن تمس جوهر الأزمة الاقتصادية أو تقدم حلولًا جدية لوقف النزف المالي والاجتماعي لأن منطق الاقتصاد يختلف كليا عن منطق الإجراءات القانونية الشكلية التي لا تصلح مشكلات الاقتصاد. ويرى القيادي بالتيار الديمقراطي هشام العجبوني أن تجربة 25 يوليو/تموز مثّلت انزلاقا خطيرا نحو الحكم الفردي المطلق، معتبرا أن الرئيس سعيد استغل فقدان الثقة في المنظومة السياسية السابقة لتعزيز سلطاته دون ضوابط، مما أدى إلى ضرب مؤسسات الدولة وتهميش دور الأحزاب والمنظمات. ويشير إلى أن البلاد دخلت منذ ذلك التاريخ مرحلة غياب المساءلة وتعطيل الحياة السياسية "حيث تم تجميع السلطات بيد شخص واحد، وسط خطاب تقسيمي يعتبر كل مختلف خائنا ومتآمرا". ويرى العجبوني أن البرلمان المنتخب في ظل دستور 2022 أُفرغ من مضمونه التشريعي، وتحوّل إلى مؤسسة شكلية لا تعكس التعددية ولا تمثل المواطنين تمثيلا حقيقيا، بل غلبت عليه عقلية الولاء والخوف من انتقاد الرئيس، مما ساهم في تغييب النقاش الجاد وتعطيل الرقابة على السلطة التنفيذية. أما على المستوى الاقتصادي، فيقول العجبوني إن الإنجاز الوحيد بعد 4 سنوات من حكم سعيّد هو توسيع استخدام مرسوم 54 الذي أصبح سيفا مصلتا على رقاب المعارضين والمنتقدين لسياساته. ويضيف العجبوني "نظام سعيّد فشل في تحقيق أي إنجاز اقتصادي يُذكر، باستثناء ضرب استقلالية القضاء وتصفية المعارضة والزجّ بمنتقديه في السجون" مشددا على أن الشعارات الشعبوية لم تنعكس على واقع التونسيين الذين يرزحون تحت عبء التضخم والبطالة وغلاء المعيشة. واعتبر أن شعار "التعويل على الذات" الذي يروّجه الرئيس "مجرّد وهم" موضحا أن الدولة "اعتمدت على سياسة اقتراض مفرطة، حيث بلغت القروض الداخلية والخارجية خلال سنتين فقط رقماً قياسيًا يعادل 36% من حجم الميزانية". وأشار العجبوني إلى أن النمو الاقتصادي يراوح الصفر، مع تراجع الاستثمارات وانعدام الثقة، قائلا "كل المشاريع الكبرى التي تم الترويج لها، من الشركات الأهلية إلى الصلح الجزائي، بقيت وعودا بلا أثر ملموس في الواقع". وأضاف "حتى قانون منع المناولة الذي قُدّم كإنجاز اجتماعي، تم تمريره دون تقييم للواقع الاقتصادي، مما تسبب في تسريح عمال وإلغاء عقود، وهو ما يضرب الفئات التي يُفترض أن نحميها". وختم العجبوني بتأكيد أن "خطابات الرئيس المليئة بالشعارات لم تعد تقنع أحدا" وأن "تونس اليوم تدفع ثمن الحكم الفردي والقرارات الارتجالية التي زادت من عزلتها وعمّقت أزمتها الاقتصادية".


الجزيرة
منذ 12 ساعات
- الجزيرة
شروط ضرورية ليعود ربيع تونس من جديد
تمرّ هذه الأيام أربعة أعوام على الانقلاب في تونس، والذي أقدم عليه الرئيس قيس سعيد، وأنهى بمقتضاه العملية الديمقراطية في البلاد، وحل المؤسسات التي انبثقت عن مسار ديمقراطي دستوري استمر لعشر سنوات. مسار جعل من تونس حسب العديد من المهتمين بالتحولات الديمقراطية "استثناء ديمقراطيًا" في منطقة طاردة للديمقراطية، بينما اختار قيس سعيد أن ينهيه ويفكك كل مؤسساته، معتبرًا أن تلك العشرية الذهبية للمسار الديمقراطي هي عشرية سوداء. ومع استمرار الجدل بشأن هذه التجربة اللافتة التي استقطبت اهتمام العديد من الخبراء والباحثين عربًا وأجانبَ، يأتي كتاب المفكر التونسي عزالدين عبدالمولى "الانتقال الديمقراطي في تونس (2011- 2021) مراجعات نقدية للمسار والأدوار" ليقدم لنا سردية موثقة، عبر قراءة نقدية لتجربة الانتقال الديمقراطي، أطرها كلها ضمن ثلاثة مفاهيم أساسية جدلية، وهي: مفهوم الثورة، ومفهوم الانتقال الديمقراطي، ومفهوم الانقلاب. ويمكن القول إن هذه المفاهيم الثلاثة هي المؤطّرة للعشرية، ثورة ومسارًا وانقلابًا. وإذا كان الجدل المثار لم يستمر طويلًا بشأن ما حصل في تونس 2010-2011، هل هو ثورة أم انتفاضة بعد أن حسمت الطبقة السياسية الأمر، وانعكس ذلك الحسم دستوريًا باعتماد فكرة الثورة. وأثبتت تجربة "الانتقال الديمقراطي"، بما حققته من توافقات، وما أفرزته من مؤسسات، وما أشاعته من ثقافة سياسية أنها فعلًا خطت خطوات في الانتقال باتجاه الثقافة الديمقراطيّة رغم الارتباكات والتعثرات ثم الانتكاسات. لذلك خلص الكاتب في هذا الصدد إلى القول إنه "بعد مراجعة مسار الثورة التونسية، وأدوار الفاعلين فيها وفي المرحلة الانتقالية مراجعة نقدية، يمكن القول دون مبالغة: إن عشرية الانتقال الديمقراطي التي عاشتها تونس بين عامي 2011 و2021، بإنجازاتها وإخفاقاتها تمثل ذروة ما وصل إليه الاجتماع العربي الحديث على صعيد الإدارة السياسية التشاركية السلمية للشأن العام". أما بالنسبة لمفهوم "الانقلاب" فالجدل الذي أثاره، جاء على خلفية إنكار قيس سعيد أن ما فعله كان انقلابًا وإنما هو تصحيح مسار، وهو موقف ساندته فيه بعض القوى السياسية والمنظمات، بدوافع سياسية حزبية لا ترتكز إلى تفسير دستوري أو مؤسساتي. ولم تمر أشهر على تاريخ 25 يوليو/ تموز 2021، حتى أكد وبرهن قيس سعيد- من خلال إجراءات قوّض من خلالها كل المؤسسات الدستورية والمكتسبات السياسية والحقوقية، مكرّسًا نفسه سلطة مطلقة- أن ما أقدم عليه كان انقلابًا مكتمل الأركان، لا صلة له بمفهوم تصحيح المسار، أو إنقاذ الثورة. في تقييمه لتجربة الانتقال الديمقراطي، اعتبر عبدالمولى أن النخبة في تونس بعد أن اندرجت متشاركة في تأسيس إطار واعد للانتقال الديمقراطي، من خلال توافقاتها وتفاهماتها وتقديم المصلحة المشتركة على خلافاتها السياسية والفكرية، ونجحت في التأسيس لديمقراطية ناشئة ورسم خارطة طريق نجحت إلى حد كبير في وضع لبنات نموذج سياسي تشاركي قابل للحياة، فقد انقلب هذا التمشّي في مرحلة لاحقة، إلى مقاربة خلق الأزمات بدل الحوار، وتعطيل المسار بدل دفعه. انقسمت النخبة، وغلّبت الحسابات الضيقة على المصلحة العامة، ما خلق بيئة هشة منذ البداية لاستفحال الأزمات التي وجد فيها قيس سعيد مبررًا للانقلاب على التجربة وإعادة تشكيل النظام السياسي وفق أفكار ورؤى فردية أبعد ما تكون عن الديمقراطية وقيمها المشتركة. فالنخبة التونسية، بكل أطيافها السياسية والاجتماعية والإعلامية والفكرية، أسهمت حسب الكاتب في إفشال الانتقال الديمقراطي، وفي تهيئة الأرضية للانقلاب عليه بعد أن كانت مساهمة في تأسيسه ودفعه إلى الأمام. بيد أن الكاتب نبّه لعاملين أساسيين إضافيين ساهما في هشاشة ثم توقف مسار الانتقال الديمقراطي، وهما عاملان يحتاجان إلى اهتمام أكبر من الفاعلين السياسيين وأيضًا من المختصين في دراسة حركات التغيير والإصلاح في العالم العربي. ويتعلق الأمر بالسياق ما بعد الاستعماري (ما بعد كولونيالي) الذي جاءت فيه الثورة التونسية وتجربة الانتقال الديمقراطي. إذ تعيش أغلب البلدان التي خرجت من حالة الاستعمار المباشر قبل أكثر من نصف قرن وضعًا هجينًا تختلط فيه مظاهر الاستقلال بأسباب التبعية، فلا هو وضع استقلال كامل، ولا هو وضع استعمار ظاهر. ولذلك تعيش هذه البلدان ومنها تونس في ظل هذا السياق وتتأثر به سلبيًا في سياستها واقتصادها وتعليمها وعلاقاتها الدولية. ولهذا كما يقول الكاتب تعد عملية بناء ديمقراطية راسخة، أو بناء اقتصاد قوي أو تعليم متين في سياق ما بعد كولونيالي، معركةً من معارك استكمال التحرر الوطني. كما أن الهيمنة الخارجية تستمر في إعاقة محاولات النهوض بأساليب مختلفة، كثيرة ليست ظاهرةً. إنما قد نجدها في خطابات النخب "الوطنية" وأيديولوجياتها وارتباطاتها، وفي هشاشة التعليم وتخلّفه، وفي تبعية الاقتصاد واختلال توازنه، وفي الكثير من الأشكال الثقافية السائدة وفي "رموزها". يبقى السؤال في التعاطي مع هذا المعطى، ما هو حجم وثقل تأثير هذا السياق في تجربة الانتقال الديمقراطي، خاصة إذا ما عطفناه على العامل الخارجي، كمعطيَين متساندَين ومتكاملَين في التأثير والضغط على التجربة الناشئة؟ إعلان ولا شك أن فهم العوامل وحجم تأثيرها في تجربة الانتقال الديمقراطي يساعد أيضًا على إدراك شروط الاستئناف إن كان الاستئناف ممكنًا، أو خيار إعادة التأسيس إن اقتضى المشهد ذلك. ولا شك أن ما يمرّ به التونسيون في ظل حكم قيس سعيد الفردي والمطلق من ضغوط وأزمات على جميع الأصعدة وما خلّفه من خيبة أمل بعد رهان خاسر عليه، يعيد اليوم لتلك العشرية بعض الاعتبار، ويعزّز حجة القائلين إن البديل عن الديمقراطية لا يمكن أن يكون أفضل منها. وبالتالي الحاجة لعودتها مصيرية للبلاد. بيدَ أن عبدالمولى يرى أن مسار تجربة الانتقال الديمقراطي من بدايته حتى نهايته 25 يوليو/ تموز 2021، يستوجب نقدًا مزدوجًا. أولًا؛ نقد جماعي للتجربة من أجل الوقوف على عيوبها وأسباب تعثرها ثم توقفها. وكذلك بهدف إبراز نقاط قوتها وتثمين ما أنجزته في الواقع وما أضافته للحياة السياسية التونسية ولتجارب التغيير عامة. وثانيًا؛ نقد لحملة التشويه الممنهجة التي استهدفت تلك التجربة، فطمست الكثير من الحقائق، وغطت على الكثير من الإنجازات، وروّجت لسردية مضللة، تمثل اليوم أحد التحديات أمام جهود الاستئناف، أو إعادة تأسيس لعملية ديمقراطية. وفي هذا الصدد، يعتبر عبدالمولى أن الديمقراطية من جديد أو العودة للتأسيس لا تعني التخلي عن منجزات عشرية الانتقال الديمقراطي ومكتسباتها بأية حال، بل تعني تصحيح أخطائها وتجاوز إخفاقاتها وتجديد نخبها بعد استخلاص دروسها. فبناء ديمقراطية جديدة لن يأتي هذه المرة من فراغ، بل سيتأسس على تجربة مسنودة بخبرة في تدبير شؤون الدولة وإدارة الاختلاف بين الشركاء واعتراف الجميع بالجميع. ويقترح الكاتب مجموعة من شروط والمتطلبات يستوجب توفرها والتهيؤ بها، لإعادة الديمقراطية، تبدأ بالتعلّم والاعتبار من دروس التجربة الأولى والمراجعات المستوجبة. ثم التسلّح بمقاربات وروحية جديدة تتجاوز الأفق الأيديولوجي وتجترح أفقًا سياسيا وطنيًا، يتعالى عن الصراعات الحزبية الضيقة. وتتطلب هذه المقاربة الجديدة المطلوبة من القوى والنخب السياسية رفع مستوى التنسيق والتعاون إلى ما يشبه ميثاق ديمقراطي إستراتيجي (أشبه بالكتلة التاريخية)، يؤسس لديمقراطية مستدامة، لا تخضع للأهواء الحزبية ولا يخلخلها التنافس السياسي. كما يفرض التأسيس للديمقراطية إعادة ترتيب الأولويات الوطنية، بما يقتضيه ذلك من التوافق على أولويات وطنية حيوية، ستساعد وستخفف بالضرورة من الصراعات والانقسامات الحادة والمعارك الصغيرة، وترشّد الاختلاف ضمن رؤية وطنية مشتركة. ولا شك أن هذا التأسيس الجديد للديمقراطية يجب حمايته من خلال سد ثغرات المؤسسة الدستورية التي أُتيت منها التجربة السابقة، بما يقتضيه من إقامة كل مؤسسات الحكم الدستورية لضمان استقرار النظام، وتمكينه من تجاوز الأزمات في إطار دستوري، عبر الاحتكام لمحكمة دستورية يتوجّب تركيزها بعيدًا عن الحسابات السياسية. ولا شك أن إشاعة ثقافة سياسية ديمقراطية تحتفي بالاختلاف والتعدد والحوار من شأنها أن تجعل الثقافة الديمقراطية حالة ذهنية، وثقافة سياسية، وموقفًا أخلاقيًا، تساعد على حماية القيم الديمقراطية والدفاع عنها عند الأزمات السياسية الطارئة. ونشر هذه الثقافة الديمقراطية وإشاعتها، يحتاجان إلى رافعة إعلامية وطنية، تنبع من مشروع التأسيس الديمقراطي، وتتبناه، ولا تكون معول هدم وتشكيك به. ولا شك أن منظومة الإعلام على حيويتها تحتاج مراجعات عميقة، لتكون جزءًا من هذا التأسيس الديمقراطي، لتكون هي أكثر المستفيدين منه تنوعًا وتعددًا وحرية. هذه الشروط والمتطلبات التي أشار إليها عبدالمولى كخلاصة لكتابه، لا شك أنها تحتاج للاستجابة لها والتفاعل معها نخبة وكفاءات وكوادر وطنية نوعية عجزت التجربة السابقة عن استيعابها، أو فشلت في الاستفادة منها، بسبب معايير الولاء أو التسويات السياسية والحزبية. كما يتطلب هذا التأسيس الحاجة لقراءة حضارية جيوسياسية لتونس، تاريخًا وموقعًا ومكانة وأهمية، وبلورة سردية إيجابية، مرتكزًا لرؤية نهضوية واعدة ورائدة، تعبر بتونس إلى المستقبل على أرضية صلبة وبروح واثقة من المستقبل. تبدو تونس اليوم رغم منظومة الحكم الفردية المطلقة التي فرضها قيس سعيد أمام فرصة تاريخية لتجاوز هذه المنظومة القائمة؛ منظومة فشلت في تحقيق الأدنى من الوعود التي بنت عليها سرديتها بعد الانقلاب على المسار الديمقراطي، فاستحالت اليوم خيبة أمل للتونسيين، وأكدت لهم أن الحل لأزمة الديمقراطية ليس الانقلاب عليها، وإنما إصلاحها واستئنافها. ولعل تلك أيضًا كانت خلاصة الكاتب والكتاب.


الجزيرة
منذ 21 ساعات
- الجزيرة
ربيع جديد يلوح في أفق تونس
تمرّ هذه الأيام أربعة أعوام على الانقلاب في تونس، والذي أقدم عليه الرئيس قيس سعيد، وأنهى بمقتضاه العملية الديمقراطية في البلاد، وحل المؤسسات التي انبثقت عن مسار ديمقراطي دستوري استمر لعشر سنوات. مسار جعل من تونس حسب العديد من المهتمين بالتحولات الديمقراطية "استثناء ديمقراطيًا" في منطقة طاردة للديمقراطية، بينما اختار قيس سعيد أن ينهيه ويفكك كل مؤسساته، معتبرًا أن تلك العشرية الذهبية للمسار الديمقراطي هي عشرية سوداء. ومع استمرار الجدل بشأن هذه التجربة اللافتة التي استقطبت اهتمام العديد من الخبراء والباحثين عربًا وأجانبَ، يأتي كتاب المفكر التونسي عزالدين عبدالمولى "الانتقال الديمقراطي في تونس (2011- 2021) مراجعات نقدية للمسار والأدوار" ليقدم لنا سردية موثقة، عبر قراءة نقدية لتجربة الانتقال الديمقراطي، أطرها كلها ضمن ثلاثة مفاهيم أساسية جدلية، وهي: مفهوم الثورة، ومفهوم الانتقال الديمقراطي، ومفهوم الانقلاب. ويمكن القول إن هذه المفاهيم الثلاثة هي المؤطّرة للعشرية، ثورة ومسارًا وانقلابًا. وإذا كان الجدل المثار لم يستمر طويلًا بشأن ما حصل في تونس 2010-2011، هل هو ثورة أم انتفاضة بعد أن حسمت الطبقة السياسية الأمر، وانعكس ذلك الحسم دستوريًا باعتماد فكرة الثورة. وأثبتت تجربة "الانتقال الديمقراطي"، بما حققته من توافقات، وما أفرزته من مؤسسات، وما أشاعته من ثقافة سياسية أنها فعلًا خطت خطوات في الانتقال باتجاه الثقافة الديمقراطيّة رغم الارتباكات والتعثرات ثم الانتكاسات. لذلك خلص الكاتب في هذا الصدد إلى القول إنه "بعد مراجعة مسار الثورة التونسية، وأدوار الفاعلين فيها وفي المرحلة الانتقالية مراجعة نقدية، يمكن القول دون مبالغة: إن عشرية الانتقال الديمقراطي التي عاشتها تونس بين عامي 2011 و2021، بإنجازاتها وإخفاقاتها تمثل ذروة ما وصل إليه الاجتماع العربي الحديث على صعيد الإدارة السياسية التشاركية السلمية للشأن العام". أما بالنسبة لمفهوم "الانقلاب" فالجدل الذي أثاره، جاء على خلفية إنكار قيس سعيد أن ما فعله كان انقلابًا وإنما هو تصحيح مسار، وهو موقف ساندته فيه بعض القوى السياسية والمنظمات، بدوافع سياسية حزبية لا ترتكز إلى تفسير دستوري أو مؤسساتي. ولم تمر أشهر على تاريخ 25 يوليو/ تموز 2021، حتى أكد وبرهن قيس سعيد- من خلال إجراءات قوّض من خلالها كل المؤسسات الدستورية والمكتسبات السياسية والحقوقية، مكرّسًا نفسه سلطة مطلقة- أن ما أقدم عليه كان انقلابًا مكتمل الأركان، لا صلة له بمفهوم تصحيح المسار، أو إنقاذ الثورة. في تقييمه لتجربة الانتقال الديمقراطي، اعتبر عبدالمولى أن النخبة في تونس بعد أن اندرجت متشاركة في تأسيس إطار واعد للانتقال الديمقراطي، من خلال توافقاتها وتفاهماتها وتقديم المصلحة المشتركة على خلافاتها السياسية والفكرية، ونجحت في التأسيس لديمقراطية ناشئة ورسم خارطة طريق نجحت إلى حد كبير في وضع لبنات نموذج سياسي تشاركي قابل للحياة، فقد انقلب هذا التمشّي في مرحلة لاحقة، إلى مقاربة خلق الأزمات بدل الحوار، وتعطيل المسار بدل دفعه. انقسمت النخبة، وغلّبت الحسابات الضيقة على المصلحة العامة، ما خلق بيئة هشة منذ البداية لاستفحال الأزمات التي وجد فيها قيس سعيد مبررًا للانقلاب على التجربة وإعادة تشكيل النظام السياسي وفق أفكار ورؤى فردية أبعد ما تكون عن الديمقراطية وقيمها المشتركة. فالنخبة التونسية، بكل أطيافها السياسية والاجتماعية والإعلامية والفكرية، أسهمت حسب الكاتب في إفشال الانتقال الديمقراطي، وفي تهيئة الأرضية للانقلاب عليه بعد أن كانت مساهمة في تأسيسه ودفعه إلى الأمام. بيد أن الكاتب نبّه لعاملين أساسيين إضافيين ساهما في هشاشة ثم توقف مسار الانتقال الديمقراطي، وهما عاملان يحتاجان إلى اهتمام أكبر من الفاعلين السياسيين وأيضًا من المختصين في دراسة حركات التغيير والإصلاح في العالم العربي. ويتعلق الأمر بالسياق ما بعد الاستعماري (ما بعد كولونيالي) الذي جاءت فيه الثورة التونسية وتجربة الانتقال الديمقراطي. إذ تعيش أغلب البلدان التي خرجت من حالة الاستعمار المباشر قبل أكثر من نصف قرن وضعًا هجينًا تختلط فيه مظاهر الاستقلال بأسباب التبعية، فلا هو وضع استقلال كامل، ولا هو وضع استعمار ظاهر. ولذلك تعيش هذه البلدان ومنها تونس في ظل هذا السياق وتتأثر به سلبيًا في سياستها واقتصادها وتعليمها وعلاقاتها الدولية. ولهذا كما يقول الكاتب تعد عملية بناء ديمقراطية راسخة، أو بناء اقتصاد قوي أو تعليم متين في سياق ما بعد كولونيالي، معركةً من معارك استكمال التحرر الوطني. كما أن الهيمنة الخارجية تستمر في إعاقة محاولات النهوض بأساليب مختلفة، كثيرة ليست ظاهرةً. إنما قد نجدها في خطابات النخب "الوطنية" وأيديولوجياتها وارتباطاتها، وفي هشاشة التعليم وتخلّفه، وفي تبعية الاقتصاد واختلال توازنه، وفي الكثير من الأشكال الثقافية السائدة وفي "رموزها". يبقى السؤال في التعاطي مع هذا المعطى، ما هو حجم وثقل تأثير هذا السياق في تجربة الانتقال الديمقراطي، خاصة إذا ما عطفناه على العامل الخارجي، كمعطيَين متساندَين ومتكاملَين في التأثير والضغط على التجربة الناشئة؟ إعلان ولا شك أن فهم العوامل وحجم تأثيرها في تجربة الانتقال الديمقراطي يساعد أيضًا على إدراك شروط الاستئناف إن كان الاستئناف ممكنًا، أو خيار إعادة التأسيس إن اقتضى المشهد ذلك. ولا شك أن ما يمرّ به التونسيون في ظل حكم قيس سعيد الفردي والمطلق من ضغوط وأزمات على جميع الأصعدة وما خلّفه من خيبة أمل بعد رهان خاسر عليه، يعيد اليوم لتلك العشرية بعض الاعتبار، ويعزّز حجة القائلين إن البديل عن الديمقراطية لا يمكن أن يكون أفضل منها. وبالتالي الحاجة لعودتها مصيرية للبلاد. بيدَ أن عبدالمولى يرى أن مسار تجربة الانتقال الديمقراطي من بدايته حتى نهايته 25 يوليو/ تموز 2021، يستوجب نقدًا مزدوجًا. أولًا؛ نقد جماعي للتجربة من أجل الوقوف على عيوبها وأسباب تعثرها ثم توقفها. وكذلك بهدف إبراز نقاط قوتها وتثمين ما أنجزته في الواقع وما أضافته للحياة السياسية التونسية ولتجارب التغيير عامة. وثانيًا؛ نقد لحملة التشويه الممنهجة التي استهدفت تلك التجربة، فطمست الكثير من الحقائق، وغطت على الكثير من الإنجازات، وروّجت لسردية مضللة، تمثل اليوم أحد التحديات أمام جهود الاستئناف، أو إعادة تأسيس لعملية ديمقراطية. وفي هذا الصدد، يعتبر عبدالمولى أن الديمقراطية من جديد أو العودة للتأسيس لا تعني التخلي عن منجزات عشرية الانتقال الديمقراطي ومكتسباتها بأية حال، بل تعني تصحيح أخطائها وتجاوز إخفاقاتها وتجديد نخبها بعد استخلاص دروسها. فبناء ديمقراطية جديدة لن يأتي هذه المرة من فراغ، بل سيتأسس على تجربة مسنودة بخبرة في تدبير شؤون الدولة وإدارة الاختلاف بين الشركاء واعتراف الجميع بالجميع. ويقترح الكاتب مجموعة من شروط والمتطلبات يستوجب توفرها والتهيؤ بها، لإعادة الديمقراطية، تبدأ بالتعلّم والاعتبار من دروس التجربة الأولى والمراجعات المستوجبة. ثم التسلّح بمقاربات وروحية جديدة تتجاوز الأفق الأيديولوجي وتجترح أفقًا سياسيا وطنيًا، يتعالى عن الصراعات الحزبية الضيقة. وتتطلب هذه المقاربة الجديدة المطلوبة من القوى والنخب السياسية رفع مستوى التنسيق والتعاون إلى ما يشبه ميثاق ديمقراطي إستراتيجي (أشبه بالكتلة التاريخية)، يؤسس لديمقراطية مستدامة، لا تخضع للأهواء الحزبية ولا يخلخلها التنافس السياسي. كما يفرض التأسيس للديمقراطية إعادة ترتيب الأولويات الوطنية، بما يقتضيه ذلك من التوافق على أولويات وطنية حيوية، ستساعد وستخفف بالضرورة من الصراعات والانقسامات الحادة والمعارك الصغيرة، وترشّد الاختلاف ضمن رؤية وطنية مشتركة. ولا شك أن هذا التأسيس الجديد للديمقراطية يجب حمايته من خلال سد ثغرات المؤسسة الدستورية التي أُتيت منها التجربة السابقة، بما يقتضيه من إقامة كل مؤسسات الحكم الدستورية لضمان استقرار النظام، وتمكينه من تجاوز الأزمات في إطار دستوري، عبر الاحتكام لمحكمة دستورية يتوجّب تركيزها بعيدًا عن الحسابات السياسية. ولا شك أن إشاعة ثقافة سياسية ديمقراطية تحتفي بالاختلاف والتعدد والحوار من شأنها أن تجعل الثقافة الديمقراطية حالة ذهنية، وثقافة سياسية، وموقفًا أخلاقيًا، تساعد على حماية القيم الديمقراطية والدفاع عنها عند الأزمات السياسية الطارئة. ونشر هذه الثقافة الديمقراطية وإشاعتها، يحتاجان إلى رافعة إعلامية وطنية، تنبع من مشروع التأسيس الديمقراطي، وتتبناه، ولا تكون معول هدم وتشكيك به. ولا شك أن منظومة الإعلام على حيويتها تحتاج مراجعات عميقة، لتكون جزءًا من هذا التأسيس الديمقراطي، لتكون هي أكثر المستفيدين منه تنوعًا وتعددًا وحرية. هذه الشروط والمتطلبات التي أشار إليها عبدالمولى كخلاصة لكتابه، لا شك أنها تحتاج للاستجابة لها والتفاعل معها نخبة وكفاءات وكوادر وطنية نوعية عجزت التجربة السابقة عن استيعابها، أو فشلت في الاستفادة منها، بسبب معايير الولاء أو التسويات السياسية والحزبية. كما يتطلب هذا التأسيس الحاجة لقراءة حضارية جيوسياسية لتونس، تاريخًا وموقعًا ومكانة وأهمية، وبلورة سردية إيجابية، مرتكزًا لرؤية نهضوية واعدة ورائدة، تعبر بتونس إلى المستقبل على أرضية صلبة وبروح واثقة من المستقبل. تبدو تونس اليوم رغم منظومة الحكم الفردية المطلقة التي فرضها قيس سعيد أمام فرصة تاريخية لتجاوز هذه المنظومة القائمة؛ منظومة فشلت في تحقيق الأدنى من الوعود التي بنت عليها سرديتها بعد الانقلاب على المسار الديمقراطي، فاستحالت اليوم خيبة أمل للتونسيين، وأكدت لهم أن الحل لأزمة الديمقراطية ليس الانقلاب عليها، وإنما إصلاحها واستئنافها. ولعل تلك أيضًا كانت خلاصة الكاتب والكتاب.