
"مصائد الموت" قناع إسرائيل وأميركا في تجويع غزة
تصريحات ترامب جاءت في سياق فشل آلية التوزيع الحالية، التي وصفها حقوقيون بـ"مصائد الموت"، ليطرح فكرة إنشاء آلية جديدة بالتعاون مع بريطانيا والاتحاد الأوروبي وعدد من الدول الصديقة.
وهنا علينا الاستناد إلى مجموعة من الملاحظات والظروف في تحليلنا لتصريحات ترامب الأخيرة:
أولا: إجهاض الآلية الأممية الناجحة
كانت آلية توزيع المساعدات الأممية منذ بداية الحرب تسير بشكل منظم وسلس، اتسمت بالشفافية والعدالة في الوصول إلى المحتاجين. ويعزز ذلك تقرير صادر عن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، نشرته وكالة رويترز، أكد بوضوح أن المساعدات لم تكن تصل إلى حماس، ولا توجد أي دلائل منهجية على ذلك.
هذا النجاح في إدارة المساعدات، هو تحديدا ما دفع الحكومة الإسرائيلية إلى استحداث بديل فاشل تمثل فيما يُعرف زورا بـ"مؤسسة غزة الإنسانية"، التي تحولت عمليا إلى "مصائد موت" و"حمامات دم"، على حد وصف بعض المسؤولين الأمميين والأوروبيين.
ثانيا: ويتكوف ومؤسسة غزة الإنسانية كأداة للضغط
يُعد ستيف ويتكوف الشخصية المحورية وراء ما يُعرف بـ"مؤسسة غزة الإنسانية"، التي تحولت منذ إنشائها إلى أداة تخدم الخطة الإسرائيلية الرامية إلى تهجير سكان القطاع.
كما استُخدمت المؤسسة كورقة ضغط مؤثرة في المفاوضات مع حركة حماس، مما منح إسرائيل وحلفاءها نفوذا إضافيا في التحكم بمسار المساعدات. وبالنظر إلى هذا الدور الإستراتيجي، يُستبعد أن تتخلى إسرائيل أو ويتكوف عن السيطرة على ملف المساعدات الإنسانية في المستقبل القريب.
ثالثا: مشاهد المجاعة والاحتجاجات تفضح المؤسسة
أدت صور المجاعة المروعة وأعداد الشهداء الذين سقطوا في مراكز التوزيع التابعة لما يُعرف بـ"مؤسسة غزة الإنسانية"- التي تحولت إلى مصائد موت- إلى فضح حجم الكارثة الإنسانية.
وجاءت الشهادات الحية والموثقة لتؤكد الطبيعة الممنهجة والمتعمدة لاستهداف طالبي المساعدات، وكان آخرها شهادة الضابط الأميركي المتقاعد توني أغويلار، الذي كشف عن مشهد مأساوي لطفل يُدعى أمير؛ إذ بعد أن قبّل يد أحد الضباط الأميركيين المتقاعدين في مركز توزيع المساعدات، لم يمضِ وقت طويل حتى أُطلق الرصاص الغادر على جسده النحيل.
أُضيف إلى ذلك المنع التام لدخول الشاحنات بين الثاني من مارس/ آذار وحتى الثامن عشر من مايو/ أيار، فضلا عن التقليص الحاد في دخول المساعدات بعد بدء مراكز مساعدات "مؤسسة غزة الإنسانية" عملها، حيث شكّل عدد الشاحنات التي دخلت في شهر يوليو/ تموز ما نسبته 15% فقط من مجموع ما تم إدخاله في شهر فبراير/ شباط من العام نفسه.
وقد أدى ذلك إلى حرمان 90% من الأطفال دون سن الخامسة من مادة الحليب، وإلى انعدام الأمن الغذائي لما نسبته 80% من المجتمع الغزّي، ووصول أكثر من نصف مليون غزّي إلى مرحلة الجوع المفضي إلى الموت، وذلك وفقا لتقرير مجموعة التغذية الأممية.
هذه المشاهد الدموية والمفجعة أشعلت موجة من المظاهرات والنشاطات المناهضة للمؤسسة في مختلف أنحاء العالم، وكان للدول الغربية النصيب الأكبر من هذه التحركات.
كما أدى تململ الشارع العربي، خصوصا في دول الجوار لغزة، إلى تشديد القبضة الأمنية وتقييد الحريات، مما زاد من قلق الولايات المتحدة وإسرائيل حيال تنامي الغضب الشعبي والدولي ضد هذه الممارسات.
رابعا: فضيحة الاستثمارات الأميركية في المؤسسة
تفجّرت فضيحة جديدة كشفت امتلاك بعض شركات الأسهم الأميركية البارزة حصصا في شركة الأمن الخاصة "سيف ريتش سوليوشنز"، المسؤولة عن إدارة مراكز توزيع المساعدات التابعة لما يُعرف بـ"مؤسسة غزة الإنسانية"، التي تحولت عمليا إلى مصائد موت.
هذه الفضيحة زادت الضغط على المؤسسة، خاصة بعد أن قدمت الإدارة الأميركية تبرعا بقيمة 30 مليون دولار؛ بزعم دعم هدف إنساني بحت، بينما أظهرت تقارير متعددة أن المؤسسة تعمل في إطار تجارة حرب تحقق أرباحا على حساب المأساة الإنسانية.
وأدى انتشار صور المجاعة، ولا سيما مشاهد الأطفال الجوعى وأعداد الشهداء والجرحى من طالبي المساعدات، فضلا عن انكشاف البعد الربحي للمؤسسة، إلى دفع عدد من النواب الديمقراطيين وبعض الجمهوريين في مجلس النواب الأميركي إلى المطالبة بوقف عمل المؤسسة، أو على الأقل تغيير جذري في آلية توزيع المساعدات.
خامسا: رفض أممي ودولي يضع إدارة ترامب تحت ضغط متصاعد
ما تزال المنظمات الأممية والدولية متمسكة بموقفها الرافض للمشاركة في عملية توزيع المساعدات عبر ما يُسمى بـ"مؤسسة غزة الإنسانية"، مؤكدة أنها لن تنخرط في أي آلية تقوم على تسييس المساعدات أو عسكرة العمل الإنساني.
هذا الموقف الثابت شكّل ضغطا متعدد الأبعاد على الإدارة الأميركية، إذ أوجد أعباء قانونية وأخلاقية ومالية ولوجيستية متزايدة، وأبرز فشل الآلية الحالية في تحقيق أي معايير إنسانية أو مهنية للتوزيع الآمن والعادل للمساعدات.
هل يتم استحداث آلية جديدة لتوزيع المساعدات؟
وعليه، فإن أي تغيير في آلية توزيع المساعدات- سواء بالاستغناء عن مؤسسة غزة الإنسانية أو الاستمرار بها ضمن نموذج معدل- قد يشكل فرصة للإدارة الأميركية لتخفيف حدة الانتقادات والضغوط الداخلية والخارجية.
كما يمكن أن يشجع هذا التغيير بعض المنظمات الأممية والدولية على الانخراط مجددا في عملية توزيع المساعدات، بعد أن قاطعتها بسبب تسييسها وعسكرتها.
من جهة أخرى، قد تستفيد إسرائيل من هذا التحول في إعادة تسييل المنحة العربية البالغة 100 مليون دولار، والتي تم تعليقها سابقا عقب انسحاب المنظمات الأممية والدولية من دعم المؤسسة وانتقادها بشكل وصل حد التجريم.
ووفقا لمراقبين، فإن طرح آلية توزيع جديدة قد يفتح الباب أمام انخراط أوسع لبعض الدول العربية، وربما يصل الأمر إلى تشكيل قوة أمنية عربية- سعت إليها بعض الدول العربية سابقا- بدلا من الاعتماد على الشركات الأمنية الأميركية، وهو خيار يُعتقد أنه قيد الدراسة الجدية، وقد يشهد زخما في المرحلة المقبلة، رغم الرفض القاطع هذا السيناريو من قبل فصائل المقاومة.
التحذير من إعادة إنتاج سياسة التجويع
ختاما، فإن تصريحات ترامب الأخيرة ليست مجرد اعتراف متأخر بالمجاعة التي يعيشها سكان غزة، بل هي إشارة إلى محاولة إعادة تشكيل آلية توزيع المساعدات بشكل يكرس السيطرة السياسية والأمنية على الغذاء، وهو ما ينذر بإعادة إنتاج سياسة التجويع بثوب جديد.
إن أي تغيير للآلية بعيدا عن الإطار الأممي سيبقى ناقصا وغير إنساني، وسيحوّل المساعدات إلى أداة ضغط في المفاوضات بدلا من كونها وسيلة إنقاذ.
لذا، تقع على عاتق المنظمات الأممية والدولية مسؤولية رفض الانخراط في نموذج جديد يحمل ذات أوجه التسييس والعسكرة التي أفرزتها "مؤسسة غزة الإنسانية"، ومقاومة كل الضغوط التي بدأت تتصاعد مؤخرا.
كما أن مشاركة بعض الدول العربية أو الإسلامية في هذه الآلية قد تُفسر، خصوصا من قِبل فصائل المقاومة وظهيرها الشعبي، على أنها مساهمة في استمرار الحصار والتجويع، وقد تشكل تورطا في مخالفة صريحة للقانون الإنساني الدولي، ونظام روما الأساسي، ومعاهدة جنيف الرابعة.
والطريق الوحيد لتأمين وصول المساعدات بشكل عادل وفاعل، هو العودة إلى الآلية الأممية السابقة التي أثبتت كفاءتها في إدارة التوزيع بشفافية وحياد، بعيدا عن المصالح السياسية والتجارية التي تحول الغذاء إلى سلاح ضد المدنيين.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
لقاء مرتقب بين ترامب وبوتين في ألاسكا لإنهاء الحرب في أوكرانيا
قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب إنه سيُعقد الاجتماع المرتقب بينه وبين نظيره الروسي فلاديمير بوتين يوم الجمعة المقبل في ولاية ألاسكا، وذلك في إطار مساعي الحل الدبلوماسي للحرب في أوكرانيا. وأكد ترامب -في منشور على منصته تروث سوشيال- قرب التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب المستمرة بين روسيا أوكرانيا منذ أواخر فبراير/شباط 2022. وفي سياق متصل، نقلت وكالة ريا عن يوري أوشاكوف مساعد الرئيس الروسي، قوله إن بلاده والولايات المتحدة جارتان قريبتان، لذلك من المنطقي أن يعقد لقاء بوتين وترامب في ألاسكا. وأكد أوشاكوف أن اللقاء سيركز علي نقاش سبل تحقيق تسوية طويلة الأمد للأزمة في أوكرانيا، مضيفا أن موسكو وواشنطن ستمضيان الأيام القليلة القادمة في العمل بشكل نشط وكثيف على تحديد معالم اللقاء في ألاسكا، واصفا الأمر بأنه سيكون مسارا صعبا وفق تعبيره. مقترح روسي في السياق نفسه، نقلت وول ستريت جورنال عن مسؤولين أوروبيين وأوكرانيين قولهم إن الرئيس الروسي قدم هذا الأسبوع لإدارة ترامب مقترحا شاملا لوقف إطلاق النار في أوكرانيا. وطالب المقترح كييف بتقديم تنازلات إقليمية كبيرة، والسعي للحصول على اعتراف دولي بمطالب روسيا مقابل وقف القتال. كما تضمنت مطالب بوتين تنازل كييف عن منطقة دونباس دون أن تلتزم روسيا بشيء يذكر سوى التوقف عن القتال. وقالت المصادر إن بوتين أبلغ المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف بموافقته على وقف كامل لإطلاق النار، إذا وافقت أوكرانيا على سحب قواتها من كامل منطقة دونيتسك شرق البلاد. وفي سياق متصل، نقل موقع أكسيوس عن مصادر أن مسؤولين أميركيين وأوكرانيين كبارا ودولا أوروبية يخططون للقاء الأسبوع المقبل في بريطانيا. وأضافت المصادر أن اللقاء يهدف لمحاولة التوصل إلى مواقف مشتركة قبل اجتماع ترامب بوتين. ومن جهته، قال السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام إنه واثق من أن الرئيس ترامب سينسحب إذا أصر بوتين على صفقة سيئة. ومن جانبه، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إن روسيا تتجاهل حتى الآن المهلة التي حُددت لها لوقف إطلاق النار ضد بلاده. وأشار زيلينسكي -في كلمة له- إلى أن بلاده حصلت على دعم دولي كبير في الفترة الأخيرة، لكن موسكو تواصل شن هجماتها على المدن والقرى في أوكرانيا.


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
ما السيناريوهات المتوقعة بعد إقرار خطة احتلال مدينة غزة؟
تشهد الحدود مع قطاع غزة حشودا عسكرية إسرائيلية مكثفة بعدما أقر المجلس الإسرائيلي الأمني المصغر خطة لاحتلال مدينة غزة شمالي القطاع. اقرأ المزيد المصدر: الجزيرة


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
هل أفسدت حماس خطط نتنياهو؟
تعد المقاومة في غزة، وفلسطين عامة، نتاجا طبيعيا لوجود الاحتلال الذي بدأ في فلسطين مع مطلع القرن العشرين، بأشكال مختلفة، وعبر أسماء وتنظيمات وهبّات شعبية متنوعة. وبعد حدوث النكبتين في فلسطين: (1948، 1967)، لم تقف تلك المقاومة، بل أخذت أشكالا أكثر تنظيما ودقة، في العمل الفدائي الفلسطيني ضد وجود الاحتلال. واستمر النضال الفلسطيني دون توقف لسنوات عديدة، وإن اختلفت أشكاله بين مرحلة وأخرى، حتى جاءت الانتفاضة الأولى 1987، والتي استمرت حوالي سبعة أعوام، واكبتها موجة من العمليات الاستشهادية علق عليها رئيس وزراء دولة الاحتلال إسحاق رابين قائلا: "لا أستطيع أن أوقف شخصا يريد أن يموت".. وقد دخلت تلك الانتفاضة/ الثورة القاموس العربي، والغربي، وأصبحت كابوسا يطارد الاحتلال.. فكان لا بد من احتوائها. وهكذا، فيما كان الوفد الفلسطيني يفاوض في مدريد، للحصول على أفضل ثمرة للانتفاضة، كانت كواليس النرويج وغرفها المغلقة تشهد مفاوضات سرية بين منظمة التحرير وبين الاحتلال، لتخرج علينا في سبتمبر/ أيلول 1993، بما عرف باسم "إعلان المبادئ لاتفاقيات أوسلو"، والذي تخلت فيه المنظمة عن فكرة الكفاح المسلح، وقبلت الاعتراف بشرعية الاحتلال، وتعديل ميثاقها، تحت عناوين المرحلية، والتكتيك، وخذ وطالب.. وهكذا. الأخطر في اتفاقيات أوسلو، أن صاحب الحق، وهو الفلسطيني، يعطي المحتل ما لا يستحق، ويعترف بشرعيته في فلسطين. ومما جاء ضمن بنودها، أنه تم الاتفاق على الذهاب إلى انتخابات فلسطينية عام 1996، يتم من خلالها اختيار رئيس السلطة الفلسطينية، وأعضاء المجلس التشريعي. في تلك الانتخابات، توافق الاجتهاد السياسي لدى حركتي حماس والجهاد، على مقاطعة الانتخابات باعتبارها من إفرازات أوسلو.. فلم تشارك أي من الحركتين فيها. وقد تم انتخاب الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، رحمه الله، رئيسا للسلطة الفلسطينية. وبعد عقد من الزمان، شهد حالات من الرخاء والشد بين فصائل المقاومة، وخاصة الإسلامية منها، وبين السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، تمت الدعوة إلى انتخابات جديدة في مناطق السلطة الفلسطينية.. وكان 2006 هو عام الانتخابات الثانية للسلطة الفلسطينية. وشاركت حركة حماس في الانتخابات، في محاولة منها للجمع بين المقاومة والحكم، في حال فازت في الانتخابات، مقاربة بنموذج حزب الله في لبنان. وجاءت نتائج الانتخابات، خارج توقعات الجميع، فقد حصلت حركة حماس على أغلبية المقاعد في المجلس التشريعي، بما يؤهلها لتشكيل الحكومة.. ولم يرُق ذلك لصناع أوسلو. فكانت سياسة وضع العصي في الدواليب، هي الأكثر حضورا في حق حركة حماس، الفائزة عبر صندوق الانتخابات.. وبدأت الشروط تنهال من الغرب والعرب عليها: إذا أردتم أن تشاركوا في السياسة فعليكم بالاعتراف "بدولة إسرائيل". ولم ترضخ حماس، وتواصلت ضغوط أجهزة أمن السلطة في حق حركتي حماس والجهاد حتى بلغت حدا لا يطاق، من اعتقالات وتعذيب، وملاحقة ومحاكم أمن دولة، وسنوات سجن تمتد من سنة إلى المؤبد. وهنا جاءت لحظة التغيير عندما قامت حركة حماس برفض قرارات السلطة، خاصة الأمنية منها. وبدأت اشتباكات مسلحة في قطاع غزة بين أجهزة أمن السلطة، والحركة عام 2007، حتى أسفرت عن سيطرة حماس على قطاع غزة بالكامل، ليُفرض بعدها الحصار الشديد على قطاع غزة. البداية والتجهيز للطوفان تعتبر حماس، حركة مقاومة ذات صبغة عقائدية ملتزمة، تتيح مساحة للاجتهاد السياسي وفقا للسياسة الشرعية ومتغيرات الواقع. وهي حركة ذات هيكلية تنظيمية قوية وصلبة، يعود تاريخها إلى ما قبل التأسيس، من خلال خبرتها في العمل المؤسساتي المجتمعي في غزة، تحت لافتات أخرى. وبعد أن بدأت الحركة مرحلة الحكم في غزة، كان جليا أن لها مشروع مقاومة واضح الملامح، ظهرت قدرته لاحقا في طوفان الأقصى.. فمن اللحظة الأولى، وفي ظل عدم ملاحقة أجهزة أمن السلطة في غزة، بدأت حماس تعمل على مشروع المقاومة بطرق عملية ومنهجية تمثلت في النقاط التالية: العمل على بناء الإنسان "الجندي والقائد"، بناء عقائديا وروحيا وتدريبيا، ليصبح قادرا على مواجهة جنود الاحتلال في أي مواجهة قادمة. حفر وبناء شبكة الأنفاق، التي زادت عن مئات الكيلومترات، والتي آتت أكلها في كل الحروب التي تعرضت لها غزة.. آخرها طوفان الأقصى. إعطاء فصائل المقاومة فرصة للعمل بحرية أفضل، وتوفير أراضٍ مخصصة للتدريبات العسكرية لأبناء تلك الفصائل، خاصة حركة الجهاد الإسلامي. عملت على إيجاد أدوات القتال، من عتاد وقوة.. فكانت الصواريخ، والعبوات، والقذائف، والمسيرات. ملاحقة شبكات عملاء الاحتلال في قطاع غزة، حتى ضيقت على أجهزة مخابرات الاحتلال من خلال هذه الملاحقة.. ومن خلال الأمن الهجومي، بدلا من الأمن الدفاعي. وما إن بدأت حركة حماس العمل بنمط جديد، حتى زاد الحصار، واشتد الخناق، لتبدأ رحلة السعي لاستئصالها، هي وكل المقاومة في غزة.. فكانت الحروب المتتالية: (2008، 2012، 2014) لتحقيق هذا الهدف. السلطة والمقاومة مشروعان متناقضان كل متابع موضوعي للشأن الفلسطيني، يستطيع أن يرى الفرق الواضح بين مشروع السلطة الفلسطينية في رام الله، ومشروع المقاومة في فلسطين عامة، وغزة خاصة. السبب في هذا الفرق، يرجع إلى سببين هما: إعلان الخلفية السياسية والفكرية لكلا المشروعين. الاتفاقيات التي كبّل الفلسطيني نفسه بها من خلال أوسلو. فالمشروع الأول، يقوم على التعايش والسلام مع دولة الاحتلال، وبقائها في فلسطين. والمشروع الثاني، يقوم على مقاومة الاحتلال، وتحرير فلسطين، وكنس الاحتلال منها. لكن السؤال هنا: ما علاقة طوفان الأقصى بالمشروع الوطني الفلسطيني والشرق الأوسط الجديد؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، لا بد من الذكر أن الطوفان، كسر وإلى الأبد صورة هذا الاحتلال/الأسطورة. فمنذ عقود طويلة، يتم العمل على تدجين العقول في العالم، ولا سيما العربي والإسلامي، للتسليم بأن هذا الاحتلال أسطورة، لا يمكن هزيمتها أو كسر هيبتها، فجاء الطوفان، وكسر هذه الأسطورة. وهذا يعني، أن هزيمة دولة الاحتلال ممكنة، ولم تعد مستحيلة. فإذا كانت غزة وحدها بمقاومتها وحاضنتها الشعبية، قد حطمت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، فكيف سيكون الحال لو كان هناك مشروع وطني جامع للكل الفلسطيني، ومعه حركات التحرر العربية والإسلامية التي تؤمن بتحرير فلسطين؟ وهذا يأخذنا إلى السؤال، عن الطوفان، وعلاقته بالشرق الأوسط الجديد. طوفان الأقصى محطة فارقة في الصراع قبيل الطوفان بفترة وجيزة، وقف رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو، أمام الأمم المتحدة، رافعا خريطة للشرق الأوسط الجديد. وهو الذي دأب على التبشير بتغيير وجه الشرق الأوسط، إلى آخر جديد خالٍ من كل حركات المقاومة، وتكون دولة الاحتلال، هي الكبرى فيه، من حيث المساحة والقدرة والنفوذ. ولكن المفاجأة هي ما ذكرته كتائب القسام، من أنها كانت لديها معلومات دقيقة عن نية الاحتلال بدء هجوم كبير على المقاومة في غزة، ومن بعدها في الإقليم، ضد كل من يؤمن بالمقاومة في مواجهة دولة الاحتلال التوسعية. وهنا بادرت الحركة ببدء الطوفان في فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ردًّا على تلك الخطط التي أعدّها الاحتلال، ولتدمير أحلام نتنياهو بخريطة جديدة للشرق الأوسط. ويمكن القول إن طوفان الأقصى استطاع، حتى هذه اللحظة، تأخيرَ تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد وعرقلته، رغم كل ما فعله الاحتلال ضد حركات المقاومة. البناء على الطوفان رغم تكلفته العالية التي قدمها الشعب الفلسطيني، لا بد من استثمار هذا الطوفان، والبناء عليه بقوة، وهذا البناء يكون من خلال: أولا: في داخل فلسطين: إعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني التحرري، مع ضرورة العمل على توسيع دائرته لتشمل كل ألوان الطيف السياسي المقاوم في فلسطين، التي تؤمن بضرورة العمل لتحرير فلسطين. ويجب القفز عن العراقيل التي يمكن أن يضعها البعض أمام تحقيق هذا الهدف، ومن ذلك زعم بعضهم أن إعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني هو خطوة لاستبدال منظمة التحرير الفلسطينية.. وهو ليس كذلك، بل إن من أبجديات هذا المشروع، إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية نفسها، كبيت جامع للكل الفلسطيني تحت مشروع مقاومة الاحتلال. ثانيا: خارج فلسطين وإذا تم التوافق على مشروع وطني فلسطيني موحد- ويفضل أن يكون تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية- فإن العمل خارج فلسطين يصبح خطوة مكملة وداعمة لهذا المشروع، من خلال التعاون مع جميع حركات التحرر التي تؤمن بضرورة تحرير فلسطين، وكذلك مع الأنظمة التي تتبنى هذا الهدف. وينبغي أن يتم هذا التعاون ضمن إطار وطني موحد تشرف عليه مؤسسة جامعة تمثل الكل الفلسطيني، لأن وجود مثل هذا الإطار يسهل التنسيق مع تلك الأنظمة، ويعزز من قوة المشروع، ويراكم الإنجازات. وعلى عاتق هذا المشروع الجامع تقع المهام الأصعب، وفي مقدمتها طلب الدعم بكافة أشكاله من الأنظمة الملتزمة بقضية فلسطين، وذلك وفق قاعدة العمل المشترك التي يجسدها شعار: "فلسطين تجمعنا". محددات نجاح مشروع الشرق الأوسط الجديد وينبغي أن ندرك أنه حتى يتم تحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد، فإن هناك محددات لا بد من توفرها، وهي: إعلان توفر الرغبة لدى أصحاب المشروع ووجود الإرادة لتحقيق تلك الرغبة. وجود أنظمة تساعد على ذلك. غياب وانتهاء حركات المقاومة من المشهد. غياب الجماهير عن دورها الفاعل في التصدي للمشروع. ويمكن القول إن طوفان الأقصى أسهم في تثبيت حضور المقاومة في الميدان، لا سيما في غزة، وأعاد للجماهير دورها الفاعل في الساحات، وإن كان هذا الدور يشهد تراجعا وتقدما بحسب الظروف. أما ما يتعلق بالأنظمة، فهو جزء أساسي من المشروع الوطني الفلسطيني، الذي يحملها مسؤولياتها التاريخية تجاه فلسطين وشعبها، ويطالبها بالوقوف إلى جانب هذا المشروع التحرري. أما المحدد الأول، والمقصود به توفر الإرادة لدى أصحاب مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، فيمكن القول إن المقاومة، حتى الآن، نجحت في تعطيل هذا المسار وعرقلة تقدمه. خلاصة فكرة هزيمة الاحتلال ممكنة، وممكنة جدا، خاصة بعد ما فعله طوفان الأقصى. وسنن الله في التغيير حاضرة وبقوة.. وأحد أخطر سننه في هذه المواجهة: "وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم". فكرة إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني من خلال منظمة التحرير، وعلى قاعدة تحرير فلسطين، هي الرد الأقوى على حجم الزيف والموت الذي يوزعه الغرب ومشروعه الصهيوني في فلسطين. من أجل الجيل القادم، لا بد من العمل والمثابرة، حتى لو لم نحضر التغيير والنصر.. فيكفينا شرفا، أننا كنا من أهل غزة.. ولا زلنا نقبض على جمرة الدين، وجمرة الوطن.. حتى نلقى الله، ونحن كذلك.