logo
التداعيات الإقتصادية بعد الحرب بين إيران وإسرائيل

التداعيات الإقتصادية بعد الحرب بين إيران وإسرائيل

الجمهورية٠٨-٠٧-٢٠٢٥
بعد حرب سريعة ودقيقة وتكنولوجية بين بلدَين كبيرَين في المنطقة، والتدخّل والرعاية من قبل كل من الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، روسيا، الصين وغيرها، توصّل كل الأقطاب إلى وقف إطلاق النار، وحفظ ماء الوجه، لجميع الأطراف وجمهورهم.
لن نتوقف عند مَن هو الغالب ومَن هو المغلوب، وما هي التداعيات السياسية والأمنية؟ لكن سنركّز في هذا المقال على النتائج الإقتصادية المباشرة وغير المباشرة، على إيران، إسرائيل، البلدان المجاورة، المنطقة والعالم.
لا شك في أنّ إيران دفعت ثمناً باهظاً وتلقّت ضربات موجعة على منشآتها ومعاملها للنفط والغاز والتكرير، وعلى بنيتها التحتية للأنابيب والتوزيع، ممّا سيؤثر على ناتجها المحلي ومداخيلها الأساسية من الغاز والنفط وسائر مشتقاتهما، التي تُشكّل دخلها الأساسي.
بالإضافة إلى ذلك، تلقّت إيران ضربات قاصمة في البُنى التحتية، ومحطات الكهرباء التوزيع، إذ ستحتاج وقتاً طويلاً وأموالاً طائلة لإعادة البناء. أمّا بالنسبة إلى مشاريعها ومعاملها النووية العسكرية والمدنية، فقد دُمّرت أيضاً، ومن المستحيل إعادة هيكلتها قبل سنوات وعقود طويلة.
من جهة أخرى، تكبّدت إسرائيل خسائر إقتصادية ضخمة، إذ ضُرب موسمها السياحي، الذي يُشكّل العمود الفقري لإقتصادها ومداخيلها، وأيضاً شُلَّ قطاعها الخاص في كل المجالات التجارية، الصناعية والتكنولوجية، وتدهور سوقها المالي، لكن وعدت الحكومة الإسرائيلية بضخ مليارَي دولار كتعويض للشركات المتضرّرة، وإعادة الدورة الإقتصادية بسرعة فائقة. لا شك في أنّ الإمكانات والدعم المالي والنقدي سيكون متوافراً بسهولة مع بلدان داعمة ومتموّلة.
أمّا بالنسبة إلى الأسواق المالية الدولية، فقد تراجعت بنسب كبيرة، وارتفعت أسعار النفط والغاز، وشهدنا تقلّبات في أسعار الذهب. أمّا بعد وقف إطلاق النار فعادت دورة الإنماء، وشهدت الأسواق المالية نشاطاً بنسبة 5% دولياً وحتى 7% في الأسواق الآسيوية. أمّا أسعار الذهب فانخفضت من جديد.
الضغوط لا تزال موجودة في هذا الجو الضبابي، ولا سيما بعد تراجع حركة المرور في مضيق هرمز، الذي يمرّ عبره أكثر من 20% من الغاز والنفط الدولي.
أمّا بالنسبة إلى البلدان المجاورة، مثل لبنان، الأردن، مصر وغيرها، فلا شك في أنّ هناك خسائر كبيرة مباشرة وغير مباشرة، وشلّاً للإستثمارات، تدهور الثقة، مخاوف إعادة الصراع، واللجوء إلى إقتصاد الحرب الذي يؤدّي إلى تضخّم هائل. فنشاهد في هذه البلدان والمنطقة ما يُسمّى بالـ Stagflation وهي جمود وشلل إقتصادي، بالتوازي مع التضخُّم وزيادة الأسعار.
الآن، المنطقة مركّزة على مشروع إعادة إعمار سوريا، وهناك تنافس كبير لِمَن سيكون الممرّ الرئيسي لهذا التمويل والإستثمارات المنتظرة، وفي الوقت عينه، هناك مخاوف من عدم الإستقرار والرجوع إلى لغة الحرب.
في المحصّلة، لا شك في أنّ التداعيات الإقتصادية جرّاء هذه الحرب الإقليمية كانت باهظة، والمخاوف كبيرة. لكن في الوقت عينه، نستطيع أن نتفاءل ونحلم بالسلام والإستقرار في لبنان والمنطقة، برعاية الأمم المتحدة، لأنّنا لن نتحمّل المزيد من الخسائر والتراجع والتدهور. فلبنان على مفترق طرق، إمّا بناء دولة حقيقية مستقلة، وإمّا أن يعيش من هيمنة إلى أخرى.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

بعد موجة التهديدات الجمركية.. ارتفاع في اسعار الذهب
بعد موجة التهديدات الجمركية.. ارتفاع في اسعار الذهب

ليبانون 24

timeمنذ 25 دقائق

  • ليبانون 24

بعد موجة التهديدات الجمركية.. ارتفاع في اسعار الذهب

ارتفعت أسعار الذهب الأربعاء مع تقييم المستثمرين لبيانات أظهرت زيادة في أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة الشهر الماضي وانتظروا المزيد من الوضوح بشأن السياسة التجارية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب. بحلول الساعة 04:01 بتوقيت غرينتش، صعد الذهب في المعاملات الفورية 0.4 بالمئة إلى 3334.12 دولار للأوقية (الأونصة)، وزادت العقود الأمريكية الآجلة للذهب 0.1 بالمئة إلى 3340.90 دولار. وقال براين لان المدير الإداري في جولد سيلفر سنترال بسنغافورة 'الذهب في هذه اللحظة يتماسك مع ميل طفيف نحو الهبوط، خاصة مع ارتفاع الدولار'. وأضاف 'مع ذلك، لا تزال دول كثيرة تتفاوض مع الولايات المتحدة بشأن الرسوم الجمركية. وما زال هناك الكثير من الشكوك في السوق، ويبحث الكثيرون عن أصول الملاذ الآمن'.

مبدأ عدم الإعادة القسرية في إطار سيادة الدول
مبدأ عدم الإعادة القسرية في إطار سيادة الدول

الجيش اللبناني

timeمنذ 40 دقائق

  • الجيش اللبناني

مبدأ عدم الإعادة القسرية في إطار سيادة الدول

مبدأ عدم الإعادة القسرية في إطار سيادة الدول إعداد: الملازم باميلا حنين المقدمة تصدّرت حقوق الإنسان في العقود الأخيرة اهتمام المجتمع الدولي، إذ بات من غير الممكن التطرّق إلى أي قضية قانونية أو سياسية أو اجتماعية من دون التوقّف عند الحقوق والحريّات الأساسيّة المرتبطة بها. كما أصبحت هذه الحقوق معيارًا حاسمًا لتقييم الدول وتصنيفها، وهو ما دفع العديد منها إلى محاولة تحسين سجلّها الحقوقي لتجنّب أي تداعيات سياسيّة واقتصاديّة سلبية. لقد كانت الانطلاقة التاريخية للاهتمام بحقوق الإنسان على المستوى العالمي مع نهاية الحرب العالمية الثانية، عبر إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، الذي أكّد أنّ هذه الحقوق متأصلة في كرامة الإنسان ذاته، وأنّها عالميّة لا تقبل التجزئة أو التمييز لأي سبب كان. وتبعه في عام 1966 اعتماد العهدين الدوليين؛ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وبرتوكوليهما، الذين شكّلوا مع الإعلان العالمي «الشرعة الدوليّة لحقوق الإنسان». شهد القانون الدولي تطوّرًا ملحوظًا نحو تعزيز حماية الأفراد، وتحديدًا الفئات الأكثر هشاشة في أوقات النزاع أو الاضطراب، وهو ما تجلّى في نشوء قواعد قانونية تعلو على اعتبارات السيادة التقليديّة. ويأتي مبدأ عدم الإعادة القسريّة (Non-refoulement) في مقدّمة هذه القواعد، باعتباره نتاجًا لتراكم تاريخي من التجارب الإنسانيّة، خاصة بعد الحرب العالميّة الثانية، حيث برزت الحاجة إلى وضع ضمانات تحول دون إعادة الأفراد إلى أماكن قد يتعرّضون فيها للاضطهاد أو الأذى الجسيم. يرتبط مبدأ عدم الإعادة القسريّة بشكل وثيق بالحاجة إلى الملجأ الذي شكّل جزءًا جوهريًا من تاريخ البشريّة، حيث وفّرت أماكن العبادة والمعابد والمدن الآمنة ملاذًا لمن تعرّضوا للاضطهاد أو الملاحقة، وكان يُنظر إلى منح الملجأ باعتباره واجبًا أخلاقيًّا ودينيًّا أكثر من كونه التزامًا قانونيًّا1. مع تطوّر الدول القوميّة وتعزيز مفهوم السيادة في العصور الوسطى والحديثة، بدأت الدول في تقنين منح الملجأ وفقًا لاعتبارات سياسيّة وقانونيّة، ما جعل حق اللجوء خاضعًا لقوانين الدولة المضيفة وتوازناتها الداخليّة والخارجيّة2. شهد القرن العشرين تحوّلًا نوعيًا في التعامل مع اللجوء كحق قانوني، نتيجة الدمار والنزوح الواسعين بعد الحربين العالميتين. وقد دفعت الحاجة إلى حماية اللاجئين المجتمع الدولي إلى إقرار اتفاقية اللجوء للعام 1951، التي ألزمت الدول باحترام مبدأ عدم الإعادة القسرية، مما قيّد سلطتها في رفض أو ترحيل اللاجئين دون مراعاة الضمانات القانونيّة الواجبة. وبهذا، لم يعد اللجوء مسألة تُترك بالكامل لتقدير الدول وفق قوانينها الخاصّة، بل أصبح يخضع لمنظومة قانونيّة دوليّة تهدف إلى تحقيق توازن بين حق الأفراد في الحماية، وحقوق الدول في ضبط دخول الأجانب وفقًا لمصالحها الأمنيّة والسياسيّة. ومع التقدم الذي شهدته حقوق الإنسان، برز مفهوم التدخل الإنساني الذي سمح بتجاوز السيادة في بعض الحالات لحماية السكان من انتهاكات جسيمة كالإبادة الجماعية وجرائم الحرب، وذلك استنادًا إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. إلا أن اللجوء إلى هذا التدخل دون تفويض أممي خلق إشكاليات قانونية تتعارض مع مبدأ عدم التدخل واحترام سيادة الدول3. لذلك، يمكن القول إنه وعلى الرغم من المكانة المتقدّمة التي بلغتها حقوق الإنسان في المنظومة القانونيّة الدوليّة، تظلّ علاقتها بمبدأ سيادة الدول علاقةً دقيقةً ومعقّدة. فسيادة الدول تُعدّ من المبادئ الراسخة في القانون الدولي، وتعني السلطة العليا للدولة على إقليمها وشؤونها الداخليّة والخارجيّة، بما في ذلك حقّها في تنظيم حدودها وضبط حركة الدخول والخروج من أراضيها وفقًا لمصالحها الوطنيّة. وعلى الرغم من أنّ القانون الدولي يكفل للدول حق اتخاذ التدابير اللازمة لحماية أمنها القومي، فإنّ هذا الحق قد يتعارض أحيانًا مع مبدأ عدم الإعادة القسريّة. إنّ الضغوطات الكبيرة التي شهدتها الدول، لا سيّما في ظل موجات الهجرة الواسعة في مختلف أنحاء العالم، دفعت العديد من الحكومات إلى اتّخاذ تدابير تقييدية أكثر صرامة، سواء على مستوى التشريعات أو الممارسات العمليّة، بهدف الحدّ من أعداد المهاجرين الداخلين إلى أراضيها، وتقليص فرص طالبي اللجوء في الحصول على الحماية المطلوبة. هذا الواقع يثير إشكالية جوهرية تتمثّل في التصادم بين مبدأ السيادة الوطنيّة والالتزامات الدوليّة ومدى قدرة الدول على تحقيق التوازن المطلوب بين متطلّبات الأمن القومي وضرورة احترام المعايير الدوليّة لحماية حقوق الإنسان خاصة في ظلّ التحولات المتسارعة على الساحة الدوليّة. القسم الأول الإطار القانوني لمبدأ عدم الإعادة القسريّة تتجلّى أهمية دراسة الإطار القانوني لأي مبدأ دولي في كونه يحدّد نطاق تطبيقه، وحدوده، وشروطه، كما يوفّر الضمانات اللازمة التي تكفل احترامه وتمنع استغلاله من قبل الدول، ويبيّن الآثار القانونية المترتّبة على انتهاكه. وفي هذا السياق، تُعدّ دراسة الإطار القانوني لمبدأ عدم الإعادة القسرية ضرورية لفهم مكانته كضمانة أساسية لحماية الأفراد من الانتهاكات الجسيمة، ومعيارًا لقياس مدى التزام الدول باحترام حقوق الإنسان. أولاً: مصادر مبدأ عدم الإعادة القسريّة إنّ جذور المبدأ نجدها في اتفاقيّات استرداد وتسليم المجرمين خصوصًا في مستهل القرن التاسع عشر، عندما بدأت دول العالم بإدخال تنظيم الاسترداد والتسليم في تشريعاتها الداخليّة. وقد وُضعت شروط له كعدم إدراج الجرم ضمن موانع الاسترداد، وكان المقصود بها الجرائم التي استقرّ العرف الدولي والضمير الإنساني على حظر التسليم فيها كالجرائم السياسيّة مثلًا4. هذا وقد أُدرجت موانع إضافيّة في اتفاقيّة الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظّمة عبر الوطنيّة لعام ٢٠٠٠ بشأن تسليم واسترداد المجرمين، من شأنها أن تكرّس بشكل أوضح مبدأ عدم الإعادة القسريّة5. بعد انتهاء الحرب العالميّة الأولى واستجابةً لمشاكل اللاجئين التي نشأت عنها، وُضعت اتفاقيّة العام 1933 بشأن المركز الدولي للاجئين من قبل عصبة الأمم. وقد تعهّدت الدول الأطراف بموجب هذه الإتفاقية بعدم طرد اللاجئين المقيمين في إقليمها، أو منعهم من دخوله عبر إجراءات مثل الطرد أو الرفض على الحدود، ما لم تقتضِ الضرورات المرتبطة بالأمن الوطني أو النظام العام6. لقد كانت الاتفاقية الأولى لناحية تقنين مبدأ عدم الإعادة القسريّة وقد تبعتها بعد ذلك العديد من الاتفاقيات الدوليّة والإقليميّة لترسيخه، والتي شكلت حجر الزاوية لصدور اتفاقيّة اللاجئين للعام 1951 وبروتوكولها الوحيد «المعدّل» التابع لها والصادر في العام 1967. كانت اتفاقيّة العام 1951 تقتصر على توفير الحماية للأشخاص الذين هاجروا نتيجة لأحداث وقعت في أوروبا قبل الأول من كانون الثاني 1951، غير أنّ بروتوكول عام 1967 أزال الحدود الجغرافيّة والزمنيّة الواردة في الاتفاقيّة الأصليّة. تُعرّف المادة الأولى من إتفاقيّة 1951 اللاجئ بوضوح، إذ تنصّ على أنّه: شخص يوجد خارج بلد جنسيته أو بلد إقامته المعتادة، بسبب خوف له ما يبرّره من التعرّض للاضطهاد لأسباب تتعلق بالعرق، أو الدين، أو الجنسيّة، أو الانتماء إلى فئة اجتماعيّة معيّنة، أو تبنّي رأي سياسي، ولا يستطيع بسبب ذلك الخوف أو لا يريد أن يستظلّ بحماية ذلك البلد أو العودة إليه خشية التعرّض للاضطهاد. وترتّب الإتفاقية التزامات على عاتق الدول، في مقدمتها مبدأ عدم الإعادة القسريّة، الوارد في المادة 33 منها7. كانت هذه الاتفاقيّة مصدر إلهام لعدد من الصكوك الإقليميّة، من بينها اتفاقيّة منظمة الوحدة الإفريقيّة لعام 1969، التي وسّعت من نطاق تعريف اللاجئ ليشمل فئات أوسع من الأشخاص المؤهلين للحصول على هذه الصفة، كما استُلهم منها إعلان كارتاخينا لعام 1984 الخاص بلاجئي أميركا اللاتينيّة، وإعلان القاهرة حول حماية اللاجئين والنازحين في العالم العربي لعام 1992، غير أنّ هذه الاتفاقيّة لم تدخل حيّز التنفيذ حتى اليوم8، بالإضافة إلى مبادئ بانكوك المتعلقة بالمركز القانوني ومعاملة اللاجئين، التي اعتمدتها المنظمة الاستشاريّة القانونية الآسيويّة الأفريقيّة في عام 1966. توسَّع نطاق مبدأ عدم الإعادة القسريّة وأصبحت له جذور في العديد من الاتفاقيّات المتعلّقة بحقوق الإنسان، وخاصة اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة لعام 1984 في المادة الثالثة منها التي نصّت في فقرتها الأولى على ما يلي: «لا يجوز لأية دولة طرف أن تطرد أي شخص أو تعيده (تردّه) أو أن تسلّمه إلى دولة أخرى، إذا توافرت لديها أسباب حقيقيّة تدعو إلى الاعتقاد بأنه سيكون في خطر التعرّض للتعذيب»، إلى جانب الاتفاقيّة الدوليّة لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري حيث ورد المبدأ في المادة 16 منها التي أكّدت عدم جواز طرد أو إبعاد أو تسليم أي شخص إلى أي دولة أخرى إذا كانت هناك أسباب وجيهة تدعو إلى الاعتقاد بأنّ هذا الشخص سيقع ضحيّة للاختفاء القسري. وما يميّز مبدأ عدم الإعادة القسريّة الوارد في هذه الاتفاقيّة واتفاقيّة حظر التعذيب بأنه مبدأ مطلق، قد ورد دون أي استثناء. ثانيًا: مدى إلزاميّة مبدأ عدم الإعادة القسريّة ورد مبدأ عدم الإعادة القسريّة في عدد من الاتفاقيّات الدوليّة والإقليميّة، ويُستمد الإلزام القانوني لهذا المبدأ من المعاهدات التي أُدرج فيها. فقد نصّت المادة 26 من اتفاقيّة فيينا لقانون المعاهدات على ما يلي: «كل معاهدة نافذة ملزمة لأطرافها وعليهم تنفيذها بحسن نيّة»، وهو ما يؤكده فريق من الفقهاء. في المقابل، يرى فريق آخر من الفقه أنّ مبدأ عدم الإعادة القسريّة قد تجاوز حدود الاتفاقيّات والمواثيق الدوليّة، مؤكّدين أنّه نظراً لأهميته الجوهرية، فإنّه لا يُحصر ضمن نطاق المعاهدات وحدها، بل ارتقى ليُشكل قاعدة عرفيّة، لتوافر الركنين المادي أي التصرفات المتكررة المتوافقة مع المبدأ، والمعنوي لناحية الشعور بإلزاميّـته. وهذا يتجلّى في ممارسات عدد من الدول غير الأطراف في اتفاقية اللجوء للعام 1951 9، أما في ما يتعلق بمبدأ عدم الإعادة القسريّة الوارد في اتفاقيّة مناهضة التعذيب، فهناك شبه إجماع على طابعه العرفي. لم يتم الاكتفاء بهذا الحدّ، إذ اعتبر بعض الفقهاء أنّ مبدأ عدم الإعادة القسريّة لا يشكّل مجرد قاعدة عرفية، بل يُعد قاعدة آمرة من القواعد العامة للقانون الدولي. وهذه الأخيرة تُعد من المفاهيم الحديثة نسبيًا، وتعلو في مرتبتها القواعد العرفية، كونها تحمي القيم الأساسيّـة للمجتمع الدولي. ويُشترط لتحقق صفة القاعدة الآمرة توافر معيارين معًا: 1 - أن تكون قاعدة من القواعد العامّة للقانون الدولي. وقد كان يُشترط سابقًا أن تكون قاعدة عرفية، غير أنّه جرى تعديل هذا المعيار في العام 2022، ليُعتمد على جميع المصادر الأصلية في إنشاء القاعدة الآمرة10. وفي الحالتين، فإنّ هذا المعيار ينطبق على مبدأ عدم الإعادة القسرية. 2- أن يقبل بها المجتمع الدولي للدول ككل ويعترف بها كقاعدة لا يُسمح بالخروج عنها، ولا يمكن تعديلها إلا بقاعدة لاحقة من ذات الطبيعة والمرتبة. وقد تم التأكيد على أنّ هذا القبول والاعتراف لا يشترط أن يكون من جميع الدول، بل من أغلبية كبيرة وتمثيلية فيها. ويظهر هذا القبول من عدد الدول الموقّعة على الاتفاقيّات والبروتوكولات التي تتضمّن هذا المبدأ، مثل اتفاقيّة مناهضة التعذيب وغيرها من الاتفاقيات التي ذكرناها، ولناحية منع الدول الراغبة بأن تكون طرف في هذه الاتفاقيّات من التحفّظ11 عن المادة التي تتضمّن مبدأ عدم الإعادة القسريّة. وبالتالي يكون المعيار الثاني قد تحقّق، ممّا يضفي على مبدأ عدم الإعادة القسريّة صفة القاعدة الآمرة وليس فقط قاعدة عرفيّة. لعبت المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بصفتها منظمة دوليّة تعمل تحت إشراف الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة دورًا كبيرًا خاصة في حماية مبدأ عدم الإعادة القسرية الوارد في اتفاقية اللجوء والتأكيد على إلزاميته، من خلال تواجدها في العديد من الدول، سواء المنضمّة إلى الإتفاقية أو غير المنضمّة. ولم يقتصر دورها على حث الدول على الانضمام إلى الاتفاقيّة وبروتوكولها، بل شمل أيضًا تأمين الحماية والمساعدة المباشرة للّاجئين وطالبي اللجوء، وذلك عبر ما يُعرف بـ «مذكرات التفاهم الثنائيّة» التي تشكّل أساس التعاون مع الدول غير الأطراف في الاتفاقية. فقد وُجدت على سبيل المثال، في لبنان منذ العام 1962، وفي بنغلادش منذ العام 1971، وفي باكستان منذ العام 1979، وهي تتمتّع في العديد من الدول بحضور ميداني فعّال. وغالبًا ما تعمل «كدولة بديلة» وتتولى مسؤوليّات تنتمي عادة إلى الدول، مثل تحديد صفة اللاجئ12. ثالثًا: شروط تطبيق مبدأ عدم الإعادة القسريّة واستثناءاته لقد أدى ورود مبدأ عدم الإعادة القسرية في عدد من الاتفاقيّات الدوليّة التي تناولت موضوعات مختلفة عن بعضها البعض، إلى تباين في عناصر تطبيق هذا المبدأ وفقًا لكل اتفاقيّة على حدة. ومع ذلك، يمكن عمومًا تصنيف عناصر التطبيق إلى قسمين رئيسَين: الأول يتعلّق بفئة الأشخاص المشمولين بالحماية؛ والثاني، بالشروط المكمّلة اللازمة لتطبيقه. بالنسبة إلى فئة الأشخاص، فإنه من البديهي القول أنّ مبدأ عدم الإعادة القسريّة الوارد في اتفاقيّة اللاجئين لعام 1951 يسري على اللاجئين، حيث نصّت المادّة 33، في فقرتها الأولى على ما يلي: «لا يجوز لأية دولة متعاقدة أن تطرد لاجئًا أو تردّه بأية صورة من الصور إلى حدود الأقاليم التي تكون حياته أو حريّـته مهددة فيها بسبب عرقه أو دينه أو جنسيّـته أو انتمائه إلى فئة اجتماعيّة معيّنة أو آرائه السياسيّة». وقد تولّت المادّة الأولى من الاتفاقية تعريف من يُعتبر لاجئًا. وقد ذهب فقهاء القانون الى أبعد من ذلك معتبرين أنّ الحماية تبدأ منذ لحظة طلب اللجوء، وليس فقط بعد الإعتراف الرسمي بصفة اللاجئ. وهذا ما أكّدته أيضًا المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إذ تعتبر أنّ الشخص يُعد لاجئًا فور تحقق المعايير المنصوص عليها في اتفاقيّة العام 1951، حتى ولو لم يتُم بعد تحديد وضعه رسميًا. فالاعتراف بحالته لا يجعل منه لاجئًا، بل يعلن فقط عن وجود حالة لجوء13. وبالتالي بالنسبة إلى قانون اللجوء فمن يستفيد من مبدأ عدم الإعادة القسريّة يجب أن ينتمي على الأقل إلى واحدة من هاتين الفئتين من الأشخاص. ولا تُعطى الأفضلية لإحدى الفئتين، إلا في حال رُفض طلب اللجوء فعندها تسقط الحماية الممنوحة بموجب هذا المبدأ. أما بالنسبة إلى الشروط المكمّلة له فأولها يقضي بالوقوع تحت الولاية القضائية للدولة، حيث تشمل الولاية تأكيد ممارسة السلطة سواء بحكم القانون أو بحكم الأمر الواقع، إما من خلال السيطرة على الإقليم، أو سيطرة وكلاء الدولة على شخص خارج إقليمها أو السيطرة على الانتهاك المزعوم14. ووفقًا لمفوضيّة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإنّ المادّة 33 تنطبق «حيثما تمارس الدولة الولاية، بما في ذلك على الحدود، وعلى أعالي البحار، أو على أراضي دولة أخرى»15. وهذا ما أكّدته لجنة مناهضة التعذيب بأنه «يجب على كل دولة طرف أن تطبّق مبدأ عدم الإعادة القسريّة في أي إقليم يخضع لولايتها القضائيّة أو أي منطقة تخضع لسيطرتها، أو على متن سفينة أو طائرة مسجّلة في الدولة الطرف...»، وحددت مفهوم الإقليم الذي يخضع لولايتها القضائيّة أنّه «جميع المناطق التي تُمارس فيها الدولة الطرف، مباشرةً أو غير مباشرةً، جزئيًا أو بالكامل، سيطرة فعّالة، سواءً كانت قانونيّة أو واقعية، وفقًا للقانون الدولي»16. أما ثانيها فهي ترتبط بتحقق فعل الإعادة أي تحقق واقعة انتقال فعلي للشخص المعني من نطاق الولاية القضائيّة لدولة ما إلى ولاية قضائية أخرى بغض النظر عن مسمّى الفعل الذي تقوم به الدولة. فقد ورد في التعليق العام للجنة مناهضة التعذيب بأنّ مصطلح «الترحيل» يشمل: «على سبيل المثال لا الحصر، الطرد والتسليم والإعادة القسريّة والنقل القسري والرفض على الحدود، وعمليات الصد التي تشمل شخصًا أو مجموعة من الأشخاص من الدولة الطرف إلى دولة أخرى». أما ثالثها فيفترض أن يترتب عن الإعادة واحدة من النتائج التي تتعارض مع حقوق الإنسان والتي سعت الاتفاقيّات إلى تجنّبها. على سبيل المثال، كوجود أسباب حقيقية عن خطر التعرّض للتعذيب في اتفاقية مناهضة التعذيب، أو الخطر الذي يهدد الحياة والحرية بسبب العرق، أو الدين، أو الجنسيّة، أو الانتماء إلى فئة اجتماعيّة معيّنة، أو بسبب آرائه السياسيّة في اتفاقية اللجوء، ورد هذا التعداد على سبيل الحصر وليس المثال. هذه الحماية، لا تقتصر فقط على حالة إعادة الشخص المشمول بالحماية إلى الدولة التي يحمل جنسيّتها، أو محل إقامته المعتاد، بل تشمل أيضًا، أي دولة أو إقليم أو بقعة جغرافيّة قد يتعرض فيها لأي من هذه الأخطار. تحديد معايير وشروط انطباق مبدأ عدم الإعادة القسريّة لكل اتفاقيّة يُعتبر أمرًا معقدًا نظرًا لتعدد الاجتهادات القانونيّة وتفاوتها في بعض الأحيان. فبينما تسعى هيئات حقوق الإنسان إلى توسيع نطاق تطبيق المبدأ لحماية أكبر عدد من الأفراد، تسعى الدول إلى تقييد هذا التطبيق بما يتناسب مع مصالحها الأمنية والسياسيّة. لذلك، يبقى المبدأ واضحًا من حيث الصياغة، ولكنه معقّد من حيث التطبيق. وغالبًا ما يتطلب الأمر دراسة دقيقة لكل حالة على حدة لتحديد ما إذا كانت شروط المبدأ متحققة. يزيد من صعوبة هذه المهمة الاستثناءات الواردة على المبدأ، حيث أنّ التحقّق من توافر شروط هذه الاستثناءات قد يؤدي إلى إسقاط الحماية التي يوفّرها المبدأ، ما يجعل عمليّة التقييم أكثر تعقيدًا. أما بالنسبة إلى الاستثناءات فلا بد من الإشارة أنّه في بعض الحالات، قدّم المجتمع الدولي حماية حقوق معيّنة على حساب الأمن، مثل حظر التعذيب، بحيث ورد مبدأ عدم الإعادة القسريّة بصورة مطلقة، دون أي استثناء. وأكّد مجلس حقوق الإنسان ذلك بوضوح، حيث جاء في أحد قراراته: «يهيب بالدول أن تكفل عدم نقل أو إعادة المشتبه في ارتكابهم أنشطة إرهابية أو غيرها من الجرائم المتعلقة بالأمن القومي إلى بلدان توجد فيها أسباب حقيقية تدعو إلى الاعتقاد أنّ هؤلاء المشتبه بهم سيكونون مهددين بخطر التعرّض للتعذيب»17. أمّا بالنسبة إلى اتفاقية اللجوء فهي بالإضافة إلى حالة رفض الطلب أو زوال الصفة فقد وردت الاستثناءات في الفقرة الثانية من المادّة 33، حيث نصّت على أنّه: «لا يُسمح بالاحتجاج بهذا الحق لأي لاجئ تتوفّر دواعٍ معقولة لاعتباره خطرًا على أمن البلد الذي يوجد فيه، أو لاعتباره يمثّل، نظرًا لسبق صدور حكم نهائي عليه لارتكابه جرمًا استثنائي الخطورة، خطرًا على مجتمع ذلك البلد». اللافت أنّ بعض الاتفاقيّات الإقليميّة الخاصة باللجوء، مثل اتفاقيّة منظمة الوحدة الإفريقية لعام 1969، وإعلان كارتاخينا لعام 1984، لم تُدرِج مثل هذه الاستثناءات ضمن نصوصها، بل أكّدت على مبدأ عدم الإعادة القسريّة كضمانة مطلقة، ما يعكس توجّهًا متصاعدًا في القانون الدولي نحو تشديد الحماية وتقييد إمكانيّة الإخلال بها. القسم الثاني بين السيادة الوطنية والالتزامات الدولية: واقع تطبيق مبدأ عدم الإعادة القسرية شهد مبدأ عدم الإعادة القسرية العديد من التحديات والمعوّقات في سبيل تطبيقه الفعلي، لا سيّما في ظل تمسّك الدول بصلاحياتها السيادية في ضبط حدودها واتخاذ ما تراه مناسبًا لحماية أمنها القومي. فبينما يُصنَّف هذا المبدأ ضمن القواعد الآمرة في القانون الدولي، غالبًا ما تُغلَّب عليه اعتبارات المصلحة الوطنية، ممّا يُثير تساؤلات جوهرية حول مدى قدرة الدول على الالتزام بواجباتها الدولية دون التفريط بحقها في ممارسة سيادتها. ويستدعي هذا التوتر دراسة متأنّية للعلاقة بين مبدأ السيادة والالتزامات الدولية. أولاً: تطوّر مفهوم السيادة يُعدّ مبدأ عدم الإعادة القسريّة أحد أهم المبادئ الأساسيّة في القانون الدولي، لما يُوفّره من ضمانات جوهريّة لحماية حقوق الإنسان وصون كرامته. ومع ذلك، شهد العصر الحديث زيادة غير مسبوقة في أعداد اللاجئين نتيجة النزاعات والحروب المستمرّة، مما فرض أعباءً متزايدة على الدول في مختلف المجالات، لا سيّما في المجالين الأمني والاقتصادي. هذه الضغوط دفعت بالعديد من الدول إلى تبنّي تدابير وإجراءات تهدف إلى الحد من تدفق اللاجئين إليها، متذرعةً بمفهوم السيادة الوطنيّة والصلاحيات المرتبطة بها. ويثير هذا الواقع المعقّد إشكالية قانونية وإنسانية بالغة الأهمية، تتعلق بمدى قدرة الدول على التوفيق بين مقتضيات السيادة ومبدأ عدم الإعادة القسريّة، دون أن تُفرغ هذا الأخير من مضمونه أو تنال من طابعه الإنساني. شهد مفهوم السيادة تطوّرًا ملحوظًا في السياق القانوني الدولي، حيث انتقل من كونه تعبيرًا عن سلطة مطلقة تمارسها الدولة داخل حدودها دون تدخل خارجي وفقًا لما ورد في صلح وستفاليا لعام 1648، إلى مفهوم أكثر مرونة يتقاطع مع الالتزامات الدوليّة، خصوصًا في مجال حماية حقوق الإنسان، بحيث اعتبر البعض أنّه لا وجود للدولة بدون القانون الدولي18. يُبرز هذا التصوّر فكرة أنّ السيادة ليست خالية من الالتزامات، بل إنّها تُمثّل استقلال الدولة ضمن نظام قانوني دولي يضع حدودًا لممارساتها. ويترتب عن هذه السيادة آثار على الصعيدين الداخلي والخارجي. تُعرف السيادة الداخلية بالمجال المحجور للدولة وتُمثل السلطة العليا التي تمارسها الدولة ضمن حدودها وعلى جميع الأفراد والمؤسسات والأنشطة الموجودة فيها19. هذه الفكرة وردت في ميثاق الأمم المتحدة20، بما في ذلك اتخاذ القرارات المتعلّقة بالنظام العام، والأمن، والتشريع، والاقتصاد، وتنظيم المؤسسات العامّة وملاحقة الجرائم والانتهاكات المرتكبة ضمن حدودها، وذلك وفقًا للتشريعات الوطنيّة النافذة. وتعكس هذه الممارسة قدرة الدولة على صون استقرارها الداخلي، وحماية حقوق الأفراد وأمنهم ضمن إطار قانوني مستقل21. في المقابل تشمل السيادة الخارجيّة للدولة مجموعة من الحقوق والاختصاصات التي تُمكّنها من إدارة علاقاتها الدوليّة بحريّة واستقلاليّة. من أبرز جوانب السيادة الخارجيّة حق الدولة في إبرام المعاهدات والاتفاقيّات الدوليّة، إذ تستطيع الدولة، بموجب سيادتها، الدخول في اتفاقيّات ثنائيّة أو متعددة الأطراف مع الدول الأخرى والمنظمات الدوليّة وحق الدولة في المشاركة في المنظمات الدوليّة كالأمم المتحدة. تدخل ضمن هذه السيادة أيضًا إدارة شؤون الهجرة والجنسيّة، حيث تمتلك الدولة الحريّة في وضع قوانين تنظّم دخول وخروج الأجانب. يترتب عن ذلك مفهوم المساواة السيادية. فقد نصّ إعلان حقوق وواجبات الأمم الذي أقرّه اتحاد القانون الدولي في 11 تشرين الثاني لعام 1919 على أنَّ: «الدول متساوية أمام القانون، وتفترض هذه المساواة القانونيّة تعاونها سوية في تنظيم مصالح الجماعة الدوليّة وإن كانت لا تستلزم حتمًا مساهمتها بنصيب واحد في تكوين نشاط الهيئات التي تتولى هذه المصالح». وقد تم تكريس هذا المبدأ في الفقرة الأولى من المادّة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة، التي تنص على أنّ «المنظمة تقوم على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها». بالإضافة إلى مبدأ عدم التدخل كأحد المبادئ الأساسيّة في القانون الدولي العام، الذي ورد في إعلان هلسنكي النهائي، الذي يُعرف أيضًا بـ «وثيقة هلسنكي»، والذي يمثل اتفاقيّة دبلوماسية بارزة تم توقيعها في الأول من آب عام 1975 من قبل 35 دولة، من بينها الولايات المتحدة، وكندا، والاتحاد السوفياتي، ودول أوروبية أخرى. وعلى الرغم من أنّ هذه الوثيقة لم تكن معاهدة ملزمة قانونيًا بالمعنى التقليدي، إلا أنّها حملت وزنًا سياسيًا كبيرًا يُلزم الدول الامتناع عن التدخل، المباشر أو غير المباشر، في الشؤون التي تقع ضمن الاختصاص الداخلي لدولة أخرى، سواء كان ذلك عن طريق القوة أو التهديد أو أي شكل من أشكال التأثير السياسي أو الاقتصادي. وقد ميّز البعض بين شكلين لعدم التدخل، عدم تدخل الدول في الشؤون الداخليّة لدول أخرى وعدم تدخل الأمم المتحدة في الشؤون التي تعتبر من صميم السلطان الداخلي لدولة ما. فالشكل الأول يظهر بمضمون ما جاء في الفقرة الرابعة من المادّة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة التي أكّدت على عدم جواز اللجوء إلى القوة في علاقات الدول مع بعضها البعض، أما الشكل الثاني فيجد مصدره في الفقرة السابعة من المادّة الثانية من الميثاق التي نصّت: «ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما، وليس فيه ما يقتضي الأعضاء أن يعرضوا مثل هذه المسائل لأن تحل بحكم هذا الميثاق، على أن هذا المبدأ لا يخلّ بتطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل السابع»22. مع ذلك، شهدت حقبة التسعينيات تمكين منظمة الأمم المتحدة من ممارسة حق التدخل لحماية حقوق الإنسان، استنادًا إلى الربط بين انتهاكات حقوق الإنسان وحماية السلم والأمن الدوليين، وهو ما يدخل ضمن صميم اختصاصات مجلس الأمن بموجب الفصلين السادس والسابع من ميثاق الأمم المتحدة. وعلى الرغم من هذا التوجّه، يبقى من الضروري التأكيد على أنّ أي تدخل لا يتم عبر منظمة الأمم المتحدة، أو يجري دون تفويض صادر عن مجلس الأمن، بذريعة حماية حقوق الإنسان، يُعدّ تدخلًا غير مشروع من منظور القانون الدولي. ثانيًا: مسؤوليات الدول عن التزاماتها الدولية يترتب على تمتع الدول بالسيادة، أحقيّـتها في فرض قيود على دخول الأفراد إلى أراضيها، كإحدى أبرز مظاهر سيادتها الإقليميّة. وقد أقرّت المادّة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة بمشروعيّة ممارسة الدولة لهذا الحق، بما في ذلك تنظيم دخول الأفراد إلى إقليمها من خلال وضع الشروط والإجراءات التي تراها ملائمة لتحقيق مصالحها الوطنيّة. وتنقسم هذه القيود إلى نوعين: مادية وقانونية. أمّا القيود القانونية فهي تلك التي تمارسها الدولة من خلال تشريعاتها الداخلية، مثل أنظمة التأشيرات التي تستخدمها الدول لتقييد الدخول إلى أراضيها23. وتُعد هذه القيود مشروعة ما دامت لا تُخالف قواعد القانون الدولي، كأن تفرض التأشيرة على أسس تمييزية سواء كانت عرقيّة، دينيّة، جندريّة أو غيره أو أن تهدف إلى حرمان الأفراد من فرصة تقديم طلبات اللجوء أو للتضييق عليهم24، والتشريعات المتعلّقة باللجوء والهجرة التي تُحدد إطار حماية الأفراد الفارين من الاضطهاد. فعلى سبيل المثال، في المجر، أقرّت الحكومة في عام 2018 قانونًا يُعرف بـ «قانون وقف سوروس»، يُجرّم عمل المنظمات غير الحكومية التي تُقدّم المساعدة لطالبي اللجوء الذين دخلوا إلى المجر بطريقة غير قانونيّة. وفي عام 2021، أصدرت محكمة العدل الأوروبية حكمًا يقضي بأن هذا التشريع انتهاكًا لميثاق الحقوق الأساسيّة للاتحاد الأوروبي، ولا سيما حق الأفراد في اللجوء25. ومع ذلك، ما تزال المجر تعتمد سياسات تقييدية، ما يثير مخاوف بشأن توافقها مع القانون الدولي. أما بالنسبة إلى القيود المادية فتبرز من خلال التدابير التي تتخذها الدولة، من بينها إغلاق الحدود كإجراء شائع تلجأ إليه الدول في أوقات الأزمات أو لردع الهجرة غير النظامية، وأبرزها تشييد الجدران الحدودية. عززت الولايات المتحدة في عام 2019 بناء جدارها الحدودي مع المكسيك كجزء من استراتيجيتها لمنع التدفق غير المشروع للمهاجرين وهو ما ساهم في تقليل الدخول غير القانوني، لكنه دفع بهم إلى اتخاذ مسارات بديلة خطرة عبر المناطق النائية والصحاري، مما تسبب في وفيات موثّقة نتيجة الظروف القاسية26، ما أثار مخاوف حول الإخلال بالتوازن بين سيادة الدول والتزاماتها الدوليّة تجاه حقوق الإنسان واللاجئين، وهو ما قد يترتب عنه مسؤوليات على الدولة المخلّة التي قد تكون قضائية أم غير قضائية. لجهة المسؤولية القضائية، وعلى الرغم من كون الاختصاص القضائي للمحاكم الوطنيّة هو الأساس في التعامل مع هذه الانتهاكات، فإنّ اختصاص المحاكم الدوليّة والإقليميّة، مثل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان واللجنة الأميركية لحقوق الإنسان، والمحكمة الأميركية لحقوق الإنسان، يُعتبر تكميليًّا. ويُشترط للجوء إلى هذه المحاكم استنفاذ سبل الانتصاف الوطنيّة أو التثبت من عدم قدرة النظام القضائي الوطني على توفير محاكمات عادلة وفعّالة، مما يعزز مبدأ التكامل بين الآليات الوطنيّة والدوليّة لضمان العدالة وحماية حقوق الإنسان. وبذلك، يتّضح أنّ حماية حقوق الإنسان ليست مجرّد التزام أخلاقي أو سياسي فحسب، بل هي التزام قانوني يُلقي على عاتق الدول واجب التحرّك لمنع وقوع الانتهاكات والتصدي لها في حال حصولها. وإلى جانب ذلك نجد آليات غير قضائية كالآليات التعاقدية التي تعتمد على لجان متخصّصة أُنشئت بموجب معاهدات دوليّة، مثلًا اتفاقيّة مناهضة التعذيب لعام 1984، أُنشئت بموجبها لجنة مناهضة التعذيب وأُضيف إليها في ما بعد اللجنة الفرعية لمنع التعذيب بموجب البروتوكول الاختياري للاتفاقيّة الذي اعتمد في العام 2002. في المقابل، تعتمد الآليات غير التعاقديّة على قرارات الأمم المتحدة وإجراءات مجلس حقوق الإنسان، الذي أُنشئ بموجب قرار الجمعيّة العامّة رقم 60/251 لعام 2006. يمكن اعتبار هذه الآليات بمثابة إجراءات وقائيّة تهدف إلى حماية حقوق الإنسان ومراقبة مدى تقيّد الدول بالتزاماتها على الصعيد الدولي وحثّها على الوفاء بها. تعمل هذه الآليات مجتمعة على تحقيق التوازن بين الردع والمساءلة من جهة، والتوعية والتشجيع على الامتثال من جهة أخرى. ونظرًا لأهمية مبدأ عدم الإعادة القسرية والمسؤوليات التي قد تترتب عن مخالفة أحكامه، لجأت العديد من الدول إلى إجراءات مختلفة، منها يتعلق بنقل عبء المسؤولية إلى دول أخرى عبر ما عُرف بمفهوم «الدولة الثالثة الآمنة»، عن طريق إنشاء اتفاقيّات ثنائيّة أو إقليميّة يتم بموجبها إعادة توجيه المهاجرين أو توزيع مسؤولية استضافتهم ومعالجة طلباتهم على دول أخرى، عادةً ما يشترط بأن تكون من الدول التي تحترم حقوق الإنسان وتمنح الحماية القانونية بما فيها صفة اللجوء والحقوق اللازمة للقادمين إليها وفي مقدمتهم عدم الإعادة القسرية. ولكن تُرك التقدير في هذا المجال إلى الدولة التي تُرسل طالب اللجوء من أراضيها ما أثار بعض التحديات. ومن أبرز الأمثلة اتفاقيّة المملكة المتحدة ورواندا لعام 2022، التي تقضي بإرسال طالبي اللجوء غير النظاميين إلى رواندا للنظر في طلباتهم، استنادًا إلى قانون الجنسيّة والحدود لعام 2022. ورغم تبرير بريطانيا هذه السياسة بمكافحة تهريب البشر وتخفيف الضغط على نظام اللجوء، إلّا أنّها واجهت انتقادات حقوقيّة واسعة بسبب مخاوف من عدم كفاية الحماية في رواندا. وقد خضعت الاتفاقيّة لعدة طعون قضائية، حيث قضت المحكمة العليا البريطانية في تشرين الثاني 2023 بعدم قانونيتها، معتبرةً أنها تنتهك مبدأ عدم الإعادة القسريّة بسبب خطر الترحيل غير الآمن. ومع ذلك، سعت الحكومة إلى تجاوز هذا الحكم عبر إقرار البرلمان البريطاني في نيسان 2024 قانونًا جديدًا يسمح بترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا، وتم تنفيذ أول عمليّة ترحيل في أيار 2024، وسط استمرار الجدل القانوني. وهذا ما دفع الدول إلى التوجه نحو حلٍ آخر عن طريق مسألة تقاسم الأعباء، إما عن طريق اتفاقيات ثنائية من خلال تقديم مساعدات ماليّة وتقنيّة للدول التي تستضيف المهاجرين وطالبي اللجوء على أراضيها، بهدف دعمها في ضبط حدودها ومنع الهجرة غير الشرعيّة منها، وبالتالي تقليل أعداد الوافدين إلى أوروبا، ومن أبرز الأمثلة على هذا النهج اتفاقيّة الاتحاد الأوروبي وتركيا لعام 2016 27، وإما من خلال اتفاقيات متعددة الأطراف ومن أبرز مثال عليها الميثاق الأوروبي الجديد حول الهجرة واللجوء الذي اعتمده مجلس الاتحاد الأوروبي في أيار عام 2024، الذي أورد العديد من الإصلاحات، منها تشديد الفحص على الحدود الخارجيّة للاتحاد، حيث سيتم تسجيل جميع طلبات اللجوء خلال سبعة أيام في قاعدة «يوروداك» البيو مترية28، مع تصنيفها وفق معايير الأهليّة. وستُقام مراكز استقبال حدوديّة في اليونان، وإيطاليا، ومالطا، وإسبانيا، وكرواتيا، وقبرص، بسعة إجماليّة ثلاثين ألف مقعد، حيث ستخضع فيها طلبات اللجوء لفحص أولي سريع. وسيتم إعادة المهاجرين غير المستوفين للشروط إلى بلدانهم الأصليّة بعد إجراءات تقييم مبسّطة. وتتضمّن الإصلاحات أيضًا مبدأ «التضامن الإلزامي»، حيث يمكن للدول التي تواجه تدفقات كبيرة طلب إعادة توزيع للمهاجرين، بينما يُتاح للدول الرافضة استقبالهم دفع تعويض مالي أو تقديم دعم لوجستي، بقيمة عشرين ألف يورو لكل مهاجر لن يتم استقباله. إلا أن هذا المبلغ ليس ملزمًا قانونيًا ويخضع للتفاوض. كما تم اعتماد آليّة «حالة الأزمة»، التي تسمح للدول بطلب استثناءات وتخفيف بعض القواعد عند الضرورة والحصول على دعم إضافي من الاتحاد الأوروبي، وذلك بناءً على توافق بين جميع الدول الأعضاء. تقرر أن تدخل الإصلاحات حيّز التنفيذ في حزيران من العام 2026 بعد فترة انتقالية مدتها عامان، يتم خلالها تطوير آليات التنفيذ والبنية التحتيّة لمراكز الاستقبال، إلا أنّ بعض الدول الأوروبية تفضّل التوجه نحو بدائل أخرى مثل الدولة الثالثة الآمنة، كأوغندا، بدلًا من تقاسم الأعباء29. ثالثًا: الإجراءات الحديثة في منح الحماية للمهاجرين يرتبط تطبيق مبدأ عدم الإعادة القسريّة ارتباطًا وثيقًا بالإطار القانوني للاتفاقيات الدوليّة التي ينطلق منها، إلا أنّ الممارسة العملية تُظهر تداخلًا متزايدًا بين قضايا الهجرة واللجوء. فبينما كانت النزاعات المسلّحة تمثّل السبب الرئيسي لموجات الهجرة في العقود الماضية، فإن التغيرات البيئيّة باتت تشكّل دافعًا متزايدًا للنزوح، مما أدى إلى توسيع نطاق النقاش حول الفئات المشمولة بالحماية. ومع ذلك، فإن التدفقات الكبيرة للمهاجرين، إلى جانب الإجراءات القانونيّة المعقّدة والطويلة، دفعت بعض الدول إلى تبنّي قوانين وإجراءات جديدة لتنظيم استقبال اللاجئين ومعالجة طلباتهم، وفقًا لمعايير تتفاوت تبعًا لبلد المنشأ وأسباب الهجرة، ومن هذه الإجراءات ما عُرف بالحماية المؤقتة والنهج المبدئي للاعتراف بصفة اللجوء. تُعَدُّ الحماية المؤقتة آلية قانونيّة استثنائية تُستخدم لتوفير حماية فورية للأشخاص النازحين قسريًا نتيجة النزاعات المسلّحة أو الكوارث الطبيعية، عندما تكون آليات الحماية التقليديّة غير متاحة أو غير كافية. تهدف هذه الآلية إلى منح إقامة قانونيّة مؤقتة تتيح للمستفيدين الوصول إلى الحقوق الأساسيّة، مثل العمل، والرعاية الصحيّة، والتعليم، دون الاعتراف الكامل بصفة اللاجئ الواردة في اتفاقيّة اللاجئين لعام 1951 وبروتوكولها لعام 1967. ورغم دورها في ضمان الحماية الفورية واحترام مبدأ عدم الإعادة القسريّة، إلا أنّها لا تُعدّ بديلاً عن اللجوء. على المستوى الأوروبي، يُعدّ التوجيه الأوروبي رقم EC/2001/55 الإطار القانوني الذي ينظّم الحماية المؤقتة، حيث ينصّ على توفير حماية فوريّة للنازحين جرّاء الأزمات الإنسانيّة، من خلال إجراءات مبسّطة تمنح إقامة مؤقتة تمتد بين سنة وثلاث سنوات، مع إمكانيّة التمديد وفقًا للظروف الاستثنائية. وقد حددت المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين حالات يمكن فيها اللجوء إلى هذا النظام، من بينها الكوارث المفاجئة، والتنقلات السكانيّة غير المنتظمة. في أعقاب النزاع الروسي الأوكراني عام 2022، اعتمد الاتحاد الأوروبي الحماية المؤقتة كاستجابة إنسانيّة لموجات النزوح الكبيرة، حيث أكّد مجلس العدل والشؤون الداخليّة على ضرورة ضمان حقوق النازحين وعدم إعادتهم قسرًا. ونظرًا لاستمرار النزاع، تم تمديد الحماية المؤقتة حتى آذار من العام 2026 30 . لم يقتصر هذا النظام على أوروبا فحسب، إذ تبنّته دول أخرى مثل الولايات المتحدة الأميركية التي تمنح إقامة مؤقتة لمواطني الدول التي تواجه أزمات تمنع عودتهم الآمنة، كما حدث مع اللبنانيين خلال العدوان الإسرائيلي الأخير عام 2024، حيث تمّ منح اللبنانيين حماية مؤقتة اعتبارًا من تشرين الأول لعام 2024 ولغاية أيار من العام 2026، وكذلك لمواطني دول أخرى مثل هاييتي، والسلفادور، واليمن، وسيراليون، وفقًا للمادة 244 من قانون الهجرة والجنسيّة الأميركي31. وكما يتمّ منح الحماية المؤقتة بطريقة منظّمة وبالتنسيق بين الدول المعنيّة يجب أن يتمّ إنهاؤها بنفس الأسلوب، تفاديًا لأي تداعيات قد تنشأ عن إنهائها المبكر. وقد حدّدت المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين حالات إنهاء الحماية المؤقتة، بما في ذلك زوال أسباب النزوح، أو الانتقال إلى أشكال حماية أخرى، أو إعادة التوطين في دولة ثالثة32. أما بالنسبة إلى النهج المبدئي للاعتراف بصفة اللاجئ يُعتمد في حالات الهجرة الجماعية الناجمة عن الاضطهاد، أو النزاعات المسلّحة، أو العنف الواسع النطاق، أو الإخلال الخطير بالنظام العام في حالات التدفقات الجماعية المفاجئة، عندما لا يكون من الممكن إجراء تقييم فردي لكل طالب لجوء. في مثل هذه الحالات، تعتمد الدول أو المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين النهج المبدئي للاعتراف بصفة اللاجئ، وهو إجراء استثنائي يمنح صفة اللجوء والحماية على أساس جماعي دون الحاجة إلى دراسة كل طلب على حدة33. وضعت المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في إرشادات الحماية الدوليّة لعام 2015 معايير لتطبيق النهج المبدئي، أبرزها وجود أدلّة موضوعيّة حول أوضاع بلد المنشأ، ووضوح المخاطر الجماعيّة التي يواجهها الأفراد، وعدم وجود استثناءات قانونيّة تمنع الاعتراف الجماعي، كما هو الحال بالنسبة لمن تورطوا في جرائم جسيمة أو انتهاكات لحقوق الإنسان، إضافةً إلى استبعاد المقاتلين السابقين. وقد اعتمدت عدة دول هذا النهج، من بينها البرازيل التي لجأت إليه عام 2019 لمواجهة التدفّق الجماعي للفنزويليين الفارين من الأزمة الاقتصاديّة والسياسيّة، مما أتاح لهم الحصول على الحماية الدوليّة بشكل سريع دون تقييم فردي34. كذلك، تبنّت غانا النهج ذاته عام 2020 لمنح اللاجئين البوركينيين الحماية، إثر تصاعد العنف المسلّح في بوركينا فاسو، ما مكّنهم من الحصول على وضع قانوني يحميهم من الإعادة القسريّة35. عند تحسّن الأوضاع التي أدت إلى منح الحماية بموجب النهج المبدئي، لا يتم إنهاء الحماية بشكل فوري، بل يخضع القرار لإجراءات تدريجية، إذ تُعلن الدولة المضيفة أو المفوضيّة السامية إنهاء الاعتراف المبدئي مع تحديد تاريخ سريان الانتهاء بوضوح دون مفعول رجعي. إنهاء الاعتراف المبدئي لا يعني فقدان اللاجئ لحمايته تلقائيًا، فإن الأفراد المتأثرين يمكنهم التقدم بطلبات لجوء فردية لتقييم أوضاعهم، وخلال هذه الفترة، يظل مبدأ عدم الإعادة القسريّة ملزمًا. وإذا ثبت بأن الفرد لم تعد تتوافر فيه شروط منح اللجوء عندها تسقط عنه الحماية الممنوحة بموجب اتفاقيّة اللجوء، إنما تبقى حماية القانون الدولي لحقوق الإنسان، وتأتي في مقدمتها اتفاقيّة مناهضة التعذيب التي تبقى برأينا الضمانة الأهم لمبدأ عدم الإعادة القسريّة36. الخلاصة يتّضح من تتبّع تطوّر مبدأ عدم الإعادة القسريّة أنّه لم يعد مجرّد التزام تعاقدي ناشئ عن الاتفاقيّات الدوليّة والإقليميّة، بل تطوّر ليُصبح قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي العام، التي لا يجوز انتهاكها أو الانتقاص منها حتى في حالات الطوارئ أو النزاعات المسلّحة. ومع ذلك، لم يُترجم هذا التطوّر النظري إلى التزام فعلي شامل، إذ تُظهر الممارسة الدوليّة المعاصرة أن المبدأ يواجه تهديدات مستمرّة نتيجة الضغوط الأمنيّة والاقتصاديّة المتصاعدة. فقد اتجهت عدة دول إلى الالتفاف على هذا الالتزام من خلال تبنّي آليات شكليّة أو مفاهيم مرنة مثل الدولة الثالثة الآمنة، والحماية المؤقتة، والصدّ في أعالي البحار، فضلًا عن إبرام اتفاقيات ثنائية مع دول لا تضمن نفس مستويات الحماية. هذه الممارسات، رغم استنادها إلى مبررات تتعلّق بالسيادة أو الأمن القومي، تؤدّي عمليًا إلى إفراغ المبدأ من مضمونه، وتخلق تفاوتًا بين النصوص القانونيّة والتطبيق الفعلي. تجدر الإشارة إلى تولّي المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين دور الجهة الدوليّة الرئيسيّة في صون حقوق اللاجئين وإيجاد حلول دائمة لهم. وفي هذا الإطار، تُبرم المفوضيّة ما يُسمّى باتفاقيات المقر مع دولٍ لا تنتمي إلى اتفاقيّة اللاجئين لعام 1951، إذ تخوّلها هذه الاتفاقيّات ممارسة صلاحياتٍ محدودةٍ داخل أراضي تلك الدول، مثل تسجيل اللاجئين وتقديم الحماية والمساعدات الإنسانية الأساسيّة لهم. وتكشف هذه التطورات تحديًا إضافيًا يواجه مبدأ عدم الإعادة القسريّة في الدول غير الطرف في اتفاقيّة 1951؛ إذ يتراجع دور اتفاقيّات المقر التي تُعتبر بديلًا عمليًّا عن الانضمام أو التصديق الكامل، ما يزيد صعوبة حماية اللاجئين ويُضيّق أمامهم سبل الحصول على وضعٍ قانونيٍّ آمن. ويُرجِّح استمرار هذا النهج اتجاهًا نحو مزيدٍ من التحلّل من الالتزامات الدوليّة والتعاون مع المفوضيّة، الأمر الذي يُحدث فجوةً قانونيّة وإنسانيةً أشدّ وطأة، ويقلّص قدرة المنظومة الأممية على منع إعادة الأشخاص إلى بلدانَ أو مناطقَ قد يواجهون فيها خطر الاضطهاد أو انتهاكاتٍ جسيمة. وفي ظل هذه المعادلة المعقّدة، تزداد الحاجة إلى تكثيف الجهود الدوليّة لحثّ الدول المعنيّة على مواصلة التعاون مع المفوضيّة، أو ابتكار صيغٍ جديدةٍ تضمن استمرار الحماية القانونيّة والإنسانيّة، مع مراعاة الضرورات السيادية وفقًا لقواعد القانون الدولي. أظهرت التجارب أن عدم احترام هذا المبدأ يُفضي إلى نتائج كارثيّة على المستويين الإنساني والقانوني، بدءًا من تعريض الأفراد لخطر الاضطهاد أو التعذيب، وصولًا إلى التقليل من مصداقيّة الدولة أمام المجتمع الدولي. وإنّ قيام الدول باعتماد مفاهيم بديلة، مثل الحماية المؤقتة أو النهج المبدئي للاعتراف بصفة اللاجئ، إلى جانب تعزيز سياسات ضبط الحدود بوسائل ماديّة، فهي وإن كانت تُعبّر عن ممارسة الدولة لسيادتها إلا أنّ التجربة قد أظهرت تجنّب التطبيق المباشر لأحكام اتفاقيّة العام 1951 الخاصّة باللاجئين. وأسفر هذا التوجّه عن تهديد جوهري لا يقتصر فقط على مبدأ عدم الإعادة القسريّة، بل يطال نظام اللجوء الدولي بأكمله، بما يتضمّنه من مبادئ موضوعيّة وإجراءات وضمانات. وإلى جانب هذه الإشكاليات، بدأ مبدأ عدم الإعادة القسريّة يتقاطع مع تحديات جديدة ناجمة عن التقدّم التكنولوجي. فقد أدّى الاعتماد المتزايد على التقنيات البيومترية في إدارة ملفات اللجوء إلى بروز إشكاليات تتعلق بالخصوصيّة، وحماية البيانات، وإمكانيّة إساءة استخدامها من قبل الدول، خاصّة في ظل غياب ضمانات قانونيّة دوليّة كافية. كما أن مشاركة هذه البيانات مع الدول التي قد تُعرّض اللاجئين للخطر تشكّل خرقًا غير مباشر للمبدأ. ونظرًا لكون غالبية الدول المستقبلة لطالبي اللجوء هي غير طرف في اتفاقية العام 1951، ما يفرض ضرورة إجراء حوار دولي يهدف إلى فهم هواجسها السياديّة والأمنيّة والاقتصاديّة والعمل على تذليلها من خلال حلول توافقيّة، كإنشاء صندوق دولي لدعم قدراتها وتعزيز البنى التحتية، وتطوير صيغ قانونيّة مرنة تُشجّعها على الانخراط في النظام الدولي دون المساس بجوهر مبدأ عدم الإعادة القسريّة. باللغة العربية 1- اتفاقيّة الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنيّة لعام 2000. 2- الاتفاقيّة الأوروبية لحقوق الإنسان 1950. 3- إعلان كارتاخينا 1984. 4- إيناس محمد البهجي، الأسس الدوليّة للجوء السياسي والإنساني بين الدول، المركز القومي للإصدارات القانونيّة، مصر، 2013. 5- تقرير الجمهورية اللبنانية المقدم إلى مجلس حقوق الانسان في الاستعراض الدوري الشامل الدورة السابعة والثلاثون، تاريخ 18 - 29 كانون الثاني 2021 6- ديري تلادي: أ- التقرير الثاني عن القواعد الآمرة، لجنة القانون الدولي الدورة التاسعة والستون، الجمعيّة العامّة للأمــم المتحـدة 16 آذار 2017. ب- التقرير الخامس عن القواعد الآمرة من القواعد العامّة للقانون الدولي، لجنة القانون الدولي الدورة الثالثة والسبعون، الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة 24 كانون الثاني 2022، . 7- سامي الطيب إدريس محمد، التدخل الدولي لحماية الأقليات وأثره على سيادة الدول، مجلة كلية الشريعة والقانون في طنطا، المجلد 38، العدد 4، كانون الأول لعام 2023. 8- سمير عاليه وهيثم سمير عاليه، الوسيط في شرح قانون العقوبات العام - القسم العام، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 2010. 9- سهيل حسين الفتلاوي، موسوعة القانون الدولي، القانون الدولي الإنساني، دار الثقافة والنشر والتوزيع، عمان، 2013. 10- ضحى نشأت الطالباني، الالتزام بدراسة طلبات اللجوء على الصعيد الدولي، دار النهضة العربية، القاهرة، 2008. 11- ظافر مراد، اللاجئون في لبنان وقائع وتداعيات، مجلة الجيش، العدد 368، تاريخ 2016. 12- فرانسواز هامبسون وإبراهيم سلامة، ورقة عمل بشأن العلاقة بين قانون حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، المجلس الاقتصادي والاجتماعي، الدورة السابعة والخمسون، 2005، . 13- لجنة مناهضة التعذيب، التعليق العام رقم 4 (2017) بشأن تنفيذ المادّة 3 من الاتفاقيّة في سياق المادّة 22، 4 أيلول 2018، . 14- مجلس حقوق الإنسان، قرار اعتمده مجلس حقوق الإنسان في 7 تشرين الأول 2022 بشأن الإرهاب وحقوق الإنسان، الدورة الحادية والخمسون، 12 تشرين الأول 2022. 15- محمد المجذوب، الوسيط في القانون الدولي العام، منشورات الحلبي الحقوقية، لبنان، 2018. 16- المفوضيّة السامية لشؤون اللاجئين، دليل الاجراءات والمعايير الواجب تطبيقها لتحديد وضع اللاجئ، جنيف، كانون الأول 2011. 17- المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، النهج المبدئي للاعتراف بصفة اللاجئ، دليل العمل في حالات الطوارئ، 6 كانون الأول 2023. 18- منذر الشاوي، فلسفة الدولة، الأعظمية، الطبعة الأولى، دار ورود الأردنية للنشر والتوزيع ودار الذاكرة للنشر والتوزيع، بغداد، 2012. 19- ميثاق الأمم المتحدة 1945. باللغة الأجنبية

توقيع اتفاقيات بين القطاع الخاص البحريني والأميركي بنحو 17 مليار دولار
توقيع اتفاقيات بين القطاع الخاص البحريني والأميركي بنحو 17 مليار دولار

النهار

timeمنذ ساعة واحدة

  • النهار

توقيع اتفاقيات بين القطاع الخاص البحريني والأميركي بنحو 17 مليار دولار

أفاد ديوان ولي العهد البحريني اليوم الأربعاء في منشور على موقع إكس بأن ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير سلمان بن حمد آل خليفة شهد مراسم توقيع عدة اتفاقيات بين شركات بحرينية وأميركية من القطاع الخاص تقدر قيمتها بحوالي 17 مليار دولار خلال زيارة إلى واشنطن. صورة نشرها ديوان ولي العهد البحريني في إكس. وذكر المنشور "صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، يشهد مجموعة من الإعلانات ومراسم التوقيع على اتفاقيات بين القطاع الخاص في مملكة البحرين والقطاع الخاص في الولايات المتحدة الأميركية الصديقة تصل قيمتها الإجمالية إلى نحو 17 مليار دولار أميركي". His Royal Highness the Crown Prince and Prime Minister, #Salman_bin_Hamad Al Khalifa, witnesses the announcements and signing ceremony of several agreements between the private sectors of #Bahrain and the #US, valued at an approximate USD 17 billion, as part of His Royal… — أخبار سمو ولي العهد (@BahrainCPnews) July 16, 2025

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store