logo
عدالة مفصّلة... أن يقاس الدمار حسب جنسية الضحية

عدالة مفصّلة... أن يقاس الدمار حسب جنسية الضحية

العربي الجديد٢٨-٠٧-٢٠٢٥
في أعقاب الحروب، تصبح الأرقام أكثر من مجرد إحصاءات، إنها تتحول ساحة معركة للذاكرة، والمسؤولية، والعدالة. من يُحصي القتلى؟ من يُعرّف ما يُعتبر دماراً؟ ومن يُقرّر أي الأرواح تستحقّ التعويض؟ تقف هذه الأسئلة في صلب تقرير صدر أخيراً من مركز الأبحاث التطبيقية للعلوم الاجتماعية (CeSSRA)، أعدّه صاحب هذه السطور في 24 صفحة. وهو تقرير تحليلي يُسلّط الضوء على النهج الذي يعتمده البنك الدولي في تقييم الأضرار الناتجة عن الحروب في كل من أوكرانيا وغزة ولبنان. وعلى الرغم من إعلان البنك التزامه منهجية موحّدة تُعرف بـ"تقييم الاحتياجات بعد الكوارث" (RDNA)، يكشف تقرير CeSSRA عن تباينات منهجية مثيرة للقلق في كيفية تطبيق هذه الأداة، بما يعكس اعتبارات جغرافية وسياسية لا تُعلن صراحة، لكنها تُحدِّد فعلياً من يُعترف به ضحية، وما يُحتسب دماراً. فمن صور الأقمار الصناعية ونماذج الذكاء الاصطناعي، إلى العنف القائم على النوع الاجتماعي والأضرار في القطاع العام، تُخفي الأدوات التقنية التي يعتمدها البنك الدولي قرارات سياسية أعمق: كأن تُوصَف بعض الحروب بـ"الغزو" وأخرى بـ"النزاع"، أو أن يُسمى بعض المعتدين بوضوح، بينما يُمحى ذكر آخرين بالكامل، أو أن يُتعامل مع الدمار في سياق ما كارثة إنسانية، وفي سياق آخر تحدّياً بنيوياً تقنياً.
هنا قراءة في أبرز استنتاجات تقرير CeSSRA، كاشفاً كيف تؤثر تباينات البنك الدولي عند تقييم الأضرار في مسارات العدالة والتعافي، خصوصاً في السياقات المنسيّة كلبنان وفلسطين، فالتقرير لا يكتفي بتفنيد الأرقام والمنهجيات، بل يُظهر كيف تتحوّل التقييمات أدواتٍ لإنتاج السرديات الدولية، فتقارير البنك الدولي ليست مجرّد وثائق تقنية، بل نصوص سياسية ترسم حدود الرواية: من المعتدي؟ من الضحية؟ من يُدرَج في أولويات الدعم؟ ومن يُترك للنسيان؟
تُنجَز تقييمات البنك الدولي خارج أي إطار تنظيمي، وأحياناً من دون تنسيق فعلي مع السلطات الوطنية
كما يبيّن تقرير CeSSRA، تكمن خطورة تقييمات البنك الدولي في التفاوت الصارخ بين كيفية توصيفه للدمار في أوكرانيا، مقارنة بلبنان وغزة. ففي تقريره عن لبنان الصادر عام 2024، قبل أسابيع من اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل، لم ترد كلمة "الحرب" إطلاقاً. استُبدلت بتعبير ضبابي: "النزاع"، من دون أي ذكر لإسرائيل معتدية. لم يكن هذا التغافل استثناءً، بل تكرّر أيضاً في تقارير البنك عن غزة، إذ جرّدت الأحداث من سياقيها، السياسي والإنساني، وقُدّمت مجرد أضرار تقنية.
في المقابل، جاءت تقارير أوكرانيا بلغة واضحة وصريحة: ذُكرت "الحرب" أكثر من مائتي مرّة، ووردت "روسيا" معتدية في أكثر من 50 موضعاً، إلى جانب مصطلحات مباشرة مثل "الغزو"، و"جرائم الحرب"، و"العنف الجنسي القائم على النوع الاجتماعي". هناك، تُروى المأساة بكلماتها. هنا، تُخفى خلف مفردات محايدة باردة.
ويبيّن معدّ التقرير أن "هذا التباين ليس تفصيلاً لغوياً، بل هو تعبير عن سياسة انتقائية تعيد رسم الرواية ذاتها: حين يُمحى اسم المعتدي، يُمحى معه الحق بالعدالة". ويضيف: "تجريد الأحداث من بُعدها السياسي في لبنان وغزة يُنتج سردية ناقصة، تُهمل الدمار الشامل للمدارس والمستشفيات والبيئة، وتُسكِت استخدام أسلحة محظورة مثل الفوسفور الأبيض"... في أوكرانيا، تُفتح أبواب العدالة والتعويض. في لبنان وفلسطين، يُغلق حتى باب الاعتراف. ويُترك الناس في عزلة الألم، معلّقين بين التقارير الباردة ونسيان المجتمع الدولي.
كيف تُعيد اللغة رسم الخريطة الأخلاقية
بحسب تقرير CeSSRA، تكمن الخطورة الحقيقية في التفاوت الصارخ بين كيفية توصيف البنك الدولي للدمار في أوكرانيا، مقارنة بلبنان وغزة، ففي تقريره عن أوكرانيا الصادر عام 2024، وردت كلمة "الحرب" 184 مرّة، وأُشير إلى روسيا بوصفها معتدية أكثر من 50 مرة، وذُكرت "جرائم الحرب" أربع مرات على الأقل، إلى جانب مصطلحات قانونية واضحة، مثل "الغزو" و"العنف الجنسي القائم على النوع الاجتماعي". هذه اللغة لم تكن مجرد وصف تقني، بل حملت اعترافاً سياسياً وأخلاقياً في السياق، وبحق الضحايا في سرديتهم وعدالتهم. أمّا في تقييمات البنك الدولي للبنان وغزة، فالصورة مغايرة جذرياً. لا تُذكر كلمة "الحرب" إطلاقاً. تُستبدل بتعابير محايدة وباردة مثل "نزاع 2023" أو "الأحداث الأخيرة". لا يُذكر المعتدي، ولا تُستخدم لغة قانونية تشير إلى الانتهاكات أو الجرائم. في حالة غزّة، حتى عند توثيق قصف المستشفيات وقتل المدنيين، يُختصر ذلك في تعبيرات مثل "أضرار سكّانية" أو "تأثيرات النزاع". أما في لبنان، فالأمر أشد فجاجة، فلم يُذكر اسم "إسرائيل" سوى مرة واحدة فقط، في هامش توضيحي للمراجع، وليس في سياق التقرير.
ما يزيد من إشكالية هذا الانحراف في اللغة أن البنك الدولي نفسه كان قد استخدم في تقريره لعام 2007 حول حرب تموز (2006) في لبنان، مصطلح "الحرب" بشكل مباشر، واعترف بـ"تدمير ممنهج" للبنى التحتية من إسرائيل. كما أشار حينها إلى "الاحتياجات الطارئة لإعادة الإعمار"، مع تسمية واضحة للأضرار وللطرف المعتدي. أمّا في تقييم 2023، فالتقرير نفسه يُسقط كلمة "حرب" تماماً، ويتجاهل السياق السياسي والعسكري الذي أدّى إلى الدمار. هذا التناقض، بحسب CeSSRA، يُظهر تحوّلاً سياسياً في لغة البنك الدولي، ويعكس خضوع التقارير لمعادلات جيوسياسية متغيّرة أكثر مما يعكس التزاماً موضوعياً تجاه العدالة والضحايا.
تكشف تقارير البنك الدولي تفاوتاً عميقاً في مقاربات تقييم الأضرار عند مقارنة حالة أوكرانيا من جهة، ولبنان وغزّة من جهة أخرى
وفي التقرير: "حين تُوصف المجازر بأنها مجرد نزاعات، تُمحى الجرائم، وتُسلب الضحايا ليس فقط حقوقهم، بل حتى اسمهم". هذه الجملة تلخّص جوهر الإشكالية التي يطرحها التقرير: فالتلاعب بالمصطلحات ليس خياراً لغوياً عابراً، بل يُجسّد انحيازاً مؤسّساتياً يعيد تعريف الجريمة والضحية. عندما تُوصَف المجازر والدمار الممنهج بأنها مجرّد "نزاعات"، تُستثنى تلقائياً من مفاهيم جرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة، ويُجرَّد الضحايا من حقهم في الاعتراف والإنصاف. ويذهب التقرير إلى أبعد من ذلك، مشيراً إلى أن غياب اللغة القانونية من تقارير البنك الدولي، عن لبنان وغزة، لا يعكس مجرّد حياد مؤسّسي، بل يُعبّر عن موقف سياسي ضمني يساهم في تقويض أي مسار للمحاسبة أو للاعتراف بحقوق ضحايا الحروب وجرائمها. حين تُختزل الكارثة في إعادة إعمار البنى التحتية فقط، وتُهمَّش حقوق الناس في الصحّة والتعليم والكرامة، تصبح الكارثة مجرد مشروع هندسي بلا ذاكرة ولا مساءلة. وهكذا، لا تعكس هذه التقارير الواقع كما هو، بل تعيد إنتاجه بشكل مُصمَّم على مقاس الأقوياء، وعلى حساب المنكوبين.
لماذا لا يُمنَح الضحايا في لبنان وغزة الحق نفسه؟
بحسب التقرير، تكشف تقارير البنك الدولي تفاوتاً عميقاً في مقاربات تقييم الأضرار بين السياقات المختلفة، ويبدو ذلك جليّاً عند مقارنة حالة أوكرانيا من جهة، ولبنان وغزّة من جهة أخرى. ففي أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، بادرت المؤسّسات الدولية، ومن ضمنها مجلس أوروبا، إلى إنشاء سجلّ دولي خاصّ بالأضرار الناتجة من العدوان، بموجب القرار CM/Res(2023). ونتيجة لذلك، اعتمدت تقارير البنك الدولي على أُطر تنظيمية واضحة، ومستندة إلى اعتراف قانوني بوضع أوكرانيا دولة معتدى عليها، ما أتاح إدماج مقاربة قائمة على الحقوق، تُراعي التكاليف العسكرية والإنسانية على حدّ سواء.
في المقابل، تُعدّ تقييمات البنك الدولي للبنان وغزّة استثناءً صارخاً من هذا المسار. فهي غالباً ما تُنجَز خارج أي إطار تنظيمي، وأحياناً من دون تنسيق فعلي مع السلطات الوطنية، كما حصل في تقارير 2024، ما يُفسح المجال أمام الجهات المموّلة لتحديد ما يُدرج وما يُستثنى من عملية التقييم. ولا تشمل هذه التقارير أي تقدير لتكاليف المجهود الدفاعي أو الإنساني، ولا يتم احتساب الأضرار التي لحقت بالجيش اللبناني، أو بقطاع الحمايات الاجتماعية، أو بالإدارات العامّة، وبموازنة الدولة، وحاجات تمويل القطاع العام، أو حتى بالبنى التحتية التابعة لفصائل المقاومة، بما فيها المؤسّسات المدنية، مثل "القرض الحسن"، كما تغيب عنها الإشارة إلى المحاربين القدامى، أو أسر الأسرى، على عكس المعتمد في الحالة الأوكرانية.
تقييم ما بعد الحرب يجب أن يكون سياسياً بقدر ما هو تقني، يُسمي المعتدين، ويُعامل الضحايا أصحابَ حقوق لا أرقاماً
وفي سياق متصل، تُعدّ تقارير البنك حول أوكرانيا وثائق تفاوضية بالغة الأهمية، إذ تُناقش وتُعتمد بالشراكة مع الحكومة، وتُستخدم أدواتٍ استراتيجية في التفاوض على المساعدات، بما فيها تلك العسكرية. وقد صرّح رئيس الوزراء الأوكراني دينيس شميهال، في فبراير/ شباط 2024، خلال عرض نتائج التقييم السريع الثالث، أن التقرير وفّر آليات مبدئية للتعويض، منها اقتراحات بتجميد أصول روسية ومصادرتها. كما ربط التقرير بين الخسائر والأضرار و"الحقّ في جبر الضرر"، مؤكّداً البُعدين، القانوني والأخلاقي، للتعويضات.
في أوكرانيا، لم تُرصد فقط الجسور والمدارس، بل الحقوق أيضاً: أطفال رُحّلوا قسراً، صحافيون قُتلوا، محاربون قدامى، ووزارة عدل تُوثّق جرائم حرب. أمّا في لبنان وفلسطين، فالتقييمات بدت بلا ذاكرة، بلا قانون، بلا حقّ. لم يُذكر حتى مصطلح "حقّ" في تقرير لبنان، بينما ورد أكثر من 30 مرّة في تقارير أوكرانيا. بحسب تقرير CeSSRA، هذا الغياب ليس بريئاً. إنه يُقصي الضحايا من خانة "أصحاب الحقّ" ليحولهم إلى مجرّد "متضرّرين". وعندما يُختزل التهجير والقصف إلى أرقام تقارن بين "نزاعات 2014 و2023"، لا يُطمس الواقع فقط، بل يُعاد إنتاج الظلم بصيغ أكثر برودة. فالتقارير الدولية، كما يشير التقرير، ليست أدوات محايدة، بل نصوص سياسية تحدّد من يُعترف به إنساناً له حقّ، ومن يُترك رقماً يتيماً في جدول الخسائر.
رغم ادعاء البنك الدولي استخدام منهجية موحدة لتقييم الأضرار بعد الحروب، يكشف تقرير CeSSRA فجواتٍ صارخة في التطبيق. ففي أوكرانيا، شملت التقييمات كل شيء، من الأثر النفسي والبيئي والاجتماعي، إلى احتساب حقوق الضحايا، وتوثيق الانتهاكات بدقة. أما في لبنان وغزة، فقد اختُزلت الحرب إلى أضرار إسكانية، وغاب منها صوت الناس، النساء، والأطفال، وذوو الإعاقة، كما جرى تجاهل استخدام الأسلحة المحظورة. لا مؤسسات محلية شاركت، ولا الضحايا وُصفوا بأنهم أصحاب حقوق. حتى العنف الجنسي في غزة، لم يُذكر إلا عنفاً منزلياً داخلياً. وعلى صعيد الدعم، وُعدت أوكرانيا بمئات المليارات وإعادة بناء شاملة، بينما اقتصر دعم غزة ولبنان على ترميم المنازل. هذه ليست مجرد أرقام، بل عدالة تُوزع بانتقائية. فالحياد الظاهري، كما يُحلله تقرير CeSSRA، يُعيد إنتاج الظلم ويمنح الشرعية للامساواة. من يُحتَسب ومن يُهمش؟ من يُبنى وطنه ومن يُنسى؟ الجواب ليس في الأضرار، بل في اللغة، والسياسة، والنظر إلى الضحايا أناساً... أو أرقاماً.
في وجه هذا التفاوت، لا يكتفي تقرير CeSSRA بالنقد، بل يقدم بديلاً واضحاً: تقييم ما بعد الحرب يجب أن يكون سياسياً بقدر ما هو تقني، يُسمي المعتدين، يُشرك المجتمعات المحلية، ويُعامل الضحايا أصحابَ حقوق لا أرقاماً. العدالة تبدأ من اللغة، وتمتد إلى المنهجية، وتشمل جميع القطاعات من الصحة والتعليم إلى الذاكرة والكرامة. ما لم يُعترف بهذه المبادئ، فستبقى إعادة الإعمار مشروطة، والعدالة انتقائية، والمجتمعات المنكوبة رهينة لحياد زائف لا يُنصف أحداً.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

لعبة التصنيف الائتماني ... تركيا أنموذجاً
لعبة التصنيف الائتماني ... تركيا أنموذجاً

العربي الجديد

time٣٠-٠٧-٢٠٢٥

  • العربي الجديد

لعبة التصنيف الائتماني ... تركيا أنموذجاً

لتركيا حكاية طويلة مع وكالات التصنيف الائتماني الأميركية العالمية، فهي من اكتوت بنيران التصنيف غير مرة، ودفعت الثمن من تشويه سمعتها الاقتصادية واستقرار عملتها وهروب بعض الرساميل و الاستثمارات ، إن بعد الانقلاب الفاشل عام 2016 أو خلال الخلاف السياسي بين الرئيسين دونالد ترامب ورجب طيب أردوغان عام 2018، على خلفية محاكمة أنقرة للقس الأميركي أندرو برونسون واتهامه بالتجسس ومساعدة منظمة إرهابية. ولما يغب عن بال الأتراك أيّما أثمان دفعوا وقتذاك، حين خفضت وكالتا " موديز " و" ستاندرد أند بورز " التصنيف الائتماني وغيرتا نظرتهما المستقبلية للاقتصاد التركي من مستقرة إلى سلبية. لتتراجع العملة التركية نحو 40% من قيمتها في العام 2018، ويقفز معدل التضخم إلى 15%، وتستمر معاناة تركيا مع التضخم والعملة الرخيصة حتى يومنا هذا. وإن لم نقل على الأرجح، فإن تلك الأثمان دفعت تركيا للتحول، بسياساتها الاقتصادية، سواء ما يتعلق بموقفها من سعر الفائدة التي كانت تصفها بالربوية وتسعى لتصفيرها، لترفعها، كما تتطلب السياسة الجديدة وتقييم وكالات التصنيف، وترفع أسعار حوامل الطاقة مبتعدة، وإن نسبياً، عن الدعم بالداخل ونهجها السابق بالاستثمارات الحكومية، إلى جانب زيادة جرعات الاقتراض من البنك الدولي، لترتفع الديون الخارجية وتزيد أعباء التسديد والفوائد، ملبية بعض المطالب الغربية بهدف عدم التصادم وتحقيق طموحات برنامجها الاقتصادي التي أعلنه الوزير محمد شيمشك، صاحب الخبرة الدولية والتحول الليبرالي والذي بدأ مسيرته المهنية من "وول ستريت" لدى "يو بي إس للأوراق المالية" في نيويورك (1997-1998)، وكبير الاقتصاديين في السفارة الأميركية في أنقرة (1993-1997). طاقة التحديثات الحية تركيا تطالب العراق بآلية تضمن الاستخدام الكامل لخط أنابيب النفط والوزير شيمشك ذاته من رأى، بعد إعلان وكالة موديز رفع التصنيف الائتماني لتركيا من مستوى B1 إلى Ba3، وإبقاء وكالة فيتش على تصنيفها دون تغيير، مع نظرة مستقبلية مستقرة، أن هذا التصنيف "إنجاز" يعكس نجاح السياسات الاقتصادية في تجاوز التحديات، ويؤكد متانة الاقتصاد التركي وقدرته على تحمل الصدمات. طبعاً، إلى جانب ما يجب أن يقال، بعد رفع التصنيف وعدم الإشارة إلى دور السياسة الذي تسبب بالتخفيض بالأمس وبالرفع اليوم، كمضي الحكومة التركية في تنفيذ برنامجها الاقتصادي بحزم، والتركيز على خفض التضخم بشكل مستدام، والحفاظ على عجز الحساب الجاري عند مستويات يمكن تحملها، وتعزيز الانضباط المالي في الموازنة العامة للوصول لمكاسب طويلة الأمد من خلال إصلاحات هيكلية وتقليص مخاطر الائتمان، وتسهيل الوصول إلى التمويل الخارجي، وفتح الباب أمام المزيد من الارتفاعات في التصنيف الائتماني للبلاد. قصارى القول: يمكن تعريف التصنيف الائتماني بأنه قدرة الدولة، أو حتى المؤسسات، على الحصول على قروض، بالدرجة الأولى ومن ثم القدرة على تسديد الأقساط والفوائد، بالمواعيد المحددة، الأمر الذي يعكس، بالنسبة للدول خاصة، مدى قوة الاقتصاد والاستقرار السياسي وثقة المستثمرين والدول، بتوظيف الأموال أو إقامة الأعمال والتشارك والاتفاقات. أي، بمعنى آخر، يمكن اعتبار التصنيف الائتماني، للشركات والدول، بمثابة إثبات على القدرة على التسديد وقوة الاقتصاد وعدم وجود منازعات أو مخاطر، على أنواعها وبمقدمتها اقتصادية وسياسية. ما يعني ضرورة توفر تصنيف درجة أمان عالية، أو جدارة متوسطة أو على الأقل، مستقر ونظرة إيجابية، كي تتمكن الدول من الحصول على القروض، أو حتى تكسب ثقة من سيتعامل معها ويوظف أمواله داخلها. ليأتي السؤال المهم هنا: من هي شركات التصنيف، ولمن تتبع، وهل يمكن أن تتدخل السياسة وحسن العلاقات بمستوى التصنيف؟! اقتصاد دولي التحديثات الحية تركيا تبدأ تطبيق نظام QR لتمكين المستهلك من مراقبة سلامة الأغذية تحتكر الولايات المتحدة أكبر وأهم وكالات التصنيف الائتماني بالعالم (فيتش، موديز، ستاندرد أند بورز)، ونالت هذه الوكالات الثقة والمصداقية، داخل الولايات المتحدة، وربما فرضها بالخارج، بعد اعتمادها من هيئة الأوراق المالية الأميركية عام 1975. كما لم تنجح الدول الكبرى المنافسة اقتصادياً، سواء الصين التي حاولت منذ ثلاثين عاماً إنشاء وكالة "دادونغ" للتصنيف الائتماني في العام 1994، أو ألمانيا، منذ خمسة عشر عاماً، وقت شككت الدول الأوروبية بتقارير الوكالات بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، لكنهما، الصين وألمانيا، لم تنجحا، أو لم تلق وكالاتهما الثقة والسمعة التي تتمتع بها وكالات الولايات المتحدة الثلاث. كما على الأرجح ستفشل محاولات دول أفريقية عدة، طرحت الشهر الماضي، دعوات لتأسيس وكالات تصنيف ائتماني إقليمية، إثر الشكوك والانتقادات المتزايدة للطريقة التي تتعامل بها الوكالات الثلاث الكبرى، والتي لا تعكس الظروف المحلية، وتؤثر سلباً على كلفة الاقتراض السيادي. الأمر الذي زاد على قوة الولايات المتحدة، العسكرية والاقتصادية وحتى العلمية والفنية، مطرقة جديدة، يمكنها من خلالها التحكم، وإن نسبياً، بسمعة سيطرة الدول على الاقتصاد وقدراتها المالية واستقرارها السياسي، ما سيزيد أو يحجم من الاستثمارات الخارجية ويؤثر على سعر العملات، عبر التشكيك بعدم القدرة على السداد، أو القدرة وعدم وجود مخاطر. اقتصاد دولي التحديثات الحية المركزي التركي يفاجئ الأسواق بخفض الفائدة إلى 43% نهاية القول: لا يمكن، وفق أحداث كثيرة، الحكم على تقارير وتصنيف الوكالات بأنها مؤسسات فنية مهنية مستقلة بالمطلق لا تتأثر بالدولة الحاضنة والمؤسسة على أرضها وبمالها ومحكومة بسياساتها الاستراتيجية، وربما بمثال تخفيض تصنيف تركيا، وقت تأثرت الوكالات بتوتر العلاقة الأميركية التركية عام 2008، وفي العبث بتصنيف الدول الأوروبية حالة أخرى، لتكون الحالة الأفقع حينما أمر الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما وكالة ستاندرد أند بورز بسحب تقريرها عن الاقتصاد الأميركي بعد تخفيض التصنيف وتعديله إلى "إيه إيه إيه"، لتسحب الوكالات التقرير بالفعل وتنصاع لأمر الرئيس. ولكن، وعلى حق التشكيك بحيادية الوكالات المطلقة، تبقى تقارير تصنيفها بمثابة صكوك إدانة أو غفران للدول، خاصة لدولة مثل تركيا تتطلع للخروج من فخ التضخم وأزمة الليرة وجذب الاستثمارات، ولو عبر تغيير وجه وهوية الاقتصاد والعودة للاستدانة، كما رأينا، ما يعني حاجتها الماسة للتصنيف ومبرر فرح وتفاخر وزير المال محمد شيمشك، كما رأينا بالأمس. والفرح واعتبار تحسّن التصنيف إنجازاً للمشروع الاقتصادي التركي، رغم إمكانية رؤية ملمح مساومة بتقرير "موديز" برفع التصنيف الائتماني لتركيا من مستوى B1 إلى Ba3، والتعليل بتحسن الأداء في السياسات الاقتصادية، وخصوصاً في السياسة النقدية جراء رفع سعر الفائدة إلى 43%، لأن من يتفحّص تصنيف الوكالة، يوم الجمعة الماضي، يراه ومع رفع التصنيف والمديح "قوة التزام صانعي السياسات في تركيا، لا سيما البنك المركزي، بمواجهة الضغوط التضخمية، ومعالجة الاختلالات الاقتصادية، واستعادة الثقة تدريجياً بالليرة التركية من قبل المستثمرين المحليين والأجانب" يرى وعيداً، عبر "الترقية تعكس انخفاضاً في مخاطر العودة إلى سياسات اقتصادية غير تقليدية، رغم استمرار احتمال حدوث ذلك مستقبلاً"، ومحاولة تمرير الحيادية والاستقلالية، عبر ادعاء الموازنة بين المخاطر الصاعدة والهابطة المرتبطة بالتصنيف.. وكأن لا علاقة لحسن العلاقات التركية الأميركية بالأمر، ولا دخل لتبدل نهج تركيا الاقتصادي ومد يدها للمؤسسات المالية وقبول شروطها، بتصنيف "المستقرة".

عدالة مفصّلة... أن يقاس الدمار حسب جنسية الضحية
عدالة مفصّلة... أن يقاس الدمار حسب جنسية الضحية

العربي الجديد

time٢٨-٠٧-٢٠٢٥

  • العربي الجديد

عدالة مفصّلة... أن يقاس الدمار حسب جنسية الضحية

في أعقاب الحروب، تصبح الأرقام أكثر من مجرد إحصاءات، إنها تتحول ساحة معركة للذاكرة، والمسؤولية، والعدالة. من يُحصي القتلى؟ من يُعرّف ما يُعتبر دماراً؟ ومن يُقرّر أي الأرواح تستحقّ التعويض؟ تقف هذه الأسئلة في صلب تقرير صدر أخيراً من مركز الأبحاث التطبيقية للعلوم الاجتماعية (CeSSRA)، أعدّه صاحب هذه السطور في 24 صفحة. وهو تقرير تحليلي يُسلّط الضوء على النهج الذي يعتمده البنك الدولي في تقييم الأضرار الناتجة عن الحروب في كل من أوكرانيا وغزة ولبنان. وعلى الرغم من إعلان البنك التزامه منهجية موحّدة تُعرف بـ"تقييم الاحتياجات بعد الكوارث" (RDNA)، يكشف تقرير CeSSRA عن تباينات منهجية مثيرة للقلق في كيفية تطبيق هذه الأداة، بما يعكس اعتبارات جغرافية وسياسية لا تُعلن صراحة، لكنها تُحدِّد فعلياً من يُعترف به ضحية، وما يُحتسب دماراً. فمن صور الأقمار الصناعية ونماذج الذكاء الاصطناعي، إلى العنف القائم على النوع الاجتماعي والأضرار في القطاع العام، تُخفي الأدوات التقنية التي يعتمدها البنك الدولي قرارات سياسية أعمق: كأن تُوصَف بعض الحروب بـ"الغزو" وأخرى بـ"النزاع"، أو أن يُسمى بعض المعتدين بوضوح، بينما يُمحى ذكر آخرين بالكامل، أو أن يُتعامل مع الدمار في سياق ما كارثة إنسانية، وفي سياق آخر تحدّياً بنيوياً تقنياً. هنا قراءة في أبرز استنتاجات تقرير CeSSRA، كاشفاً كيف تؤثر تباينات البنك الدولي عند تقييم الأضرار في مسارات العدالة والتعافي، خصوصاً في السياقات المنسيّة كلبنان وفلسطين، فالتقرير لا يكتفي بتفنيد الأرقام والمنهجيات، بل يُظهر كيف تتحوّل التقييمات أدواتٍ لإنتاج السرديات الدولية، فتقارير البنك الدولي ليست مجرّد وثائق تقنية، بل نصوص سياسية ترسم حدود الرواية: من المعتدي؟ من الضحية؟ من يُدرَج في أولويات الدعم؟ ومن يُترك للنسيان؟ تُنجَز تقييمات البنك الدولي خارج أي إطار تنظيمي، وأحياناً من دون تنسيق فعلي مع السلطات الوطنية كما يبيّن تقرير CeSSRA، تكمن خطورة تقييمات البنك الدولي في التفاوت الصارخ بين كيفية توصيفه للدمار في أوكرانيا، مقارنة بلبنان وغزة. ففي تقريره عن لبنان الصادر عام 2024، قبل أسابيع من اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل، لم ترد كلمة "الحرب" إطلاقاً. استُبدلت بتعبير ضبابي: "النزاع"، من دون أي ذكر لإسرائيل معتدية. لم يكن هذا التغافل استثناءً، بل تكرّر أيضاً في تقارير البنك عن غزة، إذ جرّدت الأحداث من سياقيها، السياسي والإنساني، وقُدّمت مجرد أضرار تقنية. في المقابل، جاءت تقارير أوكرانيا بلغة واضحة وصريحة: ذُكرت "الحرب" أكثر من مائتي مرّة، ووردت "روسيا" معتدية في أكثر من 50 موضعاً، إلى جانب مصطلحات مباشرة مثل "الغزو"، و"جرائم الحرب"، و"العنف الجنسي القائم على النوع الاجتماعي". هناك، تُروى المأساة بكلماتها. هنا، تُخفى خلف مفردات محايدة باردة. ويبيّن معدّ التقرير أن "هذا التباين ليس تفصيلاً لغوياً، بل هو تعبير عن سياسة انتقائية تعيد رسم الرواية ذاتها: حين يُمحى اسم المعتدي، يُمحى معه الحق بالعدالة". ويضيف: "تجريد الأحداث من بُعدها السياسي في لبنان وغزة يُنتج سردية ناقصة، تُهمل الدمار الشامل للمدارس والمستشفيات والبيئة، وتُسكِت استخدام أسلحة محظورة مثل الفوسفور الأبيض"... في أوكرانيا، تُفتح أبواب العدالة والتعويض. في لبنان وفلسطين، يُغلق حتى باب الاعتراف. ويُترك الناس في عزلة الألم، معلّقين بين التقارير الباردة ونسيان المجتمع الدولي. كيف تُعيد اللغة رسم الخريطة الأخلاقية بحسب تقرير CeSSRA، تكمن الخطورة الحقيقية في التفاوت الصارخ بين كيفية توصيف البنك الدولي للدمار في أوكرانيا، مقارنة بلبنان وغزة، ففي تقريره عن أوكرانيا الصادر عام 2024، وردت كلمة "الحرب" 184 مرّة، وأُشير إلى روسيا بوصفها معتدية أكثر من 50 مرة، وذُكرت "جرائم الحرب" أربع مرات على الأقل، إلى جانب مصطلحات قانونية واضحة، مثل "الغزو" و"العنف الجنسي القائم على النوع الاجتماعي". هذه اللغة لم تكن مجرد وصف تقني، بل حملت اعترافاً سياسياً وأخلاقياً في السياق، وبحق الضحايا في سرديتهم وعدالتهم. أمّا في تقييمات البنك الدولي للبنان وغزة، فالصورة مغايرة جذرياً. لا تُذكر كلمة "الحرب" إطلاقاً. تُستبدل بتعابير محايدة وباردة مثل "نزاع 2023" أو "الأحداث الأخيرة". لا يُذكر المعتدي، ولا تُستخدم لغة قانونية تشير إلى الانتهاكات أو الجرائم. في حالة غزّة، حتى عند توثيق قصف المستشفيات وقتل المدنيين، يُختصر ذلك في تعبيرات مثل "أضرار سكّانية" أو "تأثيرات النزاع". أما في لبنان، فالأمر أشد فجاجة، فلم يُذكر اسم "إسرائيل" سوى مرة واحدة فقط، في هامش توضيحي للمراجع، وليس في سياق التقرير. ما يزيد من إشكالية هذا الانحراف في اللغة أن البنك الدولي نفسه كان قد استخدم في تقريره لعام 2007 حول حرب تموز (2006) في لبنان، مصطلح "الحرب" بشكل مباشر، واعترف بـ"تدمير ممنهج" للبنى التحتية من إسرائيل. كما أشار حينها إلى "الاحتياجات الطارئة لإعادة الإعمار"، مع تسمية واضحة للأضرار وللطرف المعتدي. أمّا في تقييم 2023، فالتقرير نفسه يُسقط كلمة "حرب" تماماً، ويتجاهل السياق السياسي والعسكري الذي أدّى إلى الدمار. هذا التناقض، بحسب CeSSRA، يُظهر تحوّلاً سياسياً في لغة البنك الدولي، ويعكس خضوع التقارير لمعادلات جيوسياسية متغيّرة أكثر مما يعكس التزاماً موضوعياً تجاه العدالة والضحايا. تكشف تقارير البنك الدولي تفاوتاً عميقاً في مقاربات تقييم الأضرار عند مقارنة حالة أوكرانيا من جهة، ولبنان وغزّة من جهة أخرى وفي التقرير: "حين تُوصف المجازر بأنها مجرد نزاعات، تُمحى الجرائم، وتُسلب الضحايا ليس فقط حقوقهم، بل حتى اسمهم". هذه الجملة تلخّص جوهر الإشكالية التي يطرحها التقرير: فالتلاعب بالمصطلحات ليس خياراً لغوياً عابراً، بل يُجسّد انحيازاً مؤسّساتياً يعيد تعريف الجريمة والضحية. عندما تُوصَف المجازر والدمار الممنهج بأنها مجرّد "نزاعات"، تُستثنى تلقائياً من مفاهيم جرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة، ويُجرَّد الضحايا من حقهم في الاعتراف والإنصاف. ويذهب التقرير إلى أبعد من ذلك، مشيراً إلى أن غياب اللغة القانونية من تقارير البنك الدولي، عن لبنان وغزة، لا يعكس مجرّد حياد مؤسّسي، بل يُعبّر عن موقف سياسي ضمني يساهم في تقويض أي مسار للمحاسبة أو للاعتراف بحقوق ضحايا الحروب وجرائمها. حين تُختزل الكارثة في إعادة إعمار البنى التحتية فقط، وتُهمَّش حقوق الناس في الصحّة والتعليم والكرامة، تصبح الكارثة مجرد مشروع هندسي بلا ذاكرة ولا مساءلة. وهكذا، لا تعكس هذه التقارير الواقع كما هو، بل تعيد إنتاجه بشكل مُصمَّم على مقاس الأقوياء، وعلى حساب المنكوبين. لماذا لا يُمنَح الضحايا في لبنان وغزة الحق نفسه؟ بحسب التقرير، تكشف تقارير البنك الدولي تفاوتاً عميقاً في مقاربات تقييم الأضرار بين السياقات المختلفة، ويبدو ذلك جليّاً عند مقارنة حالة أوكرانيا من جهة، ولبنان وغزّة من جهة أخرى. ففي أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، بادرت المؤسّسات الدولية، ومن ضمنها مجلس أوروبا، إلى إنشاء سجلّ دولي خاصّ بالأضرار الناتجة من العدوان، بموجب القرار CM/Res(2023). ونتيجة لذلك، اعتمدت تقارير البنك الدولي على أُطر تنظيمية واضحة، ومستندة إلى اعتراف قانوني بوضع أوكرانيا دولة معتدى عليها، ما أتاح إدماج مقاربة قائمة على الحقوق، تُراعي التكاليف العسكرية والإنسانية على حدّ سواء. في المقابل، تُعدّ تقييمات البنك الدولي للبنان وغزّة استثناءً صارخاً من هذا المسار. فهي غالباً ما تُنجَز خارج أي إطار تنظيمي، وأحياناً من دون تنسيق فعلي مع السلطات الوطنية، كما حصل في تقارير 2024، ما يُفسح المجال أمام الجهات المموّلة لتحديد ما يُدرج وما يُستثنى من عملية التقييم. ولا تشمل هذه التقارير أي تقدير لتكاليف المجهود الدفاعي أو الإنساني، ولا يتم احتساب الأضرار التي لحقت بالجيش اللبناني، أو بقطاع الحمايات الاجتماعية، أو بالإدارات العامّة، وبموازنة الدولة، وحاجات تمويل القطاع العام، أو حتى بالبنى التحتية التابعة لفصائل المقاومة، بما فيها المؤسّسات المدنية، مثل "القرض الحسن"، كما تغيب عنها الإشارة إلى المحاربين القدامى، أو أسر الأسرى، على عكس المعتمد في الحالة الأوكرانية. تقييم ما بعد الحرب يجب أن يكون سياسياً بقدر ما هو تقني، يُسمي المعتدين، ويُعامل الضحايا أصحابَ حقوق لا أرقاماً وفي سياق متصل، تُعدّ تقارير البنك حول أوكرانيا وثائق تفاوضية بالغة الأهمية، إذ تُناقش وتُعتمد بالشراكة مع الحكومة، وتُستخدم أدواتٍ استراتيجية في التفاوض على المساعدات، بما فيها تلك العسكرية. وقد صرّح رئيس الوزراء الأوكراني دينيس شميهال، في فبراير/ شباط 2024، خلال عرض نتائج التقييم السريع الثالث، أن التقرير وفّر آليات مبدئية للتعويض، منها اقتراحات بتجميد أصول روسية ومصادرتها. كما ربط التقرير بين الخسائر والأضرار و"الحقّ في جبر الضرر"، مؤكّداً البُعدين، القانوني والأخلاقي، للتعويضات. في أوكرانيا، لم تُرصد فقط الجسور والمدارس، بل الحقوق أيضاً: أطفال رُحّلوا قسراً، صحافيون قُتلوا، محاربون قدامى، ووزارة عدل تُوثّق جرائم حرب. أمّا في لبنان وفلسطين، فالتقييمات بدت بلا ذاكرة، بلا قانون، بلا حقّ. لم يُذكر حتى مصطلح "حقّ" في تقرير لبنان، بينما ورد أكثر من 30 مرّة في تقارير أوكرانيا. بحسب تقرير CeSSRA، هذا الغياب ليس بريئاً. إنه يُقصي الضحايا من خانة "أصحاب الحقّ" ليحولهم إلى مجرّد "متضرّرين". وعندما يُختزل التهجير والقصف إلى أرقام تقارن بين "نزاعات 2014 و2023"، لا يُطمس الواقع فقط، بل يُعاد إنتاج الظلم بصيغ أكثر برودة. فالتقارير الدولية، كما يشير التقرير، ليست أدوات محايدة، بل نصوص سياسية تحدّد من يُعترف به إنساناً له حقّ، ومن يُترك رقماً يتيماً في جدول الخسائر. رغم ادعاء البنك الدولي استخدام منهجية موحدة لتقييم الأضرار بعد الحروب، يكشف تقرير CeSSRA فجواتٍ صارخة في التطبيق. ففي أوكرانيا، شملت التقييمات كل شيء، من الأثر النفسي والبيئي والاجتماعي، إلى احتساب حقوق الضحايا، وتوثيق الانتهاكات بدقة. أما في لبنان وغزة، فقد اختُزلت الحرب إلى أضرار إسكانية، وغاب منها صوت الناس، النساء، والأطفال، وذوو الإعاقة، كما جرى تجاهل استخدام الأسلحة المحظورة. لا مؤسسات محلية شاركت، ولا الضحايا وُصفوا بأنهم أصحاب حقوق. حتى العنف الجنسي في غزة، لم يُذكر إلا عنفاً منزلياً داخلياً. وعلى صعيد الدعم، وُعدت أوكرانيا بمئات المليارات وإعادة بناء شاملة، بينما اقتصر دعم غزة ولبنان على ترميم المنازل. هذه ليست مجرد أرقام، بل عدالة تُوزع بانتقائية. فالحياد الظاهري، كما يُحلله تقرير CeSSRA، يُعيد إنتاج الظلم ويمنح الشرعية للامساواة. من يُحتَسب ومن يُهمش؟ من يُبنى وطنه ومن يُنسى؟ الجواب ليس في الأضرار، بل في اللغة، والسياسة، والنظر إلى الضحايا أناساً... أو أرقاماً. في وجه هذا التفاوت، لا يكتفي تقرير CeSSRA بالنقد، بل يقدم بديلاً واضحاً: تقييم ما بعد الحرب يجب أن يكون سياسياً بقدر ما هو تقني، يُسمي المعتدين، يُشرك المجتمعات المحلية، ويُعامل الضحايا أصحابَ حقوق لا أرقاماً. العدالة تبدأ من اللغة، وتمتد إلى المنهجية، وتشمل جميع القطاعات من الصحة والتعليم إلى الذاكرة والكرامة. ما لم يُعترف بهذه المبادئ، فستبقى إعادة الإعمار مشروطة، والعدالة انتقائية، والمجتمعات المنكوبة رهينة لحياد زائف لا يُنصف أحداً.

هل يعيد الأردن النظر بالتقاعد المبكر؟
هل يعيد الأردن النظر بالتقاعد المبكر؟

العربي الجديد

time٢٦-٠٧-٢٠٢٥

  • العربي الجديد

هل يعيد الأردن النظر بالتقاعد المبكر؟

عاد الجدل مجددًا إلى الأردن عقب تجدد التحذيرات من صندوق النقد الدولي بشأن مستقبل مؤسسة الضمان الاجتماعي ، في ظل مطالبات بإصلاحات هيكلية لضمان استدامتها المالية. وتوفّر المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي حالياً رواتب تقاعدية لمئات الآلاف من الأردنيين والوافدين العاملين في قطاعات مختلفة، ما يجعل أي تهديد لاستقرارها المالي محل اهتمام شعبي ورسمي واسع. وتلاقت توصيات صندوق النقد وتحذيرات خبراء أردنيين صدرت منذ سنوات، بشأن إمكانية مواجهة المؤسسة أعباء مالية متزايدة خلال فترة قصيرة، خصوصًا مع الارتفاع المتسارع في أعداد المتقاعدين ، وخصوصًا حالات التقاعد المبكر التي تُدفع بها أحيانًا جهات حكومية وخاصة ضمن مظلة قانونية يتيحها قانون الضمان الاجتماعي. وحظي تقرير الصندوق بتفاعل واسع بين مختصين في مجال الضمان الاجتماعي، وكتل نيابية، وناشطين، وسط دعوات لتعزيز أداء المؤسسة وتخفيف الضغوط المالية عنها، ولا سيما في ما يتعلق بالتقاعد المبكر، الذي بات يشكّل أحد أبرز التحديات المالية. في تعليقه على التقرير، قال رئيس كتلة "إرادة والوطني الإسلامي" في مجلس النواب، النائب خميس عطية، لـ"العربي الجديد"، إن ما ورد في تقرير صندوق النقد الدولي يجب أن يُؤخذ بجدية من جميع الجهات المعنية، بهدف تدعيم الوضع المالي للمؤسسة، وضمان استمرارها في أداء واجباتها، وعلى رأسها تأمين الرواتب التقاعدية والتأمينات الأخرى للمشتركين. وأضاف عطية أن التقاعد المبكر مثّل عبئًا ماليًا متزايدًا على المؤسسة، داعيًا إلى إعادة النظر فيه بما يحقق التوازن المالي ويحمي حقوق العاملين والمتقاعدين على حد سواء، مؤكدًا أن تزايد حالات التقاعد المبكر "يُثقل كاهل المؤسسة". من جهته، حذّر الناطق باسم المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي، محمود المعايطة، من التوسع في التقاعد المبكر على حساب تقاعد الشيخوخة، مؤكدًا أن هذا الاتجاه يُهدد الاستدامة المالية للمؤسسة. وأوضح أن عدد المشتركين في الضمان الاجتماعي يبلغ حاليًا نحو 1.6 مليون شخص، فيما وصل عدد المتقاعدين إلى 261 ألفًا، بينهم 160 ألف متقاعد مبكر، أي ما يمثل 63% من إجمالي المتقاعدين. اقتصاد الناس التحديثات الحية الأردن: دعوات إلى إصلاح شامل وعادل لنظام الضمان الاجتماعي وأشار إلى أن فاتورة الرواتب التقاعدية الشهرية تجاوزت 161 مليون دينار في يونيو/حزيران الماضي، ما يشكل ضغطاً مالياً كبيراً، لا سيما مع تزايد وتيرة الإحالات إلى التقاعد المبكر، سواء من مؤسسات القطاع الخاص التي تلجأ إلى ذلك كوسيلة لتخفيض كلف الرواتب، أو من موظفين يفضلون الخروج من الخدمة وهم في ذروة عطائهم المهني، بين سن 45 و50 عاماً. وقد أكد صندوق النقد الدولي أن قانون الضمان الاجتماعي الأردني بحاجة "ماسة" إلى إصلاح هيكلي يضمن استدامته المالية على المدى البعيد، في ظل توقعات بزيادة الضغوط الديموغرافية، وعلى رأسها ارتفاع نسبة الشيخوخة في العقود المقبلة. وأشار التقرير إلى أن مؤسسة الضمان لا تزال تسجل فوائض مالية صافية (باستثناء عوائد الفائدة من الحكومة)، وتوقّع أن تبلغ تلك الفوائض في عام 2024 نحو 2.8% من الناتج المحلي الإجمالي، ما ساهم في دعم الوضع المالي للقطاع العام. بدوره، شدد خبير التأمينات والحماية الاجتماعية، موسى الصبيحي، على أن أوضاع الضمان الاجتماعي تتطلب حزمة من السياسات والإصلاحات التشريعية التي تعزّز وضعه المالي على المدى البعيد، وتُبعد "نقطة التعادل" بين الإيرادات والنفقات التأمينية، وهي النقطة التي حذّر منها الصبيحي منذ سنوات. ولفت إلى أن تقريرًا صادرًا عن البنك الدولي عام 2021 أشار إلى اقتراب المؤسسة من تلك النقطة الحرجة، وهو ما يعيده صندوق النقد الدولي إلى الواجهة اليوم، ضمن مراجعته المستمرة لبرنامج الإصلاح المالي في الأردن.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store