
ترامب يتنمّر على الحلفاء والرؤساء
وقد نشأ هذا اللايقين من أجندة ترامب الجمركية العدائية، ووجهة نظره بأن حلفاء أميركا يستغلونها، فهو يطلق التهديدات هنا وهناك ثم يتراجع عنها، مما يجعل حلفاء أميركا أكثر حذرا.
انخرطت إدارة ترامب في حروب تجارية أدت إلى توتر لدى الحلفاء، كما قوض ترامب التزامات أميركا تجاه حلف الأطلسي، مما أدى إلى شروخ مع الحلفاء عبر الأطلسي. وانسحبت الولايات المتحدة من الاتفاقيات العالمية المتعلقة بالمناخ والصحة وحقوق الإنسان، وهي اتفاقيات تجعل العالم أكثر أمنا.
في الوقت الذي تنشغل فيه الولايات المتحدة بردع الصين، القوة الصاعدة، تتزايد تكاليف حماية الحلفاء في المحيطين؛ الهادئ والهندي، وسط ظروف غير مستقرة، وهذا يدفع الولايات المتحدة إلى تحميل الحلفاء أعباء أكبر قد تتعارض مع مصالحهم الإستراتيجية وقدراتهم المالية.
إن سياسات ترامب في استفزاز جوار الصين ليست جديدة، لكن إدارة بايدن أجبرت حلفاء أميركا على محاذاة سياسات الولايات المتحدة في الدفاع والأمن الاقتصادي تجاه الصين.
ومع ذلك، فإن الرسوم الجمركية- إلى جانب فرض شروط جديدة على الالتزام الأميركي تجاه الحلفاء- بثت حالة من انعدام الثقة وعدم اليقين في تحالفات راسخة منذ عقود. إن ربط قضايا الاقتصاد السياسي بالأمن والدفاع يخلق متطلبات جديدة للحفاظ على التحالفات قويةً.
الأصوات التي كانت خافتة في اليابان، وكوريا الجنوبية بشأن طبيعة التحالف مع أميركا أصبحت أعلى، بل وصل بعضها إلى المطالبة بفك الارتباط مع الولايات المتحدة. وصار كلا البلدين يسابق الزمن لتصنيع السلاح؛ فكوريا الجنوبية تنتج الآن واحدة من أفضل الدبابات في العالم، واليابان بدأت في توظيف قدراتها التكنولوجية في صناعة السلاح، كما حصلت كوريا على عقود لتصدير السلاح.
ورغم ذلك فإن فكرة دخول دول جوار الصين في حرب مع الولايات المتحدة ضد بكين باتت مستحيلة في عهد ترامب؛ لأن نتائج الحرب ستكون سلبية على الجميع، بينما تتبع الصين سياسة قوة واضحة مع تعزيز تحالفاتها الاقتصادية، في وقت يتراجع فيه الوجود العسكري الأميركي، وتهدد الرسوم الجمركية الأميركية اقتصادات هذه الدول.
وإذا كانت هذه الدول ستقبل لفترة بالشروط الأميركية لبقاء القوات الأميركية على أراضيها، فإن الدعوات لفصل اليابان عن الاعتماد على الحماية الأميركية أصبحت علنية، لكن تظل قدرات هذه الدول على رفع الإنفاق الدفاعي مشكلة كبيرة.
ما لا يدركه ترامب هو أن إلحاق الضرر بصناعة السيارات الألمانية سيقلل من رغبة ألمانيا في بقاء القوات الأميركية على أراضيها، فالسيطرة على ألمانيا تعني ضمنا السيطرة على أوروبا وحلف الأطلسي. فالاقتصاد الأقوى في أوروبا هو الذي يرفع ميزانية الدفاع.
وقد جاءت الحرب الأوكرانية لتسقط عن ألمانيا كل القيود التي فُرضت عليها بعد الحرب العالمية الثانية، ورغم أن المواطن الألماني سيتأثر سلبا برفع موازنة الدفاع، فإن المتطرفين الألمان سيدفعون نحو ذلك ويدعمونه.
وفي هذا السياق، بدا أن فرنسا، وألمانيا تتبعان نهجا لبناء قدرات دفاعية مستقلة عن أميركا، ولهذا رأينا القلق الأوروبي في الاستقبال الاستثنائي من قبل الملك تشارلز لماكرون في لندن. فبريطانيا، الحليف الأوروبي الأقرب لأميركا، أصبحت أكثر قلقا من التقلبات الأميركية، وكل ذلك يدفع الولايات المتحدة نحو العزلة دوليا.
إن من المؤسف بالنسبة للكثير من الأميركيين الشرخ الذي أحدثه ترامب في العلاقة مع الجار الودود كندا. فلم تمثل كندا تهديدا للولايات المتحدة إلا في رياضة الهوكي، ولطالما اعتبر الكنديون الأميركيين أقرباء لهم.
فالحدود الفاصلة بين البلدين هي أطول حدود غير محمية في العالم، واقتصاداهما متشابكان بشكل وثيق. ومع ذلك، فإن ما فعله ترامب بحديثه عن كندا كأنها الولاية الحادية والخمسون، وفرضه رسوما جمركية عقابية، وتهديده بعدم الدفاع عنها بموجب نظام الدفاع الصاروخي المقترح "القبة الذهبية" ما لم تدفع تكلفته (مع الاستمرار في رفع الفاتورة)، قد أثار كل ذلك استياء شعب عُرف باعتداله.
ويسود في كندا حتى الآن شعور بالصدمة وعدم التصديق، حتى مع تراجع ترامب عن بعض تصريحاته، فما بدا أنه أسس راسخة للسياسة الخارجية الكندية يذوب كالأنهار الجليدية، ويبدو أن ما تهدّم لن يُصلح بسهولة، بل يحتاج إلى جيل قادم على الأقل.
ترى مارغريت ماكملان، أستاذة التاريخ الدولي في جامعة أكسفورد، أن التحالفات وبناءها عمل صعب، تتطلب إدارتها الصبر والتحمل والمهارة، تماما كالحديقة التي تحتاج إلى عناية دائمة. فالتوصل إلى فهم أعمق للدول الأخرى وقادتها وتعلم كيفية التفاوض معهم، أمر شاق.
إن توبيخ الحلفاء علنا على عيوبهم المزعومة، كما فعل نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس مع الأوروبيين في مؤتمر ميونخ للأمن في فبراير/شباط 2025، أو إصدار الأوامر والإهانات على وسائل التواصل الاجتماعي كما يفعل ترامب يوميا تقريبا، أو إرسال رسائل علنية إلى رؤساء الدول الآخرين قبل تسليمها لمتلقيها، لا يؤدي هذا إلا إلى تراكم الاستياء وجعل العلاقات المستقبلية أكثر صعوبة.
ولنتذكر أنه لو لم يتمكن كيسنجر من إقامة علاقة احترام متبادل مع نظيره الصيني تشو إن لاي، لكان افتتاح العلاقات بين الولايات المتحدة والصين خلال إدارة نيكسون قد تأخر لسنوات.
وهكذا، ففيما يواصل الرئيس الأميركي الضغط والتنمر على حلفاء الولايات المتحدة التاريخيين، يبدأ هؤلاء رويدا رويدا في رسم مسار جديد لأنفسهم، وقد لا يجدهم ترامب عندما يحتاجهم.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 6 ساعات
- الجزيرة
مجلة أميركية: هذه شروط إنجاح عودة اللاجئين السوريين لبلدهم
أكد تقرير نشرته مجلة ناشونال إنترست الأميركية للكاتب إيفار يانسن أن الطريق إلى العودة الآمنة إلى سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد لا يزال محفوفا بالعقبات، ذلك بأن الحكومة السورية الجديدة بحاجة إلى خطة مدعومة بتمويل دولي قوي، وآليات رقابة فعالة، وإسناد سياسي واسع، لكي تحقق النجاح المطلوب. وأضافت المجلة أن مسألة توقيت استعداد سوريا لاستقبال الملايين من مواطنيها النازحين تحظى بمكانة بارزة في الخطاب السياسي الأوروبي. فبعد سقوط نظام الأسد وتشكيل حكومة انتقالية بقيادة أحمد الشرع ، رضخت العديد من دول الاتحاد الأوروبي للضغوط الداخلية، وبدأت في تعليق طلبات اللجوء والنظر في ترحيل اللاجئين السوريين. ومع وجود نحو 14 مليون سوري نازح حول العالم، بينهم 6 ملايين في دول الجوار وأوروبا، تتزايد الضغوط لإيجاد حلول عاجلة. يشير الكاتب يانسن في تقريره إلى أن نحو نصف مليون سوري عادوا بالفعل، لكنهم اصطدموا بواقع صعب، يمثل في استمرار العنف المتقطع وضعف الأمن ودمار البنية التحتية وانهيار الخدمات، على حد تعبيره. ويرى يانسن أن هذا الواقع يُضعف إمكانية إعادة الاندماج ويثير الشكوك بشأن جدوى العودة الجماعية. وعلى الصعيد الإنساني، يحذر الكاتب من أن النظام الصحي السوري يعاني من مشاكل عدة، في ظل نقص الأطباء والمعدات، مع ارتفاع حالات الإصابة جراء انفجار الألغام ومخلفات الحرب، مما يجعل أي عودة كبيرة تنذر بإغراق المنظومة الصحية في أزمة أعمق. وأكد أن الحكومة قطعت وعودا بإجراء انتخابات وضمان حماية الأقليات، مما عزز الحجج بأن سوريا باتت آمنة لعودة أبنائها، خاصة مع رفع بعض العقوبات الأميركية والأوروبية. لكن الكاتب يقول إن السؤال الجوهري هو: هل سوريا بالفعل جاهزة؟ وذكر أن النسيج الاجتماعي والسياسي لا يزال هشا، وأي عودة متسرعة قد تؤدي إلى نزوح جديد إذا تجددت الاضطرابات. ولهذا، يشدد يانسن على ضرورة أن تكون العودة تدريجية وحذرة، ومرتبطة بظروف الواقع الميداني. سوريا لن تكون مستعدة لإعادة أبنائها إلا حين تتحقق أربعة أعمدة أساسية هي: الأمن وحماية الأقليات، وإعادة بناء مرافق الصحة والخدمات، ومعالجة أزمة الألغام، وضمان حقوق الملكية. الدعم الدولي ويوضح يانسن أن الدعم الدولي عامل أساسي في هذه المرحلة، مشيرا إلى أن دول الخليج بدأت بتقديم مساعدات، في حين خصص الاتحاد الأوروبي 2.5 مليار يورو لبرامج الاستقرار. إعلان لكن حجم التمويل لا يزال -برأيه- دون المستوى المطلوب، مشددا على أنه ينبغي توجيهه بشكل مدروس نحو مشاريع المصالحة والأمن المجتمعي وبرامج إعادة الدمج. وقال إن مسألة حقوق الملكية تبقى تحديا بارزا أمام عودة اللاجئين، حيث لا تزال قوانين النظام السابق تقنن مصادرة أملاك المهجّرين دون ضمانات. ويقترح التقرير إنشاء لجنة مستقلة دولية لحل نزاعات الملكية مثل تجربة البوسنة والهرسك كشرط أساسي لعودة آمنة ومستدامة. وخلص الكاتب إلى أن سوريا لن تكون مستعدة لإعادة أبنائها إلا حين تتحقق أربعة أعمدة أساسية، وهي الأمن وحماية الأقليات، وإعادة بناء مرافق الصحة والخدمات، ومعالجة أزمة الألغام، وضمان حقوق الملكية. وحتى يتحقق ذلك، تبقى عودة اللاجئين رهنا بمسار طويل يتطلب الصبر، والتمويل، والمصالحة المجتمعية والسياسية، يؤكد الكاتب.


الجزيرة
منذ 7 ساعات
- الجزيرة
كيف ستنعكس أزمات ترامب الداخلية على منطقتنا؟
كل يوم يمر يخرج علينا الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأمر غريب، لكن ما إن تتوالى الأيام، إلا ويظهر أن الجديد هو أكثر عجبا وغرابة من سابقه. لقد ظل العالم لسنوات طويلة ينظر إلى الولايات المتحدة- رغم عديد المسالك المتسمة بغطرسة القوة في الخارج- على أنها واحة وساحة رحبة ونموذج فريد للممارسة الديمقراطية في الداخل. مبادئ فريدة كانت مدعاة للمحاكاة فالدستور الأميركي، والإعلانات الأميركية للحقوق التي تتضمن الحريات الأساسية، والمفاهيم المرتبطة بالمساواة وحرية الرأي والتعبير وحق الانتخاب والإعلام الحر، وحكم القانون، وفصل السلطات وعدم تركزها في يد شخص أو هيئة، وحماية حقوق الأقليات، والحق في الحياة، وحماية الملكية والحريات الدينية، وحرية الصحافة، والحق في التجمع السلمي… إلخ، كلها أمور مرَدت عليها الولايات المتحدة، رغم أن بعضها قد انتُهك في لحظة من لحظات الاختبار، كتلك التي مرت بها الدولة الأميركية اليافعة حيال السكان الأصليين من الهنود الحمر في تلك البقعة، وهذا الزمان. نتيجة الانتهاكات العديدة اليوم لما سبق من قيم ومُثل في الداخل، أصبح كل ما هو مسطور وموثق في حياة الأميركيين من ماضٍ تسعى عديد النظم السياسية لمحاكاته، هو اليوم الاستثناء، حتى إن الأمر بات الآن يُنذر ببزوغ سياسة جديدة، تُبنى على انتهاك كل المواثيق والأعراف السابقة، التي كانت الولايات المتحدة قد شيدتها في لحظات الانعزال، وقبل أن تنغمس خارجيا في السياسة الدولية بين الحربين الكونيتين، وبعد الحرب العالمية الثانية. إرهاصات وانتهاكات لقد كان كل ما هو حال- من أمور مقززة ومثيرة للاشمئزاز- مجرد مقدمات وإرهاصات، أساسها انتهاكات بشعة لحقوق الإنسان في العراق وأفغانستان، وقبلهما فيتنام، ناهيك عن انتهاك حق تقرير المصير للشعوب الذي تكسّر على صخرة الصهيونية، وهي الوكيل الاستعماري الأبرز للولايات المتحدة في عالم اليوم في المنطقة العربية. فلا حريات عامة، ولا حرية إعلام وصحافة، ولا حق للشعوب في استغلال ثرواتها، ولا حق لهم في مقدساتهم، وقبل كل ذلك لا حق لهم في الحياة، بل إبادة وتجويع وتهجير ولجوء وقتل وتدنيس ونهب موارد. ترامب يتجاوز في الداخل كل الخطوط الحمراء ورغم أن كل تلك المثالب باتت موجهة للخارج، لم يسلم الداخل الأميركي من التنكيل ومحاولات التسلط، عبر عديد الممارسات الشمولية والدكتاتورية، الناتجة عن محاولات استبعاد الآخر، وإسكات المعارضة، بل طال الأمر الرغبة في تزوير الانتخابات عبر وسائل شتى. فبالأمس القريب، حدث الهجوم على الكونغرس، الذي كان ينظر إليه الكثيرون كقلعة من قلاع الديمقراطية وفصل السلطات، وعدم تغول الإدارة الأميركية بتكبيلها عبر التحكم في الموازنة من خلال رقابة قبلية، فاقت بكثير الرقابة التي ابتكرها الإنجليز، ومارسها وما زال مجلس العموم البريطاني، في مواجهة الحكومة، لما تشكله تلك الرقابة من رقابة بعدية متأخرة. ففي 6 يناير/كانون الثاني 2021، اقتحم مثيرو الشغب الذين يدعمون محاولات الرئيس الأميركي دونالد ترامب لقلب نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2020 مبنى الكونغرس، وأدى الاقتحام إلى عمليات إخلاء وإغلاق للمؤسسة التشريعية، وتعطل جلسة مشتركة بين مجلسي الشيوخ والنواب لفرز الأصوات الانتخابية، وما أعقبه من فوز جو بايدن بالرئاسة. الجيش في الشارع وفي واحدة من أكثر المشاهد جدلا كانت خطوات ترامب المتسرعة والانفعالية، التي يستعين فيها بالحرس الوطني ومشاة البحرية الأميركية والجيش، وذلك لقمع المتظاهرين في عديد المواقف التي ظهرت مؤخرا في الداخل الأميركي. فأحداث كاليفورنيا، وتحديدا مدينة لوس أنجلوس خلال الأسابيع الماضية، ليست بعيدة عن الأذهان، وعن التدليل على أن الرئيس أصبح عاجزا عن استخدام الوسائل الناعمة، والتعويض عن ذلك باستخدام الأدوات الخشنة في التعامل مع الاحتجاجات، التي ضربت المدينة لمواجهة سياسة ترامب إزاء المهاجرين غير الشرعيين. حاكم ولاية كاليفورنيا غافين نيوسوم، ورئيسة بلدية لوس أنجلوس كارين باس، والمدعي العام في الولاية روب بونتا، كانوا هم الأكثر غضبا من سياسة ترامب، التي نشر بموجبها 2000 من الحرس الوطني في الولاية، وبينما وصف الأول أفعال الرئيس بأنها "خيال مضطرب لرئيس دكتاتوري"، قام الأخير برفع دعوى قضائية لتجاوز ترامب صلاحياته؛ لأنه "دهس" سيادة الدولة باستخدامه قانونا يمنح له التدخل العسكري بالولاية حال تعرضها لغزو أجنبي! والغريب أن ترامب تمادى وأعلن في مطلع أغسطس/آب، حسب واشنطن بوست، عزمه إنشاء قوة رد فعل سريع لمواجهة الاضطرابات يكون مقرها ألاباما وأريزونا، وقد ترافق ذلك أيضا مع تدخل الحرس الوطني هذا الشهر في شؤون الشرطة بالعاصمة واشنطن؛ لمواجهة الجريمة، بما يُنذر – حسب عدة صحف أميركية – بتحول الولايات المتحدة إلى "دولة بوليسية". التلاعب بأسس العملية الانتخابية على جانب آخر، ومن زاوية انتخابية صِرفة، بدأ ترامب منذ أن تم انتخابه مطلع هذا العام، يُردد، ولو كبالون اختبار، عزمه على خوض انتخابات لولاية ثالثة، وهذا الأمر يُخالف الدستور الأميركي، الذي يحظر أن تمتد ولاية شخص واحد في الرئاسة إلى ثلاث مرات، حتى لو كانت متفرقة. إعلان والغريب في الأمر أن الرئيس يبدو أنه يستغل موقعه للتدخل في الشؤون المتعلقة بمستقبله السياسي. في البداية أفرج ترامب عن الموقوفين في أحداث اقتحام الكونغرس، في خطوة أثارت استغراب الكثيرين، لكون القاصي والداني قد خبر أن أحداث ذلك اليوم لا تدين هؤلاء فقط، بل تدين ترامب نفسه. وكان ترامب قد ذكر لشبكة "إن بي سي نيوز" في مارس/آذار الماضي بشأن تفكيره في الترشح لولاية ثالثة بأنه لا يمزح، وقد أشار قانونيون إلى أن الأمر الذي يسعى إليه ترامب يتطلب تعديل الدستور عبر موافقة ثلثي الكونغرس بمجلسيه، وتصديق ثلثي الولايات الأميركية، وهو أمر من المستحيل حدوثه. في ذات السياق الخاص بالتلاعب في نزاهة الانتخابات وشفافيتها وحيادها، يسعى ترامب منذ أسابيع قليلة إلى تغيير حدود الدوائر الانتخابية في بعض الولايات، لضمان بقاء الجمهوريين فيها كحكام لتلك الولايات، أو بقاء الأغلبية الجمهورية بمجالسها التشريعية، وبالكونغرس الفدرالي. خطوة ترامب، التي تتركز على ولايات بعينها، يبدو أنها وجدت صدى من الزعيمة الديمقراطية نانسي بيلوسي، التي كانت تعارض مسعى ترامب في البداية، لكنها اليوم عبرت عن أهمية اتخاذ رد فعل مماثل في الولايات ذات الأغلبية الديمقراطية، ولكن بشكل يزيد من تواجد الديمقراطيين على الأرض فيها. وهو أمر يدل على أن المرأة التي تأكدت أن ترامب جاد في مسعاه، رأت أن أفضل وسيلة لمواجهته هي الهجوم وليس الدفاع. تأكد ذلك من حديث النائب جو موريل، كبير الديمقراطيين في اللجنة المشرفة على الانتخابات الفدرالية، حيث ذكر أن ترامب "يحطم الأعراف والمعايير التي عشنا من أجلها، ونحن نحاول تحسين ديمقراطيتنا، لكنه يدمرها… ليس أمامنا خيار سوى الرد بالمثل". وكذلك كلام النائب جيمي راسكين من ماريلاند، وهو كبير الديمقراطيين في لجنة القضاء، الذي قال: "أنا أُفضل محاربة النار بالماء وإخراج التلاعب بالدوائر من الخدمة، لكن إذا كان الجمهوريون سيدفعوننا إلى سباق نحو القاع، فعلينا القتال بكل الوسائل المتاحة لدينا". مواجهة الجامعات بدعوى معاداة السامية بموازاة كل ما سبق، أقدم ترامب على فتح مواجهة مع الجامعات الأميركية بدعوى أنها تعادي السامية وتدعم حركة حماس، وذلك على خلفية المظاهرات والاعتصامات التي انطلقت من الجامعات للتنديد بإسرائيل بسبب حرب الإبادة في غزة. في هذا الصدد، أقدم ترامب على تجميد مليارات الدولارات من المنح الفدرالية لجامعات هارفارد وكولومبيا وكاليفورنيا وبرينستون وغيرها. كما ألغت الحكومة الأميركية اعتماد بعض الجامعات لاستضافة الطلاب الأجانب، ما أدى إلى قيام هارفارد بالتباحث مع جامعات أميركية ودولية رائدة لاستضافة طلابها الأجانب – وهم ربع عدد طلابها – بشكل مؤقت في مواجهة قيود ترامب، وفق صحيفة "فايننشال تايمز". إضافة إلى ذلك، وقع ترامب عدة قرارات لفرض غرامات مالية على بعض الجامعات، منها مليار دولار بحق كاليفورنيا، متهما إياها بمعاداة السامية. وهي غرامة تعادل – وفقا لرئيس الجامعة جيمس ميليكين – خمس مرات المبلغ الذي وافقت الجامعة على سداده نظير تسوية اتهامات فدرالية مماثلة بمعاداة السامية، وهي غرامة كفيلة – كما قال – أن "تدمر بالكامل" نظام الجامعة، لا سيما أن الإدارة الأميركية سبق أن جمدت أكثر من نصف مليار دولار من المنح الفدرالية المخصصة لها. وعلاوة على ما تقدم، فقد أُجبرت جامعة كولومبيا على التعهد بالامتثال لقواعد تمنعها من مراعاة العرق في القبول أو التوظيف. أما "براون"، وهي أحدث مؤسسة تعليمية مستهدفة من قبل ترامب، فقد ذُكر أن شروط ترامب بحقها ستحجب 510 ملايين دولار من المنح، وهو نفس الأمر الذي طال "برينستون" وما يقرب من 60 جامعة أخرى، لذات السبب. المنطقة العربية في مهب الرياح الترامبية وسط كل ما تقدم، لا يمكن للمرء إلا أن يتنبأ بأمرين: الأول، أن يكون الداخل الأميركي مدعاة لانشغال الرئيس بتحدياته الداخلية، التي من خلالها لن يصبح متفرغا بشكل معقول للتحديات الخارجية، ومن ثم فإننا سنكون أمام سيناريو يعطي نوعا من الراحة والاسترخاء بعد انتهاء حرب غزة. لكن هذا السيناريو لا يبدو أنه قابل للتحقيق، لأنه يفترض أن الرئيس يعمل دون فريق عمل متناسق، وفكر جماعي شارد مردت مجموعته على الإصرار عليه رغم الأغلبية التي باتت تتنامى ضده داخل المجتمع الأميركي. لذلك، فإن سيناريو آخر يبدو هو الأكثر ملاءمة، وهو أن الرئيس وفريقه سيستمران في نهجهما الساعي للأحادية ورفض التعددية القطبية، ومن ثم المزيد من غطرسة القوة، بل والاعتماد كلما أمكن على الذات وليس إسرائيل في تأكيد السياسات والسلوكيات، على النحو الذي تبين في ضرب إيران، وعدم الاعتماد على إسرائيل في مهمة القضاء على "النووي الإيراني"، وكذلك العبث بمقدرات سوريا ودروزها، ولبنان ومحاولات تهجير شيعته للعراق مقابل إعمار ما هدمته إسرائيل. وكذلك محاولات تهجير الفلسطينيين من غزة وامتلاكها عقاريا، والخوض مع مصر بابتزاز موقفها من التهجير مقابل تسوية مسألة سد النهضة، وابتزاز بلدان في المنطقة بغرض استثمار أموالها في الداخل الأميركي. كل ما سبق ربما يفضي في المدى المتوسط إلى دعم الديمقراطيين، وخسارة أي مرشح جمهوري قادم للانتخابات الرئاسية، لا سيما لو كان هذا المرشح هو نائب الرئيس الحالي، ولربما بروز قوى أميركية جديدة متحدية "الترامبية"، ممثلة في قيادة إيلون ماسك لحزب جديد.


الجزيرة
منذ 8 ساعات
- الجزيرة
هل اعتقلت هولندا ضباطا بالجيش الإسرائيلي؟
على وقع صور متلاحقة لحرب قطاع غزة وما خلفته من مشاهد دامية، اجتاحت منصات التواصل في الأيام الأخيرة لقطات قيل إنها توثّق لحظة اعتقال ضباط وجنود إسرائيليين في قلب هولندا. ظهرت الصور كأنها مشهد من محكمة التاريخ وقد بدأ يكتب أخيرا على أرض الواقع؛ رجال مكبلون بالأصفاد، عناصر أمنية تطوقهم، ومخازن تفتح لتكشف عن جوازات سفر وأموال وأجهزة حاسوب. تدفقت المنشورات بشكل واسع، وتلقفها ناشطون على أنها بداية مرحلة جديدة من الملاحقة الدولية لإسرائيل ، لا سيما وأنها جاءت متزامنة مع تحولات سياسية لافتة في الموقف الهولندي. بدا الأمر كأنه صفحة جديدة تفتح في لاهاي ، حيث مقر العدالة الدولية، لتمنح هذه الروايات مزيدا من المصداقية وتضاعف من انتشارها في الفضاء الرقمي. لكن، ما حقيقة هذه المشاهد؟ وهل كانت بالفعل انعكاسا لتحرك قضائي غير مسبوق بحق ضباط إسرائيليين أم إننا أمام قصة أخرى من قصص العالم الرقمي المليء بالمفاجآت؟ اعتقال قائد عسكري إسرائيلي خلال أغسطس/آب الجاري، اجتاحت منصات التواصل منشورات متداولة، بعضها صادر عن حسابات موثقة على "إكس" و"فيسبوك"، حملت صورا ومقاطع فيديو مثيرة للجدل، قيل إنها توثق لحظة اعتقال قائد سلاح المدرعات الإسرائيلي شيتان شائول بتهمة ارتكاب جرائم حرب في رفح جنوبي قطاع غزة. في تلك المشاهد، بدا رجل مكبل اليدين بالأصفاد ومحاطا بعناصر أمنية، في حين كان آخرون يرتدون زيا رسميا يفتشون ما وصف بأنه مقر يحوي أجهزة حاسوب وجوازات سفر وأدوات حادة، إضافة إلى مبالغ ضخمة. إعلان الصور المتداولة حملت إيحاء واضحا بأنها ليست مجرد عملية أمنية عادية، بل بداية فصل من "المحاسبة الدولية" طال انتظاره. ولم تتوقف الادعاءات عند حدود الصور المتداولة، بل مضت بعض الحسابات أبعد من ذلك لتنسج رواية أكثر إثارة؛ إذ زعمت أن القائد العسكري الإسرائيلي تم توقيفه خلال عطلة صيفية على شاطئ لاهاي بعد أن أدانته منظمات حقوقية بجرائم حرب. وزادت المنشورات زخما حين أرفقتها بنص يؤكد أن "الحكومة الهولندية بدأت حملات ملاحقة موسعة لضباط وجنود إسرائيل عقب صدور حكم من محكمة العدل الدولية بالسجن المؤبد على نتنياهو وكل من شاركه في حرب الإبادة". سردية كاملة بدت أقرب إلى مشهد من محكمة دولية مفتوحة، مما ضاعف من انتشارها وأكسبها زخما على المنصات. القصة الحقيقية غير أن خيوط القصة الحقيقية بدأت تتكشف مع التدقيق؛ إذ تبين لفريق "الجزيرة تحقق" أن الصور المتداولة لا تمت لإسرائيل بصلة، بل تعود في الحقيقة إلى عملية نفذتها الشرطة الإسبانية في مدينة ماربيلا يوم 13 سبتمبر/أيلول 2022، أسفرت عن اعتقال متهم بريطاني من أصل أيرلندي يدعى جوني موريسي. وبحسب تقارير صحف بريطانية وبيانات الشرطة الأوروبية (يوروبول)، فإن موريسي كان يقود شبكة لغسيل أموال بقيمة 200 مليون يورو مرتبطة بعصابة "كيناهان" الإجرامية العابرة للحدود. هوية قائد سلاح المدرعات وبالعودة إلى المصادر العبرية الرسمية، تبيّن لفريق "الجزيرة تحقق" أن قيادة سلاح المدرعات في الجيش الإسرائيلي لا تعود إلى الاسم المتداول في المنشورات، فالقائد الحالي هو العميد أوهاد ماور، في حين تولى هشام إبراهيم المنصب في أغسطس/آب 2022 خلفا للعميد أوهاد نجمة الذي شغله لثلاث سنوات. هذه المعطيات الرسمية تناقض كليا الرواية الزائفة التي روجت لاسم غير موجود في سجلات الجيش الإسرائيلي. ضابطة إسرائيلية مكبلة وفي مسار مواز، انتشرت صور أخرى زُعم أنها توثق لحظة اعتقال ضابطة إسرائيلية تدعى "يوخال يوليتا" على الأراضي الهولندية بتهم ارتكاب جرائم حرب. وأظهرت الصور المتداولة سيدة مكبلة خلال مواجهة مع عناصر زُعم أنهم من الشرطة الهولندية في أحد الشوارع. لكن التحقق باستخدام تقنيات البحث العكسي كشف أن الصور لا تمت بصلة لإسرائيل أو لهولندا؛ إذ تعود في الأصل إلى أغسطس/آب 2016، حين التقطت في شوارع مدينة نيوكاسل البريطانية خلال ليلة عطلة رسمية شهدت فوضى وأعمال عنف وسلوكيات مخلة، دفعت الشرطة للتدخل والسيطرة على الموقف، وفق ما أوردته صحيفة ديلي ميل البريطانية. نفي رسمي وفي مواجهة سيل الادعاءات، خرجت روايات رسمية لتضع حدا للقصة، فقد أكد المتحدث باسم النيابة العامة الهولندية أن السلطات لم تعتقل أي شخص بالاسم المتداول، ولا أي إسرائيلي متهم بجرائم حرب أو جرائم دولية داخل البلاد، لتسقط بذلك مزاعم "الملاحقة الهولندية" المتداولة على المنصات. وفي السياق ذاته، نفى الجيش الإسرائيلي في تصريحات صحفية احتجاز أي ضابط من صفوفه، في حين شددت السفارة الإسرائيلية في لاهاي على أنها "لا تملك أي معلومات عن حادثة من هذا القبيل أو وجود فرد بهذا الاسم". تحولات هولندية اللافت أن انتشار هذه الصور المضللة جاء متزامنا مع تحولات في الموقف الهولندي تجاه إسرائيل، فقد أدرجت الوكالة الوطنية للأمن ومكافحة الإرهاب "إن سي تي في" (NCTV) إسرائيل، ولأول مرة، على قائمة الدول التي تشكل تهديدا لأمن البلاد. وحصلت "الجزيرة تحقق" على وثيقة رسمية منشورة يوم 17 يوليو/تموز الماضي بعنوان "تقييم التهديدات من الجهات الحكومية"، أشارت إلى محاولات إسرائيل التأثير على الرأي العام الهولندي وصناعة القرار السياسي عبر نشر معلومات مضللة. جاء هذا التحول بعد أن منعت الحكومة الهولندية وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش من دخول أراضيها بدعوى تحريضهما على العنف ضد الفلسطينيين، في وقت تشهد فيه المدن الهولندية موجة متصاعدة من المظاهرات المناهضة للحرب على قطاع غزة، في مؤشر يعكس تبدل المزاج العام الهولندي تجاه إسرائيل، ويوفر في الوقت ذاته بيئة خصبة استغلها التضليل الرقمي للانتشار على نطاق واسع.