logo
صحيفة بريطانية: شركة أميركية خططت لتهجير فلسطينيي غزة

صحيفة بريطانية: شركة أميركية خططت لتهجير فلسطينيي غزة

الجزيرةمنذ يوم واحد
كشفت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، اليوم الأحد، أن شركة أميركية تدعى "مجموعة بوسطن للاستشارات"، وقّعت عقدا بملايين الدولارات لتطوير مشروع " مؤسسة غزة الإنسانية" (جي إتش إف) المثيرة للجدل، كما عملت على رسم خطة لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة تحت مسمى "إعادة توطين".
وأبان تحقيق أجرته الصحيفة حول هذه المبادرة ونشرت نتائجه في تقرير، أنّ الشركة الأميركية مجموعة بوسطن للاستشارات "Boston Consulting Group" ساعدت في رسم وتنفيذ مشروع "مؤسسة غزة الإنسانية" المدعومة أميركيا وإسرائيليا، والتي تريد إسرائيل لها أن تحل محل آليات التنسيق الإغاثي التابعة للأمم المتحدة في غزة.
وذكرت الصحيفة أن مسؤولين كبارا في شركة بوسطن للاستشارات، بمن فيهم رئيس قطاع إدارة المخاطر في الشركة، ورئيس قطاع التأثير الاجتماعي، كانوا منخرطين في الخطة.
تفاصيل خطة التهجير
وشملت الخطة عمل أكثر من 12 موظفا من الشركة، على مدار 7 أشهر، بموجب عقد قيمته أكثر من 4 ملايين دولار، حسب الصحيفة التي لم تشر إلى الجهة التي وقعت الشركة معها العقد.
وأبرز ما توصل إليه التحقيق هو أن الشركة الأميركية أعدّت نموذجا ماليا لخطة إعادة إعمار غزة بعد الحرب، يتضمن نقل مئات الآلاف من الفلسطينيين من القطاع.
أما كيف سيتم تهجير مئات الآلاف من سكان القطاع، فيتحدث التقرير عن أن أحد السيناريوهات ينص على إقناع أكثر من 500 ألف فلسطيني، بمغادرة القطاع مقابل "حزمة إعادة توطين" تبلغ 9 آلاف دولار للشخص الواحد، وتوقعت أن نحو 75% منهم لن يعودوا إلى غزة.
كما يطرح التقرير أيضا تساؤلات حول دور مجموعة بوسطن في تطوير الجانب الأمني للمبادرة.
انسحاب الشركة الأميركية
وفي أعقاب الانتقادات الموجهة إلى مؤسسة غزة الإنسانية، أصدرت الشركة الأميركية بيانا أكدت فيه إنهاء التعاون مع المؤسسة، ووقف الأنشطة الإغاثية في غزة، وفق ما ذكرته فايننشال تايمز.
إعلان
وحسب الصحيفة البريطانية، فقد قالت الشركة إنه "تم إبلاغ الشريك الأساسي في المشروع بالرفض القاطع، ومخالفته لتوجيهاتنا، ونحن نتبرأ من هذا العمل".
كما أشار بيان الشركة إلى إجراء عملية مراجعة رسمية للمشروع، مشيرا إلى أنه "في أثناء سير عملية التحقيق، تم منح أحد المديرين المشاركين في المشروع إجازة إدارية مؤقتة".
حكومة غزة تدين
وتعليقا على ذلك، أدان المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، اليوم الأحد، تورط شركة مجموعة بوسطن الاستشارية الأميركية بمخطط إسرائيلي لتهجير الفلسطينيين من القطاع، متهما إياها بالعمل بستار إنساني مضلل.
وقال المكتب الحكومي، في بيان، إنه يدين بشدة تورط مجموعة بوسطن الاستشارية، وما تُسمى مؤسسة غزة الإنسانية في مخطط أميركي إسرائيلي لتهجير شعبنا الفلسطيني تحت ستار إنساني مضلل.
وأضاف كشف تحقيق خطير نشرته صحيفة فايننشال تايمز عن تورط مجموعة بوسطن الاستشارية (BCG)، إحدى أكبر شركات الاستشارات العالمية، في إعداد نموذج مالي لتهجير سكان قطاع غزة وتفريغه ديموغرافيا.
وذكر المكتب الحكومي أن النموذج يأتي ضمن مشروع سري يحمل اسم (أورورا)، ويتضمن تهجير أكثر من نصف مليون فلسطيني مقابل ما سُمّيت "حزم تهجير"، تمولها جهات خارجية.
وبعيدا عن إشراف الأمم المتحدة والمنظمات الدولية تنفذ تل أبيب وواشنطن منذ 27 مايو/أيار الماضي خطة لتوزيع "مساعدات" محدودة بواسطة ما تسمى "مؤسسة غزة الإنسانية"، حيث يقوم الجيش الإسرائيلي بقصف الفلسطينيين المصطفين لتلقي المساعدات، ويجبرهم على المفاضلة بين الموت جوعا أو رميا بالرصاص.
و"يحيط الغموض بظروف تأسيس المؤسسة وتمويلها، إذ من المعروف أن إسرائيل أنشأتها بالتنسيق مع إنجيليين أميركيين وشركات أمن خاصة"، وفق تقرير نشرته "هآرتس" في 27 يونيو/حزيران الماضي.
وكشف التقرير وقتها أن قادة في الجيش الإسرائيلي أصدروا تعليمات مباشرة لقواتهم بإطلاق النار على الحشود الفلسطينية لتفريقهم أو إبعادهم عن مراكز توزيع المساعدات "رغم أنهم لا يشكلون أي تهديد".
ونقلت الصحيفة عن أحد الجنود، لم تسمه، وصفه للوضع بأنه "انهيار تام للمعايير الأخلاقية للجيش الإسرائيلي في غزة".
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

بين الحذر والتحالفات.. ما سِر البطء المصري في التقارب مع دمشق؟
بين الحذر والتحالفات.. ما سِر البطء المصري في التقارب مع دمشق؟

الجزيرة

timeمنذ 43 دقائق

  • الجزيرة

بين الحذر والتحالفات.. ما سِر البطء المصري في التقارب مع دمشق؟

القاهرة- رغم إعلانها المتكرر دعم وحدة الأراضي السورية ووقوفها إلى جانب خيارات الشعب السوري، تتعامل مصر بحذر مع القيادة الجديدة في دمشق برئاسة الرئيس أحمد الشرع ، مستندة إلى اعتبارات أمنها القومي وتحالفاتها الإقليمية والدولية، فضلا عن تخوفها من الانخراط السريع في نظام لم تستقر أوضاعه السياسية والأمنية بعد. فعلى الرغم من اللقاء الذي جمع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بنظيره السوري أحمد الشرع في مارس/آذار الماضي ب القاهرة ، على هامش القمة العربية الاستثنائية، والذي أوحى حينها بوجود نية تقارب سريع بين البلدين، فإن وتيرة الخطوات المصرية تجاه دمشق تسير ببطء، ما يثير تساؤلات عن خلفيات هذا التريث. ويرى مراقبون أن مصر، رغم خصوصية علاقتها التاريخية ب سوريا ، لا تزال تعتبر المشهد السوري الحالي غامضا، سواء من حيث استقراره السياسي أو الأمني، إلى جانب القلق من الخلفية الإسلامية للنظام الجديد، وعلاقته المتينة بأنقرة، وهو تقارب لا يخلو من الحرج بالنسبة للدبلوماسية المصرية، في ظل التنافس الإقليمي مع تركيا. مشهد سياسي مضطرب ويؤكد الخبير في العلاقات الدولية أيمن سمير، في حديثه للجزيرة نت، أن سوريا تمر بمرحلة إعادة تشكل على المستويين السياسي والأمني، وسط تحديات جسيمة تواجهها القيادة الجديدة، لا سيما بشأن الجماعات المسلحة التي لا تزال تسيطر على مناطق واسعة من البلاد. ويشير سمير إلى وجود عشرات آلاف العائلات المرتبطة بمقاتلي تنظيم الدولة وتنظيمات مسلحة أخرى، ممن يقطنون في مخيمات مثل " الهول"، مما يبقي الوضع الأمني في البلاد في حالة توتر دائم. ورغم بعض الانفتاح الدولي على دمشق، يلفت سمير إلى أن سوريا لا تزال مصنفة ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب في السياسة الأميركية، وهو ما يعكس استمرار الحذر في تعامل المجتمع الدولي معها، وليس فقط القاهرة. ويضيف: "حتى الدول الأوروبية حين تدرس تخفيف العقوبات، فإنها تفعل ذلك تدريجيا وبأقصى درجات الحذر، وهو نفس ما تنتهجه مصر". ويشدد الخبير المصري على أن القاهرة حرصت منذ البداية على تبني موقف متوازن، إذ استقبلت الرئيس السوري الجديد خلال القمة العربية، وقدمت مساعدات إنسانية، فضلا عن استضافتها آلاف اللاجئين السوريين، لكنها في الوقت نفسه حرصت على إبقاء العلاقة عند مستوى دعم الشعب فقط. ويضيف أن مصر لم تتوان في دعم الموقف السوري في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية، لا سيما ما يتعلق بإلغاء اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974 وسيطرة الاحتلال على مناطق في درعا والقنيطرة والسويداء. ويقول: "في مثل هذه الملفات، تقف القاهرة بوضوح إلى جانب دمشق، مع التمسك بمبدأ رفض التدخلات الخارجية". ويختتم سمير حديثه بتأكيد الموقف المصري على دعم حل سياسي سوري شامل، يقوم على الحوار بين جميع مكونات المجتمع السوري، ويضمن استعادة الدولة مكانتها ودورها العربي والإقليمي. أما أستاذة العلوم السياسية في الجامعة الأميركية بالقاهرة، نهى بكر، فترى أن العلاقات المصرية السورية، بعد رحيل نظام بشار الأسد ، تخضع لحسابات إستراتيجية دقيقة، ترتبط في المقام الأول بمنع تحول سوريا إلى بؤرة للفوضى أو منطلق للجماعات المتشددة التي قد تهدد الأمن المصري. وتقول بكر للجزيرة نت، إن القاهرة تتبنى ما وصفته بـ"الحياد الحذر"، ريثما تتضح معالم السلطة الجديدة في دمشق، مؤكدة أن الاستقرار في سوريا شرط أساسي لأي انخراط مصري جاد في عملية إعادة الإعمار أو الاستثمار في مجالات الطاقة، لا سيما ما يرتبط بتصدير الغاز المصري عبر الأراضي السورية. وتضيف أن هذه الخطط قد تصطدم بعقبات داخلية، أبرزها هشاشة الوضع السياسي والانقسامات العرقية والطائفية، إلى جانب ما يثار بشأن علاقة بعض أركان النظام السوري الجديد ب جماعة الإخوان المسلمين ، وهو ما تعتبره مصر تهديدا مباشرا لأمنها القومي وهويتها السياسية. وتختتم بكر بالتأكيد على أن أولوية القاهرة هي حماية أمنها واستقرارها الداخلي، موضحة أن سياسة التمهل في فتح قنوات التعاون مع دمشق تعكس هذه الرؤية الواقعية. ماضي الشرع يقلق الحاضر في السياق ذاته، يربط الباحث في الشؤون العربية والدولية د.محمد اليمني، التريث المصري بخلفية الرئيس أحمد الشرع، مشيرا إلى أنه كان على صلة بجماعات ذات توجهات متشددة، مما يثير قلقا داخل مؤسسات صنع القرار المصرية. ويقول اليمني للجزيرة نت، إن سوريا لا تزال تشهد صراعات داخلية على أسس طائفية وعرقية، كما حدث أخيرا مع بعض مكونات المجتمع السوري مثل الدروز والشيعة، وهو ما يعزز موقف القاهرة في تجنب التورط في تحالفات قد تنعكس سلبا على استقرارها. ويؤكد أن السياسة الخارجية المصرية تتسم بالمرونة والبراغماتية، لكنها لا تتهاون في الملفات التي تمس أمنها المباشر، مستشهدا بمواقف مصر الحاسمة في التعامل مع التحديات على الحدود مع ليبيا والسودان. كما يلفت إلى وجود ضغوط أميركية متزايدة على حلفاء واشنطن للاعتراف بالحكومة السورية الجديدة، في إطار سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لرفع العقوبات، بما فيها "قانون قيصر"، بهدف إعادة إدماج سوريا في المنظومة الدولية، لكن اليمني يؤكد أن هذه الخطوات لم تغير من الواقع الميداني كثيرا، إذ لا يزال الانقسام الداخلي سيد الموقف. ويختتم الباحث بالإشارة إلى البعد التاريخي للعلاقة بين البلدين: "الجيشان المصري والسوري وقفا معا في حرب أكتوبر 1973، وحققا نصرا كبيرا على إسرائيل، لكن الظروف اليوم مختلفة، والتعقيدات الراهنة تحتم التروي، لا الاندفاع".

هندسة اللايقين.. من أين جاء نموذج ترامب في التفاوض مع العالم؟
هندسة اللايقين.. من أين جاء نموذج ترامب في التفاوض مع العالم؟

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

هندسة اللايقين.. من أين جاء نموذج ترامب في التفاوض مع العالم؟

في سبتمبر/أيلول عام 2017، وقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مخاطِبا العالم بلغة غاضبة لم يألفها المسرح الدولي منذ نهاية الحرب الباردة ، مُوجِّها تهديدا صريحا لكوريا الشمالية، قائلا إن الولايات المتحدة "ستدمّر كوريا الشمالية بالكامل إذا واصلت تهديداتها النووية"، ومتحدثا عن الزعيم الكوري الشمالي بلهجة ساخرة، مُطلقا عليه لقب "رجل الصواريخ". حينها، لم يَبدُ هذا مجرد تصعيد دبلوماسي، بل كأنه إعلان نِيّات عدائية للغاية، وأن تصعيدا تاريخيا يلوح في الأفق. لكن المدهش أن ترامب نفسه عاد بعد أشهر قليلة ليصافح كيم جونغ أون في أول قمة من نوعها بين زعيمين من البلدين، معلنا أنهما "قد وقَعا في الحب" بعد تبادل الرسائل الدبلوماسية، ومشيدا به. منذ لحظاته الأولى على المسرح السياسي، حرص دونالد ترامب على ألا يبدو مثل أي رئيس أميركي سابق. لم يُخفِ طباعه الغاضبة، بل تبنّاها بفخر، قائلا في مناظرة الحزب الجمهوري عام 2016: "سأقبل بسرور عباءة الغاضب". وعندما سُئل خلال حملته في 2024 عن كيفية ردّه على حصار صيني لتايوان، قال: "لن أضطر لفعل شيء، لأن [ شي جين بينغ ] يحترمني ويعلم أنني مجنون تماما"! بيد أن ما ميّز ترامب لم يكن الغضب فحسب، بل رغبته في أن يُنظر إليه بوصفه زعيما مختلفا واستثنائيا، وغير قابل للتنبؤ، وأنه رجل صفقات، بل ذهب أبعد من ذلك في أحد خطاباته في حملته الأولى عام 2016، حين قال: "يجب أن تكون أمتنا أكثر غموضا وأقل قابلية للتنبؤ". والآن، بعد أن اختبر العالم سياسات ترامب لوقت ليس بسيطا، يمكن القولُ إن هذا المزيج من الغموض وما تسميه عدد من الصحف الأميركية بـ "افتعال الجنون"، بالإضافة لفوضى التصريحات، وهو ما بات يُمثِّل منهجا تفاوضيا، وطريقةً خاصة لعقد الصفقات، فيما يبدو أنها ليست فوضى شعبوية فحسب، بل في الحقيقة هي أداة تفاوضية عالية المخاطرة من نوع خاص. فما ملامح هذا "المنهج الترامبي"؟ وما فرص استدامة نجاحه؟ هندسة اللاعقلانية ليس من السهل تصنيف سلوك دونالد ترامب التفاوضي ضمن قوالب الدبلوماسية التقليدية، فهو لا يتحدث بلغة المؤسسات، ولا يلتزم بالتسلسل المنهجي الذي يُفضِّله صانعو السياسات، ولا يستخدم القنوات التقليدية في إعلان التصريحات الرسمية. لكن رغم ما يبدو من عشوائية وتقلّب، سرعان ما يلحظ المراقب تكرارا واضحا في طريقة ترامب في إدارة الملفات الدولية، يُحيل إلى ما يشبه نموذجا تفاوضيا متكاملا، قائما على الصدمة، والتصعيد، والمقايضة. لا يبدأ ترامب من منتصف الطريق، بل يقذف نفسه مباشرة إلى أقصى مدى، يطلق مطلبا جذريا -مثل قطع العلاقات التجارية نهائيا مع طرف ما، أو الإقدام على ضمّ أرضٍ ما عُنوة إلى بلاده- ثم يدعو بعد ذلك إلى التفاوض من موقع مُتفوق، مصحوبا بتهديدات مبطنة أو صريحة، لا تلبث أن تتحوّل في لحظة إلى رسائل مديح شخصية، أو وعود باتفاقات عظيمة، ثم إنْ لزم الأمر يعود فينفذ تهديدا جزئيا ليؤكد جديته. هذا النموذج ظهر بوضوح في التعامل مع حلف الناتو. فتح ترامب النار على حلفاء واشنطن الأوروبيين، متهما إياهم بالتقاعس عن تحمل أعباء الدفاع الجماعي، ومهددا بانسحاب الولايات المتحدة من الحلف إذا لم يُضاعفوا إنفاقهم العسكري. بدا أداؤه أداء "عدوانيا" و"فوضويا"، لكن المفارقة أن هذا الضغط أسفر لاحقا عن إعلان جماعي لرفع ميزانيات الدفاع في عدد من دول الناتو إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو إنجاز لم تحققه الإدارات السابقة رغم الهدوء والانضباط الدبلوماسي. بعدها عاد ترامب للحديث بلغة الشراكة، مشيدا بالحلف ومؤكدا التزام بلاده بالبند الخامس. بدا وكأنه وضع الحلفاء على حافة الانهيار، ثم أعادهم من الحافة ليقطف الثمرة. مرة أخرى مع إيران، لكن بنتائج مختلفة حتى الآن، وإن كانت العملية ما زالت تحمل في طيّاتها عوامل انفجارها مرة أخرى، طالب ترامب إيران بالتخلي عن برنامجها للأسلحة النووية، مهددا بعواقب وخيمة إن لم تفعل. ثم دخل في مفاوضات غير مباشرة مع إيران، معلنا على الملأ أن المفاوضات تسير بشكل واعد، وأنه يريد أن تكون إيران دولة عظيمة. وفي مرحلة معينة، حدد موعدا لانتهاء المفاوضات، وعندما انقضى الموعد دون اتفاق، اتخذ إجراء عسكريا دراماتيكيا. وفي الحالتين، لم يكن يسعى إلى خلق بيئة تفاوض مستقرة، بل إلى بيئة مرتبكة تمنحه اليد العليا، مستعدا لتفكيك القواعد القديمة، ثم إعادة بنائها عبر صفقات مباشرة. في ملف أوكرانيا مثلا، لوّح ترامب في بداية ولايته الثانية بإمكانية إعادة النظر في الدعم الأميركي لكييف، ما عُدَّ صدمة جيوسياسية في العواصم الغربية، قبل أن يعود ويُشيد بقدرة الحلفاء على الاستجابة والتنسيق. ما كان لافتا أيضا هو تصعيده مع كندا، والتي سمّى رئيس وزرائها السابق جاستن ترودو بأنه حاكم الولاية رقم 51، والتي صرح ترامب بأنه سيضمها (كندا) للولايات المتحدة. كان هذا التصعيد عاملا في صعود رئيس الوزراء الجديد مارك كارني الذي انتخب في أواخر أبريل/نيسان الماضي على خلفية تعهّده بمواجهة تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بحرب تجارية وبضمّ كندا للولايات المتحدة. إعلان وبعد فوزه، تعهد بإطلاق "أكبر تحول في الاقتصاد الكندي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية" لبناء دولة "قوية"، في وقت يواجه فيه تاسع أكبر اقتصاد في العالم أزمة غير مسبوقة. في وقت لاحق، استقبل ترامب كارني في البيت الأبيض، وما بدا تهديدا يمس سيادة كندا في بداية المطاف، تحول إلى سعي لفتح صفحة جديدة يغلب عليها سمة التوتر. من أين جاء هذا النموذج؟ لفهم كيف بنى ترامب هذا النموذج التفاوضي لا يكفي تتبّع تصريحاته وقراراته السياسية، بل لا بد من العودة إلى البيئة التي تَشكَّل فيها عقله. فالرجل لم يأتِ من خلفية بيروقراطية ولا خدم في أجهزة الأمن القومي، ولم يتدرّب في أروقة وزارة الخارجية أو على طاولات لجان الكونغرس. جاء ترامب من عالم العقارات، والإعلام، والترفيه، والصفقات، ومن رحم ثقافة رجال الأعمال الطفيليين الذين يعتبرون كلَّ علاقة فرصةً لمقايضة رابحة، وكلَّ خصم قابلا للإرباك أو الترويض. في كتابه الشهير "فن الصفقة" (The Art of the Deal)، الصادر عام 1987، يوضح ترامب فلسفته بعبارات شديدة التبسيط والوضوح: "أنا أضع أهدافا عالية جدا، ثم أواصل الضغط والضغط والضغط حتى أحصل على ما أريده". وفي مواضع كثيرة من الكتاب، يشير إلى أهمية استخدام الغموض، والمماطلة، والضجيج الإعلامي بوصفها أدوات تفاوض بحد ذاتها، ويقول: "أحاول دائما أن أترك خصمي يفكر: مهلا، ربما يتمكن هذا الرجل فعلا من تنفيذ ما يهدد به". ولكن قبل أن يكتب ترامب كتابه هذا، ثمة شخصية يُرمز لها بأنها شديدة التأثير في بناء هذا المزيج الإدراكي والسلوكي لدى ترامب وفي صياغة رؤيته للعالم، هو روي كوهن، المحامي المثير للجدل الذي عُرف بشراسته وقدرته على تحويل أي أزمة إلى هجوم مضاد. كان كوهن في شبابه مساعدا للسيناتور الجمهوري الشهير جوزيف مكارثي، خلال حملات التطهير السياسي العنيفة في الخمسينيات، ثم أصبح لاحقا الموجّه السياسي والقانوني لترامب في بداياته. فبحسب تقرير لصحيفة "بوليتيكو" نُشر عام 2017، بدأ كوهن، منذ عام 1973، في تمثيل عائلة ترامب، بعد أن رفعت وزارة العدل دعوى قضائية ضدهم بتهمة ممارسات تأجير عنصرية في آلاف الشقق التي يملكونها، وبحلول ثمانينيات القرن الماضي، كان كوهين بمنزلة المُدبّر الأساسي لمناورات ترامب التي أطلقت مسيرته المهنية، حيث أصبح كوهن بالنسبة لترامب أكثر بكثير من مجرد محاميه. وفي لحظة حاسمة لترامب، لم تكن هناك شخصية أكثر تأثيرا من كوهن. وبحسب التقرير السابق ذكره، غرس كوهن فيه ثلاث قواعد أساسية: لا تعتذر أبدا. لا تتراجع أبدا. هاجِم دائما.هذه القواعد تحوّلت في عقل ترامب إلى بوصلة تفاوضية راسخة. فعندما ينتقده الصحفيون، يصفهم بالأعداء. وعندما يتباطأ الحلفاء، يهددهم بالانسحاب. وعندما يتحدى خصومه، يبدأ بتدمير قواعد اللعبة قبل أن يطلب إعادة ترتيبها. ومن هنا نفهم لماذا يُفضِّل ترامب التفاوض المباشر على القنوات الدبلوماسية، ولماذا يميل إلى تحويل الملفات الدولية إلى عروض شخصية، فالرجل لا يثق بالمؤسسات، بل يثق بحضوره الخاص وقدرته على تحريك المعادلة من خلال المواجهة وطبيعته الشخصية. حتى في مظهره وسلوكه العلني، يستثمر ترامب في "اللاعقلانية المدروسة". يقول دانيال دريزنر، الأستاذ في جامعة تافتس، إن ترامب "نادرا ما يكون لاعب شطرنج ثلاثي الأبعاد، بل غالبا ما يكون الرجل الذي يأكل القطع". هذا التصوّر، وإن بدا ساخرا، يعبّر عن جوهر ما يفعله ترامب في النظام العالمي الآن؛ تفكيك قواعد اللعبة نهائيا ليعيد هو بناءها، حتى لو أدى ذلك إلى تشكيل لعبة مختلفة تماما. نتائج لا يمكن التنبؤ بها رغم ثبات النمط التفاوضي لدى ترامب، فإن نتائجه جاءت متفاوتة بشكل صارخ بين ملف وآخر. ففي حين أحرز تقدما تكتيكيا في بعض القضايا، اصطدمت إستراتيجيته بحوائط صلبة في ملفات أخرى، إما لأن خصومه فهموا مبكرا الفلسفة التي يتحرك بها، وإما لأن شركاءه تآكلت ثقتهم في قدرته على الالتزام. في ملف التجارة العالمية، اختار ترامب أن يبدأ بحرب شاملة وتصريحات صاخبة للغاية. فرض تعريفات جمركية مرتفعة على الحلفاء والخصوم على حدٍّ سواء، من كندا إلى الاتحاد الأوروبي إلى الصين، ثم دعا إلى مفاوضات ثنائية بدلا من النظام التجاري متعدد الأطراف، باعتبار ذلك جزءا من إستراتيجيته لإعادة "التوازن التجاري" لصالح أميركا. فعليا، نجح في تعديل بعض الاتفاقات (مثل "USMCA" مع كندا والمكسيك)، لكنها تعديلات شكلية في معظمها. أما مع الصين، فقد تحوّلت الحرب التجارية إلى ماراثون نزيف اقتصادي متبادل، لم تنتهِ إلا بهدنة هشّة لم تعالج جوهر الخلافات البنيوية، وما زالت الضغوط القاسية مستمرة بين الطرفين تعاني منها واشنطن كما تعاني بكين. وهكذا، أنتجت هذه الإستراتيجية حالة من التوتّر المستدام دون تسوية إستراتيجية حقيقية. وفي السياسة الأوروبية، أثمر ضغط ترامب على الناتو عن التزامات مالية إضافية بالفعل، لكن الكلفة الدبلوماسية كانت مرتفعة، حيث إن تكرار التهديد بالانسحاب جعل كثيرا من الحلفاء يتعاملون مع الإدارة الأميركية بقدر من الحذر الإستراتيجي، وبدأت برلين وباريس تبحثان، للمرة الأولى بجدية، في إمكانية بناء بنية أمنية أوروبية مستقلة عن واشنطن، وأُثيرت مؤخرا نقاشات بين برلين ولندن حول اتفاقية دفاعية ثنائية. بهذا المعنى، حصل ترامب على تنازلات، لكنه زعزع ما عُدَّ لعقود "الركيزة النفسية" لتحالف الغرب. وفيما يتعلق بإيران، سعى ترامب إلى فرض "اتفاق نووي جديد" بشروط أميركية، مدعوما بقصف على منشآت نووية داخل إيران بعد فشل المفاوضات. ورغم هذا الضغط، فإن طهران لم تنهَر، بل صعّدت خطواتها تجاه التخلي عن التزاماتها النووية والانسحاب من اتفاقية حظر الانتشار النووي، ولم تعدْ بعدُ لحظيرة الدبلوماسية منذ أطلق نتنياهو الرصاصة الأولى في 13 يونيو/حزيران. وهنا تكمن المفارقة التي تنتجها إستراتيجية ترامب؛ حيث ينجح أحيانا لأنه يبدو غير موثوق، ويفشل أحيانا للسبب نفسه. فما يمنحه القدرة على التهديد، يسلبه القدرة على طمأنة الطرف الآخر بأن ثمة طريقا جادّة للاتفاق. وهكذا، فإن نموذج ترامب ليس بلا جدوى، لكنه أيضا ليس وصفة سحرية. في الملفات التي تحتاج إلى صدمة أو تفاوض سريع قد يُنتج أرباحا آنية، لكنه في الملفات المركّبة والمعتمدة على الثقة التراكمية -مثل احتواء الصعود الصيني، وإنهاء الحرب في أوكرانيا، وتعديل النظام التجاري- يبدو كمَن يهدم ثم لا يقدر على إعادة البناء. نظرية "الرجل المجنون": من نيكسون إلى ترامب غير بعيد عن نموذج ترامب؛ تُعد "نظرية الرجل المجنون" أحد أكثر الأساليب التفاوضية إثارة للجدل في تاريخ السياسة الخارجية الأميركية. تقوم النظرية على مبدأ بسيط في ظاهره، معقّد في تطبيقه، مفادُه أنك إذا أقنعت خصمك بأنك "غير عقلاني" بما يكفي لأن تتخذ قرارات مدمّرة، فإنه مدفوعا بالخوف سيقبل بالتراجع أو التنازل لتجنّب الأسوأ، إذ إن الناس عادة يسرعون لتجنب الخسائر أكثر مما يسارعون لجني المصالح. هنا ليست القوة وحدها هي الرادع، بل الإيحاء بأن تلك القوة ليست منضبطة، وأنها تحوي مزيجا من الجنون والغموض والانفعال. تُنسب النظرية إلى الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون خلال حرب فيتنام ، حين أبلغ كبير موظفيه، هاري روبنز هالدمان، أنه يريد أن يظن الفيتناميون الشماليون بأنه "مجنون فعلا" ومستعد لاستخدام السلاح النووي إذا اقتضى الأمر. "عليك أن تُقنعهم بأنني لا أسيطر على نفسي عندما أغضب، وأنه في أي لحظة يمكن أن أضغط الزر، سيخافون وسيرضخون لنا"، هكذا قال له نيكسون وفقا لمذكرات هالدمان. ورغم أن نيكسون أنكر لاحقا أنه قال ذلك حرفيا، فإن ما نقله هالدمان ظلّ حاضرا في الذاكرة السياسية الأميركية بمنزلة أصل هذه العقيدة الغامضة. بيد أن الفكرةَ أقدمُ من نيكسون ذاته بكثير. في كتابه "نقاشات حول ليفي"، كتب نيقولا مكيافيللي: "أحيانا يكون من الحكمة أن تتظاهر بالجنون". هذه الفكرة تبنّاها لاحقا مفكّرون في مجال الإستراتيجية، مثل توماس شيلينغ ودانيال إلسبرغ، خلال سنوات الحرب الباردة ، حين جادلوا بأن وجود شيء من اللاعقلانية أو عدم اليقين في سلوك القادة قد يجعل الخصم أكثر حذرا من الإقدام على التصعيد. لكن معظم هؤلاء المنظّرين لم يُوصوا أبدا باستخدامها بشكل فج، بل كانوا يعتبرونها احتمالا مؤقتا ضمن ألعاب الردع. ومع البريق الذي يبدو محيطا بهذه النظرية، فإن أداءها تاريخيا لم يكن باهرا. فنيكسون نفسه، الذي سعى لتطبيقها مع فيتنام و الاتحاد السوفياتي ، لم يجنِ منها نتائج ملموسة؛ لم تتنازل هانوي، ولم ترتبك موسكو. السبب، كما خلص عدد من الباحثين، هو أن القادة في الطرف الآخر كانوا يعرفون تماما أن "الجنون المقصود" هو مجرد تكتيك، وأن واشنطن، رغم تهديداتها، تخضع لنظام بيروقراطي معقّد، ولرأي عام يصعب تجاهله. ولذا، فإن تهديدات نيكسون، رغم صخبها، بدت بلا أنياب. لكن الأمر تغيّر مع دونالد ترامب. فالرجل لم يتقمّص دور المجنون، بل يُنظر إليه باعتباره كذلك حقا. يشرح دانيال دريزنر، في "فورين أفيرز"، أن ما كان "تمثيلا مقصودا" لدى نيكسون، بات لدى ترامب سِمة متأصلة في شخصيته السياسية، العديد من قادة العالم، من كوريا الجنوبية إلى كندا، يتعاملون مع ترامب على أنه "فعلا غير متوقع"، لا لأنه يريد ذلك، بل لأنه كذلك فعلا. في المقابل، تشير الباحثة روزان ماكمانوس، في أبحاثها بجامعة بن ستيت، إلى أن "نظرية الرجل المجنون" قد تنجح فقط في حالات نادرة، عندما يكون القائد غير عقلاني حول قضية محددة، لا مجنونا بشكل عام. فإذا اعتقد الخصم أن الطرف الآخر يهتم بقضية واحدة بشراسة، فقد يُصدّق تهديده. أما إذا بدا أن السلوك المجنون هو جزء من الشخصية العامة، فإن التهديد يفقد مصداقيته، لأن الطرف الآخر لن يعرف متى يتوقف هذا الجنون، ولا متى يتحقق الاستقرار. المشكلة الكبرى إذن ليست في زرع الخوف فقط، بل في القدرة على ضبطه أيضا، حيث تقتضي نظرية "الرجل المجنون" -حتى تنجح- أن تكون هناك طمأنة موازية للتهديد ومكافئة له، أي إن القائد يجب أن يقنع خصمه بأنه إذا استجاب فسوف يحصل على استقرار أو سلام دائم يستحق التنازل. لكن من لا يستطيع ضبط سياسة "الرجل المجنون" لا يبعث على الطمأنة، ولا يستطيع أن يبني هذه الثقة مع من حوله. ولهذا، كما لاحظ دريزنر، فشلت معظم محاولات ترامب في انتزاع تسويات نهائية، لأنه لم يكن يُنظر إليه بوصفه شخصا يمكن الوثوق به حتى بعد الوصول إلى اتفاق. في كل الأحوال، ليس في عالم السياسة ما يُفزع أكثر من رجل يملك زمام القوة ويتقن التلويح بإطلاق أعنّتها دون رادع ولا ضابط. هكذا بدا دونالد ترامب على المسرح الدولي؛ رجلٌ يفاوِض وكأن العالم طاولة قمار، يُصعّد ثم يتراجع، يهدد ثم يساوم، يختبر الحدود بينه وبين خصومه ليس من أجل احترامها، بل لإعادة رسمها وفق ما يريد. وأيًّا ما كانت نتائج هذا النهج، المزيد من الاتفاقات أم المزيد من الحروب، فإنه سيبقى النموذج الصاعد في السياسة الأميركية لسنوات قادمة، وعلى العالم أن يُجيد فهمه.

المسلمون وأسباب حرمانهم من السلاح النووي
المسلمون وأسباب حرمانهم من السلاح النووي

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

المسلمون وأسباب حرمانهم من السلاح النووي

أعاد الإجماع الغربي، على تصفية المشروع النووي الإيراني، السؤال مجددًا بشأن ما إذا كان لمنطقة الشرق الأوسط الحق في امتلاك سلاح نووي. الخطاب الشعبوي العربي، منذ عقود مضت وإلى الآن، يعتقد بأن الفيتو، الذي عادة ما يرفع، في وجه أحلام، أي دولة عربية (أو مسلمة) في دخول نادي الكبار النووي، يمثل امتدادا لحقبة الحروب الصليبية القديمة (1096 ـ 1291). استقى هذا الخطاب ـ المؤسس على "تديين الفيتو" ـ شرعيته الجماهيرية، من "شواهد" عززت فيه هذه النزعة، نحو "التفسير الديني" للإجابة عن هذا السؤال الكبير: لماذا المسلمون وحدهم، الذين تُقمع أشواقهم في هذا الإطار؟! لا سيما أن "مبدأ المعاملة بالمثل" المتأصل في القانون الدولي والعلاقات بين الدول لا يُصادر حقهم قانونيًا وأخلاقيًا في امتلاك أسلحة دمار شامل؛ بما فيها السلاح النووي؟ والحال أن الغرب ذاته، عزز من "صدقية"، هذا الخطاب الشعبوي، بما يكفي، سواء بالتطبيق غير المتكافئ، للقانون الدولي، خاصة فيما يتعلق بإسرائيل، أو لمعرفته بأن الشريعة الإسلامية، لا تتمتع بنفوذ كبير في مجال التطبيق في الدول الشرق أوسطية ، وأن الصناعات النووية الوظيفية، لا تزال على بعد سنوات عديدة من تحقيقها في أغلب البلدان العربية. ومع ذلك فإنه ـ أي الغرب ـ ما انفك يثير الشكوك والمخاوف، بادعائه أن إضفاء الشرعية، على أسلحة الدمار الشامل، بين المثقفين الدينيين ذوي التوجهات الحكومية، يظهر مستوى جديدًا من القلق الغربي، إزاء ما يشير إلى سعي المنطقة، إلى الحصول على الطاقة النووية، تحت غطاء من المؤسسة الدينية الرسمية. ليس بوسع "الشعبويين"، أن يلجوا إلى مساحات أخرى، تتخطى الديني إلى ما هو سياسي، يتعلق ببنية الدولة، والنظم السياسية المتعاقبة على الحكم بها. وما إذا كان الفيتو الغربي، يستند إلى مخاوف، من أن تمتلك نظم غير ديمقراطية السلاح النووي، ورهن قرار استخدامه في يد شخص واحد "الزعيم" الذي لا يخضع لأي مساءلة برلمانية أو قضائية؟! بيد أن التفسير السياسي، يفتقر إلى أسس الإقناع، إذ تمتلك نظم غير ديمقراطية، مثل الصين وكوريا الشمالية وروسيا السلاح النووي، فيما تظل تجربتا الهند وباكستان، محل تساؤلات مشروعة، بشأن تفلتهما من الرقابة الدولية، الصارمة والقلقة من انتشار الأسلحة النووية، وانضمامهما إلى نادي الكبار النوويين. وإن كان ثمة تفسير يرى أن نجاح إسلام آباد "المسلمة"، في امتلاك أسلحة نووية، حدث خلال فترة وجيزة، من عدم الاستقرار الجيوسياسي، عقب سقوط جدار برلين. ولعل بُعد باكستان الجغرافي، ومحدودية مدى القوة الجوية الغربية، هما السببان الوحيدان في تجنّبها التدخل العسكري. وتبقى إسرائيل وحدها، أسهل نموذج يمكن استدعاؤُه، للتدليل على "الانحياز الديني"، أو " الفرز الديني" للدول التي تتلقى "المساعدات النووية"، من الغرب الذي يملك وحده فتح "طاقة القدر" لأية دولة في العالم، ترغب في امتلاك السلاح النووي، أو منعها ولو باستخدام القوة والتدخل العسكري (العراق وإيران نموذجان). ليس بوسع أي مراقب، إنكار أن إسرائيل، أيًا كان نظام الحكم بها، هي دولة "أقلية دينية/اليهود"، يتمتع فيها اليمين المتطرف، بنفوذ كبير، وربما يخضع قرار الحرب والسلام فيها، لإرضاء هذا التيار المتوحش والعدواني، وأثناء العدوان على غزة، طُرح خيار "القنبلة النووية" للخروج بنصر، استعصى عليهم تحقيقه، بعد دخول الحرب عامها الثاني، دون أن تحقق تل أبيب هدفًا واحدًا من أهدافها المعلنة. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، قال وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو، إن أحد الخيارات هو إلقاء قنبلة نووية على غزة، للرد على هجوم حماس، على إسرائيل في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. ومع ذلك شاركت الدول الغربية بحماس لم يفتر، في بناء ترسانتها النووية وعلى سبيل المثال: بنت فرنسا مفاعل ديمونة النووي، ووفرت المملكة المتحدة والنرويج الماء الثقيل للمفاعل، ووفرت الولايات المتحدة – بشكل مباشر وغير مباشر – اليورانيوم المخصب، والصمامات النووية، وتقنيات التوجيه (تكنولوجيا نظام توجيه صاروخ بيرشينج-2) لصاروخ أريحا-3، وقاذفات مقاتلة طويلة المدى متطورة، لإطلاق القنابل النووية (طائرات إف-15 وإف-16). كما زودت واشنطن إسرائيل، بأجهزة كمبيوتر فائقة السرعة، تُستخدم لمحاكاة التجارب النووية والتحقق من حيوية الترسانة، وزودت ألمانيا إسرائيل، بغواصات متطورة (دولفين)، قادرة على إطلاق صواريخ كروز ذات رؤوس نووية، وزودت بلجيكا الدولة اليهودية، بخامات اليورانيوم، من مستعمرتها السابقة زائير. وفي عام 1979، قامت أجهزة المخابرات الفرنسية، بمساعدة الموساد، بتخريب قلب المفاعل النووي الذي باعته فرنسا للعراق قبل شحنه، وأطاح حلف شمال الأطلسي بالقذافي، كما خضعت ليبيا لعقوبات اقتصادية من الغرب. لا يعجز منظرو السياسات الغربية، عن "الشوشرة" على أي تفسيرات منطقية، تبرئ ساحتهم، من الاحتكام إلى "الفرز الديني" كلما تطرق الأمر إلى الفيتو الغربي على الشرق المسلم، على وجه الخصوص، كلما شاء أن يمتلك السلاح النووي، إذ يعتقد المبررون له "أن الشرق الأوسط النووي ليس شرقًا أوسط آمنًا". ويجادل "دانيال سيروير" الأستاذ بمعهد السياسة الخارجية بكلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة، بأن أي خطوة حاسمة من جانب إيران ـ مثلًا ـ نحو الأسلحة النووية، قد تفتح الباب على مصراعيه. لافتًا إلى أنه إذا حدث ـ والحال كذلك ـ فإنه، في غضون أشهر، قد نشهد أربع قوى نووية جديدة في المنطقة، بالإضافة إلى القدرات النووية الحالية في إسرائيل. وحذر من أن دقائق فقط من زمن إطلاق الصواريخ، تفصل عواصم القوى النووية المحتملة في الشرق الأوسط، حيث ينتشر العداء المتبادل، وعدم الفهم في جميع أنحاء المنطقة. لا أحد هنا في الشرق، يصدق ما يقال هناك في الغرب، خاصة أن الخلط بين الديني والسياسي، مع ترجيح الأول على الثاني، له ما يبرره، إذ إن ما يتردد من شعارات، ما بعد الحرب العالمية الثانية- ومن بينها أن هوية أوروبا "مسيحية ـ يهودية"- ما زال حاضرًا، في الخطاب السياسي الرسمي الغربي، كلما تنامى في العواصم الغربية، جدل المخاوف من التمدد الإسلامي الرمزي. على سبيل المثال، كتب حزب الشعوب الأوروبي – أكبر كتلة سياسية في أوروبا – في بيان له، أن القارة الأوروبية، تشترك في "ثقافة وتراث يهودي- مسيحي مشترك"، وأن "علينا حماية أسلوب حياتنا الأوروبي بالحفاظ على قيمنا المسيحية". وفي مقال رأي، أكد رئيس الوزراء الفلمنكي جان جامبون، على هذا "التراث اليهودي المسيحي"، واضعًا إياه جنبًا إلى جنب، مع الديمقراطية اليونانية، وسيادة القانون الرومانية باعتبارها المبادئ الأساسية الثلاثة للهوية الأوروبية. وأثناء الحرب الإسرائيلية الأميركية على إيران، ترددت في بعض المواقع الإسلامية آراء تستند إلى ما استقر في الضمير الشعبوي العربي والمسلم، بشأن الفيتو الغربي، على أي أحلام عربية، بامتلاك مظلة نووية، مشيرة إلى أن إسرائيل ليست امتدادًا لهذه الهوية الغربية المزعومة وحسب، وإنما تخدم أيضًا طموحات الحركات الدينية في الغرب، التي تخشى إحياء الحضارة الإسلامية، ووصولًا إلى الحركات المسيحية الصهيونية، التي تؤمن بأن الهيمنة اليهودية على الشرق الأوسط، ضرورية للمجيء الثاني للمسيح. هذه الجماعات، ذات التأثير العميق على صنع القرار الأميركي، ترى في كل دولة عربية أو إسلامية – بغض النظر عن هوية قادتها تهديدًا يجب احتواؤه. وفي نهاية المطاف، فإن التطورات المُحيطة بالبرنامج النووي الإيراني، أكدت حقيقةً أكبر، وهي أن الصراع على الطاقة النووية، جزءٌ من صراع حضاري أوسع. وأن الغرب قد عزم، على حرمان العالم الإسلامي، من الوصول إلى الطاقة النووية، حتى لو استلزم ذلك اللجوء إلى الحرب.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store