
الديمقراطية في فخ الإسلام السياسي
منذ منتصف القرن العشرين، بدأت جماعة الإخوان المسلمين في نسج خيوط حضورها داخل المجتمعات الأوروبية، ليس كلاجئ ديني، بل كمشروع أيديولوجي طويل الأمد...
استغلت الجماعة مناخ الحريات في أوروبا، لا سيما حرية التعبير والمعتقد، لبناء بنية تحتية دعوية ظاهرها الوعظ والإرشاد، وباطنها التمكين السياسي، فلم يكن اختراق الإسلام السياسي للساحة الأوروبية عشوائياً، بل نُفّذ بمنهجية دقيقة، مستنداً إلى قراءة ذكية للثغرات القانونية والبيئة السياسية الأوروبية...
بريطانيا وفرنسا، بحكم إرثهما الاستعماري وموقعهما في الحرب الباردة، كانتا من أوائل الدول التي فتحت الأبواب، بدافع حسابات استخباراتية تارة، وسذاجة ليبرالية تارة أخرى.
في خمسينيات القرن الماضي، احتضنت لندن شخصيات إخوانية بارزة هاربة من بطش أنظمة ما بعد الاستقلال، وعلى رأسهم سعيد رمضان، صهر حسن البنا وأحد أهم مهندسي التمدد الإخواني في الغرب... مما حول بريطانيا إلى الملاذ الأول لهم...
أسس رمضان في جنيف حينها «المركز الإسلامي» بغطاء أوروبي، واستخدمه كنقطة انطلاق لشبكة علاقات واسعة مع الدوائر الغربية، خاصة خلال الحرب الباردة.
لاحقاً، برزت أسماء أخرى مثل كمال الهلباوي، المتحدث الرسمي السابق للإخوان في أوروبا، وعزام التميمي، الذي قاد واجهات فكرية وإعلامية إخوانية في لندن، من أبرزها قناة «الحوار» وصحيفة «الرائد».
هؤلاء وغيرهم أسهموا في ترسيخ خطاب إخواني ناعم يوائم القيم الغربية ظاهرياً، بينما يبني مشروعاً أيديولوجياً موازياً.
منحت بريطانيا جماعات إسلامية إدارة مراكز كبرى كمسجد فينسبري بارك، الذي تحوّل لاحقاً إلى منصة لخطاب متشدد تحت إمامة أبو حمزة المصري، ثم ارتبط لاحقاً بشخصيات مثل أنجم شودري، المحسوب على تيارات أكثر وأكثر تطرفاً... رغم هذه المؤشرات، بقي التعامل الرسمي متساهلاً تحت ذريعة «الاندماج والتعددية».
أما بفرنسا فكانت الحال علمانية مُخترقة وتواطؤاً ميدانياً!! فرغم صرامة نموذجها العلماني، وقعت فرنسا في الفخ ذاته... فبعد موجات الهجرة المغاربية، لجأت الدولة إلى التعامل مع جماعات إسلامية منظمة، أبرزها اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا (UOIF)؛ الذي أسسه الشيخ فؤاد العبدلي واحتضن لاحقاً شخصيات مثل عمار لازار وطارق أوبرو، الذين قدموا أنفسهم كتيار «إسلامي وسطي»، بينما ارتبطوا أيديولوجياً بالإخوان.
ومن أبرز الشخصيات التي أثارت جدلاً كبيراً: طارق رمضان، حفيد حسن البنا، والأستاذ السابق بجامعة أوكسفورد... ورغم قضايا أخلاقية لاحقته لاحقاً، بقي يُقدّم كرمز «للإسلام الأوروبي المعتدل» لسنوات طويلة، وكان له نفوذ كبير داخل النخب الفرنسية الجامعية والإعلامية.
تواطؤ بعض الدوائر الأمنية الفرنسية ظهر بوضوح في تمكين هذه الشخصيات من التمثيل في المجالس المحلية، بل وتسهيل مشاركتها في «المنتخبات البلدية»، كجزء من استراتيجية «تهدئة الضواحي»، التي تحوّلت عملياً إلى تفويض سياسي بغير رقابة.
ومع كل ما كان يحدث بأيدي الإخوان، كان التشدُّد يتغلغل من ألمانيا إلى قلب أوروبا!! ففي موازاة تمدد الإخوان، بدأ التشدد ينتشر من ألمانيا، حيث برزت أسماء مثل بيير فوغل (Pierre Vogel)، الداعية الألماني الذي لعب دوراً محورياً في نشر الفكر المتشدد بين الشباب، لا سيما من أصول مهاجرة... دعمه الخطابي والعبارات الجهادية ألهبت مشاعر فئة غير صغيرة من المهاجرين، في ظل غياب خطاب ديني متوازن من الدولة.
انتقلت هذه الموجة المتشددة لاحقاً إلى بلجيكا (عبر جمعية الشريعة لبلجيكا)، والنمسا، وهولندا، لتجد بيئة خصبة في المناطق الهشة اجتماعياً، حيث غابت الدولة وحضرت الأيديولوجيا..
اليوم، نحن لا نتحدث عن اختراق طارئ، بل عن ثلاثة أجيال إخوانية متعاقبة نشأت وتكوّنت داخل أوروبا: الجيل الأول من اللاجئين والمنظّرين، الجيل الثاني من أبناء المهاجرين الذين تلقوا تعليمهم داخل المؤسسات الأوروبية، والجيل الثالث -الأشد خطورة- الذي يحمل جنسية أوروبية، ويتحدث لغتها، ويشارك في مؤسساتها، لكنه يعمل ضمن مشروع فكري يتجاوز حدود الدولة القومية..
لقد دفعت أوروبا -ولا تزال- ثمناً باهظاً لتجاهلها الفرق بين الإسلام كعقيدة، والإسلام السياسي كمشروع... فقد سلمت المساجد والمراكز الإسلامية لمنظمات أيديولوجية تعادي قيم الديمقراطية من داخلها، واكتفت بالمتابعة الشكلية دون مساءلة حقيقية.
اليوم، تفرض الأسئلة نفسها بإلحاح: من يتحكم في إنتاج الخطاب الديني؟ من يُشكّل وعي الأجيال المسلمة في أوروبا؟ وهل يمكن لديمقراطية تُستغل من الداخل أن تصمد أمام مشروع يستخدمها لإسقاطها؟
الدولة غائبة، الإسلاميون يقودون...
أخبار ذات صلة
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


عكاظ
منذ 3 ساعات
- عكاظ
فظائع نتنياهو لن توقف المساعي العربية لمنع الإبادة
تابعوا عكاظ على لم يعد هناك مكان آمن في قطاع غزة. لا تفرّق قذائف مدافع جيش نتنياهو، وقنابل مقاتلاته ومسيراته بين امرأة حبلى، وطفل في مهده، وشيخ يئن تحت وطأة المرض والشيخوخة. ولم يبقَ مبنى في غزة لم يتم تدميره، أو تركه آيلاً للانهيار. وأضحى جيش نتنياهو يقود الفلسطينيين إلى أماكن يحددها باعتبارها مناطق آمنة؛ ليضربهم من البر والبحر والجو، دون مراعاة لحقوق الإنسان، ودون خوف من اتهامات جرائم الحرب، والتطهير العرقي، والإبادة الجماعية، فكأن إسرائيل أنشئت لتكون فوق القانون. وكلما نددت دولة غربية بتلك الفظائع، وبتعنّت نتنياهو، سارع الأخير لاتهامها بمعاداة السامية، والانحياز إلى حماس. وهو اتهام لم يعد يخيف الغرب، الذي سيُقْدِم عددٌ من دوله خلال الفترة القادمة على الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستحقة؛ تأكيداً لحل الدولتين، الذي جاءت به مبادرة السلام العربية، وأقرته إسرائيل قبل ظهور نتنياهو في الساحة السياسية. ولم يعد ثمة شكٌّ في أن نتنياهو مفزوعٌ من توقف الحرب، وإقرار صفقة إعادة الرهائن الإسرائيليين إلى ذويهم. فهو متشبّث بتحالفه مع المتشددين اليهود؛ لأن انسحابهم من حكومته سيجعله لقمة سائغة للمحاكمات والتحقيقات في فساده القديم، وفشله الذريع في منع وقوع هجوم 7 أكتوبر 2023، وتعنّته في إقرار صفقة الرهائن، ما أدى إلى مقتل عدد منهم. وسيزداد التفاعل العالمي مع المطالب العربية العادلة، عندما يلتئم المؤتمر الأممي، الذي ترعاه السعودية وفرنسا في نيويورك، لتأكيد الالتزام بحل الدولتين. وسيكتمل عندئذ طوق العزلة الدبلوماسية، الذي يخنق نتنياهو ووزراءه الملطخة أيديهم بهواية ذبح الأطفال، والنساء الفلسطينيات. وستسعى بقية دول العالم إلى تأكيد حق الفلسطينيين في العيش بسلام في دولتهم، التي تشمل قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية. وهو حق لن يتنازل عنه الفلسطينيون ولا العرب، مهما تمادى نتنياهو وحليفاه بن غفير وسموتريخ في العنف، والهدم، والتقتيل، وسرقة الأراضي، وتهجير الفلسطينيين. أخبار ذات صلة /*.article-main .article-entry > figure img {object-fit: cover !important;}*/ .articleImage .ratio{ padding-bottom:0 !important;height:auto;} .articleImage .ratio div{ position:relative;} .articleImage .ratio div img{ position:relative !important;width:100%;} .articleImage .ratio img{background-color: transparent !important;}


الشرق السعودية
منذ 4 ساعات
- الشرق السعودية
رئيس المجلس الأوروبي ينتقد المساعي الرامية لتسهيل طرد المجرمين الأجانب
انتقد آلان بيرسيه الأمين العام للمجلس الأوروبي، السبت، مبادرة طرحتها 9 دول أوروبية تدعو الدول الأعضاء إلى تسهيل طرد المجرمين الأجانب. وعبرت حكومات أوروبية عن استيائها من لجوء المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان إلى استخدام الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لمنع عمليات الترحيل، داعية إلى مراجعة تفسير المحكمة. وقال بيرسيه في بيان: "في مجتمع تحكمه سيادة القانون، لا ينبغي أن يتعرض القضاء لضغوط سياسية. لا يمكن للمؤسسات التي تحمي الحقوق الأساسية أن تنحني أمام الدورات السياسية". وأضاف: "إذا فعلوا ذلك، فإننا نخاطر بتقويض الاستقرار ذاته الذي بُني (مجلسنا) من أجل ضمانه. يجب ألا يتم استخدام المحكمة سلاحاً- لا ضد الحكومات ولا من قبلها". وفي رسالة صاغتها 9 دول أوروبية، بقيادة إيطاليا والدنمارك، قبل اجتماع الخميس، بين رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني ونظيرتها الدنماركية مته فريدريكسن، حثّت الدول الأوروبية التكتل على مراجعة تفسير المحاكم للاتفاقية. وتُجادل البلدان بأنه ينبغي أن تتمتع الدول الأعضاء باستقلالية أكبر على الصعيد الوطني في تقرير موعد طرد المجرمين الأجانب. وتقول إنها شهدت حالات أدى فيها تفسير المحكمة إلى حماية أشخاص لا يستحقون الحماية، وفرض قيود مفرطة على قدرة الدول على ترحيل الأجانب. وأكد بيرسيه أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان موجودة لحماية حقوق وقيم الدول الأعضاء، وأن "التمسك باستقلالية المحكمة وحيادها هو حجر الأساس الذي تقوم عليه المحكمة".


أرقام
منذ 4 ساعات
- أرقام
محكمة فرنسية تمنع مؤسس تليغرام من السفر لحضور مؤتمر حقوقي في النروج
رفضت السلطات الفرنسية طلب مؤسس تطبيق تليغرام بافل دوروف للسفر إلى النروج لحضور مؤتمر حقوقي، وفق ما أعلن منظمو المؤتمر السبت. واعتقل دوروف البالغ 40 عاما في باريس عام 2024 ويخضع لتحقيق رسمي بشأن محتوى غير قانوني على تطبيقه الشهير للتراسل. وكان من المقرر أن يلقي دوروف الثلاثاء كلمة في "منتدى أوسلو للحرية" السنوي حول حرية التعبير والمراقبة والحقوق الرقمية. لكن "مؤسسة حقوق الإنسان" التي تنظم المؤتمر قالت إن محكمة فرنسية منعته من السفر شخصيا، مضيفة أنه سيلقي كلمته افتراضيا. وقال ثور هالفورسن، مؤسس ورئيس مجلس إدارة المؤسسة الحقوقية "من المؤسف أن تمنع المحاكم الفرنسية السيد دوروف من المشاركة في حدث تشتد فيه الحاجة إلى صوته". أضاف "تعد تقنيات مثل تليغرام أدوات أساسية لمن يقاومون الاستبداد. هذا أكثر من مجرد خيبة أمل لمجتمعنا، إنه انتكاسة للحرية". في آذار/مارس، سُمح لدوروف بمغادرة فرنسا والسفر إلى دبي حيث مقر شركته. وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، مُنع من السفر إلى الولايات المتحدة للتحدث مع صناديق استثمار. ومنذ اعتقاله، بدا دوروف وكأنه يستجيب لمطالب باريس ببذل جهود أكبر لضمان عدم نشر محتوى غير قانوني على تليغرام مثل إساءة معاملة الأطفال وتجارة المخدرات. لكن دوروف زعم أن رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسي طلب منه حظر الحسابات الموالية لروسيا من المنصة قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة في رومانيا، لكن الجهاز نفى هذه الادعاءات.