
الاختلالات العالمية.. قنبلة موقوتة في صميم الاقتصاد الدولي
مارتن وولف
لا أحد يستطيع التنبؤ بمسارات توترات منطقة الشرق الأوسط أو تداعياتها الاقتصادية المحتملة، ولقد كتبت سابقاً مقالاً بعنوان «التداعيات الاقتصادية لحرب إسرائيل – حماس»، وكانت القضية الكبرى آنذاك تتعلق بمخاوف امتداد النيران إلى عمليات إنتاج ونقل النفط في منطقة الخليج.
وتكمن أهمية هذه المنطقة في كونها تضم 48% من الاحتياطات النفطية المؤكدة عالمياً، كما أنها أسهمت بإنتاج 33% من إجمالي النفط العالمي خلال عام 2022، كما أن فيها نقطة اختناق للصادرات عند مضيق هرمز.
هناك في الوقت نفسه أسئلة أخرى تطرح نفسها أيضاً، وتحديداً فيما يتعلق بتقاطع السياسة التجارية لترامب مع سياسته المالية، فبينما تهدف الأولى إلى تقليص العجز التجاري أو إلغائه تماماً، تسعى الثانية إلى إدارة عجز مالي ضخم، وهما هدفان متناقضان، وبحكم التعريف فإن الدولة تنفق غالباً أكثر مما تكسب، وبما أن الاقتصاد الأمريكي يعمل بالفعل قريباً من طاقته الكاملة - مع معدل بطالة لا يتجاوز 4.2% - فلا توجد طريقة سريعة لزيادة الدخل أكثر من ذلك، لذلك فإن تقليل العجز سيتطلب تخفيضات في الإنفاق الوطني،
والطريق الواضح لتحقيق الخفض المستمر للعجز المالي هو عبر رفع الضرائب، وخفض التزامات الإنفاق، وهذا المسار يسمح للاحتياطي الفيدرالي بتخفيض أسعار الفائدة - وهو ما سيرحب به ترامب. كما ينبغي إضعاف الدولار، وهو ما يمكن أن يساعد على إنتاج السلع والخدمات بشكل قابل للتداول، فلماذا لا يسلك ترامب هذا المسار إذن، بغض النظر عن شغفه بالضرائب المنخفضة والإنفاق المرتفع؟
الجواب هو أن الأمر لا يقتصر على كونه صعباً سياسياً فحسب، بل إن العواقب قد تكون أشد خطورة، ولفهم ذلك بوضوح يمكن النظر في ميزان المدخرات والاستثمارات القطاعية في الاقتصاد الأمريكي منذ أوائل التسعينيات، ومن المهم هنا أن ندرك أن الأرصدة يجب أن تتعادل وتضيف إلى الصفر، لأن مجموع المدخرات المحلية وصافي المدخرات الأجنبية (أي صافي تدفق رؤوس الأموال إلى الداخل) يجب أن يساوي إجمالي الاستثمارات المحلية.
في المتوسط حقق قطاع الأسر والشركات في الولايات المتحدة فائضاً في المدخرات بنسبة 3.5% و1.6% من الناتج المحلي الإجمالي على التوالي، وذلك خلال الفترة من 2008 إلى 2023، بل وحتى في الفترة من 1992 إلى 2007 كانت هذه القطاعات قريبة من التوازن، وبذلك لا يحتاج القطاع الخاص الأمريكي، في صافي حساباته، إلى مدخرات أجنبية، أما المقترض الصافي الأكبر في الاقتصاد الأمريكي فهو الحكومة الفيدرالية.
ويشير هذا التحليل إلى أن الفائدة الأساسية، التي تجنيها الولايات المتحدة من تدفقات رأس المال الصافية المستمرة هي قدرتها على تحمل عجز مالي أكبر، ومن ثم توسيع حجم دينها العام، غير أن هذه المعادلة لا تبدو صفقة رابحة.
وإذا قررت الحكومة خفض عجزها المالي مع استمرار التدفقات الرأسمالية الخارجية فستكون النتيجة الحتمية دفع القطاع الخاص نحو العجز، إما من خلال تراجع مستويات دخله - ما يعني ركوداً اقتصادياً - وإما عبر طفرة في إنفاقه، ما يؤدي إلى فقاعات في أسعار الأصول، وبشكل عام الميل الكبير والمستمر لتدفقات لرأس المال الأجنبي يكون إلى اقتراض غير مجدٍ أو انكماشات اقتصادية أو كليهما معاً، وهي المشكلة الأكبر.
وفي دراسة حديثة نشرتها مؤسسة كارنيجي يسلط الباحثان مايكل بيتيس، وإريكا هوغان، الضوء على جانب سلبي آخر، يتمثل في أن كبح الاستهلاك في الصين ودول أخرى يؤدي إلى فوائض تجارية ضخمة، ما يتسبب بدوره في عجوزات كبيرة لدى شركائها التجاريين، حيث تنتهي الدول التي تعاني من هذه العجوزات التجارية، مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بقطاعات تصنيعية أصغر مقارنة بتلك التي تتمتع بفوائض تجارية.
من جانبه، يطرح الاقتصادي البارز بول كروغمان رؤية مختلفة، مشيراً إلى أن القضاء على العجز التجاري الأمريكي لن يزيد القيمة المضافة للتصنيع الأمريكي سوى بمقدار 2.5 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، ما يعني أن الاختلالات التجارية في حد ذاتها ليست ذات أهمية كبيرة.
وتظهر دراسة بيتيس وهوجان أيضاً أن حجم قطاع التصنيع يرتبط بمستوى المدخرات، لكن الفرق بين متوسط حصص التصنيع الصينية والأمريكية في الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة من 2012 إلى 2022 بلغ 17 نقطة مئوية (28% في الصين مقابل 11% في الولايات المتحدة)، وهي فجوة تفوق بكثير الاختلاف بين الموازين التجارية للبلدين، ويرجح أن التفسير الأدق لهذه الظاهرة يكمن في تركيبة الطلب نفسها، حيث إن الاستثمارات التي تمولها المدخرات المرتفعة تخلق طلباً أكثر كثافة على السلع المصنعة، ما يفعله المستهلك العادي.
باختصار، السبب الرئيسي للقلق بشأن اختلال التجارة العالمية لا يكمن في أثرها على الصناعة التحويلية، وهي مسألة ثانوية لدولة كأمريكا، بل يتعلق بالاستقرار المالي، وهذا ما يفسر ضرورة أن تكون عملية التكيف المالي جهداً تعاونياً عندما يكون المشاركون اقتصادات كبيرة، وذلك لأن الأمريكيين الذين يركزون على العجز المالي وحده يتجاهلون تماماً تأثيره على الطلب العالمي.
ومن غير المرجح أن تتمكن الولايات المتحدة من تقليص عجزها الخارجي بمجرد رفع الرسوم الجمركية، ما لم تجعل تلك الرسوم عند مستويات شديدة الارتفاع تجعل الاستيراد شبه مستحيل. وفي غير هذه الحالة ستؤدي الرسوم في الأغلب لإعادة توزيع هيكل الإنتاج داخلياً، بحيث يتحول جزء منه من السلع المعدّة للتصدير إلى بدائل للسلع المستوردة، دون أن يكون لذلك تأثير ملموس على الميزان التجاري، أما إذا حاولت الولايات المتحدة معالجة عجزها الخارجي من خلال القضاء على العجز في موازنتها الحكومية فقد يؤدي ذلك إلى تباطؤ اقتصادي كبير.
إن الولايات المتحدة ليست دولة صغيرة يمكنها تجاهل التداعيات العالمية لسياساتها، فإذا كانت تسعى لتحفيز نقاش عالمي حول الاختلالات من خلال تدخل سياسي فإن الخيار الأنسب لن يكون فرض تعريفات جمركية، بل تطبيق ضريبة على تدفقات رأس المال، وهذا الإجراء على الأقل سيستهدف فائض الإقراض الأجنبي، رغم أن الكيان الذي يحتاج فعلياً إلى تقليص اعتماده على هذا الإقراض هو الحكومة الأمريكية ذاتها.
وقد يؤدي هذا، إذا تم إطلاقه، إلى نقاش عالمي من النوع، الذي تناولته دراسة متعمقة، أعدها ريتشارد سامانز لمؤسسة بروكينجز، حيث يقترح أن يركز هذا النقاش على السياسات المالية والنقدية والتنموية والتجارة الدولية، وهو اقتراح منطقي، إلا أنه يفترض نهجاً ذكياً وتعاونياً للسياسة، وهو ما يبدو احتماله ضعيفاً في الظروف الراهنة، والتلويح بالعصا قد يطلق بالفعل نقاشاً عالمياً، لكن ما يهم هو ما يأتي بعد التهديدات.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


سبوتنيك بالعربية
منذ ساعة واحدة
- سبوتنيك بالعربية
ترامب يدرس تعيين رئيس جديد للاحتياطي الفيدرالي
ترامب يدرس تعيين رئيس جديد للاحتياطي الفيدرالي ترامب يدرس تعيين رئيس جديد للاحتياطي الفيدرالي سبوتنيك عربي أفادت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يدرس الإعلان عن خليفة لرئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول خلال الصيف الجاري وسط... 26.06.2025, سبوتنيك عربي 2025-06-26T01:59+0000 2025-06-26T01:59+0000 2025-06-26T01:59+0000 ترامب مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الولايات المتحدة الأمريكية وبحسب مصادر الصحيفة فإن الإعلان عن مرشح جديد في الصيف أو الخريف سيكون مبكرًا مقارنة بالإطار الزمني التقليدي الذي يسبق نهاية ولاية الرئيس الحالي في مايو/آيار من العام المقبلومن بين أبرز الأسماء المطروحة لتولي المنصب وزير الخزانة سكوت بيسنت وعضو مجلس محافظي الفيدرالي كريستوفر والر والرئيس السابق للمجلس كيفن وورش إلى جانب مدير المجلس الاقتصادي الوطني كيفن هاسيت والرئيس السابق للبنك الدولي ديفيد مالباسويواصل ترامب توجيه انتقادات لاذعة لباول، متهمًا إياه بـ"البطء الشديد" في خفض أسعار الفائدة. وفي تصريح له خلال قمة الناتو يوم الأربعاء، وصف ترامب باول بأنه "شخص محدود الذكاء جدًا"، في تصعيد جديد للهجوم الشخصي عليه.وكان ترامب قد ألمح في مناسبات سابقة إلى احتمال إقالة رئيس الفيدرالي، ما أثار جدلاً واسعًا حول استقلالية المؤسسة المالية الأهم في الولايات المتحدة. الولايات المتحدة الأمريكية سبوتنيك عربي +74956456601 MIA 'Rossiya Segodnya' 252 60 2025 سبوتنيك عربي +74956456601 MIA 'Rossiya Segodnya' 252 60 الأخبار ar_EG سبوتنيك عربي +74956456601 MIA 'Rossiya Segodnya' 252 60 1920 1080 true 1920 1440 true 1920 1920 true سبوتنيك عربي +74956456601 MIA 'Rossiya Segodnya' 252 60 سبوتنيك عربي ترامب, مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي, الولايات المتحدة الأمريكية


البيان
منذ ساعة واحدة
- البيان
ترامب : يجب إلغاء محاكمة نتنياهو
أبدى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اليوم الأربعاء دعمه لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قائلا إنه يتعين إلغاء محاكمته. وذكر ترامب في منشور على موقع تروث سوشيال "مثل هذه الحملة الشعواء، على رجل قدم الكثير، أمر لا يُصدق بالنسبة لي". وأضاف ترامب "يجب إلغاء محاكمة بيبي نتنياهو، على الفور، أو منح عفو لبطل عظيم، قدم الكثير لدولة (إسرائيل)".


صحيفة الخليج
منذ ساعة واحدة
- صحيفة الخليج
تصعيد إسرائيلي عنيف ضد الجياع والنازحين في غزة
صعّدت إسرائيل قصفها العنيف، أمس الأربعاء، على قطاع غزة، وقصف الجيش الإسرائيلي مختلف أنحاء القطاع مستهدفاً المدنيين وخيام النازحين ونقط توزيع المساعدات، موقعاً عشرات القتلى والجرحى بين الفلسطينيين، معظمهم من الجياع والنساء والأطفال، في وقت تتصاعد التحذيرات من تفاقم الكارثة الإنسانية في غزة وسط حصار مطبق وعجز دولي تام عن وقف نزيف الدم وإيصال المساعدات، في وقت أقر الجيش الإسرائيلي بمقتل سبعة من عسكرييه بينهم ضابط بمعارك وقعت الثلاثاء في خان يونس جنوبي القطاع، في حين شددت مسؤولة أممية على أنه لا يمكن الاستمرار بالوقوف مكتوفي الأيدي تجاه غزة. واصل الجيش الإسرائيلي حربه المفتوحة على قطاع غزة لليوم ال628 على التوالي، وسط مشاهد كارثية من التجويع الممنهج، والدمار الواسع، والمجازر بحق المدنيين، خاصة أولئك الذين يحاولون الوصول إلى نقاط توزيع المساعدات الإنسانية، لسد رمق أطفالهم في ظل الانهيار الكامل للمنظومة الإنسانية. وقتل 64 شخصاً، وأصيب عشرات آخرون بنيران الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، مع تواصل غاراته وقصفه، أمس الأربعاء. وارتفعت حصيلة ضحايا الحرب على غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، إلى 56156 قتيلاً و132239 مصاباً، فيما لا يزال عدد من الضحايا تحت الركام وفي الطرقات بينما لا تستطيع طواقم الإسعاف والدفاع المدني الوصول إليهم. وذكرت تقارير محلية أن المصور الصحفي محمود عيسى أبو شربي قتل مع عدد من المدنيين ظهر أمس الأربعاء في قصف إسرائيلي استهدف مناطق شمال قطاع غزة. ومن جهته، أعلن الجيش الإسرائيلي مقتل ضابط و6 من جنوده وإصابة 16 آخرين في معارك في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة. وأشار الجيش الإسرائيلي فجر أمس الأربعاء إلى أسماء ستة من أصل سبعة جنود قتلوا الثلاثاء، بعد أن فجر مقاتلون فلسطينيون عبوة ناسفة مزروعة في ناقلة جند مدرعة كانوا على متنها. وأوضح الجيش أن «الجنود السبعة احترقوا بالكامل بعد انفجار عبوة ناسفة بمدرعة هندسية من نوع بوما في خان يونس، وعملية إخلائهم من المكان كانت صعبة». وأوضحت التحقيقات الأولية أن عربة «بوما» التابعة للكتيبة الهندسة القتالية 605 أصيبت بعبوة ناسفة وضعها أحد العناصر الفلسطينية. واندلعت النيران في العربة وحاول الجنود إخمادها دون جدوى، إلى أن قامت جرافة «D9» بتغطيتها بالتراب لإخمادها، ثم تم سحبها من الميدان بينما كانت لا تزال مشتعلة وبداخلها الجنود. وذكرت إذاعة الجيش الإسرائيلي أن التعرف على هوية الجنود القتلى بكمين خان يونس استغرق ساعات عدة بسبب احتراق ناقلة الجند. ونقلت القناة 13 عن تحقيق أولي للجيش الإسرائيلي أن كمين خان يونس الذي أدى إلى مقتل 7 جنود نفذه مقاتل فلسطيني واحد. وأضافت أن المقاتل الفلسطيني تمكن من إدخال قنبلته إلى قلب المدرعة الإسرائيلية. وقالت «بعد ذلك، انسحب من تلك المنطقة المليئة بالجنود دون أن يلحظوه». من جهة أخرى، أعلنت وزارة الصحة في قطاع غزة، أمس الأربعاء، أن الأوضاع الصحية والإنسانية وصلت «مرحلة كارثية» بسبب استمرار الإبادة التي ترتكبها إسرائيل بدعم من الولايات المتحدة، وتفاقم الحصار المفروض على النظام الصحي. وقالت الوزارة في بيان، إن «الأوضاع الصحية والإنسانية في قطاع غزة بلغت مستويات كارثية مع استمرار إسرائيل في منع إدخال الإمدادات الطبية الطارئة». وحذرت من أن ما تبقى من المستشفيات العاملة في القطاع لن يكون أمامها مزيد من الوقت للاستمرار في تقديم الخدمات، بسبب ما تواجهه من أزمات خطرة. وأشارت إلى أن المستشفيات تعاني من اكتظاظ شديد يفوق طاقتها الاستيعابية، خاصة في أقسام المبيت والعناية المركزة، وسط تزايد الإصابات الحرجة التي تفوق قدرات أقسام الطوارئ والجراحة. إلى ذلك، قالت الممثلة الأممية المعنية بالأطفال والنزاعات المسلحة إن حجم المعاناة التي يتحملها أطفال غزة يتحدى كل معيار إنساني. وأضافت: لا يمكننا أن نستمر في الوقوف مكتوفي الأيدي تجاه غزة.(وكالات)