
وهم السلام وقيد الهيمنة.. كامب ديفيد في اختبار الإرادة المصرية
لقد بدت هذه الاتفاقية، في ظاهرها، وعداً بإنهاء الصراع، لكنها في حقيقتها كرّست معادلة "السلام مقابل الهيمنة"، بدلاً من "الأرض مقابل السلام"، وجعلت الأمن القومي المصري رهينة ابتزاز دائم، سياسيّاً وعسكريّاً واقتصاديّاً.
وطوال هذه العقود، لم تهدأ الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة، المدعومة أميركيّاً بلا حدود، بدءاً من تصفية القضية الفلسطينية تدريجيّاً، مروراً بمحاولات تهجير سكان غزة إلى سيناء، وصولاً إلى السيطرة على محور صلاح الدين (فيلادلفيا)، في تحدٍّ سافر للسيادة المصرية.
إنّ هذا المسار التاريخي، بتعقيداته وتشعّباته، يضع مصر اليوم أمام مفترق طرق مصيري: إما أن تواصل الارتهان لاتفاق أثبت الزمن أنه يفتقر للعدالة والتوازن، أو تستعيد قرارها الوطني المستقل، وتعود إلى دورها الطبيعي كقوة عربية مركزية وصاحبة مشروع تحرّري يليق بتاريخها ومكانتها.
لم تعد الخروقات "الإسرائيلية" مجرّد انتهاكات عابرة أو حوادث معزولة، بل غدت نهجاً ثابتاً وممنهجاً يهدف إلى تقويض الأمن القومي المصري وإحراج الدولة المصرية أمام شعبها وأمام العالم العربي. وأحدث هذه الخروقات - وربما أشدّها خطراً على الإطلاق - كان توغّل "جيش" الاحتلال الإسرائيلي في محور صلاح الدين (المعروف بمحور فيلادلفيا) وفرض سيطرته الفعليّة على معبر رفح الحدودي، في تجاوز فاضح لكلّ الاتفاقيات والتفاهمات الأمنية التي كرّستها كامب ديفيد وملاحقها الأمنية.
هذا التحرّك العسكري، الذي جرى في خضمّ العدوان المستمر على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، كشف عن نيّات الكيان الصهيوني الحقيقية في إعادة رسم الخارطة الجغرافية والسياسية للمنطقة، عبر خلق واقع جديد على الحدود المصرية الفلسطينية، يدفع في اتجاه تكريس مخطط "الوطن البديل" عبر تهجير الغزيين إلى سيناء، وتحويل مصر من دولة داعمة للقضية الفلسطينية إلى دولة مضطرة للتعامل مع أزمة توطين قسرية على أرضها.
وقبل هذه الخطوة التصعيدية، لم تتوقّف الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة، بدءاً من حروب 2008–2009، مروراً بحرب 2012، ثم 2014، وصولاً إلى الحروب الأخيرة التي حوّلت القطاع إلى ساحة دمار مفتوح. كلّ تلك الاعتداءات كانت مصحوبة بتهديدات علنية للمصريين، سواء عبر القصف قرب الحدود أو ترويج مشاريع "التوطين" في الخطاب الإعلامي الصهيوني، في خرق صارخ لمبدأ السيادة المصرية.
إنّ مبدأ "الأرض مقابل السلام" الذي تأسست عليه اتفاقية كامب ديفيد، تحوّل عمليّاً إلى "الأرض مقابل الإذعان"، إذ ظلّت مصر ملتزمة التزاماً صارماً بكلّ شروط الاتفاقية، مراهنة على إمكانية بناء سلام عادل وشامل، بينما واصلت "إسرائيل" سياستها العدوانية التوسّعية، مستبيحة الأراضي الفلسطينية، وممعنة في بناء المستوطنات، ومحطّمة كلّ المبادئ التي نصّت عليها الاتفاقية وروحها، وعلى رأسها احترام سيادة الدول وعدم تهديد أمنها القومي.
لم تكتفِ الولايات المتحدة، بصفتها الراعي الرئيسي لاتفاقية كامب ديفيد، بالتخلّي عن حيادها المعلن، بل تحوّلت إلى شريك أصيل في الانحياز الصارخ لمصلحة الكيان الصهيوني، سياسيّاً وعسكريّاً واقتصاديّاً، حتى باتت الاتفاقية رهينة لإرادة واشنطن وتقديراتها الاستراتيجية في المنطقة. 12 تموز 22:42
30 حزيران 10:06
فمنذ توقيع الاتفاقية، استخدمت الإدارات الأميركية المتعاقبة المساعدات العسكرية والاقتصادية المقرّرة لمصر، التي كانت تُقدّم في إطار الاتفاق، كوسيلة ضغط ممنهجة لفرض إرادتها السياسية على القرار المصري السيادي، وابتزاز القاهرة في ملفات إقليمية متعدّدة، بدءاً من القضية الفلسطينية، وصولاً إلى الموقف من التحالفات الإقليمية والدولية.
ولم تقف الانتهاكات الأميركية عند حدود الملف الفلسطيني، بل امتدت إلى قضية الأمن المائي المصري، عبر دعمها السافر لمشروعات تقوّض حقوق مصر التاريخية في مياه النيل، وفي مقدّمتها دعم إثيوبيا في بناء "سدّ النهضة". هذا المشروع الذي وصفه الرئيس الأميركي دونالد ترامب علناً بـ"الخطأ الغبي" لمجرّد أنه يهدّد استقرار المنطقة، بينما كانت الإدارات الأميركية - في العلن والخفاء - تقدّم الغطاء الدولي لاستمرار إثيوبيا في تعنّتها، في تهديد مباشر وخطير للأمن القومي المصري ولحياة أكثر من مئة مليون مصري يعتمدون على النيل شرياناً وحيداً للحياة.
إنّ الدعم الأميركي المطلق لـ "إسرائيل"، وتوظيف المعونات كأداة تحكّم، حوّل الولايات المتحدة من وسيط سلام إلى طرف منحاز يكرّس الاحتلال، ويجهض أيّ محاولة مصرية لاستعادة دورها القومي الريادي في المنطقة. وهو ما يعيد طرح الأسئلة الكبرى حول جدوى استمرار مصر في الالتزام باتفاقية باتت مبرّراً لتكبيل حركتها الوطنية والإقليمية، بدلاً من أن تكون جسراً للسلام العادل والشامل.
على الصعيد الاستراتيجي، لم تكن اتفاقية كامب ديفيد مجرّد تسوية سياسية محدودة، بل تحوّلت تدريجيّاً إلى قيد حديدي يكبّل الإرادة المصرية ويشلّ حركتها الإقليمية في لحظات كانت فيها المنطقة في أمسّ الحاجة لدور مصر القيادي. لقد جرّدت الاتفاقية مصر من قدرتها على المبادرة، وجعلتها في موضع ردّ الفعل، بعدما كانت دائماً حاضنة القضايا العربية ومركز الثقل الاستراتيجي للأمّة.
لقد أتاحت الاتفاقية لـ "إسرائيل" حرية مناورة واسعة، مكّنتها من فرض أمر واقع جديد في المنطقة، والتحرّك بمرونة مطلقة لإعادة هندسة التحالفات الإقليمية بما يخدم مشروعها التوسّعي، من دون أن تجد ردعاً عربيّاً حقيقيّاً أو تهديداً استراتيجيّاً من جانب مصر. فبينما انشغلت القاهرة بمقتضيات الاتفاقية وقيودها العسكرية في سيناء، مضت "إسرائيل" في تعزيز وجودها في البحر الأحمر، وفتحت قنوات اختراق مع دول القرن الأفريقي، حتى وصلت اليوم إلى حدود سدّ النهضة، في تحرّك يهدف إلى تطويق مصر مائيّاً واستراتيجيّاً في آن.
ويعيدنا هذا إلى تحذيرات المفكّر الكبير جمال حمدان، الذي رأى في كامب ديفيد أخطر تهديد للأمن القومي المصري في تاريخه الحديث، حين أشار صراحةً إلى أنّ "الخطر الأكبر يكمن في تحويل سيناء إلى منطقة عازلة تضمن أمن إسرائيل، وتضع القرار المصري رهن الإرادة الدولية، بدلاً من أن يبقى تجسيداً للسيادة الوطنية".
لم تعد تلك التحذيرات مجرّد رؤية استشرافية، بل تحقّقت على الأرض بكلّ تفاصيلها القاسية، في ظلّ حالة استسلام عربي واسع، وتفكّك منظومة الردع الجماعي. وهكذا، تحوّلت مصر من قائد طبيعي للمشروع القومي العربي إلى دولة محاصرة بمحدّدات أمنية وعسكرية لا تخدم سوى المشروع الصهيوني.
بعد أربعة عقود من الالتزام الأحادي، أصبح من الواضح أنّ اتفاقية كامب ديفيد لم تعد مجرّد وثيقة سياسية، بل تحوّلت إلى عبء ثقيل يكبّل الإرادة المصرية، ويقيّد قدرتها على الحركة الحرّة في محيطها العربي والأفريقي. لقد باتت مراجعة هذه الاتفاقية أو حتى إلغاؤها خطوة وطنية واجبة، وليست خياراً سياسيّاً أو تكتيكيّاً.
إن إعادة التقييم لا تنبع من نزعة عدوانية أو حنين إلى المواجهة العسكرية، بل من قناعة عميقة بأنّ استعادة السيادة الوطنية الكاملة هي شرط أساسي لنهضة مصر وتحرّر قرارها. فالاتفاقية، في صيغتها الحالية، كرّست حالة اختلال في موازين القوى، وحالت دون تفعيل القوة الشاملة لمصر - السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية - في الدفاع عن قضايا الأمة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
كما أنّ الحديث عن الإلغاء لا يعني الانجرار إلى الحرب، وإنما يعني استعادة الحقّ في اتخاذ القرار الوطني الحرّ، وإعادة التموضع الاستراتيجي لمصر كحائط صدّ أول ضدّ المخططات الإقليمية والدولية التي تستهدف تفكيك المنطقة وإعادة رسم خرائطها لصالح المشروع الصهيوني.
إنّ مصر اليوم مطالبة أكثر من أيّ وقت مضى بطرح بدائل سياسية واستراتيجية جديدة، تعيد بناء مكانتها كقوة مركزية قادرة على حماية أمنها القومي، والدفاع عن أمن الأمة العربية برمّتها. فالتاريخ لا يرحم، والشعوب لا تنسى، واللحظة الراهنة تفرض شجاعة استثنائية في اتخاذ القرار، حتى لو بدا صعباً أو محفوفاً بالمخاطر.
في المحصّلة، يفرض علينا الواقع الراهن - بكلّ ما يحمله من تهديدات وتحدّيات - إعادة قراءة اتفاقية كامب ديفيد ليس بوصفها نصّاً مقدّساً، بل باعتبارها وثيقة قابلة للمراجعة والمساءلة. لقد تحوّلت هذه الاتفاقية من وعدٍ بسلام عادل، إلى قيدٍ يحاصر مصر، ويمنعها من استعادة دورها التاريخي كقلب نابض للأمّة العربية، وحائط صدٍّ أول ضد الأطماع الصهيونية والإقليمية.
إن اللحظة التاريخية التي نعيشها لا تتيح رفاهية التردّد أو المراوغة. فإما أن تستعيد مصر قرارها المستقل، وسيادتها الكاملة، وتعود لقيادة مشروع نهضة عربي حقيقي، أو تظلّ أسيرة لاتفاق أفرغ روحها القومية، وأفقدها ثقة الشعوب العربية في ريادتها.
ولعلّ أعظم ما يمكن أن نقدّمه للأجيال القادمة، هو أن نثبت في هذه اللحظة الفارقة، أننا كنا أمناء على المصير الوطني، شجعاناً في اتخاذ القرارات المصيرية، وأوفياء لوعد التحرّر والسيادة. فالتاريخ - كما قال جمال حمدان - لا يرحم الضعفاء، ولا يمنح المجد إلا للذين يجرؤون على كسر القيود، والانتصار للحقّ، مهما كانت التكاليف.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


LBCI
منذ 2 ساعات
- LBCI
ترامب يعرب عن أمله في التوصل إلى "تسوية" بشأن غزة خلال الأسبوع المقبل
أعرب الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأحد، عن أمله في التوصل إلى "تسوية" الاسبوع المقبل بشأن النزاع في غزة، رغم تعثر مفاوضات وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس المنعقدة في الدوحة. وقال ترامب مكررا تصريحات متفائلة بشأن غزة أدلى بها في 4 تموز: "نحن نجري محادثات ونأمل أن نصل إلى تسوية خلال الأسبوع المقبل".


الميادين
منذ 8 ساعات
- الميادين
أكثر من 100 شهيد في قطاع غزة منذ فجر اليوم
أفاد مراسل الميادين في قطاع غزة، اليوم الأحد، باستشهاد 100 فلسطيني، على الأقل، منذ الفجر. وفي التفاصيل، أدّى قصف من مسيّرة إسرائيلية على مجموعة من المواطنين الفلسطينيين في منطقة المجايدة، بمواصي مدينة خان يونس، جنوبي القطاع، إلى ارتقاء شهيد وإصابة أكثر من 20 فلسطينياً بجروح. وفي خان يونس أيضاً، أُصيب 10 فلسطينيين، من جراء قصف من مسيّرة إسرائيلية على خيمة لنازحين، في منطقة القادسية، غربي المدينة. وفي رفح جنوبي القطاع، قضى 3 شهداء بنيران "جيش" الاحتلال، قرب مركز مساعدات شمالي المدينة. أما في مدينة غزة، فقد ارتقى عدد من الشهداء وأصيب آخرون، باستهداف طائرات الاحتلال خيام النازحين، في محيط أبراج المقوسي وبالقرب من أبراج الفيروز، في الشاطئ الشمالي، غربي المدينة، بحسب مراسلنا. اليوم 00:41 13 تموز كذلك تحدّث مراسلنا عن شهيد ومصابين، من جرّاء قصف مدفعي إسرائيلي، على شارع النديم بحي الزيتون، جنوبي مدينة غزة. جهاز الدفاع المدني في القطاع، أعلن استشهاد أحد ضباطه، هو أحمد إسماعيل البريم، والذي قضى خلال الاستهدافات الإسرائيلية التي طالت النازحين في منطقة عبسان. وارتفع بذلك عدد شهداء الدفاع المدني، منذ بداية حرب الإبادة، إلى 131. في غضون ذلك، يواصل الاحتلال الإسرائيلي قصفه على مختلف مناطق القطاع، حيث سُجّل في الساعات الأخيرة، قصف مدفعي مكثّف، في محيط منطقة المسلخ، جنوبي مدينة خان يونس. كما استهدفت سلسلة غارات إسرائيلية 3 منازل، بمنطقة الشمعة، في حي الزيتون. وكان القطاع قد شهد، أمس، استشهاد أكثر من 100 من سكانه، كان منهم 30 من منتظري المساعدات.


الميادين
منذ 9 ساعات
- الميادين
عراقتشي يهاجم نتنياهو: مجرم حرب يُحرّك البيت الأبيض علناً
انتقد وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقتشي، رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مشككاً في سلوكه السياسي وعلاقاته مع الولايات المتحدة. وتساءل عراقتشي عبر منصة "إكس" للتواصل الاجتماعي: "ما الذي يدخّنه نتنياهو؟ وماذا يملكه "الموساد" تحديداً في البيت الأبيض؟". Netanyahu pledged victory in Gaza almost two years ago. The end result: military quagmire, facing arrest warrant for war crimes, and 200,000 new Hamas Iran, he dreamed that he could erase 40+ years of peaceful nuclear achievements. The end result: every one of the… 13 تموز 13 تموز وفي سياق ردّه على تصريحات إسرائيلية متكررة، أشار عراقتشي إلى أنّ نتنياهو كان قد تعهّد بـ"الانتصار" في غزّة قبل نحو عامين، مضيفاً أنّ النتيجة كانت "مأزقاً عسكرياً، ومذكرة توقيف بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وتحوّل 200 ألف شاب إلى مجندين جُدد لمواجهة حركة حماس". وفيما يخصّ البرنامج النووي الإيراني، قال عراقتشي إنّ "نتنياهو حلم بتدمير إنجازات 40 عاماً من التقدّم النووي السلمي في إيران"، مشيراً إلى أنّ "كل واحد من الشهداء الـ12 من العلماء النوويين الذين اغتيلوا على يد مرتزقته، كان قد درّب أكثر من 100 تلميذ كفؤ سيواصلون المسيرة". وأضاف أنّ "غطرسة نتنياهو لم تتوقف عند هذا الحد، بل إنّه، بعد فشله في تحقيق أهدافه ضد إيران، وعقب اللجوء إلى الدعم الأميركي، عندما دمّرت الصواريخ الإيرانية مواقع سرية للاحتلال، بات يُملي علناً على الولايات المتحدة ما يجب قوله أو فعله في المحادثات مع طهران". وختم عراقتشي بالإشارة إلى أنّ "المهزلة الحقيقية هي الاعتقاد بأنّ إيران ستأخذ أي كلام يصدر عن مجرم حرب مطلوب على محمل الجد".