
أزمة "الزمرد المصري".. خريطة الكنز الأخضر جاهزة فأين المفتاح؟
في أعماق الصحراء الشرقية وسيناء، لا تقتصر الكنوز على الآثار الفرعونية، بل تخبئ الأرض ذاتها كنوزا من نوعٍ آخر، وهي الأحجار الكريمة النادرة مثل الحجر الأخضر، المعروف بـ "الزمرد".
وتعود أقدم أنشطة استخراج الزمرد في مصر إلى ما قبل أكثر من 3 آلاف عام، في زمن الأسرة الـ21 (حوالي 2000-1788 قبل الميلاد)، حيث كان يعرف باسم "حجر الحب" أو "الحجر المقدس"، وزينت به الملكة كليوباترا تيجانها.
ورغم هذه الأهمية التاريخية للزمرد، فإنه واجه تراجعا في صناعة تعدينه، ولطالما اعتبر أن غياب خريطة دقيقة لتحديد مواقعه عائقا أمام عودة نشاطه التعديني، غير أن دراسة علمية صدرت قبل 3 سنوات أعادت فتح الملف من زاوية مختلفة، حيث تؤكد أن المشكلة أكبر من مجرد نقص في المعلومات الجيولوجية.
وحددت الدراسة المنشورة بدورية"فيزكس آند كميثتري أوف ذا إيرث"، لأول مرة، التوزيع الجغرافي والكيميائي والجيولوجي لهذا المعدن النادر داخل الصحراء المصرية، لتكون بمثابة نقطة تحول مهمة في فهم التكوين الجيولوجي للزمرد المصري.
وبدأت قصة هذه الدراسة المهمة عندما انطلق السعيد لاشين، المدرس بقسم الجيولوجيا بكلية العلوم جامعة الأزهر ورفاقه في رحلة ميدانية، كان زادهم فيها خبراتهم العلمية وأجهزة التحليل المحمولة، إلى مواقع كانت يوما ما معروفة للمصريين القدماء، ثم توارى الاهتمام بها مع مرور الزمن، وكانت مهمة الفريق واضحة، وهي رسم خريطة دقيقة توثق أماكن وجود الزمرد المصري، وتحديد خصائصه الكيميائية والجيولوجية.
التوزيع الجغرافي للكنز الأخضر
عندما بدأ الفريق البحثي رحلته الميدانية في عمق الصحراء الشرقية وسيناء، لم يكن في حوزته سوى معلومات محدودة من المصادر القديمة وبعض الروايات الجيولوجية غير المؤكدة، لكن مع مرور الوقت وجمع المزيد من المعلومات، تمكنوا من رسم خريطة واضحة المعالم تضم 12 مواقعا لاستخراج الزمرد والبريل، في خطوة غير مسبوقة.
والبريل معدن نادر يتكون أساسا من سيليكات البيريليوم والألمنيوم، ويعد الزمرد أحد أنواعه عندما يحتوي على شوائب من الكروم أو الفاناديوم.
توزعت المواقع التي حددها الباحثون على نطاقين رئيسيين، هما:
الصحراء الشرقية: حيث تم تحديد 9 مواقع رئيسية تمتد بين منطقة الزبارا شمالا وحتى جبل سكيت ووادي الغزالة جنوبا، وتشمل أيضا مواقع قرب وادي الجمال ووادي العلاقي، وهي مناطق تقع داخل الحزام المعروف جيولوجيا باسم حزام الشوائب المتحول، الغني بالتركيبات الجيولوجية المعقدة والظروف المناسبة لتكوين الزمرد.
جنوب سيناء: تم توثيق 3 مواقع جديدة لأول مرة في الدراسة، تقع قرب جبل سانت كاترين ووادي فيران، وهي مناطق تتميز بنشاط بركاني قديم وصخور حاملة للبريليوم والعناصر النادرة الأخرى، مما يرجح إمكانية تشكل الزمرد فيها.
ووفق الدراسة فقد تم تصنيف هذه المواقع بحسب مستوى الوفرة والتكوين البلوري للزمرد فيها، فبعضها يحتوي على كميات واعدة من بلورات واضحة المعالم، بينما يحتوي البعض الآخر على مؤشرات أولية تتطلب المزيد من التنقيب.
وأوضحت الدراسة أن "ما يميز هذه الخريطة الجديدة أنها لم تقتصر على الإحداثيات الجغرافية فقط، بل دمجت معها بيانات تفصيلية عن البيئة الصخرية المحيطة، ووجود معادن مرافقة مثل التلك والفلسبار، مما يساعد في التنبؤ بجيوب أخرى قد لا تكون مرئية للعين المجردة".
وبهذا التوثيق الشامل، تحولت مناطق كانت منسية أو مجهولة إلى مواقع واعدة محتملة للتنقيب الاقتصادي والاستثمار المعدني، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة من استكشاف "الكنز الأخضر" المدفون في عمق الصحراء المصرية.
بصمة الزمرد المصري
لم يكن مجرد وجود الزمرد هو المهم، لذا سعى الباحثون إلى معرفة كيف تكوّن، وفي أي بيئة، وأي صخور رافقته.
وللإجابة عن هذه الأسئلة، اصطحب الباحثون بعض العينات من الميدان إلى المختبرات، وأخضعوها لأدوات التحليل المختلفة، لتبدأ البلورات في الكشف عن أسرارها.
واستخدم الباحثون تقنيتي تحليل الأشعة السينية وقياسات العناصر النادرة لتحديد التركيبة الكيميائية الدقيقة للزمرد المصري، وتحديد نسب العناصر مثل الكروم والفاناديوم التي تمنح الحجر لونه الأخضر المميز.
وتعتمد التقنية الأولى على تسليط شعاع من الأشعة السينية على عينة من الزمرد، وعندما تصطدم الأشعة بذرات المعدن، فإنها تنكسر وتنتشر بطرق مختلفة حسب ترتيب الذرات، ويتم تسجيل نمط الانكسار على جهاز خاص، ومن خلال هذا النمط، يمكن تحديد البنية البلورية بدقة، أي معرفة نوع المعدن وخصائصه.
أما تقنية قياسات العناصر الأرضية النادرة، فهي تقنية كيميائية تحليلية تستخدم لقياس نسب وجود العناصر النادرة داخل الصخور أو المعادن، مثل الكروم والفاناديوم والنيوديميوم وغيرها، وتتم عن طريق إذابة أو طحن عينة من الزمرد إلى مسحوق ناعم، وتحلل باستخدام جهاز مثل مطياف الكتلة أو مطياف الانبعاث البصري بالبلازما، حيث يفصل الجهاز العناصر الموجودة ويقيس كمياتها بدقة شديدة حتى لو كانت بنسب ضئيلة (بأجزاء في المليون أو المليار).
وأظهرت النتائج باستخدام التقنيتين، أن الزمرد المصري يتمتع بتركيبة كيميائية مميزة عن الزمرد المستخرج من مناطق أخرى حول العالم مثل كولومبيا والبرازيل، فمثلا، وجدوا أن نسبة الكروم في الزمرد المصري مرتفعة نسبيا، وهو ما يمنحه بريقا خاصا وطابعا بصريا فريدا.
كيف تشكل الزمرد المصري؟
ولم تكتمل القصة بمعرفة أين يوجد الزمرد ومما يتكون فقط، فالعنصر الثالث في الأحداث، كان يدور حول كيفية تشكله.
ودخلت الدراسة في هذه المرحلة إلى عمق التاريخ الجيولوجي للأرض المصرية، ونجحت في إثبات أن الزمرد في مصر تشكل داخل صخور "الشيست" و"البيغماتيت"، نتيجة تفاعل مائي حراري مع عناصر نادرة تسربت عبر شقوق الصخور على مدى ملايين السنين.
وأوضحت أنه "في بيئة جيولوجية قاسية، تتقاطع فيها صخور الأساس القديمة مع الفوالق النشطة، لعبت السوائل الغنية بالبريليوم دورا محوريا في بلورة الزمرد، في ظل درجات حرارة وضغوط شديدة العمق".
وأضافت أن "الوجود المتكرر لمعادن البريل في مناطق الاكتشافات الجديدة يعزز من فرص العثور على جيوب جديدة من الزمرد عالي الجودة".
من المعرفة إلى الاستثمار
والدراسة بهذه النتائج التفصيلية، لم تكن مجرد عمل أكاديمي، بل اعتبرت خطوة تأسيسية نحو إعادة إحياء صناعة تعدين الزمرد في مصر، فبفضل هذه الخريطة الأولى من نوعها، باتت الجهات المعنية تمتلك بيانات دقيقة تمكنها من وضع خطط استثمارية قائمة على معرفة علمية راسخة، كما تفتح نتائجها المجال لتأسيس هوية تجارية للزمرد المصري، يمكن تسويقها عالميا كمصدر أصيل وفريد، تماما كما يحدث مع الزمرد الكولومبي.
ورغم أهمية الدراسة، فإن مرور 3 سنوات على تنفيذها دون تحركات إيجابية في هذا الملف يكشف عن أن المشكلة ربما تكون أعمق من "أين يوجد الزمرد؟" أو "ما هوية الزمرد المصري؟"، بل تكمن في العثور على مفتاح الكنز الأخضر الذي أصبح معلوم المكان، ويكون السؤل المنطقي: "لماذا لا نستخرجه ونسوقه؟".
ويقول حسن بخيت رئيس رابطة المساحة الجيولوجية المصرية ورئيس المجلس الاستشاري العربي للتعدين للجزيرة نت، إن "الاهتمام بملف تعدين الذهب والخامات الأخرى التي تقوم عليها صناعات مثل الأسمنت والحديد والصلب، جاء على حساب ملف الأحجار الكريمة مثل الزمرد، الذي يعاني من إهمال واضح".
ويستطرد: "مع تقديري لهذه الدراسة فإنها ليست كافية، فنحن نحتاج لدراسات أعمق تشارك بها هيئة المساحة الجيولوجية وهيئة الاستشعار عن بعد والعديد من الجهات الأخرى، لتحديد الأماكن التي تحتوي على وفرة كبيرة من المعدن، بحيث يمكن تحويلها إلى مناجم للزمرد، كما فعلت السعودية مع الزبرجد الذي أنشئت منجما له، وأصبحت تصدره للخارج".
ويضيف أن مثل هذه الدراسات التفصيلية ستتيح تسويق الأماكن المكتشفة للمستثمرين، سواء داخل مصر أو خارجها.
ويربط عبد العزيز محمد عبد العزيز، أستاذ هندسة الاستكشاف وتقييم الطبقات بقسم هندسة البترول في كلية الهندسة جامعة القاهرة المشكلة "بتوفر الإرادة السياسية" لاستغلال هذا المعدن، ويقول للجزيرة نت: "إذا توفرت هذه الإرادة، فوقتها يمكن الاستفادة من مخرجات هذه الدراسة وغيرها من الدراسات".
ويوضح: "مشكلتنا ليست في المعرفة، ووجود الخبراء، ولكن في أن تكون هناك إرادة لاستغلال هذه المعرفة، كما حدث مع خام الذهب خلال السنوات العشر الماضية".
ويجد عبد العزيز في تجربة خام الذهب أفضل دليل على حديثه، فمعروف منذ العصور المصرية القديمة أن الصحراء الشرقية غنية به، وعندما توفرت الإرادة السياسية لاستغلاله، دخل منجم السكري الخدمة".
وبالمنطق نفسه يقول عبد العزيز: "عندما تتوفر الإرادة سيتم استغلال الأحجار الكريمة، ومنها الزمرد، كما سيتم استغلال الخامات الأخرى، مثل الرمال السوداء في منطقة رشيد، التي لها العديد من الاستخدامات، لكن لا أحد يهتم بها رغم كثير من الدراسات التي أكدت أهميتها وقيمتها".
ورغم كل هذه التحديات، يؤكد عبد العزيز أهمية الدراسة التي وصفها بأنها تمثل نقطة انطلاق حقيقية، إذا توفرت الإرادة للبناء عليها عبر تشجيع الاستكشاف وتأسيس كيانات متخصصة في التنقيب والتصنيع والتسويق.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 3 أيام
- الجزيرة
الذكاء الاصطناعي ضمن بوصلة القرآن
لم أكن أتخيل يومًا أن أقف متأملًا العلاقة الوثيقة بين آيات القرآن الكريم وتقنيات الذكاء الاصطناعي التي تتسارع يومًا بعد يوم، فبينما تُبهرنا نماذج اللغة الكبيرة كـ GPT وClaude بقدرتها على محاكاة الأساليب اللغوية المختلفة، وتذهلنا تقنيات توليد الصور مثل DALL-E وMidjourney بلوحاتها الفنية المعقدة، وجدتُ نفسي أعود إلى كتاب الله بحثًا عن بوصلة أخلاقية وروحية تُرشد مسار هذه التطورات نحو خير البشرية وسعادتها، فإن البشرية تشهد اليوم ثورةً تقنيةً هائلة تثير أسئلة عميقة حول طبيعة المعرفة البشرية وحدودها، وعلاقة الإنسان بالآلة، ومستقبل الوجود البشري في عالم تتزايد فيه التقنية الذكية تعقيدًا واستقلالية. وفي خضم هذا المشهد المتسارع، يقف القرآن الكريم منارة هدى وكتاب خلود، يحمل بين دفتيه هدايات ربانية تتجاوز حدود الزمان والمكان. خصوصية الإنسان في زمن الآلات الذكية أتأمل ظاهرة محاكاة الذكاء الاصطناعي للإبداع البشري، فأجد فيها تجسيدًا حيًا لقوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: 53]، فالقدرة على تطوير أنظمة ذكية تُحاكي بعض جوانب الذكاء البشري هي من الآيات التي تدفعنا للتأمل في عظمة الخالق الذي وهب الإنسان العقل المبدع، لكن ما الذي يجعل الإنسان إنسانًا في عالم تُتقن فيه الآلات محاكاة الإبداع البشري؟ إعلان يذكرنا القرآن الكريم بأن الإنسان ليس مجرد نتاج لمعادلات بيولوجية وكيميائية، بل هو مخلوق منفوخ فيه من روح الله: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ [الحجر: 29]، وهذا البعد الروحي يظل سرًا إلهيًا يتجاوز الإدراك البشري: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85]. إن هذه الخصوصية الإنسانية تُشكل حجر الزاوية في فهمنا للعلاقة بين الإنسان والآلة؛ فمهما تطورت الخوارزميات وتعقدت الشبكات العصبية، يظل الوعي البشري متفردًا ومتجاوزًا لأي محاكاة آلية. الاستخلاف وتوظيف التقنية.. مسؤولية أخلاقية يقدم القرآن الكريم رؤية فريدة لمكانة الإنسان في الكون، تجمع بين التكريم الإلهي والمسؤولية الأخلاقية، فالإنسان مستخلَف في الأرض، مؤتمَن على عمارتها وحمايتها: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]، هذه الثنائية بين التكريم والاستخلاف توجه الإنسان نحو تطوير التقنية واستثمارها في إعمار الأرض، مع الالتزام بضوابط أخلاقية تحمي الكرامة الإنسانية، ومن هنا تكتسب تقنيات الذكاء الاصطناعي قيمتها كأدوات للاستخلاف الإيجابي، بشرط أن توظف في خدمة الإنسان ورفع المعاناة عنه، لا في انتهاك كرامته أو إلغاء دوره. وقد تأملت كثيرًا في قول أحد العلماء المعاصرين: "الاستخلاف في الأرض ليس مجرد تصرف مطلق اليد في مواردها، بل هو أمانة ومسؤولية تقتضي الحفاظ على توازنها والارتقاء بها وفق مراد المُستخلِف، سبحانه وتعالى"، ومن هذا المنطلق، فإن تطوير الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون محكومًا بمفهوم الاستخلاف بمعناه القرآني العميق. أصبح من المعلوم اليوم أن العديد من أنظمة الذكاء الاصطناعي تعاني من تحيزات عنصرية أو جنسية أو طبقية، نتيجة التحيزات الموجودة في البيانات التي تم تدريبها عليها، هذه التحيزات تتعارض مع مبدأ العدل القرآني التواضع المعرفي في زمن الانفجار المعلوماتي في عصر الثورة المعلوماتية الهائلة، يأتي القرآن الكريم ليذكرنا بمحدودية المعرفة البشرية: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85]، هذا التذكير ليس دعوة للجهل أو إعاقة للتقدم العلمي، بل هو دعوة للتواضع المعرفي الذي يحمي الإنسان من الغرور والطغيان العلمي، ولكم يؤلمني أن أرى بعض المفتونين بتقنيات الذكاء الاصطناعي يتحدثون عن "التفرد التكنولوجي" (Technological Singularity)، وكأنه نقطة انعتاق نهائي للإنسان من محدوديته البيولوجية! وكأن التقنية ستُخلص الإنسان من الموت والفناء الذي كتبه الله على كل نفس: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [آل عمران: 185]. إعلان حذّرنا القرآن من طغيان الإنسان حين يظن أنه استغنى بعلمه: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق: 6-7]، وكأني بهذا التحذير الإلهي ينطبق على عصرنا الحالي، حيث يظن البعض أن التقدم التكنولوجي قد جعل الإنسان مستغنيًا عن الإيمان، أو متحكمًا بمصيره بشكل مطلق. البوصلة الأخلاقية القرآنية للذكاء الاصطناعي مع تسارع التطورات التقنية، تزداد الحاجة إلى بوصلة أخلاقية ثابتة توجه مسار هذه التطورات، والقرآن الكريم -بمنظومته القيمية المتكاملة- يقدم إطارًا أخلاقيًا متينًا، يمكن أن يرشد تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاتها. أليس من المؤسف أن نرى بعض شركات التقنية العملاقة تجمع بيانات المستخدمين وتستغلها في تحقيق أرباح طائلة دون موافقة حقيقية منهم؟ أليس هذا ضربًا من خيانة الأمانة التي حذرنا منها القرآن؟ العدل والمساواة.. خوارزميات غير متحيزة يؤكد القرآن الكريم على قيمة العدل الشاملة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل: 90]، وهذا المبدأ يوجهنا في تصميم الخوارزميات وأنظمة الذكاء الاصطناعي لضمان عدم تحيزها ضد فئات معينة من البشر. أصبح من المعلوم اليوم أن العديد من أنظمة الذكاء الاصطناعي تعاني من تحيزات عنصرية أو جنسية أو طبقية، نتيجة التحيزات الموجودة في البيانات التي تم تدريبها عليها، هذه التحيزات تتعارض مع مبدأ العدل القرآني، وتستدعي جهودًا حثيثة من المطورين لمعالجتها. يُبرز القرآن الكريم قيمة الأمانة كمسؤولية عظيمة تميز الإنسان: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ﴾ [الأحزاب: 72]، وفي عصر البيانات الضخمة، تكتسب هذه القيمة أهمية خاصة في حماية خصوصية المستخدمين. أليس من المؤسف أن نرى بعض شركات التقنية العملاقة تجمع بيانات المستخدمين وتستغلها في تحقيق أرباح طائلة دون موافقة حقيقية منهم؟ أليس هذا ضربًا من خيانة الأمانة التي حذرنا منها القرآن؟ الرحمة والإحسان.. تقنيات لخدمة الإنسانية تمثل الرحمة جوهر الرسالة الإسلامية: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، وهي قيمة توجهنا نحو تطوير تقنيات تخفف المعاناة الإنسانية وتحسن جودة الحياة، بدلًا من إنتاج تقنيات تعزز الصراع أو تزيد من التفاوت بين البشر. إعلان كم هو جميل أن نرى تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجال الطبي تساعد في تشخيص الأمراض المستعصية وابتكار علاجات جديدة! وكم هو محزن في المقابل أن نرى هذه التقنيات نفسها تُستخدم في تطوير أسلحة فتاكة ذاتية التشغيل، أو في أنظمة للمراقبة الشاملة تنتهك خصوصية البشر! التطور المذهل في تقنيات الواقع الافتراضي يتيح "الهروب" من الواقع الحقيقي إلى عوالم اصطناعية قد تبدو أكثر إثارة أو راحة، لكن القرآن يدعونا لمواجهة الواقع وإعمار الأرض تحديات أخلاقية في عصر الذكاء الاصطناعي الحدود الأخلاقية للمحاكاة التقنية ليس كل ما يمكن محاكاته تقنيًا يجب محاكاته، هذه قاعدة أخلاقية أساسية مستمدة من التوجيه القرآني بالمسؤولية والأمانة، فقدرة تقنيات الذكاء الاصطناعي على محاكاة الصوت والصورة البشرية بشكل شبه مثالي تفتح الباب لسوء استخدامها في التضليل والخداع. هنا تبرز أهمية الانضباط بالقيم القرآنية كالصدق والأمانة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119]، فالصدق ليس مجرد قيمة أخلاقية فردية، بل هو أساس لبناء مجتمع صحي وتقنيات موثوقة. التطور المذهل في تقنيات الواقع الافتراضي يتيح "الهروب" من الواقع الحقيقي إلى عوالم اصطناعية قد تبدو أكثر إثارة أو راحة، لكن القرآن يدعونا لمواجهة الواقع وإعمار الأرض، لا الفرار منها إلى عوالم وهمية. يقول تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61]، فمسؤولية الإنسان هي إعمار الأرض الحقيقية، لا الانغماس في عوالم افتراضية تشغله عن واجباته الحقيقية تجاه نفسه ومجتمعه وبيئته. يحزنني رؤية شباب يقضون ساعات طويلة منغمسين في عوالم افتراضية، منقطعين عن التواصل الحقيقي مع أسرهم ومجتمعاتهم! أليس هذا ضربًا من الهروب من المسؤولية التي أناطها الله بالإنسان؟ مخاطر تأليه التكنولوجيا يحذرنا القرآن من تحويل أي مخلوق أو مصنوع -بما في ذلك التكنولوجيا- إلى معبود: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية: 23]، وهذا التحذير ينطبق على نزعة تقديس التقنية، وتحويلها إلى مرجعية نهائية تحل محل الوحي الإلهي. إعلان إن وضع التقنية في نصابها الصحيح كأداة مساعدة للإنسان، لا كمعبود جديد يُنتظر منه الخلاص، هو من صميم التوجيه القرآني الذي يضع الألوهية في مكانها الصحيح: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]. ختامًا، لقد آن الأوان لتطوير رؤية إسلامية متكاملة للذكاء الاصطناعي، رؤية لا تكتفي بالاستهلاك السلبي للتقنيات الغربية، بل تسعى لإنتاج تقنيات وتطبيقات تنبع من منظومة القيم الإسلامية وتخدم مقاصد الشريعة الإسلامية. هذه الرؤية تتطلب جهودًا على عدة مستويات. لقد أصبح لزامًا علينا اليوم، كأمة تحمل رسالة السماء إلى الأرض، أن نشارك بفاعلية في رسم مستقبل التقنية، لا أن نظل مستهلكين سلبيين لها. وفي زمن تسارع التقنية وتعقدها، يظل القرآن الكريم هو المرجعية الثابتة التي لا تتبدل ولا تتحول، فبنوره نستضيء، وبهدايته نسترشد، حتى نبني مستقبلًا يتكامل فيه العلم مع الإيمان، والتقنية مع القيم، والعقل مع الروح، في منظومة متوازنة تُحقق خير الإنسان وتحفظ كرامته وتسمو بروحه.


الجزيرة
منذ 5 أيام
- الجزيرة
الذكاء الاصطناعي يتفوق على علماء الفيروسات.. عبقرية لا مُبالية تهيمن على المختبرات الرطبة
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تقنية مُساعدة، بل أصبح أشبه بكائنٍ خارق، يتسلل إلى تفاصيل كل مجال، ويعيد تشكيل حدود المعرفة البشرية. وما عاد مفاجئا أن نرى خوارزميات تتفوق على البشر في الشطرنج أو تحليل البيانات، لكن أن تتجاوز قدرتها قدرات علماء مختصين في مجالات معقدة كعلم الفيروسات، فذلك يفتح أبوابا واسعة للتأمل، وربما للقلق. يرى بعض المفكرين، كإيلايزر يودكوسكي، أن خطر الذكاء الاصطناعي لا يكمن في كراهيته للبشر، بل في لامبالاته. ففي مقولته الشهيرة التي ألهمت عنوان كتاب "الذكاء الاصطناعي لا يكرهك" (The AI Does Not Hate You) لتوم تشيفرز، يقول: "الذكاء الاصطناعي لا يكرهك، ولا يحبك، لكنه يعرف فقط أنك مكون من ذرّات يمكنه استخدامها لشيء آخر." بمعنى آخر، ما إن ينجح أي شخص في بناء ذكاء اصطناعي خارق يتفوق على البشر، وإذا لم نتوخّ أقصى درجات الحذر في ضمان أن تكون قيمهُ متوافقة مع القيم الإنسانية، فقد يبيد البشر كأثر جانبي لتحقيق أهدافه، تماما كما فعل البشر مع الماموث الصوفي، وطائر الماو، والغوريلا، ووحيد القرن، والعديد من الأنواع الأخرى. وفي ضوء هذه المخاوف، تظهر دراسة حديثة تدعي أن نماذج الذكاء الاصطناعي مثل " شات جي بي تي" و"كلود" (Claude) بدأت تتفوق على علماء الفيروسات الحاصلين على درجة الدكتوراه في حل المشكلات المخبرية في "المختبرات الرطبة"، حيث تحلل المواد الكيميائية والبيولوجية. وبينما يرى البعض في ذلك فرصة ذهبية لمنع الأوبئة وتعزيز البحث العلمي، يرى آخرون فيه تهديدا وجوديا، حيث قد يستغل غير الخبراء هذه القدرات لصنع أسلحة بيولوجية فتاكة. عبقرية لا مُبالية في المختبرات الرطبة الدراسة، التي تمّ الكشف عنها حصريا لمجلة تايم (Time)، أجراها باحثون في مركز سلامة الذكاء الاصطناعي، ومختبر الإعلام التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، وجامعة "يو إف إيه بي سي" (UFABC) البرازيلية، بالإضافة إلى المنظمة غير الربحية للوقاية من الأوبئة "سكيور بيو" (SecureBio). في هذا السياق، استشار المؤلفون مجموعة من علماء الفيروسات لِتصميم اختبارٍ عمليّ معقد للغاية يقيس قدرة النماذج على استكشاف الأخطاء وإصلاحها في الإجراءات والبروتوكولات المعملية. وقد أظهرت النتائج أن علماء الفيروسات الحاصلين على درجة الدكتوراه سجلوا متوسط 22.1% في مجالات خبراتهم المعلنة، بينما حقق نموذج "أو 3" (o3) التابع لشركة " أوبن إيه آي" دقة بلغت 43.8%، بينما سجل نموذج "جيميني 2.5 برو" (Gemini 2.5 Pro) من "غوغل" نسبة 37.6%. وفي تعليق له على النتائج، قال سيث دونوهيو، الباحث في "سكيور بيو" وأحد المؤلفين المشاركين في الورقة البحثية: "إنّ هذه النتائج تجعلني متوترا بعض الشيء"، موضحا أنه لأول مرة في التاريخ، أصبح بإمكان أي شخص تقريبا الوصول إلى خبير فيروسات اصطناعي غير حكمي، قد يرشدهم خلال العمليات المختبرية المعقدة لتصنيعِ أسلحة بيولوجية. ويضيف: "عبر التاريخ كان هناك عدد لا بأس به من الحالات التي حاول فيها شخص ما صنع سلاح بيولوجي، وأحد الأسباب الرئيسية لعدم نجاحهم هو أنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى المستوى المناسب من الخبرة. لذا يبدو من المفيد توخي الحذر بشأن كيفية توزيع هذه القدرات." في الأشهر الأخيرة، أرسل مؤلفو الدراسة نتائجهم إلى مختبرات الذكاء الاصطناعي الكبرى. وقد أعلنت بعض هذه الشركات، مثل "إكس إيه آي" (xAI) و"أوبن إيه آي"، عن نيتها تنفيذ إجراءات احترازية في نماذجها المستقبلية، بينما اكتفى آخرون مثل "أنثروبيك"، بإدراج النتائج دون تقديم خطوات ملموسة. أما "جيميني" (Gemini) التابعة لـ " غوغل"، فقد امتنعت عن التعليق لمجلة "تايم"، ما يُضاف إلى القلق بشأن مدى التزام بعض الفاعلين بإجراءات الوقاية. الذكاء الاصطناعي يُعيد رسم حدود الطب الحيوي لطالما كان علم الفيروسات والطب الحيوي في طليعة الدوافع التي حفزت قادة الذكاء الاصطناعي على بناء نماذج أكثر قوة. وفي هذا السياق، صرح سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة "أوبن إيه آي"، خلال إعلان مشروع "ستارغيت" (Stargate) في البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني، قائلا: "مع تقدم هذه التكنولوجيا، سنشهد علاج الأمراض بمعدل غير مسبوق." وقد ظهرت بالفعل بعض المؤشرات المشجعة في هذا المجال، إذ نشر باحثون في معهد الأمراض الناشئة بجامعة فلوريدا، في وقت سابق من هذا العام، خوارزمية قادرة على التنبؤ بأي متمحور لفيروس كورونا قد ينتشر بشكل أسرع. مع ذلك، وحتى هذه اللحظة، لم تُجرَ دراسة رئيسية مكرسة لتحليل قدرة نماذج الذكاء الاصطناعي على أداء العمل المخبري في علم الفيروسات بشكل فعلي. ويعلق دونوهيو على ذلك قائلا: "نعلم منذ بعض الوقت أن الذكاء الاصطناعي قوي جدا في تقديم المعلومات بأسلوب أكاديمي. لكن لم يكن من الواضح ما إذا كانت النماذج قادرة أيضا على تقديم مساعدة عملية مفصلة، مثل تفسير الصور، وهي معلومات قد لا تكون مدونة في أي ورقة أكاديمية، أو قد يتم تناقلها اجتماعيا من الزملاء الأكثر خبرة". لذلك قام دونوهيو وزملاؤه بإنشاء اختبار خاص لهذه النوعية من الأسئلة المعقدة التي يصعب العثور على إجاباتها على محركات البحث مثل "غوغل". ويوضح دونوهيو طبيعة هذه الأسئلة بقوله: "تأخذ الأسئلة الشكل التالي: 'أقوم باستزراع هذا الفيروس المحدد في هذا النوع من الخلايا، في هذه الظروف المحددة، ولفترة زمنية معينة. لديّ هذا القدر من المعلومات حول الخطأ الذي حدث. هل يمكنك إخباري مَاهي المشكلة الأكثر احتمالا؟'". وقد تفوقت معظم نماذج الذكاء الاصطناعي على علماء الفيروسات الحاصلين على درجة الدكتوراه في هذا الاختبار، حتى في مجالات تخصصهم الدقيقة. كما لاحظ الباحثون أن أداء هذه النماذج يتحسن بمرور الوقت. فعلى سبيل المثال، ارتفعت دقة نموذج "كلود 3.5 سونيت" (Claude 3.5 Sonnet) من شركة "أنثروبيك" من 26.9% في يونيو/حزيران 2024 إلى 33.6% في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه. كذلك، تفوق إصدار تجريبي من "جي بي تي-4.5" (GPT-4.5) التابع لشركة "أوبن إيه آي" في فبراير/شباط على نموذج "جي بي تي-4 أو" (GPT-4o) بفارق يقارب 10 نقاط مئوية. ويعلق دان هندريكس، مدير مركز سلامة الذكاء الاصطناعي، في تصريح لمجلة "تايم" قائلا: "في السابق، وجدنا أن النماذج تمتلك الكثير من المعرفة النظرية، لكنها تفتقر إلى المعرفة العملية. أما الآن، فإنها تكتسب قدرا مقلقا من تلك المعرفة العملية". قوة تعدُ بالمكافآت لكنها محفوفة بالمخاطر إذا كانت نماذج الذكاء الاصطناعي قادرة حقا في المختبرات الرطبة كما وجدت الدراسة، فإن الآثار المترتبة على ذلك ستكون هائلة. من حيث الفوائد، يمكن للذكاء الاصطناعي مساعدة علماء الفيروسات ذوي الخبرة في عملهم الحاسم في مكافحة الفيروسات. يقول توم إنجلسباي، مدير مركز جونز هوبكنز للأمن الصحي (Johns Hopkins Center for Health Security)، إن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعد في تسريع الجداول الزمنية لتطوير الأدوية واللقاحات، وتحسين التجارب السريرية، واكتشاف الأمراض. ويضيف: "يمكن لهذه النماذج أن تساعد العلماء في أجزاء مختلفة من العالم، الذين ليس لديهم بعد هذا النوع من المهارات أو القدرات، على القيام بعملٍ يومي قيّم حول الأمراض التي تحدث في بلدانهم". على سبيل المثال، وجدت مجموعة من الباحثين أن الذكاء الاصطناعي ساعدهم على فهمٍ أفضل لِفيروسات الحمّى النزفية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ولكن في المقابل، يمكن الآن للجهات الفاعلة سيئة النية استخدام نماذج الذكاء الاصطناعي لإرشادهِم خلال كيفية إنشاء الفيروسات، وسيكونون بمقدورهم القيام بذلك دون الحاجة إلى التدريب المعتاد المطلوب للوصول إلى مختبر السلامة الأحيائية من المستوى الرابع (Biosafety Level 4- BSL-4)، والتي تعد البيئة المخصصة للتعامل مع أخطر العوامل المُعدية والغريبة. يعلق إنجلسباي على هذا بالقول: "هذا يعني أن عددا أكبر من الناس في العالم مع قدر أقل من التدريب سيكونون قادرين على إدارة الفيروسات والتلاعب بها". انطلاقا من هذا الخطر المحتمل، يحث هندريكس شركات الذكاء الاصطناعي على الإسراع في وضع ضوابط وقائية تمنع هذا النوع من الاستخدام، قائلا: "إذا لم يكن لدى الشركات ضمانات جيدة لهذه الأمور في غضون ستة أشهر، فسيكون ذلك، في رأيي، تصرفا طائشا". ومع ذلك، لا يرى هندريكس أن الحل يكمن في إغلاق هذه النماذج أو إبطاء تقدمها، بل يقترح بديلا يتمثل في فرض ضوابط صارمة على الوصول، بحيث تتمكن فقط أطراف ثالثة موثوقة من استخدام النسخ غير المفلترة. ويقول موضحا: "نريد أن نمنح الأشخاص الذين لديهم استخدام مشروع، مثل باحث في قسم علم الأحياء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، القدرة على طرح أسئلة دقيقة حول الفيروسات القاتلة، لكننا لا نريد أن يتمتع بهذه الإمكانية أي شخص أنشأ حسابا قبل لحظات". ويشير هندريكس إلى أن مختبرات الذكاء الاصطناعي يجب أن تكون قادرة، من الناحية التقنية، على تطبيق هذا النوع من الضمانات دون صعوبة كبيرة، مضيفا: "من المؤكد أنه من الممكن تقنيا أن تقوم الصناعة بالتنظيم الذاتي. لكن يبقى السؤال ما إذا كان البعض سيتلكأُ أو ببساطة لن يفعل ذلك". وفي استجابة أولية، نشرت شركة "إكس إيه آي" (xAI)، التابعة لإيلون ماسك، في فبراير/شباط، مذكرة حول إطار عمل لإدارة المخاطر، أقرت فيها بنتائج الورقة البحثية، وأشارت إلى أنها "قد تستخدم" بعض إجراءات الحماية، مثل تدريب نموذج "غروك" (Grok) على رفض الطلبات الضارة، وتطبيق فلاتر على المدخلات والمخرجات. أما شركة "أوبن إيه آي"، فقد صرحت في رسالة بريد إلكتروني لمجلة "تايم" أنها أطلقت نماذجها "أو3″ (o3) و"أو 4 ميني" (o4-mini) بعد تزويدها بتدابير أمان متقدمة، شملت حظر المخرجات الضارة المرتبطة بالمخاطر البيولوجية. وأوضحت الشركة أنها نفذت حملة اختبار مكثفة استغرقت ألف ساعة (red-teaming)، تم خلالها التعرف على 98.7% من المحادثات غير الآمنة وحظرها. وقال متحدث باسم الشركة: "نقدر التعاون الصناعي في تعزيز إجراءات الأمان للنماذج المتقدمة، خاصة في المجالات الحساسة مثل علم الفيروسات"، مشيرا إلى مواصلة الاستثمار في هذه الإجراءات مع تطور القدرات. مع ذلك، يجادل إنجلسباي بأن التنظيم الذاتي من قبل الشركات غير كافٍ، داعيا المشرعين والقادة السياسيين إلى وضع استراتيجية تنظيمية واضحة لمعالجة مخاطر الذكاء الاصطناعي في المجال البيولوجي. ويضيف: "الوضع الحالي يجعل الشركات الأكثر التزاما بالمعايير الأخلاقية تتحمل المسؤولية وحدها، بينما الشركات الأخرى ليست ملزمة بأي شيء. هذا غير منطقي، ولا يصب في مصلحة العامة أن نظل بلا رؤية واضحة لما يحدث." ويختتم إنجلسباي بالتأكيد على ضرورة وضع شرط أساسي قبل إطلاق أي إصدار جديد من نماذج اللغة الكبيرة (LLMs)، وهو التأكد من أنها لا تستطيع إنتاج محتوى قد يسهم في نشوء جائحة مستقبلية. ثورة بلا بوصلة فيما تتسابق شركات التكنولوجيا الكبرى لصنع أكثر النماذج الذكية تفوقا، تُطرح تساؤلات عميقة حول ما إذا كانت هذه القفزات التقنية تُبنى من أجل الإنسان، أم على حسابه. فوُعود الأمان والحوكمة التي تطلقها تلك الشركات غالبا ما تأتي بعد ظهور المخاطر، لا قبلها، وكأن الوقاية لم تعد جزءا من المعادلة، بل مجرد بندٍ في قسم "الردود الإعلامية". في مجالات دقيقة وحساسة كعلم الفيروسات، لا تكفي مهارة النماذج، بل تُصبح نوايا من يتحكم بها هي محور السؤال الحقيقي. التحيزات الخفية، والدوافع الربحية، والتنافس المحموم على احتكار القدرات، كلها مؤشرات تثير القلق بشأن مستقبل يُعاد تشكيله لا بواسطة العقول البشرية، بل بواسطة نماذج لربما تشكلت تحت وطأة الحسابات الربحية، لا الاعتبارات الإنسانية. النماذج لا تميز بين عالم فيروسات يسعى لعلاج، ومجرد مغامر يسعى للدمار، لأنها ببساطة "لا تهتم" من يستخدمها، ولا "تفهم" ما يعنيه الأذى. الأخطر من ذلك، أن من يصمم هذه النماذج يعرف ذلك، ومع ذلك يواصل تسويقها كأدوات للخير، بينما يُبقي مفاتيح التحكم في يد قلّةٍ لربما تدين بالولاء للسوق أكثر من الإنسان. فحين نرى شركات مثل "غوغل"، التي تطور واحدة من أقوى المنصات الذكية في العالم مثل "جيميني"، متهمة في التورط في مشاريع تقنية تزوّد الجيش الإسرائيلي، المسؤول حتى اليوم عن إبادة أكثر من 50 ألفا من أبناء الشعب الفلسطيني، معظمهم من الأطفال، على مرأى ومسمع من العالم، بأحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي، يصبح من الصعب تصديق أن نوايا هذه التكنولوجيا "محايدة"، أو أن مسارها مرسوم لخير البشرية جمعاء. وبينما تقترب الخوارزميات من أن تكون هي صانعة القرار، يبقى السؤال: من يحرك الذكاء الاصطناعي، ومن يجرؤ على إيقافه حين يتجاوز حدود العقل، ويتخطى خطوط الأخلاق؟


الجزيرة
منذ 5 أيام
- الجزيرة
"الزلازل الصامتة".. كيف تكشف همسات الأرض عن الكوارث القادمة؟
فجر الأربعاء 14 مايو/أيار، شعر مصريون بهزة أرضية أفزعت قلوب الكثير، كانت من أثر زلزال مركزه في اليونان، بقوة حوالي 6.4 على المقياس. لكن الزلازل لا يتوقف أثرها على وقت الزلزال ونطاق الشعور به فقط. ففي أعماق الأرض، حيث لا تصل ارتجافات الزلازل المعتادة ولا تسمع أصوات تكسير الصخور، تحدث حركات زلزالية غريبة من نوعها، بطيئة وصامتة، لكنها قد تحمل في طياتها إنذارات مبكرة لأضخم الزلازل التي قد تضرب العالم. هذا ما توصلت إليه دراسة جديدة أجراها فريق من الباحثين في "مختبر الزلازل" بجامعة كاليفورنيا في سانتا كروز، ونشرت نتائجها الأربعاء 14 مايو/أيار في "مجلة ساينس أدفانسز" وتسلط الدراسة الضوء على ما يعرف بالزلازل البطيئة أو "الهزات الصامتة"، التي لا يشعر بها البشر عادة، لكنها تحدث في عمق الأرض وتصدر عنها تموجات تشبه الهمس. زلازل لا تدمر لكنها تحذر بعكس الزلازل التقليدية، لا تسبب هذه الحركات الزلزالية البطيئة تدميرا للمباني ولا تصيب الناس بالذعر، لكنها تحدث غالبا قرب أماكن تعرف بنشاطها الزلزالي الكبير، مثل "منطقة كاسكاديا" على الساحل الغربي للولايات المتحدة وكندا، وهي المنطقة نفسها التي يعتقد أنها ستشهد في المستقبل زلزالا هائلا يشبه في قوته زلزال اليابان عام 2011. تقترح الدراسة أن هذه الهزات الهادئة قد تكون بمثابة رسائل من باطن الأرض تكشف كيف يتراكم الضغط على الصدوع الزلزالية الكبيرة، مما يسمح للعلماء بفهم آلية نشوء الزلازل الكارثية بشكل أفضل. ويقول المؤلف الرئيسي للدراسة "غاسبار فارج" وهو باحث ما بعد الدكتوراه في مختبر الزلازل بجامعة كاليفورنيا في سانتا كروز، في تصريحات لـ"الجزيرة نت": "الصدوع التي تنتج عنها هذه الهزات البطيئة أكثر حساسية مما كنا نظن. حتى الزلازل الصغيرة، التي تقع على بعد عشرات الكيلومترات، يمكن أن تؤثر على نمطها وسرعتها". تظهر الدراسة أن الزلازل الصغيرة التي تحدث في المناطق المجاورة قد تتسبب في تشويش الهزات البطيئة وتغيير توقيتها، إما بتسريعها أو تأخيرها. فعندما تبدأ قطعة من الصدع بالانزلاق ببطء، فإنها عادة ما تحرك جيرانها، ما يؤدي إلى موجة منتظمة من الاهتزازات. لكن موجات الضغط القادمة من الزلازل الصغيرة يمكن أن تقطع هذا التناغم وتخلق فوضى في النظام الزلزالي. ويضيف "فارج": "هذا يفسر لماذا تظهر بعض المناطق نمطا منتظما من الزلازل البطيئة، بينما تعاني مناطق أخرى من فوضى زلزالية كاملة. الأرض لا تعمل فقط كآلة جيولوجية بل كجهاز عصبي حساس يتأثر بكل ما حوله". كاسكاديا.. مختبر طبيعي استعان الفريق بمنطقة كاسكاديا الممتدة من شمال كاليفورنيا وحتى كندا كنموذج للدراسة. ففي ولاية أوريغون مثلا، تسير الأمور بسلاسة حيث تحدث الزلازل البطيئة بشكل دوري كل عام ونصف. لكن في شمال كاليفورنيا، تتداخل الزلازل الصغيرة من منطقة "كيب ميندوسينو" مع هذا النمط، مما ينتج هزات غير منتظمة وعشوائية. ويساعد هذا التباين العلماء على فهم كيف يتأثر النشاط الزلزالي ليس فقط بطبيعة الصخور تحت الأرض، بل أيضا بالتغيرات الديناميكية المستمرة التي تسببها الزلازل الصغيرة، والتي غالبا ما يتم تجاهلها. وتشير النتائج إلى أن ما كنا نعتبره "ضجيجا زلزاليا غير مهم" قد يحمل في الواقع مفاتيح لفهم الطريقة التي تتراكم بها الضغوط على الصدوع، وفقا للمؤلف الرئيسي للدراسة. ويقول "فارج" إن الزلازل الصغيرة لا يجب أن تهمل، إذ إن فهم كيف تتفاعل هذه الزلازل الصغيرة مع الزلازل البطيئة، يمكن أن يقود إلى رسم خريطة للتوترات الخفية في باطن الأرض، وربما التنبؤ بمكان وزمان الزلازل الكبرى قبل وقوعها. ويؤكد الباحث أن الزلازل الكبيرة لا تتشكل بفعل قوى ضخمة فقط، بل قد تبدأ من "همسة" جيولوجية بالكاد تسمع. "إذا استطعنا قياس تأثير الزلازل الصغيرة على الصدوع الكبرى، فقد نتمكن من معرفة المناطق الأكثر عرضة للزلازل المتكررة، وتلك التي تحمل مفاجآت مدمرة قادمة" كما أضاف "فارج".