
صعود اليمين الأوروبي والقضية الفلسطينية
إيطاليا تلغراف
عاطف أبو سيف
روائي وقاص فلسطيني، وزير الثقافة السابق.
يشكّل صعود اليمين الأوروبي تغيّراً ملحوظاً في سياسات أوروبا الداخلية والخارجية، خصوصاً في قضايا تمسّ الأمن الأوروبي والحدود، وبالتأكيد السياسة الخارجية، ليبقى السؤال: هل يمكن لهذا أن يقود إلى تغيّر في سياسات أوروبا الخارجية تجاه الصراع والقضية الفلسطينية؟… ليس ثابتاً أن ثمّة تغيّراتٍ جوهريةً تجاه الصراع، لكن الخشية تظلّ قائمةً مع صعود ترامب والعلاقة الدافئة والمتكاملة معه في توجّهاته الخارجية، وربّما تأثر (أو تبنّي) أقطاب اليمين الأوروبي بهذه التوجّهات في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية، كذلك إن حالة المزاج العام تجاه الصراع (طغت في السنوات الماضية) ستجد أثرها في دفع اليمين الاتحاد الأوروبي إلى التخلّي عن سياساته القديمة تجاه الصراع أو التخفيف ممّا يُعتَبر 'توجّهاً' قريباً من المواقف العربية.
وكما يُلاحَظ، يواصل اليمين الأوروبي صعوده في أوروبا بشكل لافت، خصوصاً بعد أن حقّق نتائج قوية في انتخابات البرلمان الأوروبي في الصيف الماضي، ما شكلّ انعطافةً مهمّةً في تاريخ السياسة الأوروبية الداخلية تحديداً، وبعد ذلك الخارجية أيضاً. كان آخر ملامح هذا الصعود النتائج المُرضية التي حقّقها حزب 'البديل من أجل ألمانيا'، في انتخابات البلاد البرلمانية الشهر الماضي (فبراير/ شباط). وبشكل عامّ، ثمّة توجّهٌ متصاعدٌ لحضور اليمين الأوروبي في أروقة السياسة الأوروبية، خصوصاً أن بعض الذين باتوا يشكّلون الحكومات في العواصم الأوروبية جاؤوا من أحزابٍ كانت تعتبر قبل سنوات قليلة ممنوعةً أو محظورةً بسبب التقارب بين مواقفها ومواقف الأحزاب المتطرّفة التي اندثرت بعد الحرب العالمية الثانية.
ويلاحظ المتابع للسياسة الأوروبية التوتّرات التي أحدثها صعود أجنحةٍ أكثر تطرّفاً في داخل اليمين، حتى بات هناك شيءٌ يمكن تسميته 'يميناً متطرّفاً'، يقع اليمين الكلاسيكي في يساره، بجانب أحزاب الوسط واليسار، فصعود اليمين الأوروبي بدا مبكّراً في القارّة العجوز، ولكن ما يشار إليه هنا صعود اليمين المتطرّف، الذي يأتي من قواعد فكرية وأيديولوجية تفترق مع اليمين الكلاسيكي في نواحٍ كثيرة، قد يعتبر أوّلها نظرته للدولة الوطنية ولوظائفها، الأمر الذي أوجد الحاجة لإعلان الحرب على مؤسّسات بروكسل الوحدوية، والعمل على تقويضها، وفي جزءٍ أساسٍ من هذه الحرب ثمّة الحرب على السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، والعمل لوقف هذه السياسة أو تحويلها عملاً فنّياً أو استشارياً، وترك السياسة الخارجية مهمّةً أساسيةً لكلّ دولة عضو. وجوهر ذلك (بالطبع) سعي اليمين المتطرّف لتأكيد الهُويَّة الوطنية لدوله وسيادتها. مثلاً، عبّر قادة اليمين في اجتماعهم في مدريد الشهر الماضي (فبراير/ شباط) عن قلقهم من طبيعة المؤسّسة الأوروبية 'المتحجّرة'، مندّدين بتنامي الهجرة غير الشرعية، وانعدام الأمن، ضمن أشياء أخرى.
انتهى 'عصر النخب'، الذي تقوده بروكسل، كما قال بيانهم. وفيما يمكن ملاحظة اختلافاتٍ كثيرة بين قوى اليمين المتطرّف في أوروبا، وربّما أيضاً تصادمها في المستقبل حول مصالح دولها، إلا أن ثمّة تطويراً واضحاً لمقارباتٍ مختلفة حول بعض القضايا، خصوصاً الهجرة والبيئة والهُويَّة والسيادة. وفي هذه الحالة، يدور الحديث عن الهُويَّة والسيادة الأوروبية، بينما عميقاً، تعني توجّهات كلّ حزب هُويَّةَ دولته وسيادتها، الأمر الذي سيُحدِث صراعاً في المستقبل سيكون تجنّبه صعباً. تشبه هذه الأيام وضع أوروبا في عشرينيّات القرن الماضي، أي قبل قرن، حين هيمنت الفِكَر المتطرّفة، والحديث عن العرق، أساسان للهُويَّة، على السياسة الأوروبية، وهي الفِكَر نفسها التي جعلت هتلر يلتقي مع موسوليني مثلاً، رغم أن كلّاً منهما رأى 'سموَّ' عرقه وهُويَّته الوطنية. ومع ذلك، كانت النتيجة تمزّق أوروبا.
توجّهات كل حزب يميني متطرّف تُعنى بهُويَّة وسيادة دولته، ما يعلن حرباً على مؤسّسات بروكسل الوحدوية
المقلق، إلى جانب أشياء كثيرة، العلاقة 'الروحانية' بين يمين أوروبا المتطرّف والرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي وصفه الاجتماع الأوروبي بأنه 'قدوة تُحتذَى'. ورحّب ترامب بقوّة اليمين الأوروبي، الذي يعتبره امتداداً طبيعياً لعالمٍ يرغب في قيادته. ثمّة توافق واضح بين الطرفَين في القضية الأساسية، التي تشغل بال اليمين الأوروبي، التي تعكس التطرّف القومي لهذا اليمين والمتمثّلة بالهجرة، وأيضاً في قضايا المناخ، وهما القضيتَان اللتان أعلن الرئيس الأميركي ترامب الحرب عليهما. وفيما يصعب القول بوجود توافق كبير بين الطرفَين، إلّا أن الإشادات المتبادلة بينهما تعكس التقارب 'المُقلِق' بالنسبة إلينا في ما يتعلّق بمواقف اليمين الأوروبي المتحملة من القضية الفلسطينية. هناك كثيرون من القادة الأوروبيين، الذين تربطهم علاقات عميقة وشخصية بترامب، ربّما أبرزهم رئيس وزراء المجر، فيكتور أوربان، ورئيسة وزراء إيطاليا، جورجيا ميلوني.
يؤمن رئيس الوزراء المجري، الذي يُعدّ من أبرز قادة اليمين الأوروبي، بشكل مطلق بقدرة ترامب على فرض السلام، خصوصاً في أوكرانيا، بل إنّه، فور فوز ترامب، أطلق تصريحاتٍ أثارت قلق نظرائه الأوروبيين بشأن السلام مع روسيا، كذلك فإنه يشاطر ترامب الرأي بخصوص المحكمة الجنائية الدولية، وكان قد تحدّاها وأرسل دعوةً إلى نتنياهو لزيارة المجر، ورفض توقيع البيان الأوروبي المشترك لدعم المحكمة. ومن غير تسرّع، لا بدّ من توقّع انزياحات تدريجية في مواقف أوروبا، يصح أن نقول إنها محايدة، إن لم تكن عكسيةً، لن تصل إلى حدّ تنصّل مؤسّسات بروكسل ودولها من مواقفها الثابتة تجاه الصراع، ولكنّها ستعكس تحوّلات الموقف الدولي، الذي لم يعُد يرى أن الحلّ الوحيد للصراع يكمن في حلّ الدولتَين. الانطباع الخاطئ (لكنّه السائد) أن أوروبا مع الفلسطينيين وواشنطن مع الإسرائيليين. قد لا يغدو هذا مريحاً لأقطاب اليمين، الذين يرون في هيمنة بروكسل سبباً في تغيّراتٍ كثيرة في المواقف الأوروبية. وبالتالي، كفُّ يد بروكسل عن سياسات الدول الأعضاء سيعطيها حرّيةً بالعودة إلى مواقفَ تناسب المزاج العام للأحزاب الحاكمة.
مقلقة العلاقة 'الروحانية' بين اليمين المتطرّف وترامب، الذي اعتبر هذا اليمين امتداداً طبيعياً لعالم يرغب في قيادته
من جهة أخرى، من المهم فهم هذا التحوّل العامّ لفهم طبيعية ما يجري في أروقة صنع القرار الدولي تجاه الصراع بعد تعطّل حلّ الدولتَين، وانعدام وحدانية وجود مشكلة فلسطينية واحدة، بل هناك مشكلات للفلسطينيين يجب إيجاد حلٍّ لكلّ واحدةٍ وفق طبيعتها، واحدة في غزّة بحاجة إلى حلّ يختلف عن الحلّ الذي تقتضيه طبيعة المشكلة في الضفة الغربية مثلاً. سيضع ترامب حلّ الدولتَين في ملفّات الماضي، وسيستبدله بصفقات تخفّف من التوتّر وتوقف الصراع، واليمين الأوروبي يشاطره من حيث المبدأ الفكرة العامّة من دون أن يتوافق معه في التفاصيل، مثلما هو الحال بشأن روسيا. علينا أن ننتبه إلى أن ثمّة تحوّلات جوهرية في نظرة العالم تجاه الصراع، تتمثّل في الأساس بعدم مركزية القضية الفلسطينية في صراع إسرائيل مع محيطها. هذه حقيقة مؤلمة، ولكن يمكن رؤية الأمر هكذا. لم تعد القضية الفلسطينية في قلب صراع إسرائيل مع الدول العربية، رغم أن الحاجة إلى حلّ هذه القضية تغدو مركزيةً إذا بُحِث في استقرار المنطقة وفي دمج إسرائيل اقتصادياً وسياسياً فيها، ومع ذلك يمكن تجاوز الأمر. إلى جانب ذلك، واضحٌ أن حلّ الدولتَين، وفق 'النموذج' القديم، لم يعد قائماً، إذ بات الحديث مرّة أخرى عن 'تطلّعات' الفلسطينيين السياسية، التي أيضاً قد تعني شيئاً في غزّة، يختلف عمّا يعنيه في الضفة الغربية. لاحظوا ترامب يتحدّث عن غزّة فقط، وسنجد أن أوروبا تدريجياً ستبدأ في التغاضي عن هذا أو عدم انتقاده، وستطوّر برامج تنموية خاصّة لغزّة، ربّما تحت إشراف السلطة في رام الله، ولكنها ستكون برامج خاصّة بغزّة. سيعمل اليمين المتطرّف في البرلمان الأوروبي، بوصفه كتلةً وازنةً لإحداث تغيّر 'إجرائي' في تعامل (وعلاقة) الاتحاد مع الموضوع الفلسطيني فنّياً، بمعنى ما يتعلّق بالدعم المالي ومساراته، وهو تغيّرٌ سيعكس نفسه على فهم طبيعة حلّ الصراع، ومع تخفيف قبضة مؤسّسات بروكسل على السياسة الخارجية، قد نجد تراجعاً في مواقف بعض الدول تجاهنا. ومع مواصلة صعود اليمين، الذي سيجد نفسه في رئاسة الحكومات في بعض الدول الأخرى، وربّما في مواقع مستشارية ألمانية ورئاسة فرنسا، لا بدّ أن نتوقّع اقتراباً أكثر من مواقف ترامب، من دون التماهي معها، لاعتباراتٍ ذات علاقةٍ بناخبي الأحزاب.
يشكّل صعود اليمين تهديداً حقيقياً للمواقف الأوروبية تجاه الصراع، التي باتت من مسلّمات السياسة الدولية
ما أقترحه، أن التحوّلات التي مسّت مواقف أوروبا، منذ ما يُعرَف بـ'تقرير شومان' عام 1971، وبعد ذلك، مقرّرات قمة البندقية في 1980، وصولاً إلى إعلان برلين، الذي أشار للمرّة الأولى في 1999، إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية بعد إنجازها وفق اتفاق مع إسرائيل ستتوقّف، ولن نشهد المزيد من التحوّلات والاقترابات من الموقف الفلسطيني. قد لا تحدُث انتكاسات، ولكن لا مزيد من التقدّم، بل ستكون بعض المواقف الكلاسيكية موضع جدل ونقاش.
ويظلّ السؤال: هل سينجح اليمين الأوروبي في إنتاج مواقف جديدة لأوروبا تجاه الصراع، ودفعها تجاه تبنّي مواقفَ أقرب إلى الحياد التام؟ … أيضاً سيبرز موضوع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) بقوّة في السطح. في دولة ليست عضواً في الإتحاد الأوروبي مثل سويسرا، سيصوّت المشرّعون في شهر مارس/ آذار الجاري على وقف تمويل الوكالة بعد أن هيمن اليمين على الحكومة بواقع أربعة أصوات إلى ثلاثة. سويسرا، التي كانت من الدول الأوروبية القليلة التي لم تقاطع الحكومة الفلسطينية بعد فوز حركة حماس عام 2006، ها هي توقف تمويل 'أونروا'. وعليه، يشكّل صعود اليمين تهديداً حقيقياً للمواقف الأوروبية تجاه الصراع، التي باتت من مسلّمات السياسة الدولية.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


خبر للأنباء
منذ 34 دقائق
- خبر للأنباء
مواجهة الطاقة الكبرى.. كيف تخطط أوروبا للانفصال عن الغاز الروسي؟
في تصعيد جديد للتوتر بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، اقترح التكتل حظر إبرام أي صفقات جديدة لاستيراد الغاز الروسي بحلول نهاية العام الجاري، إلى جانب وقف الواردات بموجب العقود الحالية بحلول عام 2027، ويأتي هذا الإجراء ضمن مساعي إنهاء الاعتماد على الغاز الروسي في أعقاب الغزو الشامل لأوكرانيا عام 2022. وكشف الاتحاد الأوروبي عن "خارطة طريق" تحدد خطوات التخلص التدريجي من الاعتماد على الطاقة الروسية، بما في ذلك تقديم مقترح قانوني في يونيو المقبل حظر واردات الغاز الطبيعي، والغاز المسال الروسي المتبقية بموجب العقود الحالية، وكان التكتل قد وضع هدفاً غير ملزم بإنهاء واردات الوقود الأحفوري الروسي بحلول 2027، لكن المقترح الجديد يسعى لتحويل هذا الهدف إلى إلزام قانوني. وأكدت آنا كايسا إيتكونن، المتحدثة باسم المفوضية الأوروبية لشؤون الطاقة لـ"الشرق" أن "المفوضية قدّمت في 6 مايو خارطة طريق لإنهاء اعتماد الاتحاد الأوروبي على الوقود الروسي بشكل كامل". وأضافت إيتكونن أن المفوضية تعمل حالياً على إعداد مقترحات تشريعية لتحويل هذه الخارطة إلى تشريع ملزم، مع توقع تقديمها رسمياً في يونيو المقبل. وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، قبل أيام: "كشفت الحرب في أوكرانيا بوضوح عن مخاطر الابتزاز والإكراه الاقتصادي وتقلبات الأسعار، بفضل برنامج التحول إلى الطاقة النظيفة". وتابعت: "نجحنا في تنويع مصادر الطاقة لدينا، خفضنا بشكل كبير اعتماد أوروبا السابق على الوقود الأحفوري الروسي.. لقد حان الوقت لأوروبا لقطع علاقاتها في مجال الطاقة تماماً مع مورد غير موثوق، ولا ينبغي للطاقة التي تصل إلى قارتنا أن تُكلّف حرباً عدوانية على أوكرانيا.. نحن مدينون بذلك لمواطنينا، ولشركاتنا، وأصدقائنا الأوكرانيين الشجعان". سياسة الطاقة الأوروبية ويعد برنامج REPowerEU ترجمة لسياسة طاقة يسعى من خلالها الاتحاد الأوروبي إلى إنهاء اعتماده على الوقود الأحفوري الروسي عبر توفير الطاقة، وتنويع مصادرها، وتسريع عملية التحول إلى الطاقة النظيفة. وفي مسعاه لتحقيق الاستقلال الطاقة، يواجه الاتحاد الأوروبي تحديات كبيرة، فقد حذّر رئيس وزراء سلوفاكيا، روبرت فيتسو، في وقت سابق من أن الاتحاد الأوروبي سيكون الأكثر تضرراً في حال توقّف الإمدادات الروسية عبر أوكرانيا. من جهتها، قالت الممثلة العليا للأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، عبر منصة "إكس": "نحن نزيد الضغط على روسيا لإنهاء حربها، وأرحب بالاتفاق على الحزمة السابعة عشرة من العقوبات". وأوضحت كالاس أن هذه الحزمة تستهدف "المزيد من الأسطول الروسي السري الذي ينقل النفط بشكل غير قانوني لتمويل عدوان بوتين"، مشيرةً إلى أن هذه العقوبات تستنزف الموارد المالية الروسية. وقال جيديون روز، كبير الباحثين في مجلس العلاقات الخارجية لـ"الشرق": "يخطط الأوروبيون لوقف إمدادات الطاقة من روسيا، آمل أن يلتزموا بوعودهم. هل سيفعلون ذلك؟ من يدري، سيكون ذلك منطقياً". وأضاف: "النوايا قد تكون سليمة، لكن التنفيذ قد لا يرقى إلى مستوى التحديات، ومع ذلك، يجب عليهم المضي قدماً رغم الصعوبات. لذلك ينبغي أن نأخذ هذه الخطط بجدية، ونأمل أن يحققوا تقدماً نحو الهدف، وإن لم يكن حرفياً". وعن الموقف الأميركي من وقف إمدادات الغاز الروسي، قال روز: "من الصعب التنبؤ بمواقف إدارة ترمب وسلوكها الراديكالي، ومن غير الممكن التكهن بما سيحدث خلال السنوات الثلاث أو الأربع المقبلة، ولكن يبقى الأمر الأهم هو تقليل الاعتماد على الطاقة الروسية". وأكد أنه "في بعض الأحيان، تكون أفضل سياسة هي الاعتراف بغباء السياسات السابقة، فقد كان الاعتماد على الطاقة الروسية بدعوى التهدئة خطوة فاشلة، وعندما اعتمدها الألمان، فشلت، وها هي اليوم تُعاد بنفس النتيجة من قبل الأميركيين". وتابع: "نحن نعيش في أوقات غريبة.. الألمان يتحدثون عن إعادة التسلح، والسياسة الأميركية تتبنى ذلك أيضاً، إنها فكرة غبية، ويجب أن نتجاوزها أخيراً، وما دام بوتين في الحكم، لا يمكن للطاقة الروسية أن تكون جزءاً من أي حل أمني جاد لأوروبا". عقبات قانونية وانقسامات داخلية تواجه المبادرات الأوروبية تحديات جمة، إذ تتطلب موافقة البرلمان الأوروبي وأغلبية الدول الأعضاء، وتزداد الصعوبة بالنسبة للعقوبات على الغاز التي تستلزم إجماع الدول الـ27، وهو ما يعرقل التقدم بسبب معارضة بعض الدول مثل سلوفاكيا والمجر، وتعتمد هاتان الدولتان بشكل كبير على الإمدادات الروسية عبر خطوط الأنابيب، وتخشيان من تداعيات التحول إلى موردين آخرين، لا سيما ارتفاع أسعار الطاقة. هذه التحديات تأتي في ظل استمرار الضغوط الأميركية على روسيا لدفعها نحو اتفاق سلام مع أوكرانيا، وقد يؤدي أي تقدم في هذا المسار إلى إمكانية استئناف واردات الطاقة الروسية، مما قد يخفف من حدة العقوبات المفروضة. في نوفمبر 2023، دخل التوجيه الأوروبي المُعدّل للطاقة المتجددة حيّز التنفيذ، في خطوةٍ تهدف إلى تعزيز الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة، عبر رفع سقف الطموحات عبر تحديد هدف إلزامي جديد بنسبة 42.5% على الطاقة النظيفة ضمن مزيج الطاقة الأوروبي بحلول 2030، مع السعي لتحقيق نسبة 45%. يأتي هذا الإصلاح التشريعي في إطار الاستراتيجية الشاملة للاتحاد الأوروبي لخفض الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية، إذ يُتوقع أن تساهم هذه الإجراءات في مضاعفة إنتاج الطاقة المتجددة مقارنة بالمستويات الحالية بهدف تعزيز أمن الطاقة الأوروبي على المدى المتوسط والبعيد. وانخفضت حصة روسيا من واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز عبر الأنابيب، من أكثر من 40% في عام 2021 إلى حوالي 11% في عام 2024، وبالنسبة لغاز الأنابيب والغاز الطبيعي المسال مجتمعين، شكلت روسيا أقل من 19% من إجمالي واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز في عام 2024. وأصبح هذا الانخفاض ممكناً بشكل رئيسي بفضل الزيادة الحادة في واردات الغاز الطبيعي المسال، والانخفاض العام في استهلاك الغاز في الاتحاد الأوروبي. في عام 2024، استورد الاتحاد الأوروبي أكثر من 100 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال. أهم موردي الغاز لأوروبا في 2024 كانت النرويج أكبر موردي الغاز إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2024، إذ قدمت أكثر من 33% من إجمالي واردات الغاز. ومن بين الموردين الآخرين الولايات المتحدة، والجزائر، وقطر، والمملكة المتحدة، وأذربيجان، وروسيا بحسب المجلس الأوروبي، وفي عام 2024، تجاوزت الواردات من الولايات المتحدة ضعف ما كانت عليه في عام 2021. روسيا تتحدى بـ"أسطول الظل" رغم القيود الغربية، تواصل موسكو تصدير الغاز الطبيعي المسال عبر أساليب ملتوية، بما في ذلك استخدام ناقلات تخضع لعقوبات أميركية وتشير تقارير إعلامية غربية إلى قيام مشترين مجهولين، يُشتبه بصلاتهم مع الكرملين، بتجميع عشرات السفن لنقل الغاز، في إطار ما يُعرف بـ"أسطول الظل"، مما يعكس جهود روسيا للالتفاف على العقوبات والحفاظ على تدفق إيراداتها النفطية. ويُذكر أن الاتحاد الأوروبي كان يخطط لإصدار خارطة الطريق في مارس الماضي، لكنه أجل ذلك بسبب التطورات المتضاربة والضبابية المحيطة. ووافق الاتحاد الأوروبي قبل أيام على حزمة العقوبات الـ17 على روسيا، مشيراً إلى أن التكتل يتجه الآن إلى العمل على فرض عقوبات أخرى أكثر صرامة بالتنسيق مع الولايات المتحدة. وأوضح دبلوماسيون أوروبيون، أنه سيتم فرض عقوبات على ما يقرب من 200 ناقلة نفط تابعة لأسطول الظل الروسي، وبالإضافة إلى السفن، تضيف الحزمة قيوداً جديدة على 30 شركة متورطة في تجارة السلع ذات الاستخدام المزدوج، بينما سيتم إدراج 75 فرداً وكياناً لصلاتهم مع المجمع الصناعي العسكري الروسي. كما اتفقت الدول، على توسيع القاعدة القانونية لإطار عقوباتها، وحظر تصدير المواد الكيميائية المستخدمة في إنتاج الصواريخ. وستسمح إحدى الإجراءات الجديدة للاتحاد الأوروبي بمعاقبة الأساطيل التي تُدمر الكابلات البحرية وغيرها من الأصول المادية، حيث أُضيف 20 كياناً وفرداً إضافياً إلى هذه القائمة. مزيد من الغاز الأميركي وتقيّم المفوضية الأوروبية الخيارات القانونية للسماح للشركات الأوروبية بفسخ عقود الغاز الروسية الحالية، دون مواجهة شروط جزائية مالية. ومع محاولتها قطع علاقات الطاقة المستمرة منذ عقود مع روسيا، أشارت المفوضية الأوروبية إلى استعدادها لشراء المزيد من الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة، وهي الخطوة التي طالب بها الرئيس دونالد ترمب أوروبا كوسيلة لتقليص فائضها التجاري مع واشنطن. وتشعر المفوضية الأوروبية بالقلق أيضاً بشأن أسعار الطاقة، وتقول إن أي تدابير لتقييد واردات الطاقة الروسية يجب أن تلحق بموسكو ضرراً أكبر من الاتحاد الأوروبي، ويتعين أن تأخذ في الاعتبار التأثير على تكاليف الوقود. وتضغط الولايات المتحدة على روسيا من أجل التوصل إلى اتفاق سلام مع أوكرانيا، والذي إذا تم التوصل إليه قد يفتح المجال أمام واردات الطاقة الروسية ويخفف العقوبات. وكانت المفوضية الأوروبية تخطط في الأساس لنشر خارطة الطريق الخاصة بها منذ مارس، لكنها أرجأت ذلك لأسباب منها الضبابية المتعلقة بهذه التطورات. وأعلن الرئيس الأميركي عقب اتصال هاتفي مع نظيره الروسي، الاثنين، أن المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا ستبدأ "فوراً" من أجل وقف إطلاق النار بين الجانبين، مشيراً إلى أن موسكو أعربت عن رغبتها في إقامة علاقات تجارية واسعة النطاق مع واشنطن بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا التي وصفها بـ"المذبحة الكارثية". وأضاف ترمب على منصة "تروث سوشيال": "أعتقد أنها (المكالمة) سارت على ما يرام.. ستبدأ روسيا وأوكرانيا فوراً مفاوضات لوقف إطلاق النار، والأهم من ذلك، إنهاء الحرب". وأشار إلى أنه "سيتم التفاوض على الشروط بين الطرفين، وهو أمرٌ لا مفر منه"، معتبراً أن "نبرة وروح المكالمة ممتازتين". وأعرب الرئيس الروسي، عن استعداد بلاده لـ"العمل على مذكرة تفاهم مع أوكرانيا تتضمن وقف إطلاق النار"، مشدداً على حاجة موسكو وكييف لـ"إيجاد حلول وسط ترضي جميع الأطراف". والتقى ممثلون من البلدين المتحاربين في إسطنبول، للمرة الأولى منذ مارس 2022، بعد أن اقترح بوتين إجراء محادثات مباشرة، فيما طالب الأوروبيون وأوكرانيا بوقف فوري لإطلاق النار. "موسكو تستنزف آخر مواردها" وقال نائب وزير الخارجية الإيطالي السابق، جولييليمو بيتشي، لـ"الشرق: "ما افتقدناه خلال السنوات الثلاث الماضية هو الدبلوماسية.. لم تكن هناك دبلوماسية على الإطلاق، وعندما تغيب الدبلوماسية، تستمر الحرب". وأضاف: "استعانة روسيا بعناصر من كوريا الشمالية في الحرس الرئاسي تُعد مؤشراً مهماً من منظور عسكري، وتدل على أن موسكو بدأت تستنزف آخر مواردها.. فبعد ثلاث سنوات من الحرب، يصبح الوضع مرهقاً لأي دولة، وربما آن الأوان لروسيا أن تفكر في استراتيجية للخروج، سواءً من الناحية العسكرية أو السياسية، إذ يصعب حتى على أكثر الأنظمة استبداداً تبرير حرب طويلة الأمد أمام شعوبها". وأشار بيتشي إلى أن الأوروبيين دعوا روسيا مراراً إلى وقف إطلاق النار، بل إن بعض الدول تطالب بذلك دون شروط منذ سنوات، في وقت تواصل فيه أوروبا فرض العقوبات، وقال: "لست متأكداً تماماً من كيفية تفسير هذا التناقض، أو ما الذي تحققه تلك الإجراءات فعلياً، لكن الرسالة الأوروبية تبقى واضحة: لا يمكن السماح لبوتين بغزو دولة ذات سيادة والاستيلاء على أراضيها، دون أن يتحمل تبعات ذلك". وأضاف: "لا توجد دولة تقبل طوعاً بالتنازل عن جزء من أراضيها لصالح دولة معتدية.. هذا هو جوهر الموقف الأوروبي.. إنه تحالف من الدول الراغبة، وإن لم تكن جميعها على نفس الخط، إلا أن بعضها يقود المسار". وأقرّ بيتشي بأن العقوبات ليست فعالة بشكل كامل، لكنه أكد أنها "أوضح رسالة يمكن لأوروبا إرسالها: إذا لم تكن هناك رغبة في التفاوض، فسنزيد من مستوى الضغط". وتابع: "حتى عرض وقف إطلاق نار مؤقت، لمدة 30 يوماً، أو 15، أو حتى 10 أيام، يعد إشارة إيجابية على الاستعداد للتفاوض، أما غياب أي مبادرة من هذا النوع، فيُظهر بوضوح غياب النية في الحوار، وهذه هي جوهر المشكلة". وأكد بيتشي أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي كان محقاً في دعوته العلنية لبوتين للمجيء إلى إسطنبول للتفاوض، معتبراً أن هذه الدعوة تُظهر من هو الطرف الجاد في السعي للسلام، وتمثل في الوقت نفسه وسيلة للضغط على أطراف أخرى مثل الرئيس الأميركي. وأوضح أن الدبلوماسية الروسية تتسم بالمماطلة والانشغال بتفاصيل شكلية، مثل حجم طاولة المفاوضات وشكلها، وهو أسلوب لا يتماشى مع شخصيات سياسية مثل ترمب. وأضاف أن المفاوضات التي شارك فيها الروس مؤخراً لم تسفر عن نتائج تُذكر، لأن موسكو تفضل تحقيق مكاسب ميدانية قبل الدخول في أي مفاوضات حقيقية، وتعوّل على تراجع الدعم الغربي لأوكرانيا لإجبارها على تقديم تنازلات. وختم قائلاً: "لا توجد دولة يمكنها أن تستمر في حرب مكلفة بهذا الشكل إلى أجل غير مسمى.. الجيش الروسي يواجه ضغوطاً هائلة، وسيضطر الروس، عاجلاً أو آجلاً، وربما قريباً، إلى تقديم بعض التنازلات".


الشروق
منذ 3 ساعات
- الشروق
فرنسا.. هل ستخرج من التاريخ؟
عندما كتب أب الترسانة النووية الفرنسية والجيوبولتيكي الجنرال بيار ماري ڤالوا كتابه 'فرنسا.. هل ستخرج من التاريخ؟'، كان يتساءل منطقيا عن مستقبل 'بلاد الغال' التي كانت إمبراطورية مترامية الأطراف، وكان هو أحد عرابي قوّتها الإستراتيجية من خلال قيادة التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية، ليتفرغ بعدها للفكر والبحث الجيوسياسي من خلال التأليف مثل كتابه 'شمس الله تعمي الغرب'، و'أوروبا تغير سيدها'، و'وداعا للجيوش'، والذي تحدث فيه عن نهاية عصر الجيوش التقليدية وبداية عهد نماذج الجيوش التكنولوجية والعلمية. لكن جوهر تساؤل الكتاب، الذي كان يكتب من زاوية جيوسياسية عميقة، كان عن قدرة فرنسا على الاستمرار في التأثير في العالم في ظل التغيّرات الجيوسياسية الكبرى التي شهدتها الساحة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، مع فقدان فرنسا النفوذ الاستراتيجي في إفريقيا بعد استقلال مستعمراتها، إلى ضعف القوة الاقتصادية والاجتماعية في الداخل، مرورا بتراجع قوتها العسكرية والإستراتيجية في الساحة الدولية. عصر الأفول الفرنسي تعيش فرنسا اليوم مرحلة دقيقة من تاريخها، تتّسم بتراجع استراتيجي بنيوي في ظل عالم يشهد تحوّلا جذريا في موازين القوى، فقد كانت الجمهورية الخامسة، بإرثها الإمبريالي، من بين القوى الأوروبية التي تربّعت على قمة النظام الدولي الاستعماري حتى منتصف القرن العشرين، غير أن عالم ما بعد الحرب الباردة وخصوصا في نسخته الراهنة، كشف عن انكماش متسارع للدور الفرنسي على الصعيدين الإقليمي والدولي، ففي كتابه المرجعي 'هل تخرج فرنسا من التاريخ؟'، يطرح الجنرال بيار ماري ڤالوا، أحد مهندسي القوة النووية الفرنسية، سؤالا وجوديا لا يخلو من نبوءة جيوسياسية قاتمة حول المستقبل الإمبراطوري الفرنسي مفاده: هل أصبحت فرنسا على أعتاب الخروج من التاريخ؟ وهو التساؤل الصادر عن رجل من صلب المؤسسة العسكرية والدبلوماسية، وليس مجرد صرخة حنين من معمّر تقليدي إلى مجد هيمنت فيه باريس بالقوة والإجرام، بل هو تشخيص دقيق لانهيار أسس النفوذ الفرنسي التقليدي من خلال أفول الهيمنة في إفريقيا، تداع للاستقلال الإستراتيجي، وضعف التمايز الأوروبي عن سياسات واشنطن. لقد تحوّلت باريس بعد الحرب العالمية الثانية إلى قوة ثانوية سياسيا وعسكريا، أمام صعود الثنائي القطبي الأمريكي- السوفياتي، ومع أن الجنرال شارل ديغول حاول هندسة خروج استراتيجي من التبعية عبر مشروع قومي- سيادي يقوم على ترسانة نووية مستقلة ودبلوماسية متحررة من الوصاية الأطلسية، إلا أنّ هذه المقاربة اصطدمت بتغيرات النظام العالمي منذ السبعينيات، وخصوصا بعد سقوط جدار برلين. وفي مطلع الألفية، ومع تسارع التحوّلات الجيوسياسية العالمية، وجدت فرنسا نفسها عاجزة عن صياغة مشروع استراتيجي يعيد تعريف حضورها في النظام الدولي، فقد تفكّك نفوذها في إفريقيا، وأضحت قوة متداعية تعاني من مشاكل بنيوية، وهو ما يشي بأن الأفول الفرنسي ليس مؤقتا ولا عرضيا، بل هيكليّ ومركّب، لا تعكسه فقط خريطة النفوذ المنكمش، بل أيضا الشلل الفكري المستفز والمتطرف داخل النخب الفرنسية وعجزها عن إنتاج خطاب استراتيجي بديل عن 'الرؤية الديغولية'، وهو ما تجلّى بوضوح في أزماتها مع دول الساحل والجزائر، إذ لم تعد قادرة على التكيّف مع موجة الجيل الإفريقي الجديد 'السلطوي والشعبي'، ولم تعد تتعامل مع العلاقات على أساس الندية، بل استمرت في إعادة إنتاج فكر الاستعلائية الموروث عن الاستعمار، وسط التحول في مراكز الثقل العالمي نحو 'الجنوب العالمي'Global South. ركائز العقيدة الإستراتيجية الفرنسية وضع ديغول رؤية إستراتيجية كبرى لضمان استمرار فرنسا كقوة عظمى مستقلة وفاعلة في النظام الدولي، رغم ما خلفته الحرب العالمية الثانية من تراجع في النفوذ الفرنسي، إذ تمحورت هذه الرؤية حول أربعة أسس كبرى شكّلت بمجملها ما يمكن وصفه بـ'عقيدة ديغول'، وقد سعت هذه العقيدة إلى ترسيخ الاستقلالية الإستراتيجية لفرنسا، وجعلها تتجاوز موقع التابع داخل التحالفات الغربية. كان أول هذه الأسس الحفاظ على العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي، فقد أدرك ديغول أن مقعد فرنسا في هذا المجلس لا يمثل فقط امتيازا دبلوماسيا، بل هو رافعة سياسية وهيكلية لاستمرار النفوذ الفرنسي في العالم ومنصة ضمن 'الخمسة الكبار' في إدارة شؤون العالم، وكان هذا المقعد، وفق رؤية ديغول، التعويض الرمزي والعملي عن فقدان الإمبراطورية الاستعمارية، كما شدّد ديغول على ضرورة ربط فرنسا بما تبقى من نفوذها في إفريقيا جنوب الصحراء عبر منظومة 'فرنسا-إفريقيا'، وهي شبكة سياسية وعسكرية واستخباراتية واقتصادية أنشأها بإشراف مباشر من مستشاره المكلف بالشؤون الإفريقية، جاك فوكار، ولم تكن هذه الشبكة مجرد امتداد للسياسة الاستعمارية، بل كانت بنية خفية تسهر على تثبيت رؤساء أفارقة موالين وتأمين موارد الطاقة والمعادن لفرنسا، خصوصا اليورانيوم من النيجر والنفط من الغابون، في مقابل الحماية العسكرية والسياسية، وقد استمرت هذه الشبكة تعمل بأساليب وصفها المؤرخون بالوحشية والانقلابية حتى عهد جاك شيراك، الذي خفّف من قبضتها مع نهاية الحرب الباردة. تمثّلت الركيزة الثالثة في بناء قوة ردع نووية مستقلة، تحت مسمى'القوة الضاربة' النووية، وهي ما شكّل قلب 'السيادة الإستراتيجية الفرنسية'، فقد رفض ديغول المظلة النووية الأمريكية كما أراد حلف الناتو، وأصرّ على امتلاك القرار النووي السيادي. بعد أن أصبحت فرنسا الدولة الرابعة امتلاكا للسلاح النووي، قادرة على الردع بلا وصاية أمريكية أو أنجلوسكسونية، بينما تبنّى ديغول سياسة الحياد النشط خلال الحرب الباردة، عبر الانسحاب من القيادة العسكرية الموحدة لحلف الأطلسي (1966)، ومنحت هذه المقاربة هامش مناورة واسعا في إقامة علاقات مع الصين الشيوعية، والاتحاد السوفياتي، والعالم العربي، ضمن ما وُصف بـ'ديبلوماسية التوازنات الكبرى'. بداية التراجع بدأ التراجع الإستراتيجي الفرنسي مع صعود الاقتصاد الألماني في أوروبا، رغم أن ألمانيا خرجت من الحرب العالمية الثانية مدمّرة ومن دون مستعمرات، إلا أن ألمانيا الغربية تحوّلت إلى قوة اقتصادية كبرى منذ عام 1960، وتفوقت على كل من فرنسا وبريطانيا، بناتج إجمالي بلغ 84 مليار دولار مقابل 73 مليارا لبريطانيا و62 مليارا لفرنسا، واستمر هذا التفوق حتى اليوم، إذ بلغت قيمة الناتج الإجمالي الألماني 4456 مليار دولار، 3340 مليار لبريطانيا، و3031 مليار لفرنسا. على الصعيد الاقتصادي الداخلي، تواجه فرنسا تحديات متزايدة تتمثل في ارتفاع الدين العامّ الذي تجاوز 113 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، بعد أن كان 35 بالمائة عام 1990 وارتفع إلى 57 بالمائة في عام 2000. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يصل إلى 128.4 بالمائة بحلول عام 2030، مع استمرار تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع تكاليف الاقتراض، فقد سجل الناتج المحلي الفرنسي نموا بنسبة 0.9 بالمائة (2023) و1.1 بالمائة (2024)، فيما خفض البنك المركزي توقعاته لنمو 2025 إلى 0.7 بالمائة بدلا من 0.9 بالمائة المتوقعة سابقا، وتوقع نموا بنسبة 1.2 بالمائة لعام 2026، مع زيادة معدلات البطالة وانتشار الفقر في بعض المناطق. وتشير الإحصاءات إلى أن نحو 14 بالمائة من السكان الفرنسيين يعيشون تحت خط الفقر، في ظل تفاوت اقتصادي كبير بين الطبقات، إلى جانب ذلك، يشهد قطاع الصناعات الثقيلة تراجعا حادا، رغم أنه كان مصدرا رئيسيا للنمو والابتكار، مما أثّر سلبا على القدرة التنافسية والنمو الاقتصادي العامّ لفرنسا، وأدى إلى تراجع موقعها ضمن أكبر اقتصادات أوروبا. تراجع القوة العسكرية الفرنسية على الصعيد العسكري، تعيش فرنسا تراجعا واضحا في قدرتها على بسط نفوذها الاستراتيجي دوليا، رغم احتفاظها بترسانة نووية من بين الأكبر عالميا، إلا أن هذه الأسلحة، التي شكّلت ركيزة الردع الفرنسي خلال الحرب الباردة، فقدت اليوم كثيرا من فعاليتها ورمزيتها في عالم تهيمن عليه موازين الردع المتبادل والقدرات الصاروخية العابرة للقارات، التي تتفوق فيها قوى كبرى مثل بكين، وموسكو، وواشنطن. في إفريقيا، تآكلت المكانة العسكرية الفرنسية بشكل متسارع لعقود، إذ اعتمدت باريس على شبكة واسعة من القواعد العسكرية والتدخلات المباشرة في مالي والنيجر وتشاد.. لكن الموجة الجديدة لفكر السيادة الإفريقية، لاسيما بعد الانقلابات المتتالية في منطقة الساحل، دفعت هذه الدول لطرد القوات الفرنسية، كما حصل في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، فضلا عن تشاد والسنغال وكوت ديفوار، ولم تعد فرنسا قادرة على الحفاظ على وجودها العسكري في 'حدائقها الخلفية'، ولم يتبقّ لها سوى قاعدة واحدة في جيبوتي وتعاون عسكري مع الغابون. رافق هذا الانكماش في إفريقيا نكسات إستراتيجية على الصعيد الدولي، أبرزها 'صفعة الغواصات' (2021)، ما شكّل إهانة دبلوماسية وعسكرية نادرة لباريس، وكشف تراجع ثقة الحلفاء بقدرتها الصناعية والتكنولوجية في مجال الدفاع. أما في آسيا، فقد شهدت مكانة المعدات العسكرية الفرنسية تراجعا ملحوظا بعد 2022، مع انخفاض واضح في الطلب على الأسلحة الفرنسية، وواجهت صفقات بيع طائرات 'رافال'، التي روّج لها كدليل على تفوق الصناعة الدفاعية الفرنسية، عدة انتكاسات، منها أعطال فنية خاصة في أنظمة الرادار في الهند، التي أثارت مخاوف تقنية وعسكرية، إضافة إلى جدل سياسي داخلي حول شبهة فساد في صفقة الشراء عام 2021، ما أثر على سمعة الطائرات وشركة 'داسو للطيران'، كما انتشرت أنباء عن إسقاط باكستان لطائرات 'رافال' خلال النزاع الحدودي الأخير مع نيودلهي، مما يزيد من تراجع الثقة في المنظومة العسكرية الفرنسية. وهو ما يعكس فقدان فرنسا تدريجيا لمكانتها كمورد موثوق للسلاح، ويبرز تحدّيات كبيرة أمام صناعتها الدفاعية للحفاظ على حصتها في هذا القطاع الحيوي، كما أن فرنسا لم تعد قوة حاسمة في مناطق النزاع، بل تحولت إلى فاعل هامشي تتجاوزه القوى الإقليمية والدولية أو تستغني عنه. توترات مع الدول الإفريقية ازدادت التوترات بين فرنسا والدول الإفريقية التي كانت سابقا تحت سيطرة الاستعمار الفرنسي خلال السنوات الأخيرة، فقد كانت هذه الدول تمثل جبهة إستراتيجية لفرنسا عبر عقود، سواء من ناحية الموارد الطبيعية أو الأهمية الجيوسياسية، لكنها باتت اليوم أكثر استقلالية وتنوعا في علاقاتها الدولية، كما بدأ العديد من قادة إفريقيا في إعادة تقييم علاقاتهم مع فرنسا، معتبرين أن هذه العلاقة لا تزال تهيمن على مقدراتهم الاقتصادية والسياسية. في كتابه المرجعي 'هل تخرج فرنسا من التاريخ؟'، يطرح الجنرال بيار ماري ڤالوا، أحد مهندسي القوة النووية الفرنسية، سؤالا وجوديا لا يخلو من نبوءة جيوسياسية قاتمة حول المستقبل الإمبراطوري الفرنسي مفاده: هل أصبحت فرنسا على أعتاب الخروج من التاريخ؟ وهو التساؤل الصادر عن رجل من صلب المؤسسة العسكرية والدبلوماسية، وليس مجرد صرخة حنين من معمّر تقليدي إلى مجد هيمنت فيه باريس بالقوة والإجرام، بل هو تشخيص دقيق لانهيار أسس النفوذ الفرنسي التقليدي. في هذا السياق، يشير أنطوان جلاسر في كتابه 'متغطرس مثل فرنسي في إفريقيا' إلى أن ما يسميه 'الاستعلاء الفرنسي'، هو أحد أبرز أسباب تصدع العلاقة بين باريس والعواصم الإفريقية، فالطبقة الحاكمة في فرنسا لا تزال تتعامل مع القارة الإفريقية بمنطق الاستعمار الجديد، متجاهلة تطلعات السيادة والكرامة الوطنية لشعوبها، وهذا السلوك الاستعلائي يزيد من الغضب الشعبي والرسمي في إفريقيا، ويعزز الدعوات لإنهاء النفوذ الفرنسي واستبداله بشراكات تقوم على الاحترام والمساواة. كما ازدادت الدعوات إلى إنهاء العلاقة الاستعمارية بالكامل مع فرنسا في بعض الدول الإفريقية، مع إعطاء الأولوية للتعاون مع قوى جديدة مثل الصين، التي تقدّم نموذج شراكة مختلفا بعيدا عن الهيمنة التقليدية، مما جعل فرنسا اليوم في موقف دفاعي، بعدما كانت تعدّ القوة الاستعمارية التي تهيمن على قرارات الدول الإفريقية. أزمة الهوية وصراعات الداخل يناقش بيار ماري ڤالوا في كتابه أزمة الهوية الوطنية الفرنسية باعتبارها من القضايا الجوهرية التي تواجه فرنسا اليوم، إثر التحوّلات الاجتماعية والثقافية التي شهدها المجتمع الفرنسي، إذ رأى أن السياسات الحكومية في التعامل مع الهجرة أضعفت التماسك الاجتماعي، ويطرح ڤالوا سؤالا محوريا 'هل لا تزال فرنسا تعرف نفسها كأمة؟'، مشيرا إلى أن القيم الفرنسية التقليدية مثل الجمهورية والعلمانية تواجه صعوبة في التعبير عن واقع مجتمع معقد ومتغير، مما أدى إلى تباينات وانقسامات داخله، مع تراجع القيم الإستراتيجية التي كانت فرنسا تدافع عنها دوليا، مثل حقوق الإنسان والديمقراطية، إذ بدأت باريس تضع مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية فوق المبادئ الكونية، ما أثّر سلبا على سمعتها ومصداقيتها. رغم أن ألمانيا خرجت من الحرب العالمية الثانية مدمّرة ومن دون مستعمرات، إلا أن ألمانيا الغربية تحوّلت إلى قوة اقتصادية كبرى منذ عام 1960، وتفوقت على كل من فرنسا وبريطانيا، بناتج إجمالي بلغ 84 مليار دولار مقابل 73 مليارا لبريطانيا و62 مليارا لفرنسا، واستمر هذا التفوق حتى اليوم، إذ بلغت قيمة الناتج الإجمالي الألماني 4456 مليار دولار، 3340 مليار لبريطانيا، و3031 مليار لفرنسا. داخليا، رأى ڤالوا أن فرنسا تواجه صراعات اجتماعية وسياسية حادة تهدّد استقرارها، مع تصاعد التوتر بين الفئات الاجتماعية، لاسيما بين الشباب والمهاجرين. وتبرز هشاشة النظام السياسي الفرنسي مع صعود الحركات اليمينية المتطرفة، التي ارتفعت نسبتها في التصويت من 3 بالمائة إلى نحو 30 بالمائة، مصحوبة بخطاب كراهية متزايد يستهدف خصوصا الجاليات الإسلامية، وتغذيه سياسات إقصائية ومعايير مزدوجة تعمّق الانقسامات الاجتماعية، إضافة إلى تنامي موجات الإسلاموفوبيا التي تضعف اللحمة الفرنسية، فضلا عن فكر يميني استعماري يعقّد العلاقات الثنائية مع دول مثل الجزائر. ويؤكد ڤالوا على هشاشة النظام السياسي أمام هذه التحديات، مشيرا إلى أن الاحتجاجات الشعبية تعكس حالة اضطراب اجتماعي وسياسي تتطلب إعادة نظر جذرية في الهوية الوطنية والسياسات الداخلية والخارجية لفرنسا. مستقبل فرنسا تعاني فرنسا من انكماش جيوسياسي متسارع تجلّى في تراجع دورها على الساحتين الأوروبية والدولية. ففي 2024، بلغت مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي العالمي 2.1 بالمائة فقط مقارنة بـ4.2 بالمائة عام 1990، ما يعكس فقدانا تدريجيا لقدرتها الاقتصادية النسبية، ففي الصناعات الدفاعية، تراجعت حصتها في سوق السلاح العالمي من 10.5 بالمائة عام 2010 إلى 7.6 بالمائة عام 2022، لصالح منافسين مثل الصين وكوريا الجنوبية، وفق تقرير معهد ستوكهولم لأبحاث السلام. يشير أنطوان جلاسر في كتابه 'متغطرس مثل فرنسي في إفريقيا' إلى أن ما يسميه 'الاستعلاء الفرنسي'، هو أحد أبرز أسباب تصدّع العلاقة بين باريس والعواصم الإفريقية، فالطبقة الحاكمة في فرنسا لا تزال تتعامل مع القارة الإفريقية بمنطق الاستعمار الجديد، متجاهلة تطلعات السيادة والكرامة الوطنية لشعوبها، وهذا السلوك الاستعلائي يزيد من الغضب الشعبي والرسمي في إفريقيا، ويعزّز الدعوات لإنهاء النفوذ الفرنسي واستبداله بشراكات تقوم على الاحترام والمساواة. كما انخفض حجم التجارة الفرنسية مع إفريقيا جنوب الصحراء بنسبة 21 بالمائة بين 2015 و2022، في حين تضاعفت المبادلات التجارية الإفريقية مع الصين خمس مرات منذ 2000. وفي أوروبا، أظهرت بيانات مجموعة ماكنزي تراجع حصة فرنسا من الاستثمارات الصناعية لصالح ألمانيا وبولندا، كما تراجع ترتيبها في مؤشر الابتكار العالمي إلى المرتبة 12 بعد أن كانت ضمن العشرة الأوائل، ما يعكس هشاشة موقعها في سباق الثورة الصناعية الرابعة. أما الحرب في أوكرانيا، فقد أكدت ارتهان باريس للمظلة الأطلسية بقيادة واشنطن، فرغم محاولات ماكرون لتعزيز 'الاستقلالية الإستراتيجية الأوروبية'، إلا أن الواقع أظهر محدودية هامش المناورة الفرنسي، خاصة في ظل هيمنة القرار الأمريكي داخل الناتو وضعف الإجماع الأوروبي، وتراجع الدور الأمريكي في بعض الفترات، وأمام صعود قوى جديدة مثل الصين، والهند، وتركيا، وتنامي تكتلات اقتصادية كبرى (بريكس، ومنظمة شنغهاي)، أصبحت فرنسا في موقع المراقب بدلا من الفاعل، وسط نظام دولي سريع التوجّه نحو التعددية القطبية، فهذا التراجع لم يعد ظرفيا أو رمزيا، بل هيكليا، وتؤكده الأرقام والسياسات المتذبذبة.


إيطاليا تلغراف
منذ 5 ساعات
- إيطاليا تلغراف
انقلاب أوروبي ملفت على إسرائيل المنبوذة
إيطاليا تلغراف مصطفى عبد السلام صحافي مصري المتابع لمواقف دول العالم من حرب غزة يلحظ أنّ هناك ما يشبه حالة انقلاب أوروبي على إسرائيل المنبوذة بسبب مجازرها المروعة في غزة وتصاعد حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأنّ هناك حالة غضب أوروبية متصاعدة ضد دولة الاحتلال بسبب جرائمها ضد القطاع، وأنّ دول الاتحاد بدأت تتخلى عن الأساليب الدبلوماسية والشجب والادانات والانتقادات إلى اتخاذ إجراءات اقتصادية وعقابية لإسرائيل ربما تكون واسعة وموجعة هذه المرة، خاصة وأن اقتصاد دولة الاحتلال يعاني من نزيف حاد وعجز مالي كبير وتدهور في الأنشطة المختلفة. فهناك 17 دولة أوروبية وافقت على مراجعة اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل التي تعاني عزلة عالمية، وهو ما يزيد فرص فرض عقوبات تجارية على دولة الاحتلال. هذا التحرك دعا الإعلام العبري إلى وصف ما يحدث بأنه بمثابة تسونامي سياسي واقتصادي في أوروبا وعواصم غربية، بسبب ارتكاب إسرائيل جرائم حرب بحق الفلسطينيين، وتوجيه اتهامات لحكومة نتنياهو بأنّها تمارس هواية قتل الأطفال في غزة. ولأنّ العالم لم يعد قادراً على الصمت تجاه المجازر اليومية وحرب التجويع والتدمير والتهجير التي يمارسها الاحتلال ضد أهالي غزة، فقد تحرك وزراء الخارجية في الاتحاد الأوروبي لمناقشة مقترح هولندي لإعادة النظر في اتفاقية الشراكة بين الاتحاد وإسرائيل. هناك 17 دولة أوروبية وافقت على مراجعة اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل التي تعاني عزلة عالمية، وهو ما يزيد فرص فرض عقوبات تجارية على دولة الاحتلال وفي حال إقرار المقترح فإنه يمثل ضربة عقابية عنيفة للاقتصاد الإسرائيلي، إذ إنّ حجم التجارة بين دول الاتحاد الأوروبي وإسرائيل بلغ 46.8 مليار يورو في عام 2022، مما يجعل الاتحاد أكبر شريك تجاري لدولة الاحتلال. كما أنّ اتفاقية الشراكة بين الطرفين التي دخلت حيز التنفيذ في يونيو/حزيران 2000، تمنح إسرائيل العديد من الامتيازات في سوق الاتحاد الأوروبي، ومنها السماح بتصدير منتجاتها إلى دول الاتحاد دون دفع رسوم جمركية، أو برنامج 'هورايزون' الذي يتيح لإسرائيل التعاون بشكل واسع مع الاتحاد في مجالات العلوم والتكنولوجيا. وهناك إشارات قوية على توجه أوروبا نحو معاقبة تل أبيب اقتصادياً، فوفق تصريحات مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي كايا كالاس، فإنّ اتفاقية التجارة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، ستخضع للمراجعة في ظل الوضع الكارثي في غزة، وأنّ 'أغلبية قوية' من وزراء خارجية الاتحاد يؤيدون المراجعة لاتفاقية الشراكة في ضوء ما يجري في غزة من مجازر. وعلى مستوى المواقف الثنائية الأوروبية، فإنّ موقف بريطانيا بدا لافتاً في توجيه ضربة قوية للاقتصاد الإسرائيلي، فقد استدعت سفيرة إسرائيل في لندن، وعلّقت مبيعات الأسلحة ومفاوضات التجارة الحرة مع إسرائيل رفضاً لتوسيع حرب غزة، كما فرضت عقوبات على مستوطنين وكيانات في الضفة الغربية مرتبطين بأعمال عنف ضد الفلسطينيين. وشملت العقوبات أفراداً وكيانات منها حركة نحالا، وشركة ليبي للإنشاءات والبنية التحتية المحدودة، ومزرعة كوكو. وانضمت بريطانيا إلى فرنسا وكندا في التحرك اقتصادياً ضد إسرائيل واتخاذ إجراءات ملموسة إذا واصلت حربها بغزة، وذلك ضمن تصاعد الضغوط الدولية على الاحتلال، مع شن حكومة نتنياهو هجوماً عسكرياً جديداً على غزة. تحرك أوروبي ودولي مكثف لمعاقبة إسرائيل اقتصادياً وسياسياً، فهل تنجح الخطوة هذه المرة، أم أنّ جيش الاحتلال سيحرق غزة عن آخرها، وبعدها يبدي العالم الندم، لكن بعد فوات الأوان؟ وكان موقف فرنسا لافتاً أيضاً، فقد دعا وزير خارجيتها جان نويل بارو يوم الاثنين إلى مراجعة اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل على خلفية استمرار جيش الاحتلال في حرب الإبادة ضد أهالي غزة ومنعه إدخال المساعدات إلى القطاع. وجدد بارو تصميم بلاده على الاعتراف بدولة فلسطين. وهذا الموقف مهم إذ إنّ فرنسا دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن ولها حضورها الدولي. وفي مدريد، خرج علينا رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، بتصريح لافت، قال فيه: 'نحن لن نتبادل التجارة مع دولة تنفذ إبادة جماعية'. وطالبت كلٌّ من إسبانيا وأيرلندا وهولندا بإجراء تحقيق عاجل في ما إذا كانت الهجمات الإسرائيلية على غزة تنتهك الاتفاقيات التجارية الموقعة مع الاتحاد الأوروبي، التي تتضمن بنوداً تتعلق بحقوق الإنسان. كما طالبت كل من إيطاليا وإسبانيا وألمانيا إسرائيل بوقف هجومها العسكري على غزة. بل إن قادة يهود أوروبا خرجوا علينا قبل أيام بتصريح أكدوا خلاله أنّ 'دعم إسرائيل أصبح عبئاً'. وأكد المجلس الأوروبي أنّ المدنيين في غزة يتضورون جوعاً، وحذرت الأمم المتحدة من احتمالية وفاة 14 ألف طفل في غزة خلال 48 ساعة. يصاحب تلك التحركات تحرك مهم من الصندوق السيادي النرويجي، وهو أكبر صندوق استثمار في العالم، بسحب استثماراته من دولة الاحتلال والتي تزيد قيمتها عن ملياري دولار. تحرك أوروبي ودولي مكثف لمعاقبة إسرائيل اقتصادياً وسياسياً، فهل تنجح الخطوة هذه المرة، أم أنّ جيش الاحتلال سيحرق غزة عن آخرها، وبعدها يبدي العالم الحر الندم، لكن بعد فوات الأوان؟