
حينَ ينتصر الذكاء التجاري على الذكاء السياسي
يدور سجال بين المتخصّصين والأكاديميين والدبلوماسيين حول إنْ كان ثمة ضرورة لإحداث إصلاح في جسم الخدمة الخارجية، وهي خدمة لا تشمل وزارة الخارجية وحدها، بل عدداً من الوكالات والهيئات الأخرى التي يتّصل عملها ونشاطها بالخارج. هنالك 270 بعثة دبلوماسية أميركية في الخارج، وعدد موظّفيها يقارب ثلاثين ألفاً. إذا أضفنا باقي هيئاتٍ أخرى، سيصل العدد إلى أكثر من سبعين ألف دبلوماسي وموظّف. لقد شهدتْ وزارة الخارجية الأميركية توسّعاً كبيراً، وتكاد تكون لها ممثلية في كلّ بلد في العالم. ولعلَّ أكثر جهود التوسُّع والانتشار قد تمت بيد الإدارات الديمقراطية. من الواضح أن إدارة الجمهوريين تتعامل بحساسية بالغة تجاه مبادرات الإدارات الديمقراطية المتعاقبة كافّة.
لقد اتجهتْ إدارة الرئيس الجمهوري الحالي، ترامب، بقوةٍ إلى إصلاح هياكل وزارة العلاقات الخارجية ومهامها، مدفوعةً بشعارات ابتدعها الرئيس ترامب نفسه، أولها مناداته باستعادة العظمة الأميركية، منطلقاً من هواجس عدائه للإدارة السابقة التي تولّاها الرئيس الديمقراطي السابق جو بايدن.
(2)
في نظر الرئيس ترامب ومشايعيه، تعاني وزارة الخارجية الأميركية تراجع فعّاليتها خلال السنوات الماضية، أو أنّ الديمقراطيين أضاعوا تلك الفعّالية. وذلك ما استدعى ضرورة إصلاح هياكلها ومهامها. كتب أحد كبار محرّري مجلة فورين بوليسي الأميركية، ماثيو كرونيغ، مقالاً (8/8/2025) نقل فيه قولاً لوزير دفاعٍ أميركي سابق شدَّد فيه على ضرورة توفير ميزانية عالية لوزارة الخارجية، وإلا سيكون لزاماً على وزارة الدفاع العمل على توفير المزيد من الذخائر. يقول كرونيغ إن تخفيض عدد الموظفين في وزارة الخارجية لم يتجاوز الثلاثة آلاف من نحو 80 ألفاً، وأشار إلى أن حوالي 25 إدارة تتواصل مباشرة مع الوزير، وذلك يشكّل عبئاً كبيراً على وزير يدير مجلس الأمن القومي وزارة الخارجية معاً، والأمر يتطلّب تقليص بعض المهام، وإلى أنّ الاهتمام بالقضايا الدولية مثل البيئة والمناخ والتنوّع والإدماج حاز قسطاً أكبر من الاهتمام الأساس والرئيس لتطوير العلاقات الثنائية الخارجية، وأن الحاجة للإصلاح باتت واضحةً، وأنّ التوسّع خلال حقب الديمقراطيين كان كبيرا إبّان رئاستَي بيل كلينتون وباراك أوباما، ووصل حجـم موظّفي العلاقات الخارجية العاملة إلى نحو ثمانين ألفاً. قامت وزارة الخارجية الأميركية بتقليص في الوظائف طاولَ ثلاثة آلاف من موظفيها (ودبلوماسييها) في الشهر الماضي. إنْ تولى الوزير الحالي ماركو روبيو إدارة مجلس الأمن القومي، وأيضاً حقيبة الخارجية، فإن ذلك يمنحه ميزة مناسبة لضبط الإيقاع بين أداء الإدارتين، ويُعزِّز الفعّالية، ويعالج الترّهل الوظيفي، عبر تحقيق التوازن بين الإدارتين.
اتجهتْ إدارة ترامب إلى إصلاح هياكل وزارة العلاقات الخارجية ومهامها، مدفوعةً بشعارات ابتدعها الرئيس ترامب نفسه. أولها مناداته باستعادة العظمة الأميركية
(3)
في السجال الدائر حول سياسات التقليص التي تتبعها إدارة ترامب، كتب رئيس اتحاد الخدمة الخارجية الأميركية (AFSA)، جون دينكلمان، رأياً مغايراً، أشار فيه إلى أنَّ ذلك التقليص الذي ألحقته وزارة الخارجية بهياكلها وموظّفيها، هو جرح أحدثته الوزارة بيديها. فقبل نحو شهر تخلّصتْ الوزارة من حوالي ثلاثة آلاف من جملة عناصرها في الخدمة الخارجية البالغ عددهم نحو سبعين ألفاً. ذلك في نظر رئيس اتحاد الخدمة الخارجية الأميركية أضعف فعّالية وزارة الخارجية، خصوصاً بعد أن ظلّتْ العديد من السفارات الأميركية بلا سفراء، وتدار من قائمين بالأعمال. سفارات مهمّة في قارّة خلتْ من سفراء يديرون أعمالها، فيما تواجه الولايات المتحدة اشتباكات حادَّة مع المارد الصيني، وإدارة ترامب تشعل حرباً تجارية تعارضها الصين بشدَّة. نجيل النظر فنرى الرئيس ترامب يبادر إلى إيجاد تسوية توقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، لكن تظلّ السفارة الأميركية في أوكرانيا بلا سفير وتدار بواسطة قائم بالأعمال.
يتواصل السجال ويبقى السؤال: ألا تحتاج البعثات الدبلوماسية الأميركية تعزيز فعّاليتها وتقويتها، أم أن لترامب رأياً آخر؟
(4)
ليس خافياً على من يتابع أوضاع الدبلوماسية الأميركية، أنّ ترامب يراهن على مستشاريه ومبعوثيه الخاصّين، وجلّهم من مشايعيه من رجال الأعمال في الحزب الجمهوري الحاكم. تجد الملياردير ستيف ويتكوف، الخبير في مجالات العقارات، مبعوثاً خاصّاً للرئيس ترامب إلى الشرق الأوسط، وتوم برّاك وهو أيضاً ملياردير في مجال العقارات ويجيد اللغة العربية، عيّنه ترامب مبعوثاً خاصّاً للرئيس إلى سورية ولبنان، أمّا صهر ترامب ومستشاره، رجل الأعمال ذو الأصول اللبنانية مسعد بولس، فصار معنياً بملفّ السودان. هؤلاء كلّهم، وآخرون من المليارديرات والأثرياء، الأقرب بذهنياتهم التجارية إلى ذهنية ترامب في حذق إبرام الصفقات، هم في الدائرة الضيّقة للبيت الأبيض. إلا أن تخفيض القوى العاملة في قطاع العلاقات الخارجية، يترك الدبلوماسية المهنية تترنّح إزاء إعطاء الرئيس ظهره لها. ليس ذلك وحده، فوزير الخارجية ماركو روبيو يُكلَّف رئاسة مجلس الأمن القومي، التي ستكون شغله الشاغل، وهكذا سيُكتب لوزارة الخارجية تراجع أشبه بالتهميش الكامل.
الدبلوماسية الأميركية صارت ملفّاً ساخناً في صراع الحزبَين، بعد أن كانت مؤسّسة مستقرة تحمي المصالح الوطنية
إنَّ تعيينات سياسية من رجالات الحزب الجمهوري في وزارة الدبلوماسية الأميركية، تلقي لوناً من الانحياز الحزبي غير المعهود، الذي قد يلحق ضرراً بطبيعة العمل الدبلوماسي، الذي لا ينبغي أن يتّخذ لوناً حزبياً يناقض المبادئ التي تُلزم الدبلوماسيين بالحياد خدمةً للدولة، وليس لأيِّ حزب سياسي. وهكذا كما نلاحظ، فإنّ الدبلوماسية المهنية تتراجع أمام نوعٍ مِن الدبلوماسية الرئاسية التي يتولّاها دونالد ترامب (ذو التطلّعات غير المحدودة) بنفسه، قاصداً تحقيق شعاره الشعبوي بأن يُعيد للولايات المتحدة عظمتها وعزّتها التي أضاعها الديمقراطيون (بحسب زعمه).
(5)
إنّ دبلوماسيةً طبيعتها قيد تحوّلات رغبوية، من رئيسٍ مثل دونالد ترامب، ستلقي بظلال كثيفة على الأساليب التي يتّبعها الرجلُ إزاء الأزمات الطاحنة التي تدور في أنحاء العالم، فيما هو طامع بالانفراد، مراهناً على إيجاد حلول لها، متجاوزاً بذلك المنظمة الأممية وميثاقها واتفاقياتها، وكلِّ إلزاميتها. لعلّنا لو أحسنّا النظر سنرى الرجل سـاعياً إلى مجدٍ شخصي يحقّقه لنفسه وعينه باتجاه ستوكهولم، علَّه ينال جائزة نوبل للسلام، أمّا أميركا فلتبحث عمّن يعيد لها عظمتها.
في عصرِ الذكاء الاصطناعي، ها نحن ندخل حقبةً عجز فيها المفكّرون والسياسيون والدبلوماسيون عن حلِّ أزمات العالم المتصاعدة، فهل ينجح الذكاء التجاري بعقلية الصفقات والتسويات في تحقيق الأمن والسلم الدوليَّين، فنقول للأمم المتحدة وداعاً؟

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ ساعة واحدة
- العربي الجديد
ترامب: سأخرج في دوريات مع الشرطة والجيش في واشنطن
قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب إنه سيقوم بدوريات في شوارع واشنطن، اليوم الخميس، (بالتوقيت المحلي) برفقة قوات الشرطة والحرس الوطني التي نشرها في العاصمة الأميركية. وأمر ترامب بنشر مئات من عناصر الحرس الوطني في واشنطن الأسبوع الماضي، في إطار ما وصفه بـ"حملة على الجريمة" في المدينة التي يدير الديمقراطيون شؤونها، وذلك رغم أنّ الإحصاءات تظهر انخفاض جرائم العنف. وقال ترامب لقناة "نيوزماكس" اليمينية: "سأخرج الليلة، أعتقد مع الشرطة والجيش بالطبع... سنقوم بعملنا". ويأتي تصريح ترامب غداة استقبال نائبه جي دي فانس باستهجان وبهتافات "الحرية لدي سي" (Free DC)، في إشارة إلى مقاطعة كولومبيا الفيدرالية التي تضم واشنطن، وذلك خلال لقائه القوات المنتشرة في المدينة. وقام فانس ووزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث، أمس الأربعاء، بزيارة القوات في يونيون ستيشن، وهي محطة القطارات المركزية في واشنطن، حتى مع تجمع المتظاهرين في المكان وهتافاتهم وتعليقاتهم الساخرة ضدهما. وحشد الحرس الوطني في العاصمة واشنطن 800 عنصر لهذه المهمة، بينما ترسل الولايات الجمهورية أوهايو ولويزيانا وميسيسيبي وكارولاينا الجنوبية وتينيسي ووست فرجينيا ما مجموعه حوالي 1200 جندي إضافي. وتواجه العاصمة الأميركية اتهامات من جانب الساسة الجمهوريين بأنها تعاني من تفشي الجريمة والتشرّد وسوء الإدارة المالية. غير أنّ بيانات شرطة واشنطن أظهرت انخفاضاً كبيراً في الجرائم العنيفة بين عامي 2023 و2024. وبالإضافة إلى إرسال القوات إلى الشوارع، سعى ترامب إلى السيطرة الكاملة على إدارة شرطة واشنطن المحلية، محاولاً في مرحلة ما تهميش قيادتها. وليست وحدها واشنطن المستهدفة حتى الآن، في اختبار دونالد ترامب لعسكرة الشأن الداخلي. فقد كانت سبقتها في يونيو/حزيران الماضي ولاية كاليفورنيا، التي كان ترامب أمَر بنشر ألفي عنصر من قوات الحرس الوطني في إحدى أكبر مدنها، لوس أنجليس، لاعتقال المهاجرين، وبعد احتجاجات عارمة في المدينة، رفضاً للمداهمات التي تنفذها قوات إدارة الهجرة. تقارير دولية التحديثات الحية دونالد ترامب يُعسكر النظام الداخلي: مطاردات من "هوم ديبو" لواشنطن وسعى دونالد ترامب قبل إكمال عامه الأول، بعد إعادة انتخابه رئيساً لولاية ثانية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، إلى عسكرة حملته التي أطلقها على نظام الهجرة في البلاد، تحت شعار محاربة المهاجرين غير النظاميين، وطرد أكبر عدد ممكن منهم سنوياً. هذه الحملة، التي بدأها ترامب منذ اليوم الأول بعد عودته للبيت الأبيض في 20 يناير/كانون الثاني الماضي، تحمل طابعاً عنصرياً وطبقياً وحزبياً، وهي لا تتوقف عن الاتساع، وباتت تشمل من يصفهم بـ"المجرمين" و"المشتبه فيهم"، والمشرّدين، والعمّال، مع عسكرة لافتة للمجال العام، عبر تهميش الشرطة المحلية، وتضع مؤسسة الشرطة والحرس الوطني ووكلاء الأجهزة الفيدرالية تحت كمّ هائل من الضغط وإعادة صياغة مفهوم جديد للمهمات، والمجتمع الأميركي برّمته في تجربة مختلفة من التعاطي مع هذه الأجهزة. (فرانس برس، العربي الجديد)


القدس العربي
منذ 4 ساعات
- القدس العربي
حين تفرض إسرائيل 'سلامها' على العرب بقوة 'النووي ثلاثي القوائم': ماذا تخفي الصين؟
أمير أورن في التعتيم الأمني الذي يلف إسرائيل في السنوات الأخيرة، تبرز أشعة من الضوء أحياناً؛ تأتي إحداها الآن، وبصورة مشفرة من أماكن بعيدة – من ألاسكا واليابان والصين – بصورة عرضية. نشر معهد أبحاث سلاح الجو الياباني تحليلاً للغز يشغل الخبراء العسكريين في الغرب والشرق الأقصى منذ أن أطلقت الصين في العام الماضي قاذفات لمناورة مشتركة مع طائرات حربية روسية في المجال الجوي المجاور لـ ألاسكا، حتى يشاهدوها ويصوروها. التقدير: أرادت الصين أن تثبت قدرتها على إطلاق قاذفات بعيدة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية. ما أهمية هذا الأمر بالنسبة لها؟ هي بذلك، تنضم إلى نادي القوى الأمريكية الروسية المغلق الذي يمتلك ثلاثة أنظمة نووية استراتيجية: جوية (القاذفات)، وبحرية (غواصات حاملة للصواريخ)، وبرية (مستودعات صواريخ تحت الأرض). في حصولها على قدرة ثلاثية، تستند الدولة العظمى على ردع مضمون من هجوم مفاجئ. لن يجدي العدو إذا ضرب واحدة من الأرجل الثلاثة أو حتى حاول في الوقت نفسه المس بالثانية – لأن الثالثة ستدمره. عندما تكون الدولة عظمى ومزودة بمقعد في مجلس الأمن وباقتصاد قوي، فإنها تحظى بمكانة الدولة العظمى. هذا لا يحصنها من أنواع أخرى من الهجمات، من جانب عدو غير نووي أو لا يخاف من رد محتمل مثل القاعدة في 11 سبتمبر، ولكن في نظام الردع ما بين الدول العظمى ثمة توقيع مهم هنا. ولو كان هذا أقل درجة في ميزان الردع الإقليمي، كما ما بين الهند والباكستان. ترامب بمنحه لنفسه جائزة ترامب للسلام، تبجح بأنه خفف الاشتعال في الجولة الأخيرة ما بين هاتين الدولتين، ومنع حرباً نووية. فعلياً، الردع المتبادل من تصعيد بيوم القيامة هو الذي هدأ اللهب حتى المرة القادمة. حتى الآن، ليس هنالك أي كلمة عن الشرق الأوسط، ولكن ثمة إشارات علنية في الصين تدل على شيء ما خفي عن ردع استراتيجي لإسرائيل: هي موجودة في النادي، العضوة الرابعة في العالم، هذا إذا صدقنا المنشورات الأجنبية، التي بعضها إعلامي أو بحثي وبعضها رسمي مثل تقارير الإدارة الأمريكية للكونغرس ووثائق سرية سابقة تم رفع السرية عنها. حتى الآن، أكثر العالم من التخمين بأن إسرائيل بنت منذ سنوات الستينيات، الحامل الثلاثي القوائم للردع، قائمة بعد قائمة. وقيل بأنها زُودت بصواريخ تم تطويرها في فرنسا، وتم تغيير اسمها وأخذت اسمها العبري الجميل 'يريحو'، وزُرعت تحت أرضية قواعد، وتنتظر حرب يأجوج الإسلامي ضد مأجوج اليهودي. من المعتاد تشخيص موقعها عادة باسم 'حقول الآلهة'، لدرجة أن أحد رواد الأعمال النشطين أو ربما أحد المواطنين الذين لديهم هواية صناعة أغطية رأس، أنتج قبعات تحمل اسم القاعدة ورمزها. فيما بعد، تم شراء غواصات من ألمانيا تعتبر 'استراتيجية'. ما الذي تحمله بالضبط، عندما تُخبأ في الأعماق. يحظر معرفة هذا. عندما كشفت لجنة غرونس المكلفة بالتحقيق في قضية شراء السفن، عن جوهر السر، توترت أعصاب المسؤول عن الأمن في المؤسسة الأمنية، الذي هو ضابط الأمن المسؤول عن هذا السر المطلق. هذا بحد ذاته يصنف الغواصات بضبابية، تلك الاختراع الإسرائيلي من عهد بن غوريون وأشكول وبيرس المتمثلة في نعم/لا، مع/بدون، يوجد/لا يوجد. لا يؤكدون، حتى لا يدفعوا ثمن الاعتراف، ولا ينفون حتى يظل الشك يعتلج نفوسهم ويذكر المتآمرين بما يخاطرون به. لو كلف معهد الأبحاث الياباني نفسه، بعد دراسة المسألة الصينية، عناء تحليل عملية الجيش الإسرائيلي ضد إيران قبل شهرين، لوصل إلى نتيجة مشابهة: بفضل سلاح الجو، نرى أن للردع الاستراتيجي قدماً ثالثة في الجو. إذا كان هذا صحيحاً، فإن حفنة من القادة والمخططين في العقدين الأخيرين يستحقون الثناء الكبير على رؤيتهم الثاقبة، وتجميد الموارد، وتنفيذ عملية الانطلاق نحو الكمال. وهذا لا يغطي على أخطاء وإخفاقات أولئك الأشخاص أو زملائهم الذين تم صبهم في قالبهم، من المهني وحتى الأخلاقي، والذين ينتمون إلى نقاش آخر، آني جداً. من المسموح الفصل بينهم. منذ بداية الألفية الحالية، أصر سلاح الجو على استثمار الأموال للاهتمام بطائرة الجيل الخامس لمن الطائرات النفاثة في المنظومة الحربية. تجسد الجيل الأول بطائرة 'الميستير'، والجيل الثاني 'الميراج'، أما الثالث والرابع فكانت أمريكية وهي 'الفانتوم' ثم تلتها اف 15 – 16 (ومن الجيد أن توقف جنون العظمة في صنع طائرة 'لفي'، المحلية فهي ليست الأكثر تطوراً. الجيل الخامس هو الطائرة الهجومية التي سيتم الحديث عنها لاحقاً. هي غالية الثمن، وكانت تدعو للتردد في البداية، ومبنية على شراكة مع حلفاء. سلاح الجو شجع الحكومات على المخاطرة والانضمام، لأن الوضع بدون طائرة كهذه سيكون أخطر، ولا يعود ذلك لرغبة الدول العربية المعتدلة والثرية بامتلاكها إلى جانب عجز واشنطن عن مقاومة الإغراء. فبضغط من القيادة الجوية، تم إقناع هيئة الأركان والحكومة، طوال سنوات وفي ظل خلافات حول عدد الأسراب، بتخصيص جزء كبير من المساعدة الأمريكية لتمويل الطائرة التي تحول اسمها إلى 'أدير'. وتم إبراز خصائصها كحاسوب طائر يغذي بياناته بطائرات أقل جودة ولوحدات إطلاق نار بحراً وبراً، وكطائرة شبح متملصة قادرة على التسلل إلى أهدافها دون أن كشفها أو يتم إسقاطها. بموازاة التسلح، يبني سلاح الجو قوته التنظيمية والبشرية بصورة ممنهجة. قبل تسع سنوات، وقف المقدم سيغلر بتواضع إلى جانب كبار الشخصيات السياسية والعسكرية في حفل تدشين أول طائرة 'أدير' لمصنع 'لوكهيد مارتن' في فورت وورث، تكساس. كان سغلر آنذاك رئيساً للفريق الذي أسس أول سرب لطائرة 'أدير'، وعين قائداً للسرب، ثم تمت ترقيته إلى رتبة عميد وكقائد لقاعدة 'نفاتيم'. في الشهر الماضي، وبعد إيران، أنهى وظيفته هناك، ورشح لرئاسة مجموعة العمليات الجوية، رقم 3 في سلاح الجو، وتعد هذه مرحلة في سلم المنافسة على القيادة بعد قائد سلاح الجو القادم عومر تشلر، رئيس الهيئة التي من المتوقع أن يتولى قيادة السلاح خلفاً لتومر بار. ليس هنالك ما يضمن ذلك، ولكن يبدو أن سغلر سيقود سلاح الجو في السنوات القادمة بعد تومر وعومر. من هنا ينبع أن التهديدات التي يوجهها السياسيون للجمهور لتبرير تمسكهم بالسلطة، مبالغ بها إلى حد كبير. فالسابع من أكتوبر شيء، لكنه ليس بشيء يجب أن نخافه، لأننا نملك ردعاً استراتيجياً أعلى يحمل في طياته طمأنينة. بهذا المعنى، لا يمكن الاستهانة بقيمة التقارير الخارجية. إسرائيل هي القوة العظمى الرابعة في العالم، وتستند على حامل ثلاثي القوائم. إنها قوية لدرجة أن تثبيت مكانتها في المنطقة، بل أبعد من ذلك، من خلال اتفاقيات سلام آمن مع جيرانها. هآرتس 21/8/2025


القدس العربي
منذ 8 ساعات
- القدس العربي
فورين بوليسي: لم يتغير أي شيء من عقيدة ألمانيا تجاه إسرائيل فقط تشديد بالنبرة
لندن ـ 'القدس العربي': نشرت مجلة 'فورين بوليسي' مقالا لجون كامبفنر، مؤلف كتاب 'لماذا تعملها المانيا بطريقة أفضل: ملاحظات حول نشوئي في البلد'، قال فيه إن المستشار الألماني فريدريش ميرتس صعّد من نبرته ضد إسرائيل لكن لم يتغير أي شيء في عقيدة المانيا تجاه الدولة اليهودية. وأشار إلى إن السنوات الأخيرة القليلة تشترط ألمانيا لمن يريد الحصول على جنسيتها أن يعترف صراحة بحق إسرائيل في الوجود. وأن هذا واحد من عدة أسئلة متعلقة بإسرائيل في نموذج طلب الجنسية، ولا توجد إجابات متعددة الخيارات تدعو إلى اختيار متنوع. وأكد الكاتب على فهذه هي ثقافة الذاكرة التي تهيمن على تفكير ألمانيا بشأن الماضي وتملي سياساتها الحالية. ولطالما كانت هي منطقة محفوفة بالمخاطر. وأنه منذ هجمات حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وتدمير غزة تقريبا الذي ردت عليه إسرائيل بطريقة انتقامية، هيمنت هذه الثقافة على الحياة العامة الألمانية. والآن، مع استعداد إسرائيل لهجوم مباشر جديد وشامل على غزة، ومع انتقادات أوروبا الحادة أكثر من أي وقت مضى منذ سنوات، يواجه المستشار الجديد اختبار قوة. ولفت الكاتب إلى انه في الأشهر القليلة الماضية، اصطدمت أو تلاقت عدة أمور: الهولوكوست ومعاداة السامية ودولة إسرائيل، وتصرفات نظام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اليميني المتطرف. وقد سعت الحكومات الألمانية المتعاقبة إلى ربط كل ما سبق ذكره وتفكيكه في آن واحد. ويقول النقاد، وهم كثر، بمن فيهم الجالية اليهودية في ألمانيا إن هناك تكميم للنقد المشروع لإسرائيل. وهناك أدلة كثيرة على ذلك، منها عدم دعوة مؤلفين إلى معرض فرانكفورت للكتاب (أحد أعرق معارض الكتاب في العالم) وسحب تمويل المنظمات الثقافية واعتقال المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين. ويقول الكاتب: 'لقد شهدت غرابة الموقف مرات عديدة. في مناسبات عديدة، سواء كانت اجتماعية أو مهنية، وبخني محاورون ألمان على 'عدم إظهار دعم كاف لإسرائيل'. وكان ردي المعتاد، إلى جانب التشكيك في أدلتهم، هو السؤال عما إذا كان لأي منهم أسلاف، مثلي، ماتوا في معسكرات الاعتقال النازية؟ عادة ما يسود صمت محرج، ثم أطلب منهم عدم طرح مثل هذه المواضيع عليَّ مستقبلا. وأصف أسلوبهم بأنه تلميح إلى الفضيلة المثقلة بعقدة الذنب'. ويعلق كامبفنر قائلا إن هذا النقاش مختزل ومثقل بالخوف، و'كثير من البرلينيين الذين أعرفهم يترددون في الخوض في هذا النقاش خوفا من العواقب. وعندما يفعلون، أسمع تعليقات مثل 'الفلسطينيون مسؤولون عن محنتهم، كان بإمكانهم طرد حماس منذ زمن بعيد'، وأسمع من سياسيين ألمان كبار، ومن آخرين ممن يتساءلون عما إذا كانت صور الأطفال الجائعين في غزة مفبركة. فيما تضخم بعض وسائل الإعلام الألمانية (عادة، ولكن ليس دائما، على اليمين) هذه الآراء، ثم يعيد السياسيون الإسرائيليون تضخيمها، مستشهدين بها كإثبات لموقفهم'. ويرى الكاتب أن جذر المعضلة الحالية هو خطاب ألقته المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل أمام الكنيست الإسرائيلي في عام 2008 وقالت فيه إن الدفاع عن إسرائيل هو دفاع عن الدولة الألمانية. وأن ألمانيا ستدعم إسرائيل مهما كلف الأمر. وأصبح هذا هو الموقف السائد حتى الأزمة الحالية. ومع هجوم حماس قالت وزيرة الخارجية الألمانية السابقة أنالينا بيربوك أثناء زيارة لها لإسرائيل بعد الهجمات: 'في هذه الأيام، كلنا إسرائيليون'. ورفعت أعلام أوكرانيا أمام المباني الحكومية، وانضمت إليها أعلام إسرائيلية، تعبيرا عن دولتين متحدتين على ما يبدو في شعور مشترك بالخطر في مواجهة أعداء أشرار. وهكذا استمر الوضع، حيث أبدت ألمانيا دعمها الثابت حتى في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تقصف غزة بشكل متكرر، وحتى في الوقت الذي يهاجم فيه المستوطنون الإسرائيليون الفلسطينيين في الضفة الغربية تحت أنظار القوات الإسرائيلية المتعاطفة. وفي الفترة التي سبقت الانتخابات الألمانية في شباط/فبراير الماضي، أشار ميرتس إلى أنه سيدعو نتنياهو إلى برلين، وفي تحد لمذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي، سيجد 'السبل والوسائل التي تمكنه من زيارة ألمانيا، وتمكينه من المغادرة دون أن يعتقل'. ولم يف ميرتس بوعده بعد انتخابه كمستشار، وتدهورت العلاقات بين ألمانيا وإسرائيل تدريجيا. وقد أثارت سلسلة من المكالمات الهاتفية الحادة مع نتنياهو، أحيانا بمفرده، وأحيانا بمشاركة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، شعورا متزايدا بالإحباط لدى ميرتس. وقد أطلق ميرتس سلسلة من التصريحات تختلف في حدتها بدرجة أو درجتين. ورغم أن مجموعة الدول الأوروبية الثلاث، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، تنسق سياساتها تجاه أوكرانيا بشكل شبه يومي، إلا أن ميرتس فوجئ بإعلاني ماكرون وستارمر عزمهما الاعتراف رسميا بدولة فلسطينية في أيلول/سبتمبر. وقد أوضح أن ألمانيا لن تحذو حذوهما. ومع ذلك، يعتبر تصريحه الأخير بأن ألمانيا 'لن تأذن بتصدير أي معدات عسكرية يمكن استخدامها في قطاع غزة حتى إشعار آخر' الخطوة الأهم منذ فترة. وقد أخر ميرتس عطلته الصيفية لإعداد البيان على عجل، وتبين أنه لم تتم استشارة أي شخصيات رئيسية تقريبا، باستثناء وزير الخارجية يوهان فادفول. ويؤكد الكاتب على أن القرار لن يكون له أي تأثير يذكر على أرض الواقع، حيث توقف المستشار السابق، أولاف شولتز، وحكومته بهدوء عن تزويد إسرائيل بالأسلحة التي قد تستخدم في غزة في عام 2024، إلا أنه كان محمل بالكثير من الدلالات. وقد تبع القرار انتقادات قوية من أطراف في الحزب الحاكم، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وأطراف من وسائل الإعلام، شملت صحيفتي 'بيلد' و'دي فيلت' المؤثرتين التابعتين لدار نشر اليكس سبرينغر اليمينية القوية. ويتساءل الكاتب إن كان هذا إظهارا للقيادة الحاسمة أم التهور الذي اشتهر به ميرتس؟ ويجيب أنه في مقابلة تم ترتيبها على عجل والتي جرت بعد يومين من تصريحه بشأن صادرات الأسلحة، أصر ميرتس على أن أساسيات العلاقة بين البلدين لم تتغير. وقال: 'لقد وقفت ألمانيا بثبات إلى جانب إسرائيل لمدة 80 عاما، وهذا لن يتغير'. ومع ذلك، فقد شدد على قراره، قائلا إن أي تقدم شامل في مدينة غزة سيتسبب في سقوط عدد لا يحصى من الضحايا. و 'أين يفترض أن يذهب هؤلاء الناس؟ لا نستطيع فعل ذلك، ولن نفعله، ولن أفعله أنا أيضا'. ويقول الكاتب إن المهمة التي يواجهها ميرتس هي نفسها التي لاحقت كلا من ميركل وشولتز وهي: كيف توفق ألمانيا بين الذاكرة الثقافية والحاضر؟ أو، بعبارة أخرى، متى تصبح سياسة ألمانيا تجاه إسرائيل أكثر موضوعية، دون خوف أو محاباة، وبدون تجاوز الماضي؟ وهذا نقاش تشارك فيه أصوات من الجامعات ومراكز الفكر، لكن الحماس نادرا ما يقود إلى وضوح، بل إن بعض وسائل الإعلام تدير نقاشا كهذا، وكذلك بعض السياسيين. وحتى يقود النقاش إلى نتيجة، يجب أن يتم ذلك بثقة أكبر من مجرد طمأنة النفس. لأنه إن لم يحدث، فإن الفجوة بين الرأي العام و'فقاعة برلين' ستتسع أكثر. وقد أظهر استطلاع رأي حديث أجرته مؤسسة بيرتلسمان أن 36% فقط من الألمان ينظرون إلى إسرائيل بإيجابية. هل يشير هذا إلى معاداة سامية ناشئة أم إلى تقييم واضح لأفعال الحكومة الإسرائيلية والمتطرفين الذين يدعمونها؟ كما أنه لا فرنسا ولا بريطانيا في وضع أفضل بكثير. فقد أدى قرار حكومة ستارمر بحظر 'بالستاين أكشن'، وهي شبكة عمل سياسي مباشر، إلى مشاهد غريبة لاعتقال عشرات المتقاعدين البريطانيين بموجب قانون الإرهاب. ووفق الكاتب يبدو الخطاب العام، وإن كان محدودا أيضا، أكثر حيوية في تلك البلدان منه في ألمانيا. ويكمن الخطر في كل مكان في أوروبا، وبخاصة في ألمانيا، في أن رفض الانخراط بقوة أكبر في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني سيترك فجوة أكبر تستغلها القوى الخبيثة. ويستخدم اليمين المتطرف الألماني هذه القضية كوسيلة لإثارة الفتنة الاجتماعية ووصم المهاجرين المسلمين بمعاداة السامية وخطورتهم. وفي الوقت نفسه، يغذي رفض السماح بنقاش أكثر جدية موجة جديدة من معاداة السامية. وفي النهاية، لن تكون ألمانيا في الجانب الصحيح من التاريخ إلا بإظهار دعمها لإسرائيل المستعدة للانخراط الجاد في محادثات السلام. وللأسف، لا يبدو أي من هذين العنصرين واقعيا حتى الآن.