
هل تحتاج الإصلاحات النقدية إلى حفلة زجل؟
وقد غدا هذا النمط مألوفاً في الملفات الاقتصادية؛ فبعد أن تحوّلت معالجة الفجوة المالية إلى "رديات" بين فريق يريد تحميل الخسائر للدولة وآخر يسعى لتحميلها للمصارف، ماذا كانت النتيجة؟ خمس سنوات من التمييع، وحرمان المواطن من القدرة على الاقتراض، وانهيار الإنتاج المحلي. وكذلك ضاع قانون "الكابيتال كونترول" (الضوابط على رأس المال) في أروقة اللجان ودهاليز الزجل، فهرّبت المليارات وبقي المودع الصغير سجين أمواله المحتجزة. وقد تحوّلت سياسة الدعم بدورها إلى جدل استعراضيّ استنزف الاحتياطيّ على مدى عامين، وأُذِلَّ الناس في طوابير طويلة وأُغرِق الاقتصاد في مستنقع التهريب والفوضى... ولم يَخْبُ صوت هذا الزجل إلا بعد أن فقدت المليارات.
واليوم، يعود إلى الواجهة طرح فكرة إنشاء مجلس النقد (Currency Board)، لا سيما بعد التحوّل الملحوظ في موقف صندوق النقد الدوليّ (IMF) الذي اصبح منفتحاً على هذا الإصلاح. وهو طرح لم يدخل بعد ملعب الزجل السياسي، ولعلّه لهذا السبب بالذات يبدو المرشّح الأبرز ليكون الإصلاح الوحيد القابل للتطبيق بصيغته الأصلية؛ فهو إصلاح علميّ ثابت الأركان وواضح المعالم... إصلاح لا يُسَلَّم إلى لجنة ولا يُمَدَّد على سرير المحاصصة.
ويُعتبَر مجلس النقد أداة تقنية صارمة تربط قيمة الليرة بالدولار عند سعر صرف ثابت من خلال توفير تغطية كاملة بنسبة 100في المئة من احتياطيات النقد الأجنبي. وهي آلية من شأنها أن تعزّز استقلالية المصرف المركزيّ عبر منحه القدرة على رفض طلبات إقراض الحكومة بالليرة أو بالدولار، كما وتحمي مصرف لبنان من الانزلاق إلى فخّ "بونزي" جديد. وفي بلد تسود فيه الدولرة وتنعدم فيه الثقة بالعملة الوطنية، يحرر هذا النوع من الربط النقديّ الصارم الحاكم من عبء الدفاع اليوميّ عن سعر الصرف، فيتفرّغ للتركيز على المهام الملحة كمراقبة تطبيق قوانين مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، والإشراف الفعّال على المصارف، كالآتي:
١- انعاش القطاع المصرفي: يحفّز الاستقرار النقديّ، المستند إلى قواعد واضحةً ومثبّتةً بقانون على تدفّق رؤوس أموال المغتربين إلى لبنان بهدف استثمارها في الأصول المحلية التي تصبح أسعارها مغريةً وجاذبةً، مع تراجع مخاطر تقلّبات أسعار الصرف. ويعني ذلك بدوره زيادة قيمة الموجودات وتقليص حجم الخسائر وإنعاش القطاع المصرفي، الأمر الذي يقلّص من حجم الأزمة المصرفية ويزيد من عدد المصارف القادرة على الاستمرار، فيما يخفّض بشكل كبير عدد المصارف التي تستدعي التصفية.
2- الرقابة على سوق الصرف: يُنهي مجلس النقد هيمنة شبكة من الصرّافين المشبوهين على سوق القطع الأجنبي ويُعيد عمليات الصرافة إلى المصارف تحت رقابة المصرف المركزي. وتكون النتيجة هي تضييق هامش المناورة أمام المُشتبه بتورطهم في غسل الأموال أو تمويل الإرهاب وضبط حركة السيولة بشكل أكثر فعالية.
3- تعزيز الشفافية: يُتيح مجلس النقد إعادة الأموال النظيفة المكتنزة في المنازل إلى النظام المصرفي، ويُصعّب في المقابل على الأموال المشبوهة التخفّي وراء التعاملات النقدية، ما يُحسّن فرص لبنان في الخروج من "القائمة الرمادية" وتطوير علاقاته مع المصارف المراسلة.
4- الوقاية من الخضات: يسمح مجلس النقد للنظام النقدي والمالي بالإبحار عبر المياه المضطربة والأمواج العاتية الناتجة عن الصدمات المتتالية على الأصعدة الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، بفضل ما يوفِّره من استقرار في سعر الصرف، وهو ما يمنح الحاكم الاستقلالية اللازمة لتنفيذ الإصلاحات الأخرى.
ولعلّ حاكم المصرف المركزي كريم سعيد أشبه بربّان استلم الدفّة بعد أن غرقت السفينة، وهو كالمؤلف الذي يستهلّ الفصل الأول من ملحمة النهضة الاقتصادية. فإما أن يستهلّ هذا الفصل بجملة تأسيسيّة قويّة تغيّر اللحن السائد وإمّا أن يقع في الدهاليز ذاتها التي سقط فيها أسلافه. ففي الأرجنتين على سبيل المثال، طُرِح إنشاء مجلس النقد في بادئ الأمر، لكن الموضوع سرعان ما تحول إلى مادّة لحفلات الزجل المحلي، وكان كل طرف عنده رأي لا بد من احترامه. هكذا كانت المحصّلة أن انتهى بهم المطاف إلى عدم اعتماد مجلس النقد والاتفاق على نظام هجين اسمه "نظام القابلية للتحويل" Convertibility system يجيز، على عكس مجلس النقد الصارم، استعمال الاحتياطي لتمويل الحكومة. وبهذا طارت التغطية النقدية للبيزو، وضاعت استقلالية السلطات النقدية في مهب الريح، بسبب محاولات إرضاء جميع الأطراف، ولم تُعالَج المشكلة النقدية في الأرجنتين بل تفاقمت. وعلى النقيض من التجربة الأرجنتينية، تبنّت هون كونغ وإستونيا ولتوانيا وغيرها من البلدان مجلس النقد قاعدةً ثابتةً غير قابلة للتحول أو التعديل وفق وآراء شعراء الزجل، وهو ما أدى إلى نجاح تجاربها في الخروج من أزمات مشابهة لأزمة لبنان.
أمّا في لبنان، فيبدو أنّ كل إصلاح يبدأ كأنه مشروع دولة وينتهي كأنه حفلة زجل لا تخلو من مديح وهجاء وتختتم بنهاية مفتوحة. وترتفع الأصوات وتُرفع الجلسات وتُؤجَّل إلى حين "نضوج التوافق" فيتعطل الحل لسنوات طوال. وإذا كانت آلة الزجل السياسي تسعى اليوم إلى تضخيم التباينات بين ركني الإصلاح المنشود بهدف إطالة أمد الشلل والتعطيل والفراغ، فإن السبيل الوحيد للنجاة يكمن في إجراء إصلاحات هيكلية حقيقية، وهو ما يستدعي عملًا دؤوباً مع خبراء دوليين طبقوا هذه الإصلاحات بنجاح في دول أخرى وتنفيذها بعزيمة وإصرار ودقة؛ فهذا هو الطريق الذي سيقود البلاد نحو شاطئ الأمان والازدهار. وإذا لم يكن ثمّة بدّ من مشاورات محلية حول مجلس النقد، فلتنحصر في كيفية تسويق القانون وآليات تنفيذه، ولتترك صياغته الفنية ودراسة جدواه لأفضل الخبراء الدوليين، لا لفرق الزجل المحلية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

القناة الثالثة والعشرون
منذ ساعة واحدة
- القناة الثالثة والعشرون
سلام يستقبل ظهر غد وزير الداخلية الكويتي
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب... انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب... يستقبل رئيس مجلس الوزراء نواف سلام، عند الساعة الثانية عشرة ظهرا في السرايا، النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية في دولة الكويت الشيخ فهد يوسف سعود الصباح. انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة. انضم الآن شاركنا رأيك في التعليقات تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News


الديار
منذ يوم واحد
- الديار
ليكن عون قائدًا للمسيحيين والمسلمين
اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب لا من باب التملق، ولم نكن يومًا قهرمانة لأحد. وسط هذه الفوضى السياسية والطائفية، الأكثر خطرا من الحرب التوراتية، وانما من باب الضرورة القصوى لبقاء لبنان، ليكن الرئيس جوزف عون الذي أثبت، بمقاربته العقلانية لكل المسائل الحساسة التي تهدد بالتفجير الداخلي، أو بالتفجير الخارجي، قائدًا للمسيحيين، وللمسلمين، بعدما لاحظنا أن زعيماً مسيحيا شكك، على احدى الشاشات (ولم تكن هفوة فرويدية) بقيادته لأنه بعيد عن لغة التأجيج الغرائزي، وهي اللغة القاتلة للبنان. ثمة مذيعة سألت النائب التغييري (لاحظوا البعد الكاريكاتوري للمصطلح) ميشال الدويهي "كثيرًا ما ألمح السيد حسن نصرالله الى مسألة المثالثة. ما رأيك؟". سعادة النائب تبنى ميكانيكيا كلام المذيعة، واستفاض في اتهام "حزب الله" الذي ليس سلاحه فقط يشكل خطرًا على الوجود اللبناني، وانما خطته الخاصة بتعديل الصيغة الدستورية، أي من المناصفة الى المثالثة بين المسيحيين والسنّة والشيعة. تلك ثقة، ما من مرّة ألمح السيد الى هذه المسألة. التقيناه مرات، مثلما التقينا الشيخ نعيم قاسم. كان الكلام دوما حول تفعيل الدور المسيحي، كون وجود الدولة اللبنانية، ومن قصر فرساي الى قصر الصنوبر، يرتبط بالوجود المسيحي، ليبدو غريبا أن تأخذ الحملة على "حزب الله" هذا المنحى الطائفي المدمر، ليتقاطع ذلك مع السياسات النازية التي ينتهجها بنيامين نتنياهو. هنا نشير الى لقاء مع الأمين العام السابق للحزب والذي قال فيه، وبالحرف الواحد، "ان الوجود المسيحي في لبنان هو وجود مقدس!". مثلما هذه القناعة كانت راسخة في الوجدان السياسي، وحتى الوجدان العقائدي، للسيد نصرالله، هي القناعة الراسخة لدى الرئيس نبيه بري الذي يدعو الى تطبيق المادة 95 من الدستور، بالغاء الطائفية السياسية، والشيخ نعيم قاسم الذي يؤكد على التفاعل الخلاق ـ لا على الانغلاق ـ بين الطوائف، لنتوقف عند بعض القوى السياسية، وفي اطار الزبائنية اياها، وهي تقوم بتسويق موضوع المثالثة الذي لم يخطر في بال أحد، من قيادة حركة "أمل" والى قيادة "حزب الله". لبنان ولد بأيد مسيحية، ويفترض أن يقوم دور القادة المسيحيين، على حماية لبنان، لا على الرهانات الراعبة، حينا على بنيامين نتنياهو، وحينا على أحمد الشرع، والاثنان يوجدان في خندق واحد، وفي مسار واحد. وقد لاحظنا أن ما من شخصية سياسية، أو حزبية، تشارك في الحرب الضروس ضد "حزب الله"، تتطرق الى الظاهرة الهتلرية التي يمثلها رئيس الحكومة الاسرائيلية، كما لو الطوفان الدموي الذي يحيط بنا، ويهدد وجودنا، يحدث على كوكب آخر. وهذه نظرية أنور السادات "اتركوا الصراع مع اسرائيل الى زمن آخر"، ليمضي المسار العربي العام، والى أجل آخر، على الايقاع الاسرائيلي. ميشال شيحا، فيلسوف القومية اللبنانية، هو من تحدث عن الاعتلال الايديولوجي في الدولة العبرية، وحيث الاقامة داخل الغيتو لا يختلف في حال عن الاقامة في الهولوكوست، ليشكل لبنان النموذج النقيض، بالتفاعل الخلاق بين الأديان، وبين الثقافات. من هنا النظرة الاسرائيلية الحمراء الى لبنان. كلنا على رقعة الشطرنج. هذا خيارنا. لا شك أن "حرب الاسناد" التي حكي الكثير فيها عن الظروف الملتبسة، وعن الرؤى الملتبسة، أدت الى تلك السلسلة من الكوارث التي لم تتوقف حتى الآن، لكنها من ناحية ثانية كشفت عن مدى الاختراق الاسرائيلي للبنان، تماما مثلما كشفت الاختراق الاسرائيلي، والذي يفوق التصور، لايران. هذا لا يعني، بطبيعة الحال، الوقوف داخل الكارثة، أو الدوران حولها، حتى وإن كانت الجبهة الداخلية اللبنانية على ذلك المستوى من الهشاشة بفعل الصراع العبثي بين الطوائف. ولكن ألا يبدو الوضع كما لو أنه "الرقص على خيوط العنكبوت" كما يقول الفرنسيون عن سياسات رئيسهم ايمانويل ماكرون؟ المشكلة في أننا لا نعي في اي حالة نحن الآن. كل التركيز على تجريد "حزب الله" ليس فقط من رصيده العسكري، كحركة مقاومة تمكنت، بدماء أبنائها من دحر البربرية ان في جنوب البلاد، أو على السفوح الشرقية، وانما من رصيده السياسي، مع التوقف عند اشارة المبعوث الأميركي توماس براك الى "الحزب السياسي". الآن، وضع لبنان أكثر من أن يكون دراميا حين تحل المقاربات الغرائزية للمشهد محل المقاربات المنطقية، وحيث البحث في الظل ليس فقط حول اعادة تركيب الخرائط، بل واعادة صناعة الصيغ التي تتلاءم والطموحات الاسرائيلية. واذا كان زعيم دولة عربية قد التقط مصطلح "الهلال الشيعي"، ومن حدود الصين الى ضفاف المتوسط لتسويقه على ذلك النحو الذي يوجه الاهتمام بعيدا عن القضية المركزية للعرب، يحذر حتى المؤرخ الاسرائيلي آفي شلايم من أن يتجاوز بنيامين نتنياهو أمكانات الدولة، ويسقط في جاذبية "الهلال اليهودي" الذي دعا اليه القس الأميركي جون هاغي، رئيس منظمة "مسيحيون من أجل اسرائيل"، ليلاحظ شلايم أن كل الأباطرة سقطوا عند أبواب التاريخ لأنهم لم يفقهوا قط المسار المتعرج للأزمنة. لنعد الى قول الشاعر التركي ناظم حكمت "يا الهي ... الى اين يمضي بنا هذا الشراع الذي بمِائة سارية. هذا وضعنا، واننا لضائعون...".


النهار
منذ 2 أيام
- النهار
هل تحتاج الإصلاحات النقدية إلى حفلة زجل؟
في بلد يستقطب الخلاف في الرأي استقطاب الشواطئ لروّادها، لا يكاد يلوح في الأفق أيّ تباين بين رئيس الجمهورية جوزف عون ورئيس الحكومة نواف سلام حول تعيينات إدارية أو صلاحيات هيئة ما، حتى تتحوّل المسألة على الفور إلى حفلة زجل يغذّيها المصطادون في الماء العكر، بتضخيمٍ طائفيّ وانفعاليّ ممنهج. والغاية من ذلك واضحة: دقّ إسفين بين ركني الإصلاح، وتفريغ أيّ خطوة تتّخذ نحو التعافي من مضمونها، بغية الإبقاء على الاقتصاد رهينة الزبائنية، وعلى الليرة رهينة حالة اللاقرار. وقد غدا هذا النمط مألوفاً في الملفات الاقتصادية؛ فبعد أن تحوّلت معالجة الفجوة المالية إلى "رديات" بين فريق يريد تحميل الخسائر للدولة وآخر يسعى لتحميلها للمصارف، ماذا كانت النتيجة؟ خمس سنوات من التمييع، وحرمان المواطن من القدرة على الاقتراض، وانهيار الإنتاج المحلي. وكذلك ضاع قانون "الكابيتال كونترول" (الضوابط على رأس المال) في أروقة اللجان ودهاليز الزجل، فهرّبت المليارات وبقي المودع الصغير سجين أمواله المحتجزة. وقد تحوّلت سياسة الدعم بدورها إلى جدل استعراضيّ استنزف الاحتياطيّ على مدى عامين، وأُذِلَّ الناس في طوابير طويلة وأُغرِق الاقتصاد في مستنقع التهريب والفوضى... ولم يَخْبُ صوت هذا الزجل إلا بعد أن فقدت المليارات. واليوم، يعود إلى الواجهة طرح فكرة إنشاء مجلس النقد (Currency Board)، لا سيما بعد التحوّل الملحوظ في موقف صندوق النقد الدوليّ (IMF) الذي اصبح منفتحاً على هذا الإصلاح. وهو طرح لم يدخل بعد ملعب الزجل السياسي، ولعلّه لهذا السبب بالذات يبدو المرشّح الأبرز ليكون الإصلاح الوحيد القابل للتطبيق بصيغته الأصلية؛ فهو إصلاح علميّ ثابت الأركان وواضح المعالم... إصلاح لا يُسَلَّم إلى لجنة ولا يُمَدَّد على سرير المحاصصة. ويُعتبَر مجلس النقد أداة تقنية صارمة تربط قيمة الليرة بالدولار عند سعر صرف ثابت من خلال توفير تغطية كاملة بنسبة 100في المئة من احتياطيات النقد الأجنبي. وهي آلية من شأنها أن تعزّز استقلالية المصرف المركزيّ عبر منحه القدرة على رفض طلبات إقراض الحكومة بالليرة أو بالدولار، كما وتحمي مصرف لبنان من الانزلاق إلى فخّ "بونزي" جديد. وفي بلد تسود فيه الدولرة وتنعدم فيه الثقة بالعملة الوطنية، يحرر هذا النوع من الربط النقديّ الصارم الحاكم من عبء الدفاع اليوميّ عن سعر الصرف، فيتفرّغ للتركيز على المهام الملحة كمراقبة تطبيق قوانين مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، والإشراف الفعّال على المصارف، كالآتي: ١- انعاش القطاع المصرفي: يحفّز الاستقرار النقديّ، المستند إلى قواعد واضحةً ومثبّتةً بقانون على تدفّق رؤوس أموال المغتربين إلى لبنان بهدف استثمارها في الأصول المحلية التي تصبح أسعارها مغريةً وجاذبةً، مع تراجع مخاطر تقلّبات أسعار الصرف. ويعني ذلك بدوره زيادة قيمة الموجودات وتقليص حجم الخسائر وإنعاش القطاع المصرفي، الأمر الذي يقلّص من حجم الأزمة المصرفية ويزيد من عدد المصارف القادرة على الاستمرار، فيما يخفّض بشكل كبير عدد المصارف التي تستدعي التصفية. 2- الرقابة على سوق الصرف: يُنهي مجلس النقد هيمنة شبكة من الصرّافين المشبوهين على سوق القطع الأجنبي ويُعيد عمليات الصرافة إلى المصارف تحت رقابة المصرف المركزي. وتكون النتيجة هي تضييق هامش المناورة أمام المُشتبه بتورطهم في غسل الأموال أو تمويل الإرهاب وضبط حركة السيولة بشكل أكثر فعالية. 3- تعزيز الشفافية: يُتيح مجلس النقد إعادة الأموال النظيفة المكتنزة في المنازل إلى النظام المصرفي، ويُصعّب في المقابل على الأموال المشبوهة التخفّي وراء التعاملات النقدية، ما يُحسّن فرص لبنان في الخروج من "القائمة الرمادية" وتطوير علاقاته مع المصارف المراسلة. 4- الوقاية من الخضات: يسمح مجلس النقد للنظام النقدي والمالي بالإبحار عبر المياه المضطربة والأمواج العاتية الناتجة عن الصدمات المتتالية على الأصعدة الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، بفضل ما يوفِّره من استقرار في سعر الصرف، وهو ما يمنح الحاكم الاستقلالية اللازمة لتنفيذ الإصلاحات الأخرى. ولعلّ حاكم المصرف المركزي كريم سعيد أشبه بربّان استلم الدفّة بعد أن غرقت السفينة، وهو كالمؤلف الذي يستهلّ الفصل الأول من ملحمة النهضة الاقتصادية. فإما أن يستهلّ هذا الفصل بجملة تأسيسيّة قويّة تغيّر اللحن السائد وإمّا أن يقع في الدهاليز ذاتها التي سقط فيها أسلافه. ففي الأرجنتين على سبيل المثال، طُرِح إنشاء مجلس النقد في بادئ الأمر، لكن الموضوع سرعان ما تحول إلى مادّة لحفلات الزجل المحلي، وكان كل طرف عنده رأي لا بد من احترامه. هكذا كانت المحصّلة أن انتهى بهم المطاف إلى عدم اعتماد مجلس النقد والاتفاق على نظام هجين اسمه "نظام القابلية للتحويل" Convertibility system يجيز، على عكس مجلس النقد الصارم، استعمال الاحتياطي لتمويل الحكومة. وبهذا طارت التغطية النقدية للبيزو، وضاعت استقلالية السلطات النقدية في مهب الريح، بسبب محاولات إرضاء جميع الأطراف، ولم تُعالَج المشكلة النقدية في الأرجنتين بل تفاقمت. وعلى النقيض من التجربة الأرجنتينية، تبنّت هون كونغ وإستونيا ولتوانيا وغيرها من البلدان مجلس النقد قاعدةً ثابتةً غير قابلة للتحول أو التعديل وفق وآراء شعراء الزجل، وهو ما أدى إلى نجاح تجاربها في الخروج من أزمات مشابهة لأزمة لبنان. أمّا في لبنان، فيبدو أنّ كل إصلاح يبدأ كأنه مشروع دولة وينتهي كأنه حفلة زجل لا تخلو من مديح وهجاء وتختتم بنهاية مفتوحة. وترتفع الأصوات وتُرفع الجلسات وتُؤجَّل إلى حين "نضوج التوافق" فيتعطل الحل لسنوات طوال. وإذا كانت آلة الزجل السياسي تسعى اليوم إلى تضخيم التباينات بين ركني الإصلاح المنشود بهدف إطالة أمد الشلل والتعطيل والفراغ، فإن السبيل الوحيد للنجاة يكمن في إجراء إصلاحات هيكلية حقيقية، وهو ما يستدعي عملًا دؤوباً مع خبراء دوليين طبقوا هذه الإصلاحات بنجاح في دول أخرى وتنفيذها بعزيمة وإصرار ودقة؛ فهذا هو الطريق الذي سيقود البلاد نحو شاطئ الأمان والازدهار. وإذا لم يكن ثمّة بدّ من مشاورات محلية حول مجلس النقد، فلتنحصر في كيفية تسويق القانون وآليات تنفيذه، ولتترك صياغته الفنية ودراسة جدواه لأفضل الخبراء الدوليين، لا لفرق الزجل المحلية.