
علي عبدالله صالح.. لن يكون الأخير يا صنعاء
حتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ظلّ علي عبدالله صالح يتحرك داخل المساحة الرمادية من الذاكرة اليمنية: لا يُحبّ تماماً ولا يُلعن بالكامل، رجلٌ قضى نصف عمره رئيساً، ونصفه الآخر عدوًا أو حليفًا أو جثةً تقتتل عليها السرديات، ولأن اليمن بلدٌ لا يكتب تاريخه بالورق بل بالدم، فإن توثيق مقتله سيظل موضع جدل، تماماً كما ظلّ تاريخ حكمه، ومثل كل الرؤساء الذين مرّوا من هنا.. ولم يخرجوا أحياء.
قالوا إن ابنه 'مدين' روى اللحظة، وإن الفيديو يوثّق، وإن الحوثيين حسموا القصة، لكن الحقيقة في اليمن لا تعترف بالفيديو، ولا تتكئ على شهادة ابن، ولا تخضع لمنطق الوقائع، بل تظل أسيرة الشك، والتنازع، والتأويل السياسي المستمر، لأن الموت هنا، لا يغلق القوس بل يفتحه على مصراعيه، ويترك لكل طرف أن يروي الرواية بما يخدم بقاءه، ويُفسر الدم بالولاء أو بالخيانة، لا بالحق والعدالة.
ما جرى لصالح ليس حدثاً فريداً، بل مشهد متكرر في السياق اليمني العام، منذ إسقاط بيت حميد الدين في الانقلاب داخل البيت الزيدي 1962، لم ينجُ رئيس يمني من الخاتمة الدموية، الحمدي اغتيل وهو في ذروة الشعبية، والغايات بقيت مجهولة، الغشمي نُسف في مكتبه، عبدالفتاح إسماعيل احترق مع حزبه، والبيضة لم تُبقِ له ظلًا، حتى قحطان الشعبي انتهى منفياً، وجارالله عمر سقط برصاصة في عرس ديمقراطي بالطريقة اليمنية القبلية وأيضاً الإخوانية. لم تترك السياسة في اليمن هامشاً للموت الطبيعي، ولا منفىً آمناً، بل جعلت القبر هو نهاية كل سردية سلطوية، شمالاً وجنوبًا.
علي عبدالله صالح، لم يكن استثناءً، بل كان استمرارًا، رجلٌ حكم بالذكاء، لا بالمؤسسات، وبالتوازنات لا بالدستور، رقص على رؤوس الثعابين، لكن أحدها قرّر أن يعضّه بعد أن أطعمها السلطة بيده، فمات مقتولاً على يد حليف، لا خصم، وهذه سمة لا يدرك معناها إلا من عاش تفاصيل اليمن حيث تكون الخيانة قرينة التحالف، والموت خاتمة متوقعة لكل من يُراهن على ترويض العنف الطائفي أو القبلي لحسابه، نُفذ في صالح 'حكم موت' لا يمكن فصله عن السياق السياسي الذي سمح بتمدّد الحوثي من صعدة إلى صنعاء، لقد سلّمهم الدولة باسم الانتقام، فأسقطوه باسم الولاية، لم يقتلوه حين كان خصمًا، بل حين قرر أن يستعيد جمهوريته بعد فوات الأوان.
ما يجعل مقتل صالح علامة فارقة، ليس دموية المشهد، بل عمق الانقسام حوله، الرجل خرج من السلطة مهزوماً، ثم عاد بوجه 'الثأر'، ثم انتهى وحيداً، لا الحلفاء قبلوه، ولا الخصوم غفروا له، ولا أنصاره استطاعوا رد الاعتبار إليه، كان يملك كل شيء، ثم خسر كل شيء، وهذه خلاصة اليمن السياسي: أن السلطة فيها تُعطيك كل شيء لتسحب منك حتى الجثة.
والمفارقة التي تستحق التأمل أن الجنوب، الذي عرف انقلابات أكثر دموية، وصراعات أكثر أيديولوجية يسارية، صار اليوم أكثر تأهيلاً للانتقال نحو الدولة الوطنية، ليس لأنه نسي ماضيه، بل لأنه استنزف كل احتمالات الموت، ولم يعد لديه شغف بالاقتتال، ولأن المجتمع الجنوبي أكثر تجانساً، وأقل خضوعاً لسلطة المشيخة والقبيلة والمذهب، فقد نجح في إنتاج وعي مدني يُقاوم الاستتباع، حتى وإن تسللت إليه بعض ملوثات المذهبية العسكرية بدعم دولة إقليمية، فما تبقى من نزعات طائفية في بعض التشكيلات الأمنية، سرعان ما سيذوب داخل نسيجٍ اجتماعي لا يقبل التقسيم، ولا يؤمن بالعصبيات، الجنوب الذي قُسم في الداخل وعانى التبعية من الخارج، صار اليوم أكثر توقاً للانتماء إلى مشروع دولة، وربما للمرة الأولى، يمكن القول إن الجنوب خرج من طور 'الهوية الجغرافية' إلى طور 'الهوية السياسية' التي تبحث عن المستقبل، لا عن الثأر.
السؤال المؤلم ليس فقط كيف يموت الحكّام، بل لماذا لا يعيش اليمنيون في ظل دولة؟ لماذا لم يُنتج اليمن نظامًا يحمي الرؤساء من الرصاص، ويحمي الشعب من الرؤساء؟ لماذا لا تزال القبيلة، والعقيدة، والخطاب المذهبي، أقوى من الدستور، والبرلمان، ومفهوم الدولة؟ الجواب لا يتعلق فقط بصالح، بل بمن سبقوه، ومن لحقوه، ومن تسلقوا على دمه، هناك عللٌ بنيوية ضاربة في عمق الثقافة السياسية، جعلت 'الحكم' في اليمن ليس وظيفة، بل غنيمة، وليس مسؤولية، بل مصير شخصي يبدأ بالشعار وينتهي بالرصاصة، ولهذا لا يزال اليمن بلا عقد اجتماعي حقيقي، ولا تصور واضح للدولة ككيان مستقل عن الفرد، أو عن الطائفة، أو عن القبيلة، أو عن الجغرافيا.
مات علي عبدالله صالح، كما يموت الحكّام في اليمن: لا على فراش، ولا في عزلة ملوكية، بل في رُكنٍ خافت من العاصمة التي بناها بيده، وسُلّمت لخصومه بتوقيعه، مات كأنه يلخص مصير بلدٍ بأكمله: بلدٌ لا يسمح لحاكم بالبقاء، ولا يترك له شرف الرحيل، بلدٌ يدفن قادته دون أن يغلق القوس، ثم يعود في كل جيل ليطعنهم مرةً أخرى، باسم سردية جديدة، وثأر جديد، وخراب يتجدّد كأنه قدَرٌ لا يُكسر.
مات صالح ولم يمت السؤال: لماذا لا يخرج أحد من اليمن حيًّا؟ لماذا لا تقوم فيه دولة دون أن تسقط بجثة؟ ولماذا يبدو أن هذا البلد العظيم لا يطيق أن يُحكم؟ ولا يعرف كيف يحكم نفسه؟ ربما لأننا لم نغفر للحياة، فاختارت أن تسكن بين القبور.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


اليمن الآن
منذ 3 أيام
- اليمن الآن
المعركة مستمرة.. وعلى الدرب سائرون
المعركة مستمرة.. وعلى الدرب سائرون قبل 3 دقيقة في قلب اليمن، يقف اسم الزعيم الشهيد علي عبدالله صالح، طيب الله ثراه، كمنارةٍ لا تنطفئ، وكأسطورةٍ حيّةٍ تنبض في وجدان شعب. لم يكن الزعيم الشهيد علي عبدالله صالح مجرد رئيسٍ تولّى مقاليد الحكم، بل كان وطنا متجسدا، وروحًا سكنت تفاصيل الحياة اليمنية، من طوابير الصباح المدرسية إلى أحاديث الكبار تحت ظلال الأشجار ، وأيضا في الدواوين أثناء المقيل. ومن أهداف الثورة السبتمبرية والأكتوبرية إلى صناعة الوحدة التي صدحت بها الحناجر في 22 مايو المجيد. نحن نشأنا كجيل كامل في كنف عهده، تعلّم في مدارسه، وتشكّل وعيه على وقع خطاباته التي تحمل شعار "الوطن، الثورة، الوحدة". كان الصوت يعلو بعد كل تحية علم، "الله، الوطن، الثورة، الوحدة، تحيا الجمهورية اليمنية، تحيا الجمهورية اليمنية، تحيا الجمهورية اليمنية" وصورته تزيّن جدران الشوارع، والمقار الحكومية، كرمزٍ يحمل في طياته حلم اليمن الموحد، والذي يتسع للجميع. ارتبط اسمه بثورة سبتمبر، بانتصارات أكتوبر، وبفرحة نوفمبر، فصار في الوجدان الشعبي ليس مجرد قائد، بل أيقونةٌ تجمع بين الحنين والفخر، بين الحب والجدل. وإن اختلف اليمنيون حوله، فقد كان الزعيم الشهيد علي عبدالله صالح لغزًا إنسانيًا، أو كما وصفه أحدهم: "كأنما ألقى على اليمنيين تعويذة ". حتى أولئك الذين حملوا في قلوبهم كرهًا له، وجد بعضهم أنفسهم يذرفون الدموع يوم رحيله، كأنما فقدوا جزءًا من ذواتهم. روى أحدهم عن صديقٍ له كان يدعو عليه ليل نهار، وخرج في فبراير الأسود، أي يوم النكبة من العام 2011، لكنه في يوم الشهادة في ديسمبر من العام 2017 انهار باكيًا، كأنما يودّع أبا أو أما. في تلك اللحظة، توحد المحبون والكارهون في حزنٍ غامض، كأن اليمن التي عرفوها، بمدنها وريفها، بجبالها وسواحلها، قد رحلت معه، تاركةً وراءها ذكرياتٍ وأطلالاً. وفي ساعته الأخيرة، تجلّى الزعيم علي عبدالله صالح قائدا لا يُضاهى. في الثمانين من عمره، وقف كالطود العظيم، يواجه مئات، آلاف المقاتلين، متمسكا بالكرامة، متسلحا بالشجاعة. لم يطلب الحماية، بل زأر بصوت الأبطال: "انتم معاكم جهال روحو هم يشتوني أنا" وأيضا "اهربوا، فإن قتلوني سيتوقفون عن ملاحقتكم". أثناء المعركة وخلف الصخور، قاوم حتى النفس الأخير، ليرتقي شهيدًا، تاركا خلفه إرثا من العزة والفداء. أيُّ قلب يتحمل هذا الشموخ؟ أيُّ قائد يختار أن يُضحّي بنفسه ليحمي رفاقه؟ قال أحدهم وأنا أتصفح في المنصات الرقمية "حين جلستُ أتابع فيلم "المعركة الأخيرة"، وجدتُ نفسي، دون إرادة، أردد كلمات أوبريت "خيلت براقا لمع": "واحنا بعون الله يا واحد صمد، حكيم وحد صفنا بعد افتراق". كأنها تلك التعويذة التي نسجها الزعيم صالح في قلوب اليمنيين، لاموذي ولا شيطان. هنا إرث إنسان عاش لأمته، واستشهد في سبيلها. لكن، منذ ذلك اليوم، شعر الكثيرون بان اليمن لم تعد تشبههم. صارت ذكرى من ماض، تحاصره جماعاتٌ تكره الحياة وتعشق الموت، تاركة اليمنيين يتشبثون بأطلال وطن. سلامٌ من الله على روحك، أيها الشهيد المقدام الزعيم علي عبدالله صالح، يوم وُلدت، ويوم استشهدت، ويوم تُبعث حيا. كنتَ وطنا يسكن القلوب، وستظل في ضمير اليمن رمزا خالدا، تحمله الرياح إلى أجيال قادمة، تروي حكاية قائد صمد، وحكيم وحد الصفوف، وشهيد ارتقى في سبيل اليمن الجمهوري.


اليمن الآن
منذ 3 أيام
- اليمن الآن
الدماء تتكلم والكاتب يجيب: لماذا انتهت حياة علي عبدالله صالح بهذا الشكل
قال الكاتب والإعلامي ورئيس مجلس إدارة صحيفة الثورة الرسمية، سام الغباري، إن استشهاد الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح لم يكن بداية الأحداث، بل كان "السؤال الكبير" الذي ما زال يبحث اليمنيون عن إجابته. وفي مقال حمل عنوان "دموع مروان"، قارن الغباري بين مقتل الزعيم صالح وما جرى للإمام علي بن أبي طالب في العام 661م، معتبرًا أن اغتيال الشخصيات المؤسسة للدولة يطرح أسئلة لا تنتهي عن العدالة والخيانة والانهيار. وأشار الغباري إلى أن ما وصفه بـ"سقوط الدولة" عام 2011، ثم "الاجتياح الكبير" في 2014، كانا إيذانًا بسلسلة من الكوارث التي أطاحت بمؤسسات الحماية والدولة، وأدت إلى الجوع والقهر وتغول اللصوص، حسب تعبيره. وقال إن الرئيس عبدربه منصور هادي تُرك وحيدًا في صنعاء، وتم "اغتياله افتراضيًا"، مشيرًا إلى أن الجيش لم ينفذ أوامره حينها رغم أنه لم يكن مقصرًا، بل أُجبر على دخول نفق مظلم من "هيكلة الجيش" بموجب المبادرة الخليجية، التي وقعها الرئيس السابق صالح، وتم منحه حكومة لم يكن يعرف عنها شيئًا. وأضاف الغباري: "أتذكر ميليشيا كانت تحاصر منزل الرئيس هادي، وأرى في وجوههم رؤوس الكوفة، أراهم يتسورون باب عثمان الأخير، فيما سيف مروان بن الحكم يلمع على الباب يقاتل القتلة في جوف الليل". وتابع: "رأيت هادي مُعتقلاً، ودماء مرافقيه وبعض أقاربه لزجة على سلالم الدار الفخيم، تلك كانت البداية، وما تلاها من دم وقتل وصراع، هو نتيجة لذلك الانقلاب المشؤوم". وختم الغباري مقاله بالقول: "والله يتولى الصالحين"، في إشارة إلى أن ما جرى للزعيم صالح وهادي لم يكن إلا نتيجة لتآكل الدولة وتحالفات خائنة، لم تترك في البلاد إلا النزيف والمآسي. واقتحم الحوثيون صنعاء في سبتمبر 2014، وحاصروا الرئيس السابق هادي في منزله بصنعاء وقتلوا بعض أقاربه، قبل أن يتمكن من مغادرة صنعاء إلى عدن ثم إلى المملكة العربية السعودية، وتبدأ عملية عاصفة الحزم في مارس 2015 لدعم الشرعية اليمنية، وفي 4 ديسمبر 2017 أقدم الحوثيون على قتل الرئيس الاسبق علي عبدالله صالح. نص المقال كاملا: دموع مروان ! لم يكن استشهاد الزعيم علي عبدالله صالح البداية، كان هو السؤال الكبير: لماذا قُتِل.. ؟ في 661م، قُتِل علي بن ابي طالب، وظل السؤال قائمًا إلى اليوم، كيف قُتِل ومن قتله، وهل قُتِل مظلومًا.. إلخ؟ وانقسم العالم الإسلامي حسب ذلك اليوم إلى شيعة وسُنّة، ومن الشيعة تواردت الخرافات واللطميات، كذوائب النخل، غير أن مقتله لم يكن البداية، أو النهاية، كان هو السؤال؟ كانت البداية بدم عثمان رضي الله عنه، إسقاط الدولة الإسلامية كان الفوضى التي أسست لهدر دم عليّ وابناءه من بعده، ذلك ما حدث للزعيم صالح، سقوط معالم الدولة الجزئي في 2011م، انتهاءً بالاجتياح الكبير في 2014 كان بمثابة فوران التنور - وللمعلومة فإن جبل ضين الذي يبعد عن صنعاء عدة فراسخ، هو ذاته جبل التنور المذكور في القرآن الكريم - . المهم، سقوط الدولة التي تحمي صالح، والمؤتمر الشعبي، والشعب اليمني، كانت سببًا في كل الدم والجوع والقهر وتغول اللصوص في جسد الدولة، لماذا؟ .. لأن "عبدربه منصور هادي" تُرك وحيدًا وقُتِل "افتراضيًا" في صنعاء، التي "خانته". يقولون أن على "هادي" دعوة الجيش، والقتال مثل عنترة بن شداد.. ! هو لا يفعل ذلك، تلك السيوف، والصيحات، والبرع، والقفز الجذل، والعرق المتطاير، شؤون لا تعني رئيس دولة محترم، كانت لديه أوامر أصدرها غير مرة - وتركه الجيش - ليس لأني علي عبدالله صالح أمرهم بذلك، لا .. بل لأن "هادي" أصيب إعلاميًا، وأُدخِل غصبًا عنه نفق هيكلة الجيش بأمر المبادرة الخليجية التي وقعها سلفه صالح، وأعطيت له حكومة لا يعرف عنها شيئًا. أتذكر الميليشيا التي كانت تحاصر حول منزل الرئيس عبدربه منصور هادي، وأرى فيهم رؤوس الكوفة، حرقوص والأشتر .. أرى التسوّر إلى باب عثمان الأخير، وسيف مروان بن الحكم على الباب يلمع في جوف الليل، يُقاتل المتسللين القتلة، أراه مُسجى على الأرض مثخن بجراح الطعنات والهزيمة، ورأسه يتحرك ببطء نحو الخليفة العظيم، والسيوف تتحالف على "خليفته" فتوسعه طعنًا وتنكيلا. أرى دموع "مروان"، كأنها دموعي في السجن، لمّا رأيت هادي مُعتقلًا، ودم مرافقيه وبعض أقاربه لزجًا على سلالم الدار الفخيم، تلك كانت البداية، وما جاء بعدها من ذنب، وقتل، وصراع، وحروب نتيجة لذلك الإنقلاب المشؤوم. .. والله يتولى الصالحين


اليمن الآن
منذ 7 أيام
- اليمن الآن
علي عبدالله صالح.. لن يكون الأخير يا صنعاء
بعد مقتل الرئيس علي عبدالله صالح، أُتيحت لي فرصة الاستماع إلى مراسلات صوتية في ساعاته الأخيرة، وإلى وثائق سمعيّة أخرى، بينها تسجيل صوتي يطلب فيه ممن كانوا حوله أن يغادروا ويتركوه وحيداً ليواجه الحوثيين، تلك التسجيلات، التي لم تُعرض للإعلام حتى اليوم، ليست مجرّد وثائق عابرة، بل جزء من الذاكرة اليمنية بشقّيها الجنوبي والشمالي، ففي هذا الجزء من العالم، لا تُدفن الحكاية بموت صاحبها، بل تظل تُروى كما كان يفعل الأجداد في سبأ والأحقاف وحِميَر، نحن شعبٌ لا يزال يعيش على المرويات، ويمنحها وظيفة الذاكرة حين تعجز الدولة عن كتابة التاريخ. حتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ظلّ علي عبدالله صالح يتحرك داخل المساحة الرمادية من الذاكرة اليمنية: لا يُحبّ تماماً ولا يُلعن بالكامل، رجلٌ قضى نصف عمره رئيساً، ونصفه الآخر عدوًا أو حليفًا أو جثةً تقتتل عليها السرديات، ولأن اليمن بلدٌ لا يكتب تاريخه بالورق بل بالدم، فإن توثيق مقتله سيظل موضع جدل، تماماً كما ظلّ تاريخ حكمه، ومثل كل الرؤساء الذين مرّوا من هنا.. ولم يخرجوا أحياء. قالوا إن ابنه 'مدين' روى اللحظة، وإن الفيديو يوثّق، وإن الحوثيين حسموا القصة، لكن الحقيقة في اليمن لا تعترف بالفيديو، ولا تتكئ على شهادة ابن، ولا تخضع لمنطق الوقائع، بل تظل أسيرة الشك، والتنازع، والتأويل السياسي المستمر، لأن الموت هنا، لا يغلق القوس بل يفتحه على مصراعيه، ويترك لكل طرف أن يروي الرواية بما يخدم بقاءه، ويُفسر الدم بالولاء أو بالخيانة، لا بالحق والعدالة. ما جرى لصالح ليس حدثاً فريداً، بل مشهد متكرر في السياق اليمني العام، منذ إسقاط بيت حميد الدين في الانقلاب داخل البيت الزيدي 1962، لم ينجُ رئيس يمني من الخاتمة الدموية، الحمدي اغتيل وهو في ذروة الشعبية، والغايات بقيت مجهولة، الغشمي نُسف في مكتبه، عبدالفتاح إسماعيل احترق مع حزبه، والبيضة لم تُبقِ له ظلًا، حتى قحطان الشعبي انتهى منفياً، وجارالله عمر سقط برصاصة في عرس ديمقراطي بالطريقة اليمنية القبلية وأيضاً الإخوانية. لم تترك السياسة في اليمن هامشاً للموت الطبيعي، ولا منفىً آمناً، بل جعلت القبر هو نهاية كل سردية سلطوية، شمالاً وجنوبًا. علي عبدالله صالح، لم يكن استثناءً، بل كان استمرارًا، رجلٌ حكم بالذكاء، لا بالمؤسسات، وبالتوازنات لا بالدستور، رقص على رؤوس الثعابين، لكن أحدها قرّر أن يعضّه بعد أن أطعمها السلطة بيده، فمات مقتولاً على يد حليف، لا خصم، وهذه سمة لا يدرك معناها إلا من عاش تفاصيل اليمن حيث تكون الخيانة قرينة التحالف، والموت خاتمة متوقعة لكل من يُراهن على ترويض العنف الطائفي أو القبلي لحسابه، نُفذ في صالح 'حكم موت' لا يمكن فصله عن السياق السياسي الذي سمح بتمدّد الحوثي من صعدة إلى صنعاء، لقد سلّمهم الدولة باسم الانتقام، فأسقطوه باسم الولاية، لم يقتلوه حين كان خصمًا، بل حين قرر أن يستعيد جمهوريته بعد فوات الأوان. ما يجعل مقتل صالح علامة فارقة، ليس دموية المشهد، بل عمق الانقسام حوله، الرجل خرج من السلطة مهزوماً، ثم عاد بوجه 'الثأر'، ثم انتهى وحيداً، لا الحلفاء قبلوه، ولا الخصوم غفروا له، ولا أنصاره استطاعوا رد الاعتبار إليه، كان يملك كل شيء، ثم خسر كل شيء، وهذه خلاصة اليمن السياسي: أن السلطة فيها تُعطيك كل شيء لتسحب منك حتى الجثة. والمفارقة التي تستحق التأمل أن الجنوب، الذي عرف انقلابات أكثر دموية، وصراعات أكثر أيديولوجية يسارية، صار اليوم أكثر تأهيلاً للانتقال نحو الدولة الوطنية، ليس لأنه نسي ماضيه، بل لأنه استنزف كل احتمالات الموت، ولم يعد لديه شغف بالاقتتال، ولأن المجتمع الجنوبي أكثر تجانساً، وأقل خضوعاً لسلطة المشيخة والقبيلة والمذهب، فقد نجح في إنتاج وعي مدني يُقاوم الاستتباع، حتى وإن تسللت إليه بعض ملوثات المذهبية العسكرية بدعم دولة إقليمية، فما تبقى من نزعات طائفية في بعض التشكيلات الأمنية، سرعان ما سيذوب داخل نسيجٍ اجتماعي لا يقبل التقسيم، ولا يؤمن بالعصبيات، الجنوب الذي قُسم في الداخل وعانى التبعية من الخارج، صار اليوم أكثر توقاً للانتماء إلى مشروع دولة، وربما للمرة الأولى، يمكن القول إن الجنوب خرج من طور 'الهوية الجغرافية' إلى طور 'الهوية السياسية' التي تبحث عن المستقبل، لا عن الثأر. السؤال المؤلم ليس فقط كيف يموت الحكّام، بل لماذا لا يعيش اليمنيون في ظل دولة؟ لماذا لم يُنتج اليمن نظامًا يحمي الرؤساء من الرصاص، ويحمي الشعب من الرؤساء؟ لماذا لا تزال القبيلة، والعقيدة، والخطاب المذهبي، أقوى من الدستور، والبرلمان، ومفهوم الدولة؟ الجواب لا يتعلق فقط بصالح، بل بمن سبقوه، ومن لحقوه، ومن تسلقوا على دمه، هناك عللٌ بنيوية ضاربة في عمق الثقافة السياسية، جعلت 'الحكم' في اليمن ليس وظيفة، بل غنيمة، وليس مسؤولية، بل مصير شخصي يبدأ بالشعار وينتهي بالرصاصة، ولهذا لا يزال اليمن بلا عقد اجتماعي حقيقي، ولا تصور واضح للدولة ككيان مستقل عن الفرد، أو عن الطائفة، أو عن القبيلة، أو عن الجغرافيا. مات علي عبدالله صالح، كما يموت الحكّام في اليمن: لا على فراش، ولا في عزلة ملوكية، بل في رُكنٍ خافت من العاصمة التي بناها بيده، وسُلّمت لخصومه بتوقيعه، مات كأنه يلخص مصير بلدٍ بأكمله: بلدٌ لا يسمح لحاكم بالبقاء، ولا يترك له شرف الرحيل، بلدٌ يدفن قادته دون أن يغلق القوس، ثم يعود في كل جيل ليطعنهم مرةً أخرى، باسم سردية جديدة، وثأر جديد، وخراب يتجدّد كأنه قدَرٌ لا يُكسر. مات صالح ولم يمت السؤال: لماذا لا يخرج أحد من اليمن حيًّا؟ لماذا لا تقوم فيه دولة دون أن تسقط بجثة؟ ولماذا يبدو أن هذا البلد العظيم لا يطيق أن يُحكم؟ ولا يعرف كيف يحكم نفسه؟ ربما لأننا لم نغفر للحياة، فاختارت أن تسكن بين القبور.