
الشورى والديمقراطية... في الاتفاق والاختلاف في إدارة الاجتماع
الشورى بالتعريف استشارة أهل الخبرة والرأي في أمر من الأمور لاتخاذ القرار الأنسب، سواء في الأمور الشخصية أو العامّة. والشورى في الإسلام مبدأ أساسي في النظام السياسي، فقد وردت في القرآن الكريم في قوله تعالى: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" (آل عمران 159)، ووردت في صيغة ثانية في قوله تعالى: "وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" (الشورى 38). وقد سميت السورة سورة الشورى لإبراز أهمية هذه الأخيرة.
جاءت الشورى في الآية الأولى بصيغة أمر من الله لنبيه يطالبه فيه بمشاورة المسلمين قبل أخذ أي قرار في شؤونهم، وجاءت في الثانية باعتبارها من سمات المسلمين، أي أنها أسلوب حياة بالنسبة إليهم. والهدف من تطبيق الآية الأولى إشعار الفرد بقيمته في المجال العام وزيادة فرص اختيار الحل الصحيح باستشارة أهل الخبرة والرأي لتجنّب الوقوع في الأخطاء التي قد تحدث نتيجة لاتخاذ القرارات الفردية، كما يقود إشراك المجتمع في اتخاذ القرارات التي تخصّه إلى تعزيز مبادئ العدل والمساواة، فيتم الأخذ بآراء الجميع والتشاور معهم قبل اتخاذ القرار، ما يزيد من تماسك المجتمع ويقوّي روابطه. وتطبيق الآية الثانية يضمن الاستقرار والازدهار المستدام.
حصلت الديمقراطية على قبول مجتمعات كثيرة ونالت تقديراً واسعاً لما حققته في المجتمعات التي طبقتها من إنجازات
أما تعريف الديمقراطية فحكم الشعب بالشعب وللشعب، إذ يمتلك كلّ مواطن الحقّ في المشاركة في إدارة شؤون الحكم في بلاده، عبر مشاركته في اختيار من يمثله في البرلمان في انتخابات حرّة ونزيهة، ما يجعله مشاركاً بصورة غير مباشرة في اتخاذ القرارات التي يتخذها البرلمان. والنظام الديمقراطي وضعي، إبداع إنساني، نشأ في الغرب حيث تطوّر وتعزّز بالاستناد إلى مجموعة مرتكزات من سيادة القانون، تطبيق القانون على جميع المواطنين من دون استثناء، والمساواة بين الجميع أمامه، إلى احترام حقوق الإنسان وحرّياته الأساسية، مثل حرّية التعبير، وحرّية التجمّع، وحرّية الصحافة، إلى حقّ الجميع في المشاركة في العملية السياسية، سواء بشكل مباشر أو من خلال ممثليهم المنتخبين، إلى توفير المساواة وتكافؤ الفرص للجميع، بغض النظر عن جنسهم أو عرقهم أو دينهم، ذلك كلّه تحت سقف الشفافية والمساءلة، إذ يجب على الحكومة أن تكون شفافة في تعاملاتها، وأن تكون مسؤولة أمام الشعب.
حصلت الديمقراطية على قبول مجتمعات كثيرة، ونالت تقديراً واسعاً لما حققته في المجتمعات التي طبقتها من إنجازات، من التطوير السياسي والاجتماعي والاقتصادي إلى ضمان حقوق الإنسان والحرّيات الأساسية وتعزيز للمشاركة الشعبية في صنع القرار، ما فرض استجابة الحكومة لاحتياجات المواطنين وأسس للنمو والازدهار، ولتحقيق تنمية مستدامة وتعزيز السلم الأهلي.
وعليه، يمكن أن نحدّد الاتفاق والاختلاف بين الشورى والديمقراطية عبر المقارنة. الاتفاق الأول والرئيس حقّ الأمة/ الشعب في اختيار الحاكم ومراقبته ومحاسبته، ما يعني العدل والمساواة ورفض الظلم والتمييز والاستبداد، مع فارق أن السيادة في الإسلام للشريعة، أي لله، مصدر الشريعة، والسيادة في الديمقراطية للشعب، فالشورى والديمقراطية يمكن أن تلتقيا في آليات إدارة الدولة ومصالحها، المأسّسة والانتخابات والبرلمان والفصل بين السلطات، وتختلفان في منطلق التشريع، ففي الشورى مرتبط إلى حدّ كبير بالنصّ المؤسّس، القرآن الكريم، بعلاقة ثابتة ودائمة، بينما يرتبط في الديمقراطية بنظريات سياسية واجتماعية واقتصادية طرحها مفكّرون وفلاسفة، فشكّلت فلسفة الحكم فترة محدّدة، فترة فوز حملتها في الانتخابات البرلمانية، إذ تتغيّر وفق صراع الأفكار والنظريات وتوازن القوى الاجتماعية والتدافع بين الناس حول الحقوق الفردية والجماعية، فتغيّر العقائد الأساسية والنظريات في الديمقراطية متاح ومستمر وبمرونة عالية، بينما هي في الشورى ثابتة لارتباطها بمصدر ثابت يؤطرها ويرسم تخومها؛ علماً أن التنظير الحديث للشورى دفع المفكّرين المسلمين إلى الانخراط في صراع فكري بيني حول اجتهادات الفقهاء ومدى إلزامية تقيدهم بالنصّ القرآني، من جهة، ومدى اعتبار اجتهادهم ملزماً لدى بعض المفكرين، باعتبار أنه جاء تحت سقف النصّ القرآني، في حين هي (الاجتهادات) غير ملزمة لدى مفكّرين آخرين، لأنها يجب أن لا تقيّد الحاكم في اختيار ما يراه مناسباً، لكن يمكن الاستئناس بها.
مدى الشورى عند مفكّرين أوسع من الديمقراطية، فهي أسلوب حياة يشمل كلّ الأطر الاجتماعية
كما يختلفان في اتساع ساحة الفعل، فيقتصر عمل الديمقراطية على الدعوة إلى نظرية في إدارة الدولة والحكومة ومؤسّساتها ومصالحها من أجل جذب الناخبين وتحقيق الفوز يوم الانتخابات البرلمانية والنقابية، أمّا الشورى فمداها (باعتبارها أسلوب حياة) أوسع، يشمل كلّ الأطر الاجتماعية: الأسرة والحي والمدرسة والعمل والحكومة، ما يجعلها أكثر استجابةً لدورة حياة المجتمع.
أشار مفكّرون مسلمون إلى عامليْن آخريْن يشيران إلى تفوق الشورى على الديمقراطية، أولهما أن دور الفقهاء في المجال الإسلامي يجعل منهم سلطة رابعة، ويجعل فصل السلطات واقعاً فعلياً، في حين أن الديمقراطية، بصيغتها المتداولة، من انتخابات وحزب الأغلبية البرلمانية يشكّل الحكومة، أقامت تداخلاً بين السلطتين التشريعية والقضائية. قول فيه تجاهل لوجود منظّرين للديمقراطية، وآخرين يضعون برامجَ وخططاً لتطوير التجربة وجعلها أكثر دقّة وشمولية، ما يعني أن ثمّة فقهاء في النظام الديمقراطي أيضاً، وأمّا اعتبار وجود دور مؤثّر للفقهاء في التشريع، ما يجعل فصل السلطات واقعاً فعلياً فليس منطقياً، لأن دور الفقهاء في هذه الحالة سلاح ذو حدّين، قد يعزز فصل السلطات في حال اتفاق الفقهاء على فتوى واحدة لقضية محدّدة، وقد يجعله ساحةً للجدل إذا تعدّدت الفتاوى، ولطالما حصل هذا التعدّد والتباين كثيراً. ثانيهما ارتباط التشريع بالشريعة يجعله هدفاً للمسلمين لأنهم يؤدّون به واجباً دينياً إلى جانب الواجب الدنيوي، فكلّ عمل يقوم به المسلم ينطوي على بعدَين: فرض ديني وواجب اجتماعي في الوقت نفسه، فالشورى مرتبطة بعدد من المعايير الأخلاقية، بينما الديمقراطية ليست لها معايير أخلاقية مسبقة ما جعلها تسمح للفرد أن يختار المعايير حسب الاحتياجات والرغبات السائدة في عصره.
كيف فقدنا الشورى؟
في العودة إلى التوجيه الإلهي في المجال السياسي، نلمس وجود هيكل عام، أساسه خضوع المسلمين للتوجيهات الواردة في القرآن الكريم، فلا يشعر مسلم، حاكم أو محكوم، بأنه أكبر أو أصغر من غيره، فالكلّ مطالبون بالرجوع إلى الهَدي الإلهي والالتزام به، أساساً لصياغة مجتمعٍ موحّدٍ بقيمه وتعاليمه من جهة، وتوجّه، من جهة ثانية، إلى المساواة والعدل، إذ الجميع يخضعون لمعيار واحد، ما منح الشورى فرصةَ الاستناد إلى قاعدة فكرية وأخلاقية واجتماعية ثابتة وراسخة ومحطّ إجماع المسلمين. يمكن اعتبار هذا الأساس صورة مطابقة لما يقال لها في العصر الحديث مبادئ فوق دستورية. وهذا أسّس لمبدأ في الحكم قائم على حقّ الأمة في اختيار حكّامها ومراقبتهم ومحاسبتهم، طالما هم مثل الجميع ويخضعون مثل الجميع للتوجيهات والمعايير والقيم نفسها، والتزام المسلمين بالشريعة، أولاً وأخيراً، على أن يكون دورهم الاجتهاد في إطارها وتحت سقفها، شرحاً وتقعيداً وتفصيلاً وإعمالاً للعقل في القضايا التي لم يرد فيها نصّ، لوضع حلول مناسبة، على ألا تتعارض مع محدّدات النص، فالله هو المشرّع والفقهاء هم المجتهدون في إطار الشريعة.
لم تتحوّل الشورى، كما وجّه الهَدي الإلهي، إلى أسلوب حياة لدى المسلمين إلا في فترات قصيرة ومتباعدة، فقد انفجر الصراع السياسي بين المسلمين مبكّراً، وتحوّل الوئام والتلاحم إلى خصام وفرقة، بدأ في تباين المواقف من خلافة الرسول (عليه الصلاة والسلام) بين الأنصار والمهاجرين في سقيفة بني ساعدة، في إثر وفاته، وحسم الجدال بمبادرة من عمر بن الخطاب بمبايعة أبي بكر الصديق ودعوة الحاضرين في السقيفة إلى مبايعته، لما له من سابقة في الإسلام ولاختيار الرسول له للصلاة بالمسلمين خلال فترة مرضه. كانت هذه أولى تجاوزات المسلمين مبدأ الشورى. أدرك عمر الخطأ الذي وقع فيه، فقال إن ما حصل في السقيفة "فتنة" وقانا الله شرّها لن أعود إليها ثانية.
لم يقف تجاوز الهَدي الإلهي بتحويل الشورى أسلوب حياة في تجاوز المسلمين ومبايعة أبي بكر من دون مشاورة، بل تعدّاه إلى تكريس سابقة تحوّلت شرطاً واجباً توافره في الخليفة، تمثل ذلك في تبرير أبي بكر رفضه خلافة رجل من الأنصار، هو سعد بن عبادة، الرسول، لا لشخصه، بل لأن هذا الموقع حقّ لقريش، في تعارض صريح مع الهَدي الإلهي، الذي اعتبر المسلمين متساوين في القيمة والأهمية، والهدي النبوي، الذي اعتبر العصبية القبلية من الجاهلية. وزاد الطين بِلَّة رفض علي بن أبي طالب مبايعة أبي بكر بذريعة أحقيته في خلافة ابن عمّه ووالد زوجه، وأيده مسلمون عديدون، فحصل افتراق وتفاصل في المدينة المنورة. بقي على هذا الحال ستّة أشهر، قبل أن يبايع بعد أن يئس من تغيير الوضع وحصول تمرّد بعض القبائل على سلطة الخليفة، ورفضها دفع الزكاة للمركز، ما وضع الخلافة في موقف حرج.
يبقى الصراع السياسي بين التيارين الشوري والديمقراطي العقبة الرئيسة في وجه الاختيار الحرّ، على خلفية حملات التشويش والتشويه، وادعاء كلّ تيار امتلاكه الحقيقة
لم يقف تجاوز مبدأ الشورى عند هذه التجاوزات، بل حصل ما هو أشدّ وأعظم، أي تحويل الخلافة منصباً وراثياً على يد معاوية بن أبي سفيان، ملك عضوض، وفق وصف فقهاء ذلك الزمان، قبل أن يسنّ الخليفة العبّاسي الأول عبد الله بن محمّد، الشهير بأبي العبّاس السفاح، سُنّةً جديدةً لتحصين موقع الخليفة وسلطته بإحاطة نفسه بعدد من الفقهاء، واستخدامهم في إصدار فتاوى تمنح قراراته وممارساته شرعية دينية. وقد ازاد الموقف سوءاً على يد سلاطين بني عثمان، الذين تمسّكوا بالاستحواذ على السلطة والتمسّك بها عبر موقف شديد التطرّف بقيام كلّ سلطان/ خليفة بقتل إخوته كي لا ينازعوه هو ووريثه المُلك.
قاد هذا المسار إلى بقاء مبدأ الشورى بصيغته الأولية، فلم يخضع للتفسير والتقعيد، ولم توضع له آليات لتفعيله، كما بقية التوجيهات الإلهية. لم تتناوله اجتهادات الفقهاء، بل كان الموقف أكثر سوءاً من ذلك بكثير، حين قبل الفقهاء خلافة المتغلّب، واعتبروها شرعيةً، بذريعة تلافي الفتنة وحفظ بيضة الإسلام، وكأن الخروج على المبدأ الرئيس في إدارة المُلك لا يقضي على بيضة الإسلام من داخله.
عاد مفكّرون وفقهاء مسلمون في العصر الحديث إلى تناول مبدأ الشورى بالدرس والتحليل في سياق مواجهة ما ورد إلى المجال الإسلامي من مبادئ وأفكار غربية، الديمقراطية بشكل رئيس. لم يتناولونها لإصلاح حال المسلمين وإخراج مجتمعاتهم من الركود والتآكل، فيعملوا في تقعيدها ووضع آليات محدّدة لتفعيلها، بل كي يقولوا إننا مكتفون ولا تلزمنا الديمقراطية. موقف دفاعي خلفيته الارتباك والعجز. وقد قادت محاولاتهم لترويجه إلى إدخاله في موقف يكاد يلغيه، عندما اختلفوا حول التعاطي مع نتائج عملية التشاور، بين قائل إنها ملزمة وقائل إنها معلمة.
أيهما نختار الشورى أم الديمقراطية؟
لا يشكّل اختيار الشورى أو الديمقراطية أسلوباً لإدارة نظامنا السياسي مشكلةً في حدّ ذاته، المشكلة في الأرضية التي يستند إليها هذا الاختيار أو ذاك، وتجعله قابلا للتطبيق، فالشورى لها أرضية واسعة على خلفية ارتباطها بدين الأغلبية، لذا سيقبلها كثيرون، حتى من دون أن يدركوا أبعادها، وما يمكن أن تحقّقه على الصعيد العملي، سيقبلونها لأنها فقط وردت في القرآن الكريم، مع أنها لم تكن حاضرةً في تاريخ المسلمين، لم يعش المسلمون في ظلّها وينعموا بإيجابياتها، واختيارها الآن يستدعي إعادة إدراكها مفهوماً وامتداداته، وما يحتاجه تطبيقها من مؤسّسات وأطر سياسية واجتماعية وزرعه في وعينا كي يزيح تاريخاً كاملاً عشناه بعيداً عنها، وتحديد تخومها وما ستحدثه في حياتنا من تغيير وتثوير يحقّق الاستقرار والازدهار، فتنزيلها في واقعنا سيحرّرنا من صورة الخليفة التي استقرّت في وعينا وشكّلت مخيالنا عن النظام الصالح، الصورة التي اعتبرها مفكّرون مسلمون كثر نمط الحكم الإسلامي، وأعادوا تسويقها تحت صيغة المستبدّ العادل. كما يستدعي اختيارها التأكيد على أن نتائجها ملزمة كي تكون فعّالة في إخراجنا من تأرجحنا بين التاريخ والشريعة، ويستدعي بشكل خاص تحديد قواعد لتنزيلها في حياتنا نظاماً وأسلوب حياة.
تواجه الديمقراطية، هي الأخرى، تحدّيات كثيرة وكبيرة، لأنها، مفهوماً ونظاماً سياسياً، طارئة على الاجتماع السوري، ما جعل أرضيتها (قياساً إلى أرضية الشورى) ضيّقةً، حالةً نخبويةً. لذا سيكون لاختيارها نظاماً سياسياً عقبة رئيسة، هي تبريرها وتسويقها لدى قطاعات واسعة من المجتمع، وما يستدعيه ذلك من جهد وعمل، بدءاً بزرعها مفهوماً في وعي المجتمع، شرحاً وتفسيراً، وتحريرها من التشويه الذي لحق بها نتيجة الصراع السياسي بين التيّارات الفكرية والسياسية، وما يرافقها من حملات دعائية مسيّسة، يلي ذلك رسم صورة لأبعادها، وللبنى السياسية والمدنية المرتبطة بها، ودورها في حياتها، وللأحزاب والنقابات والمنظّمات الحقوقية والإعلام الحر، وتبرير اختيارها في ضوء المتوقّع من تطبيقها في نظامنا السياسي على صعيد إشراك المواطنين في اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية، مباشرة أو عبر ممثليهم، وما يترتب على ذلك من استقرار وازدهار.
في قفز عن الشورى في التاريخ الإسلامي تحولت الخلافة منصباً وراثياً على يد معاوية بن أبي سفيان
يبقى الصراع السياسي بين التيارين الشوري والديمقراطي العقبة الرئيسة في وجه الاختيار الحرّ، على خلفية حملات التشويش والتشويه، وادعاء كلّ تيار امتلاكه الحقيقة، والوصفة السحرية للخلاص الأكيد، وهو موقف منطقي، لكنّه ليس موضوعياً لأن كلا التيارين، قيادة وأطراً، تبنيا سياسة المفاصلة، وعدم بذل جهد للتعرّف إلى فكر وخطط وبرامج التيار الآخر، ولمعرفة ما يمكن أن تقدّمه هذه الخطط لصالح المجتمع، فنادراً ما نجد هذا التفاعل والتثاقف والبحث عن مشتركات وتقاطعات، تبرّر التعاون والتنسيق وتشكيل حالة غير نمطية. فأتباع التيار الشوري رفضوا الديمقراطية بذريعة أنها تمنح البشر حقّ التشريع وهو ما يتعارض مع أن الله هو المشرّع في الإسلام، واعتبروها تجديفاً وكفراً، وهذا ليس دقيقا لأن المشرعين في مجلس الشورى سيُعملون عقولهم في وضع تشريعات، ما يجعلها من وضع بشر، حتى ولو استظّلت بالشريعة، لأنها في النهاية ليست الشريعة، بل اجتهادات بشر، وهو ذاته يحصل في البرلمانات الديمقراطية، ناهيك عن أن الهدي الإلهي ترك قضايا كثيرة من دون تحديد موقف أو خيار، ما جعلها مادّة لاجتهاد البشر، فقهاء ومفكّرون ودارسون يجتهدون في فهمها ووضعها على سلّم الضرورة والأهمية والأولوية، ويبحثون عن سبل حلّها، وما يتوقّع من حلّها من نتائج وتبعات. الديمقراطية، فلسفةً ونظام حكم، تتقاطع مع الهدي الإلهي في أنها وسيلة لخدمة البشر والإعلاء من مكانتهم، وفي جعلهم يشعرون بالرضا عبر المشاركة فيتحقّق الاستقرار، وفي تنظيم وتقنين التدافع البشري فيسود السلم الأهلي. هذا من دون أن نتجاهل واقع المسلمين وخروجهم منذ قرون من ساحة الإبداع والفعل المثمر، وما كان سيحصل لهم ولمؤسّساتهم ومجتمعاتهم لو أن الشورى طبّقت في حياتهم طوال هذه القرون. اتباع التيار الديمقراطي وقعواً أيضاً في موقف الرفض العدمي للشورى، واعتبروها نمطاً تاريخياً منتهي الصلاحية، لأنها لا تلبّي توجّهات العصر في الإعلاء من حرية الفرد بشكل خاص، بل هي أقرب إلى تقييده من منحه حرّياته.
خاتمة
نحن أمام معضلة كبيرة، ضرورة الخروج من حالة الجمود والركاكة، لإنقاذ مجتمعنا وفتح الطريق للأجيال القادمة للنمو والتقدم، من جهة، وعدم وجود إجماع وطني على خيار محدّد لتجاوز الواقع الصعب والمستقبل الغامض، من جهة ثانية. وليس أمامنا إلا الانفتاح والانخراط في حوار جاد وعملي لتجسير الهوة ورأب الصدع، والبحث عن قواسم مشتركة من دون التوقف عند التسميات والتوصيفات المجرّدة، فالمهم هو خدمة الإنسان الذي نزلت الأديان (كما الديمقراطية) لخدمته. الحوار والاتفاق خيار وحيد، وإلا فالثقب الأسود في انتظار الجميع.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ يوم واحد
- العربي الجديد
علماء كردستان إيران يصدرون فتوى للجهاد دفاعاً عن غزة
أصدر علماء السنة في محافظة كردستان غربي إيران فتوى تدعو لـ"الجهاد" دفاعاً عن سكان غزة في مواجهة حرب الإبادة الإسرائيلية وسياسة التجويع التي أدخلت القطاع المحاصر بمرحلة مجاعة قاتلة. جاء ذلك في مؤتمر جماهيري حاشد عُقد داخل مسجد قباء، أكبر مساجد مدينة سنندج عاصمة المحافظة، بحضور عدد كبير من العلماء الكرد ولفيف من الناشطين والجمهور. وأكد العلماء المشاركون أن "الجهاد الدفاعي ضد الكيان الصهيوني المعتدي، الذي يمعن في قتل الأطفال والنساء، هو واجب شرعي على كل الأمة الإسلامية"، معتبرين أن الصمت والتقاعس عن نصرة غزة يبقى "خيانة تاريخية لا تُغتفر". وأضافت فتوى علماء كردستان إيران أن "المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس والمجاهدين الفلسطينيين، سيبقون رمزاً لعزة الأمة وخط الدفاع الأول عن كرامتها". الصورة مؤتمر في كردستان إيران لنصرة غزة، 26 يوليو 2025 (العربي الجديد) وشدد بيان الفتوى على أن "الصمت واللامبالاة تجاه هذه المجازر يعدان جريمةً لا تغتفر وخيانة تاريخية"، مؤكداً أن "إيمان أهل غزة ومقاوميها وصبرهم وثباتهم يمثل حجة دامغة على الضمائر الغافلة، وإنذاراً لكل المسلمين حول العالم". ودعت الفتوى الأمة الإسلامية إلى "اليقظة والنهوض العاجل، وجعل المساجد منصات لإحياء الوعي ودعم القضية، ورفض التطبيع مع الاحتلال ومقاطعة بضائع الكيان الصهيوني وأعوانه". كما دعت لتوظيف المنابر الدولية والإعلامية في "حشد الشعوب وتحريك الضمائر"، مشددة على أن "دعم فلسطين اختبار إلهي لمدى إخلاص المسلمين للعدالة وبرهان على التضامن الإسلامي". وحذرت الفتوى "الحكام والدول المطبّعة" مع إسرائيل من عواقب "المواقف المرتجفة"، مؤكدة أن "التاريخ سيشهد عليكم، والأمة الإسلامية لن تغفر خيانة القدس الشريف. إن غضب الله وصحوة الشعوب ستطاردكم عاجلاً أم آجلا". وطالب العلماء المنظمات الدولية والأممية والحقوقية، ومنظمة التعاون الإسلامي، بالخروج عن صمتهم "المميت" واتخاذ خطوات عملية وقانونية عاجلة للانتصار لغزة، رافضين الاكتفاء بالبيانات "الفارغة" في مواجهة الإبادة الجماعية التي يشهدها القطاع. وشهد المؤتمر كلمات مؤثرة لعدد من العلماء؛ إذ دعا ماموستا أيوب غنجي إلى "بذل الغالي والنفيس لنصرة غزة"، وأدان صمت الحكام والمجتمعات الإسلامية والعربية، مشيرا إلى أن شعب غزة "يسجل أسمى معاني التضحية والثبات بينما يمعن الاحتلال في جرائمه". أما العالم عبد الجبار لطفي، فشدد على ضرورة التوحد لنصرة غزة وكسر الحصار، مُشيداً بصمود أهلها "الأسطوري"، بينما ركّز العالم فؤاد محمدي على وحشية الحرب الإسرائيلية ومسعاها لإبادة شعب بأكمله، منوهاً بصبر الفلسطينيين وقدرة مقاومتهم على إرباك الحسابات الإسرائيلية وتكبيدها الهزائم رغم عامين من حرب الإبادة. تقارير عربية التحديثات الحية تهديدات ترامب لـ"حماس".. انقلاب أميركي إسرائيلي على مباحثات غزة وشارك في المؤتمر عبر رسالة مسجّلة من غزة الشيخ فیصل سهیل مزید، عضو رابطة علماء فلسطين وأمين سر المؤسسات العاملة للقدس والمسجد الأقصى، إذ أكد ثبات أهل غزة رغم ما يحيط بهم من جوع ومجازر، داعياً علماء الأمة عامة لقيادة نهضة جماعية نصرة لغزة والقدس. من جانبه، عبّر المستشار علاء الدين العكلوك، رئيس التجمع الوطني للقبائل والعشائر الفلسطينية، عن شكره لعلماء كردستان إيران، مُستذكراً الروابط التاريخية الممتدة بين غزة وكردستان من زمن القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي. وتوجّه العكلوك لعلماء ومفكري الأمة بتساؤل: "أين أنتم مما يجري على أرض فلسطين؟ أطفالنا يُذبحون، نساؤنا تُهان، أرضنا تُغتصب، ومساجدنا تُدنس، والعالم يلوذ بصمته المرير". واختتم المؤتمر بكلمة لخطيب الجمعة في مسجد قباء، ماموستا أحسن حسيني، مزج فيها بين البيان الشعري والوصف الواقعي لمظلومية أهل غزة وجرائم الاحتلال الإسرائيلي، وسط تفاعل الحضور بالأناشيد التي تمجد المقاومة وتدعو لنصرة فلسطين من كل الأعراق والقوميات الإسلامية.


العربي الجديد
منذ 2 أيام
- العربي الجديد
الإبادة في غزّة والتواطؤ الغربي والخذلان العربي
ألهذه الدرجة حَكَم العالم على نفسه بالعجر والموت، فلم يعد قادراً حتّى على تمكين مدنيين عزّل من قطعة خبز وشربة ماء؟ ألم يدرك قادة القوى الكُبرى أنهم يتحمّلون مسؤوليةً أخلاقيةً وسياسيةً تجاه ما يحدث في غزّة من قتل وتدمير ممنهجَين، وعقاب جماعي وتجويع مروّع وحصار غير مسبوق؟ يعلم هؤلاء جيّداً أنهم السند الفعلي والداعم الرسمي والرئيس لإسرائيل، وهم الذين يُغدقون عليها المال والسلاح، ويحمونها من أيّ إجراءات عقابية يمكن أن تحدّ من حماقات حكومة متطرّفة هوجاء. كيف يمكن تفسير هذا الصمت والتواطؤ غير المبرَّرَين؟... ما يمكن اعتباره عقدةً أخلاقية تمترست في مخيال الغرب، وأخذت شكل الحاجز النفسي الذي يحول دون معاقبة الكيان الصهيوني ذريعة غير سليمة، وسردية مكشوفة، لا تعدو غطاءً تختبئ تحته الحكومات الغربية، لتترك إسرائيل تقوم بمهمتها الاستعمارية، إنهاك الشرق وتفتيته، وقولبته جغرافياً وجيوستراتجياً. فأن تتحكّم إسرائيل في مجمل التراب الفلسطيني بإعادة احتلال غزّة وضمّ الضفة الغربية والقدس الشرقية معناه أنها ستتمكّن من مدّ سيطرتها وتوسّعها إلى جغرافيات أخرى في سورية ولبنان، وربّما في مصر، إذا وجدت الشروط ملائمةً، وردّات الفعل محتشمة أو منعدمة. الممارسات الهمجية ووجبات القتل اليومي المتوحّشة، واستراتيجية الأرض المحروقة والتهجير القسري، وتسوية كلّ ما بنته سواعد أبناء غزّة بالأرض، وهدم المؤسّسات الحيوية والمنشآت الضرورية ومباني السكّان، وتدمير الشوارع والساحات والحدائق وأماكن العبادة، وتجريف المقابر والتنكيل والتمثيل بالجثث، والاعتقالات في شروط قاسية جدّاً، والتعذيب الذي يصل إلى الموت في عشرات الحالات، وإلى الهزال الشديد والعقوبات الجماعية... ألم يحرّك هذا التوحش كلّه، وهذا الجبروت كلّه، قادة العالمَين؛ العربي والإسلامي؟ ألم يصبهم بالصدمة التي كان من الممكن أن تتحوّل صرخةً أو صيحة مدوّيةً تتبعها قرارات ملموسة لفتح كوّة أمل (ولو كانت صغيرةً) أمام سكّان غزّة، وتمكينهم من الأكل والشرب والعلاج؟ أليس من البديهي والطبيعي أن يحصل هؤلاء على هذا الحقّ الضروري لاستمرارهم أحياء؟ ألا تخفق قلوب القادة وترفّ جفونهم أمام هول الكارثة التي تجاوزت كلّ خيال وتصوّر؟ ماذا سيحدث لو ضُغط على حكومة الكيان الصهيوني بُغية ردعها وكبح جماح تطرّفها وغطرستها، ولتتوقّف عن مخطّط الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب؟ هل ستزلزل الأرض وتقوم القيامة لأنّ دولة شعب الله المختار المؤمنة والمحروسة والمسيّجة برعاية إلهية ستصاب بنوبة غضب، وستمسّ في جوهرها؟ وصل الحقد والتوحّش بالكيان المحتلّ إلى منع الغزّيين من الاستحمام في مياه البحر الأبيض المتوسط، بهدف تعقيد الوضع وزرع مزيد من الإحباط لا. لا شيء من هذا. فقط الحكومة المتطرّفة بزعامة بنيامين نتنياهو، لمّا وجدت الساحة فارغةً وخلا لها الجو، وأدركت أن توقيع دول عربية على ما سمّيت "اتفاقيات أبراهام"، التي رعتها الولايات المتحدة، هو تفويض لها، وضوء أخضر لتنفذ أخطر جريمة ضدّ الإنسانية، وأفظع حرب إبادة في التاريخ، عوض أن تشكّل هذه الاتفاقيات، حاجزاً يمنعها من التغوّل والتنكّر لحقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم وعاصمتها القدس الشرقية. إلى متى ستظلّ دولة الاحتلال فوق القانون وخارج نظام العقوبات والردع؟ فهذا الكيان السرطانيّ عمد ضمن سياسة مُفكَّر فيها إلى تغيير المعادلة الديمغرافية في أرض الواقع، بقتل أكبر عدد من سكّان غزّة تحديداً، مع التلويح بورقة التهجير، قسراً أو طواعية. وهذا ما جعل حكومة هذا الكيان تجري اتصالات مع دول عدّة في أفريقيا وأوروبا الشرقية وأميركا الجنوبية وآسيا، إضافة إلى مصر، لاستقبال لاجئين من قطاع غزّة بمسمّيات مختلفة. ولا تخفي هذه الحكومة أنها مستعدّة لتقديم تسهيلات مالية لمن يغادر قطاع غزّة طواعيةً، مستغلّة في ذلك الحصار الطويل الذي فرضته على القطاع منذ 2007، وتضاعفت حدّته منذ "7 أكتوبر" (2023)، وظروف العيش القاهرة والتجويع المقصود. بل وصل الحقد والتوحّش بالكيان المحتلّ إلى منع الغزّيين من الاستحمام في مياه البحر الأبيض المتوسط، بهدف تعقيد الوضع وزرع مزيد من الإحباط، ودفع السكّان إلى التفكير في الهجرة الطوعية حلّاً وحيداً للنجاة من الموت. ينبغي التعامل مع ما تقوم به الحكومة اليمينية المتطرّفة في إسرائيل بكثير من الوعي واليقظة والحسّ الاستباقي. فهي لا تدمّر وتقتل وتبيد وتجوّع وتهجّر اعتباطاً وارتجالاً، بل تنفّذ استراتيجيةً متكاملة الأركان، ومدروسةً في الغرف المظلمة في تل أبيب وواشنطن وعواصم أخرى. وهذا ما أشار إليه الصحافي والكاتب الإسرائيلي الجريء جدعون ليفي، في صحيفة هآرتس، عندما كتب (12 يوليو/ تموز الجاري)، فقال: "ليست هذه حرباً متدحرجة، ولم يعد بالإمكان اتّهام نتنياهو بحرب لا جدوى منها. لهذه الحرب جدوى، وهي جدوى إجرامية. مرة أخرى، لا يمكن توجيه الانتقادات لقادة الجيش بأن الجنود يقتلون عبثاً، هم يقتلون في حرب من أجل التطهير العرقي. مهّدتْ الأرض، يمكن الانتقال إلى نقل السكّان، أمّا الإعلانات والمناقصات المطلوبة فأصبحت في الطريق. بعد استكمال عملية النقل واشتياق سكّان (المدينة الإنسانية) لحياتهم بين الأنقاض، مجوّعين ومرضى وتحت القصف، حينئذ يمكن الانتقال إلى المرحلة الأخيرة، وهي تحميلهم بالقوة في الشاحنات والطائرات تجاه الوطن الجديد الذي يطمحون إليه، ليبيا، وإثيوبيا، وإندونيسيا". إلى متى ستظلّ دولة الاحتلال فوق القانون وخارج نظام العقوبات والردع؟ ما كان الكيان الصهيوني ليصل إلى هذا المستوى من التغوّل والتطرّف والعجرفة لو كان هناك موقف دولي حازم ومبدئي وجدّي. غير أنه لما حصل العكس، وتبيّن أن الغرب، ولأسباب ثقافية وتاريخية وأيديولوجية وعقائدية، وحرصاً منه على مصالح استراتيجية مشتركة مع الكيان الصهيوني. امتنع عن اتّخاذ أيّ عقوبات ضدّ الحكومة الفاشية في إسرائيل، بل أكثر من هذا مدّها بالسلاح والمال، ومكّنها من الدعم الدبلوماسي، بما في ذلك حقّها في الدفاع عن النفس، على نحوٍ فضفاض من دون تحديد أو تدقيق، لأنّ ما يهمّ الغرب، وفي طليعته الولايات المتحدة، هو إرضاء اللوبي الصهيوني وعدم إزعاجه. هذا اللوبي الذي حول السردية الإسرائيلية عن المظلومية والهولوكست ريعاً تاريخياً، وورقةً لابتزاز الدول والمؤسّسات، واتهام كلّ مَن ينتقد جرائم وفظاعات الاحتلال بأنه معادٍ للسامية، علماً أن الصهاينة ارتبكوا في قطاع غزّة أسوأ هولوكست في التاريخ، وأبشع الجرائم التي يعاقب عليها القانونَين؛ الدولي والدولي الإنساني. بيد أن الحصانة التي تتمتّع بها إسرائيل جعلتها هي التي تتهم وتتطاول، حتى على أول مسؤول أممي وتتهمه بمعاداة السامية. وإمعاناً في التطرّف والغطرسة، لم تتوان في توجيه تهديدات إلى كريم خان، المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، التي سبق لها أن أصدرت مذكّرتَي اعتقال بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن السابق يوآف غالانت. ورغم ترحيب دول ومنظّمات وحركات عربية بهذا القرار، انخرطت الحكومة الإسرائيلية ومعها حليفتها الإدارة الأميركية في حرب نفسية وإعلامية ودبلوماسية، لتحوير مسار الأحداث، وتحويل أنظار الرأي العام العالمي. الحملة المسمومة نفسها شملت المقرّرة الأممية الخاصة المعنية بحقوق الإنسان في فلسطين، فرانشيسكا ألبانيز، فلم يتردّد وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو في إعلان عقوبات بحقّ ألبانيز على خلفية كشفها تورّط شركات عالمية في ما وصفته باقتصاد الإبادة في فلسطين. وأوضحت المقرّرة الأممية في تقريرها أن هناك دولاً تساند إسرائيل في مشروعها للهيمنة وتهجير الفلسطينيين، وطالبت، في ضوء ذلك، بتعليق الاتفاقيات التجارية مع إسرائيل، التي تسهم في حرب الإبادة في غزّة، كما كشفت أن شركات صناعة أسلحة عالمية وفّرت لإسرائيل 35 ألف طنٍّ من المتفجرات، ألقتها على قطاع غزّة، وهي تعادل ستّة أضعاف القوة التدميرية للقنبلة النووية، التي ألقيت على مدينة هيروشيما اليابانية. الطريقة التي تتعامل بها إسرائيل مع الأمم المتحدة ومختلف المؤسّسات الدولية، واستهتارها بكلّ القرارات، وتماديها في ارتكاب الجرائم وإشعال الحرب في أكثر من منطقة، وتأجيج الصراعات الطائفية، وتغذية النعرات العرقية والمذهبية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الهدف منه هو إقناع الفلسطينيين والعرب بأنّ إسرائيل دولةٌ فوق القانون، فهي قوية، ولا أحد باستطاعته محاسبتها أو الردّ عليها، حتى ولو اعتدت عليه، وأن القانون الدولي في اعتقادها مجرّد خرافة، وأنها على حقّ بفضل القوة التي تملكها، وبفضل دعم الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة، وأيضاً بفضل الصمت والخذلان العربي الرسمي، اللذَين حوّلتهما سلاحاً لصالحها. فهي وفق هذا المنطق دولة يحقّ لها أن تفعل ما تريد، من دون أن تخضع لأيّ ردع سوى ما تقرّره هي، ومَن يفكّر في ردعها، فمصيره الدمار والهلاك.


العربي الجديد
منذ 2 أيام
- العربي الجديد
أوشفيتز - غزّة
تذكر المصادر التاريخية أن النسبة الأعظم من الموتى في معسكرات الاعتقال النازية ماتوا جوعاً، عبر سياسة ممنهجة كنت تستهدف التخلّص من هؤلاء الأعداء المفترضين. وينبغي التذكير هنا بأن الضحايا لم يكونوا يهوداً فحسب، وإنما كانوا خليطاً من الغجر واليهود والمعارضين سياسياً والفئات المصنّفة نازياً أنهم من "غير المرغوب فيهم". ومنذ أشرف هاينريش هيملر، في 27 إبريل/ نيسان 1940، على تأسيس معسكر أوشفيتز، شرع النازيون في تقييم علمي للمقاومة الجسدية للسجناء، وحساب دقيق للسعرات الحرارية والحصص الغذائية باسم نظام بيولوجي متفوّق، ينطوي على تحويل الضحايا "بشراً دون البشر"، يُستغلُّون بوحشية ثمّ يُهملون كنفايات عضوية. ورغم فظاعة هذه المظاهر وبشاعتها في ظلّ الحكم النازي، إلا أن اقتصاد الإبادة هذا لم يكن الأول من نوعه ولا الأخير. وإذا كان استخدام الجوع سلاحاً باستمرار في أوقات الحرب لإجبار العدوّ على الرضوخ، فقد ارتقى الكيان الصهيوني بتنظيم الجوع داخل غزّة إلى مستوى غير مسبوق من الإجرام. المفارقة الغريبة أن الصهاينة، الذين تاجروا طويلاً بضحايا معسكرات الاعتقال النازي، وفي مقدمتهم ضحايا معسكر أوشفيتز، استبطنوا الممارسات النازية ونقلوها بشكل أكثر وحشية لتطبيقها على الشعب الفلسطيني. لا تُخفي بعض القيادات الصهيونية توجّهاتها الاستئصالية التي تتبنّى الإبادة على الطريقة النازية منهجاً للتعامل مع قطاع غزّة المُحتلّ، فقد تباهى وزير التراث الصهيوني عميحاي إلياهو بالقول إن "الحكومة مندفعة نحو محو غزّة. نشكر الله على أننا نمحو هذا الشرّ ونمحو السكّان. غزّة ستكون يهودية". وبالتوازي، تتصاعد الدعوات إلى إنشاء ما تسمّى "المدينة الإنسانية"، وهي تسمية شاعرية لما سيكون معسكر اعتقال داخل القطاع لاستكمال مخطّط الإبادة الجماعية، ولكن هذه المرّة من خلال عملية فرز فردي للتمييز بين من ينبغي قتله في المحرقة، ومن سيُهجَّر. في المرحلة الحالية، تحاول سلطة الاحتلال استغلال المجاعة لممارسة هيمنتها. تصبح المجاعة، بالتالي، وسيلة تلاعب خطيرة، إذ لا يمكن لأيّ حاجة أخرى أن تحلّ محلّ الحاجة إلى الطعام. هذه الضرورة الأساسية هي التي تعرّض السكّان الجائعين لضعف شديد، وتضعهم في موقف اعتماد على أولئك الذين يتحكّمون في الوصول إلى الغذاء. يقيم استغلال المجاعة علاقة قوة بين من يعانون من الأزمة الغذائية ومن يتلاعبون بها لأغراض سياسية. تصبح المجاعة بذلك سلاحاً مرناً، يمكن استخدامه لممارسة هيمنة كلّية أو جزئية على السكّان، من طريق التمييز العرقي. لقد استخدمت المجاعة سلاحاً في سياق الحرب الصهيونية على القطاع، فبتجويع سكّان غزّة، لم يكن الصهاينة يأملون فقط في إضعاف قدرة الفلسطينيين على المقاومة، بل أيضاً في إيجاد بيئة مواتية للاحتلال الصهيوني، من خلال القضاء على (أو تهجير) السكّان، والهيمنة بشكل نهائي على قطاع غزّة. ينبغي أن نميّز هنا بين أمرَين: استغلال المجاعة لأغراض عسكرية للقضاء على الخصم، وهو الشائع في الحروب، ومن ناحية أخرى، المجاعة التي هدفها تدمير الإنسان، إذ تختزل هذه المجاعة الأفراد في طبيعتهم البيولوجية، وتجبرهم على عيش وجود يشبه حياة الحيوانات. في الواقع، ما يميز الماهية الإنسانية عن مجرّد الوظيفة الغذائية الحيوانية هو الثقافة الطهوية والقدرة على تجاوز الاحتياجات البيولوجية الأساسية، وهو ما يسمّى عادةً فنّ الطهو. لكن هذا الأخير يُهمل عند حدوث مجاعة. في لحظات الأزمات هذه، يصبح البقاء في قيد الحياة الهدف الأسمى، ويعيد الإنسانية إلى غرائزها الأكثر بدائية. تعتبر مؤسّسة غزّة للإغاثة الإنسانية والشركات التابعة لها تجسيماً لفكرة تجريد الفلسطيني من إنسانيته وتحويله هدفاً مستباحاً للقتل في أثناء رحلته للحصول على الطعام تكون عملية تحويل البشر حيواناتٍ شديدةً إلى درجة أن السكّان المتضرّرين من هذه المجاعة يُجرّدون من إنسانيتهم بالكامل. وبمجرّد اعتبار هؤلاء السكّان حيواناتٍ تماماً، من خلال التسلسل الهرمي القائم بين الحيوانات والبشر، تصبح الأعمال المرتكبة ضدّهم مبرّرة بهذه الدونية المزعومة، وهذا ما يفسّر سلسلة المجازر التي حدثت في نقاط توزيع المساعدات بقطاع غزّة، وتقع على عاتق مؤسّسة أُنشئت في الولايات المتحدة ويديرها جنود ورجال أعمال إسرائيليون، وشركاتها الخاصّة. وتعتبر مؤسّسة غزّة للإغاثة الإنسانية والشركات التابعة لها تجسيماً لفكرة تجريد الفلسطيني من إنسانيته وتحويله هدفاً مستباحاً للقتل في أثناء رحلته للحصول على الطعام. وتهدف هذه الازدواجية (مؤسّسة للإغاثة والتحكّم في المجاعة في الوقت نفسه) غالباً إلى إزالة أيّ شعور بالذنب لدى الجلّادين، فبتجريد الضحايا من إنسانيتهم، يسعى مرتكبو الإبادات الجماعية إلى التخلّص من أيّ مسؤولية أخلاقية تجاه أفعالهم. في الواقع، هذه طريقتهم لإقناع أنفسهم بأنهم لا يقمعون بشراً مثلهم. بالإضافة إلى ذلك، وعلى غرار الحيوان الذي يُضحّى به، ويُحوّل إلى لحم، فإن الفلسطيني لا يُسمح له بالبقاء إلا إن كان مفيداً.