
هل تكون أفريقيا طوق نجاة للاقتصاد الكندي؟
وفي ظل تصاعد الضغوط الاقتصادية الأميركية، وجدت أوتاوا نفسها أمام حتمية إستراتيجية للبحث عن أسواق وشراكات جديدة وإعادة رسم خريطتها الاقتصادية العالمية التي تبرز فيها أفريقيا بكل ما توفره من فرص كجزء من الحل للمأزق الاقتصادي ل كندا.
كان من الملاحظ صدور إستراتيجية كندية جديدة تجاه أفريقيا في مارس/آذار الماضي مع تزايد حالة اللايقين الناتجة عن سياسات الرئيس الأميركي.
View this post on Instagram
A post shared by الجزيرة الوثائقية (@aljazeeradocumentary)
طعنة واشنطن غير المتوقعة
لطالما كانت الولايات المتحدة أبرز الشركاء التجاريين لكندا؛ إذ تميزت العلاقة بين البلدين في هذا القطاع بدرجة عالية جدا من التكامل والترابط الذي نما عبر العقود، وهو ما أدى إلى حالة من الحساسية العالية لاقتصاد أوتاوا حيال أي تطورات مرتبطة بديناميات السوق الأميركية وسياسات واشنطن حيالها.
وبلغة الأرقام، تشير ورقة بحثية ضمن "مكتبة البرلمان الكندي" إلى بلوغ حجم التجارة الثنائية في السلع بين الطرفين عام 2023 نحو 968.4 مليار دولار كندي، مثلت قيمة الصادرات الكندية منها 594.8 مليار دولار كندي، بفائض تجاري كبير لأوتاوا بلغت قيمته 221.1 مليار دولار كندي.
في حين استحوذت واشنطن وحدها على 77.4% من إجمالي الصادرات الكندية و49.5% من إجمالي الواردات الكندية في عام 2023، وهذا يؤكد موقعها المهيمن كأكبر شريك تجاري لكندا في التبادل التجاري.
هذه الأرقام نجد نظيراتها في قطاعات أخرى كالخدمات والاستثمار المباشر، إذ كانت كندا والولايات المتحدة أكبر وجهة أجنبية للاستثمارات المباشرة للأخرى عام 2023، فبلغ إجمالي مخزون الاستثمار الأجنبي المباشر الكندي في الولايات المتحدة 1.1 تريليون دولار كندي، والأميركي في كندا 618.2 مليار دولار كندي.
وقد مثّل انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب بداية لمرحلة جديدة في العلاقة مع أوتاوا تميزت بسياسات حمائية وفرض تعريفات جمركية متبادلة، شملت قطاعات كندية تمتد من منتجات الصلب والألومينيوم (50%) إلى السيارات والشاحنات الخفيفة وقطع الغيار (25%) ومنتجات الطاقة والبوتاس (10%).
وتركت هذه السياسات الأميركية الحمائية آثارها على اقتصاد جارتها الشمالية؛ إذ سجلت كندا في أبريل/نيسان أكبر عجز تجاري شهري لها على الإطلاق، كما انخفضت الصادرات من الولايات المتحدة بنسبة 10 نقاط مئوية بين مايو/أيار 2024 ومايو/أيار 2025، في حين تعاني القطاعات الكندية الحساسة للتجارة التي تمثل نحو ثلث الناتج القومي من ضعف الأداء؛ إذ يندرج تحتها قطاعات كالتصنيع والطاقة والزراعة.
كندا والبديل الأفريقي
أمام هذه الضغوط، لا تبدو معزولةً الدعوةُ التي تنادي بضرورة البحث عن أسواق بديلة، إذ يوضح تحليل منشور على منصة "إنفستنغ" أنه بحسب بيانات حكومية جديدة، تبحث الشركات الكندية عن أسواق بديلة إضافية لتقليل اعتمادها على الاقتصاد الأميركي.
وفي هذا السياق، تطالب السيناتورة عن مقاطعة كيبيك، أمينة جربا بالخروج من هذا "الوضع الهش" عبر الاستلهام من دول مجموعة السبع مثل اليابان وإيطاليا، التي ساعدت شركاتها بشكل استباقي على الاستفادة من الفرص الهائلة المتاحة في الأسواق الأفريقية الناشئة.
وعبر مقالها المنشور على موقع البرلمان الكندي، تلقي جربا الضوء على العديد من المميزات التي تتمتع بها أفريقيا من قبيل أن تطبيق منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية سينشئ سوقا موحدة تضم 54 دولة وأكثر من 1.3 مليار نسمة ومن المتوقع أن يصل إلى 2.4 مليار نسمة خلال 20 عاما، إذ ستعزز هذه الاتفاقية التجارة البينية الأفريقية، والقدرة التنافسية للفاعلين الاقتصاديين في أفريقيا، وتزيد الاستثمار الأجنبي المباشر.
وتحت عنوان "لماذا أفريقيا؟ بناء الروابط الاقتصادية بين كندا وأسرع قارات العالم نموا"، يشرح تحليل مطول أجرته سيورياك للاستشارات بالتعاون مع مجلس الأعمال الكندي المعنى الاقتصادي لهذه الزيادة السكانية، إذ إنه بحلول 2030 سيُصبح 212 مليون أفريقي من دول جنوب الصحراء جزءا من الطبقة المتوسطة، بزيادة 86% عن عام 2015، كما أن المتوقع نمو استهلاك الأسر من 1.4 تريليون دولار أميركي في 2015 إلى تريليوني دولار في 2025.
كما يتوقع التحليل المنشور عام 2020 أنه بحلول عام 2045 سيكون عدد سكان أفريقيا الحضريين أكبر من الصين أو الهند، ما سيجعل المستهلكين الأفارقة أكثر ارتباطا بالسوق العالمية، في حين يوضح بعض الاقتصاديين أن هذا النمو سيرافقه إمكانات استثمار في قطاعات مختلفة ناشئة كالنقل والخدمات اللوجيستية والعقارات والاتصالات والتعليم والتكنولوجيا الزراعية.
وإن كان التحليل السابق يتحدث عن تواريخ بعيدة نسبيا فإن البيانات المنشورة على "وان داتا" توضح أنه نتيجة ضعف الوجود التجاري الكندي في أفريقيا تفقد الشركات الكندية حاليا 1.7 مليار دولار كندي من عائدات التصدير المحتملة، مع احتمال تزايد هذه الفجوة إلى 2.7 مليار دولار كندي بحلول عام 2030 ما لم تُبذل جهود حثيثة لمعالجتها.
ويطرح التحليل المذكور نماذج لمنتجات وقطاعات تملك كندا فيها ميزات تنافسية عالية، فإثيوبيا هي ثالث أكبر مستهلك للبازلاء في العالم وتأتي كندا ضمن أكبر منتجيها عالميا، كما أن من المتوقع أن يشهد استهلاك الأرز زيادة ملحوظة في دول كمدغشقر (+36.3%)، ونيجيريا (+32.6%)، ومصر (+16.7%) خلال العقد المقبل، وهو يتيح لكندا إمكانية تنويع صادراتها من الأرز بعيدا عن الولايات المتحدة.
وإن ابتعدنا عن قطاع الزراعة، فإن التقديرات تشير إلى تجاوز استهلاك أفريقيا من البلاستيك والمطاط ما تستهلكه أميركا الشمالية وأوروبا بحلول عام 2035، مما يُتيح فرصة سانحة للمصدرين الكنديين. إضافةً إلى ذلك يُمكن لكندا دعم أفريقيا في إدارة النفايات البلاستيكية، نظرا لريادتها الدولية في هذا القطاع.
مورِّد محتمل أيضا
هذا التوسع الاستهلاكي الذي يفتح شهية الشركات الكبرى للتوجه نحو أفريقيا ليس وحده الدافع لوضعها تحت المجهر الكندي، إذ تبين بعض التحليلات أن القارة السمراء قد توفر بديلا عن المنتجات الأميركية في ظل الرسوم الجمركية المتبادلة مع الولايات المتحدة، وكذلك سعي المستهلكين والموردين الكنديين لتجنب بضائع جارتهم الجنوبية.
وفي هذا السياق، تضرب البيانات المنشورة على "وان داتا" العديد من الأمثلة، فـ61% من واردات كندا من البن المحمص تأتي من الولايات المتحدة، على الرغم من أن حبوب البن تأتي أصلا من مناطق أخرى، منها دول أفريقية كإثيوبيا وأوغندا.
كما تعد الشوكولاتة مثالا آخر، إذ تستورد كندا 56% من إنتاجها من هذه المادة من الولايات المتحدة التي تستورد حبوب الكاكاو الخام وتعالجها، ثم تصدر المنتجات النهائية، في حين يستطيع التجار الكنديون استيراد المادة نفسها من دول كغانا وساحل العاج اللتين تمثلان 50% من إنتاج الكاكاو العالمي.
وهكذا، تستطيع كندا من خلال بناء سلاسل توريد مباشرة مع مصدري البن والكاكاو الأفريقيين، تعزيز الاستفادة من القيمة في المنشأ وتقليل الاعتماد على الوسطاء الأميركيين.
الواقع الاستثماري الكندي في أفريقيا
شهدت السنوات الأخيرة اهتماما كنديا متزايدا بالسوق الأفريقية، ورغم تأخر أوتاوا عن نظيراتها من دول السبع في هذا المجال فقد أظهرت الأرقام الرسمية تصاعدا كبيرا في التبادلات التجارية بين الجانبين منذ عام 2020.
فقد نمت صادرات السلع من كندا إلى أفريقيا بنسبة 13% وواردات السلع من أفريقيا بنسبة 130% بين عامي 2019-2023، في حين بلغ إجمالي تجارة السلع في عام 2024 نحو 15.1 مليار دولار، بزيادة تقارب 30% في 5 سنوات.
وعلى المستوى الرسمي، عززت كندا بشكل ملحوظ مشاركتها السياسية مع أفريقيا على مدى السنوات الخمس الماضية، وشمل ذلك حوارات رفيعة المستوى مع القادة ومفوضية الاتحاد الأفريقي ، وتعيين مبعوثين خاصين جدد، وإنشاء سفارة جديدة.
وعام 2024 بلغ عدد مفوضي التجارة الكنديين والمحليين 50 يعملون في 22 مكتبا أفريقيا، وتنحصر مهمتهم في مساعدة الشركات الكندية على تحديد الفرص في الدول الأفريقية والسعي وراءها، كما تستفيد 40 من هذه الدول من إمكانية الوصول المعفى من الرسوم الجمركية إلى السوق الكندية على السلع كلها تقريبا من خلال التعرفة الجمركية لأقل البلدان نموا.
وفي سبيل تهيئة مناخ استثماري أكثر استقرارا للقطاع الخاص الكندي، عقدت أوتاوا اتفاقيات لتعزيز وحماية الاستثمار الأجنبي مع دول، كبنين وبوركينا فاسو والكاميرون وساحل العاج ومصر ومالي.
وتعد قطاعات كالتعدين والطاقة في مقدمة المجالات التي تنشط فيها الشركات الكندية في أفريقيا، كما تمتد الاستثمارات أيضا إلى النقل وتجهيز الأغذية والضيافة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، بجانب الاستفادة من الخبرة الكندية في التعدين المستدام والتقنيات الخضراء.
إستراتيجية كندية جديدة تجاه أفريقيا
الواقع الاقتصادي الجديد مثل دافعا نحو بلورة رؤية إستراتيجية رسمية لأوتاوا فيما يخص العلاقات مع القارة السمراء تتجاوز الدور التقليدي كمانح للدعم.
فقد استثمرت كندا ما يقارب 4.5 مليارات دولار كندي في برامج المساعدات الدولية الثنائية في أفريقيا على مدى السنوات الخمس الماضية، بهدف بناء الاقتصادات الأفريقية، ودعم الصحة والتعليم، وتلبية الاحتياجات الإنسانية، وقد زادت أوتاوا المساعدات الدولية المقدمة لأفريقيا بنسبة 52% خلال السنوات الثماني الماضية.
وتجسد "إستراتيجية كندا لأفريقيا: شراكة من أجل الازدهار والأمن المشتركين" التي أطلقتها الحكومة الكندية في 6 مارس/آذار 2025 تتويجا لهذا التوجه الجديد، إذ هدفت إلى الانخراط بشكل أعمق مع القارة السمراء، من خلال تعاون اقتصادي أكبر، وشراكات سلام وأمن مُعززة، ومشاركة مُعززة لمجتمعات الشتات الأفريقي في كندا، ومساعدات دولية تدعم التنمية الاقتصادية وتوظيف الشباب.
وبالتوافق مع "أجندة 2063: أفريقيا التي نريدها" التي أعلنها الاتحاد الأفريقي، ستعمل الإستراتيجية الكندية الجديدة في 5 مجالات رئيسية تشمل:
تعزيز المشاركة الدبلوماسية عبر تعيين مبعوثين خاصين وافتتاح سفارات جديدة.
وتعزيز التعاون الاقتصادي من خلال بعثة تجارية رفيعة المستوى إلى أفريقيا.
وإنشاء مركز تجاري أفريقي.
ودعم إضافي لتنفيذ منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية.
والتفاوض على اتفاقيات تعزيز وحماية الاستثمار الأجنبي والشراكات البحثية.
عوائق وتحديات
بينما توفر أفريقيا فرصا استثمارية كبيرة لكندا، فإن الطريق نحو هذه المكاسب ليس ممهدا دوما، إذ تشير دراسة منشورة على "مجلة عمليات الأوراق المالية والحفظ" في خريف 2024، إلى الاستقرار السياسي كعامل رئيسي في اجتذاب الاستثمارات الأجنبية، إذ يضمن بيئة عمل قابلة للتنبؤ، واتساقا تنظيميا، في حين يخلق عدم الاستقرار السياسي، الذي تتصف به الكثير من الدول الأفريقية، حالة من عدم اليقين تثبط الاستثمار الأجنبي.
ويتعلق تحدٍ آخر، كما يوضح متخصص تطوير الأعمال، ستان وايتينغ، في مقال نشره على منصة "موور جنوب أفريقيا"، بضعف البنية التحتية ونقص الخبرة في قطاع الخدمات اللوجيستية، ما يعيق عمليات استيراد وتصدير السلع والمعادن الإستراتيجية المجدية اقتصاديا، واللازمة لإنشاء أسواق وبنى تحتية جديدة.
ومع تأكيد العديد من الاقتصاديين الكنديين أن بلادهم "آخر الواصلين إلى الحفلة" الأفريقية، تجد الشركات الكندية نفسها في منافسة كبيرة مع القوى العالمية الأخرى، ما يفرض عليها المزيد من الأعباء المتعلقة بتبني إستراتيجيات قوية لإدارة المخاطر والاستفادة من الدعم المتاح للتنقل في هذه البيئة التنافسية، لضمان نجاح توجهها نحو القارة.
وتعد حالة الاعتمادية المتبادلة طويلة الأمد مع الاقتصاد الأميركي عائقا من نوع مختلف أمام التوجه الكندي نحو الخارج، إذ يشير تحليل منشور على موقع "سكوشيا بنك" إلى أن تنويع تجارة السلع نحو الأسواق الخارجية سيتطلب إعادة تفكير وإعادة تشكيل البنية التحتية التجارية الحالية لكندا والتخلص من "تحيزها" نحو التجارة مع الجارة الجنوبية.
هذا النوع من التحول يتضمن استثمارا كبيرا في البنية التحتية البحرية والجوية، التي تمثل حاليا المنفذ لحصة كبيرة من الصادرات إلى دول غير الولايات المتحدة، بما يعني تحولا في احتياجات الإنفاق الرأسمالي نحو توسيع الموانئ والمطارات المهمة للتجارة مع الأسواق غير الأميركية.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 30 دقائق
- الجزيرة
موقع بريطاني: 4 كوامن خطر تهدد قمة ترامب وبوتين حول أوكرانيا
تتجه الأنظار إلى ولاية ألاسكا حيث من المقرر أن يلتقي الرئيس الأميركي دونالد ترامب نظيره الروسي فلاديمير بوتين الجمعة المقبلة، في محاولة لبلورة اتفاق ينهي الحرب المستعرة في أوكرانيا منذ أكثر من عامين. يأتي اللقاء وسط أجواء مشحونة بتصريحات متناقضة ومطالب متباينة بين الأطراف المعنية حول قضايا السيادة والأراضي، لكن ثمة آمال مشوبة بالحذر بحدوث اختراق سياسي رغم المخاوف من أن تصطدم المفاوضات بعقبات قد تعيد الأزمة إلى نقطة الصفر. وستكون هذه أول زيارة لبوتين إلى الولايات المتحدة منذ أن ألقى كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في عهد الرئيس باراك أوباما عام 2015، وفق الموقع الإخباري البريطاني آي بيبر. وفي مقال تحليلي بالموقع، أورد المراسل المستقل إيوان أوبيرن موليغان 4 عوامل يرى أنها قد تحدد مسار المحادثات: أولا، زيلينسكي مستعد للتفاوض بشرط أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي استعداده للانخراط في مفاوضات "تفضي إلى قرارات حقيقية تحقق السلام"، لكنه شدد على رفضه التام للتنازل عن أي جزء من الأراضي الأوكرانية، مؤكدا أن هذا المبدأ منصوص عليه في الدستور الأوكراني. ففي بيان صدر يوم السبت، قال زيلينسكي إن كييف "مستعدة لقرارات حقيقية يمكن أن تجلب السلام"، لكنه رفض فكرة التخلي عن أي أراضٍ أوكرانية. وأضاف عبر منصة تلغرام أن "الجواب على مسألة الأراضي الأوكرانية موجود بالفعل في دستور أوكرانيا ، ولا أحد يستطيع أو يحق له الانحراف عن ذلك. الأوكرانيون لن يسلموا أرضهم للمحتل". وتشير تقارير إلى أن روسيا تسيطر حاليا على نحو 20% من الأراضي الأوكرانية شرقي البلاد، وهو ما يشمل لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون، إضافة إلى شبه جزيرة القرم التي ضمتها عام 2014. وتتضمن خطط السلام المتداولة، والتي تدفع واشنطن لإقناع كييف وأوروبا بقبولها، منح موسكو أجزاء واسعة من هذه المناطق التي تعادل خُمس مساحة أوكرانيا ، وهو ما يعتبره زيلينسكي "خطا أحمر" غير قابل للتفاوض. إعلان ثانيا، هل يمكن لبوتين خفض مطالبه بضم الأراضي؟ قد يسعى البيت الأبيض للضغط على بوتين للتخلي عن بعض مطالبه بضم الأراضي، لفتح المجال أمام تسوية أكثر قبولا لدى كييف. ووفقا لتقارير، تحاول واشنطن إقناع القادة الأوروبيين بقبول اتفاق يعيد بعض الأراضي الأوكرانية من روسيا. وكانت صحيفة وول ستريت جورنال قد نقلت عن مصادر أن بوتين أبدى استعدادا لتقليص مطالبه، بحيث تقتصر على دونيتسك ولوغانسك والقرم ، متراجعا عن مطلبه السابق بضم جميع المناطق الخمس التي أعلن ضمها. بيد أن موسكو ما زالت تشترط وقف الدعم العسكري والاستخباراتي الغربي لأوكرانيا وضمان عدم انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو). ثالثا، هل تُفرض عقوبات جديدة على روسيا؟ يظل الملف الاقتصادي أداة ضغط أساسية بيد واشنطن. فقد هدد ترامب الشهر الماضي بفرض عقوبات جديدة ورسوم ثانوية على الدول التي تشتري النفط الروسي إذا لم يبد الكرملين مرونة نحو التسوية. ورغم انقضاء المهلة التي حددها، لم تُعلن الإدارة الأميركية عن عقوبات جديدة، بينما ألمحت تقارير إلى احتمال رفع بعض العقوبات مؤقتا لتسهيل مشاركة بوتين في القمة، بل وأشارت وسائل إعلام بولندية إلى احتمال إبرام تفاهم يسمح للشركات الأميركية بالوصول إلى موارد النفط والغاز الروسية مقابل تخفيف العقوبات. غير أن كاتب المقال يقول إن فرض عقوبات جديدة قد يدفع بوتين إلى إلغاء المحادثات قبل بدئها، لافتا إلى أن قناة سكاي نيوز أفادت بأن وزارة الخزانة الأميركية قد ترفع العقوبات عن بوتين مؤقتا لتسهيل سفره، كما فعلت مع مبعوثه الاستثماري كيريل ديميترييف الذي زار واشنطن في أبريل/نيسان الماضي. بحسب المراسل موليغان، لطالما قدم ترامب نفسه كـ"صانع صفقات"، ووعد مرارا بإنهاء الحرب في أوكرانيا كجزء من برنامجه الانتخابي. ورغم إخفاقه حتى الآن في ملف أوكرانيا، فإنه يستشهد بسجل من الوساطات الناجحة، آخرها التوصل إلى هدنة بين أرمينيا وأذربيجان ، إضافة إلى اتفاقات تهدئة بين دول عدة. وقد دفعت هذه التحركات 5 دول -من بينها إسرائيل – لترشيحه لجائزة نوبل للسلام، وهو ما يصر ترامب على أنه ليس هدفه الأساسي، بل يريد "إنقاذ الأرواح" على حد تعبيره. ومع اقتراب موعد قمة ألاسكا، تبقى فرص التوصل إلى اتفاق غير مؤكدة، إذ تصطدم المبادرات الدبلوماسية بخطوط حمراء أوكرانية، وحسابات إستراتيجية روسية، وضغوط أميركية متشابكة بين الاقتصاد والسياسة. غير أن ترامب، الذي ألّف كتابا نشر في عام 1987 بعنوان "فن الصفقات" بالاشتراك مع الصحفي توني شوارتز، يأمل في تحقيق اختراق يحافظ على صورته كـ"صانع صفقات" بارع، حسب تعبير المراسل المستقل في مقاله.


الجزيرة
منذ 4 ساعات
- الجزيرة
"الفدرالي" و"مكتب إحصاءات العمل".. مرايا الاقتصاد الأميركي المزعجة
خاص – يتواصل السجال في الولايات المتحدة الأميركية بشأن مصداقية ودقة البيانات والمؤشرات الصادرة عن العديد من المؤسسات الاقتصادية الحكومية وما يترتب عنها من قرارات جوهرية من قبيل أسعار الفائدة ومعدلات النمو. ويشتد ذلك السجال على خلفية التباين الحاد في بعض الأحيان بين ما يصدر عن تلك المؤسسات وبين التقييم السياسي الصادر عن إدارة الرئيس دونالد ترامب ، وهو ما يطرح الكثير من الأسئلة حول مدى استقلالية المؤسسات الاقتصادية والمالية الأميركية وتداعيات ذلك على اقتصاد أميركا والعالم. واحتدم الجدل قبل نحو أيام حول "مكتب إحصاءات العمل"، وذلك على خلفية قرار الرئيس ترامب في الأول من أغسطس/آب الجاري بإقالة مفوضة المكتب إريكا ماكنتارفر بعد إعلان أرقام تشير لتراجع توقعات نمو الوظائف في أميركا في يوليو/تموز. ولا يزال الجدل محتدما بشأن ذلك القرار بالنظر إلى دور ذلك المكتب، وهو وكالة فدرالية تابعة لوزارة العمل تتمثل مهمتها الأساسية في تشخيص حالة الاقتصاد الأميركي من خلال تقاريرها وبياناتها الدورية حول نمو الوظائف ومؤشرات أسعار المستهلك والتضخم والاستيراد والتصدير. وتركز النقاش حول المبررات التي ساقها ترامب لتبرير قراره، إذ اتهم إريكا ماكينتارفر بالتلاعب في أرقام الوظائف، وهو ما أيده كبار المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض عندما هبّوا لاحقا للدفاع عن ذلك القرار، واستبعدوا أن يتسبب في تقويض الثقة في البيانات الاقتصادية الأميركية الرسمية. وفي اليوم نفسه (الأول من أغسطس/آب)، نشر البيت الأبيض على موقعه الإلكتروني مادة جاء فيها أن "مكتب إحصاءات العمل" يجر تاريخا طويلا من عدم الدقة وعدم الكفاءة تحت قيادة ماكنتارفر، التي عينها الرئيس السابق جو بادين، وهو ما أدى إلى "تآكل الثقة العامة" في تلك الوكالة الحكومية. انتقادات مضادة في المقابل أكدت صحيفة نيويورك تايمز في افتتاحية خاصة بالموضوع أن اتهامات ترامب بحق إريكا ماكنتارفر لا أساس لها في الواقع، وأن تقرير بيانات سوق العمل يعده فريق غير حزبي بناء على إحصاءات كل قطاع اقتصادي على حدة. وذهب الكاتب الأميركي توماس فريدمان، وهو ذو ميول نحو الحزب الديمقراطي ، بعيدا في انتقاد تلك الخطوة، وقال في مقال بنيويورك تايمز، إنها ليست الأولى من نوعها في ولاية ترامب الثانية، بل تأتي ضمن سلسلة من الإجراءات التي تقوّض استقلالية الدولة وتحوّلها إلى أداة في يد الرئيس لتلميع صورته وتحقيق أهدافه السياسية. كما انتقد مسؤولون سابقون في مكتب إحصاءات العمل خطوة ترامب، ودعوا الكونغرس إلى التحقيق في إقالة ماكنتارفر، وحذروا من تداعيات تلك الخطوة وقالوا إن من شأنها أن تزعزع الثقة في ذلك المكتب. وأثارت إقالة ماكنتارفر المزيد من المخاوف والشكوك حول دقة البيانات الاقتصادية الرسمية الأميركية، في ظل تداعيات الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة التي تم فرضها على عشرات الشركاء التجاريين، وهو ما أدى لتراجع أسواق الأسهم العالمية. وعادة ما تعتبر الإحصائيات الصادرة عن "المكتب" من بين أكثر المؤشرات تأثيرا في توجهات السياسات الاقتصادية الأميركية، وغالبا ما يتم الاستشهاد بها من قبل وسائل الإعلام وتستند إليها الشركات والأوساط الأكاديمية ودوائر صنع السياسات لاتخاذ قراراتها. الاحتياطي الفدرالي في غضون ذلك يتابع الرأي العام الأميركي والدولي باهتمام كبير تصريحات ترامب حول مجلس الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) وضغوطه المستمرة على رئيسه جيروم باول في اتجاه خفض أسعار الفائدة والتلويح أكثر من مرة بتعويضه بمسؤول أقرب إلى توجهاته السياسية والاقتصادية. وبدأ الاهتمام بالموضوع منذ بداية العهدة الثانية للرئيس ترامب في يناير/كانون الثاني الماضي، وذلك بالنظر إلى دور تلك المؤسسة في رسم معالم السياسة المالية للبلد، وخاصة ما يتعلق بمعدلات الفائدة على القروض. وأثناء حملته الانتخابية سعيا للعودة إلى البيت الأبيض، وعد الرئيس ترامب مرارا بخفض أسعار الفائدة على القروض على غرار ما فعل في ولايته الأولى، لكنه اصطدم بإدارة المجلس التي تتمسك باستقلاليتها وتحرص على اتخاذ قراراتها بناء على الحقائق والبيانات. ورغم انتقادات ترامب العنيفة أحيانا وتلويحه بسلاح الإقالة، يواصل جيروم باول، الذي تنتهي ولايته في مايو/أيار 2026، التمسك بسياسة الحذر، وقرر قبل نحو أسبوع تثبيت سعر الفائدة عند 5.25% إلى 5.50%، مستندا إلى استمرار مؤشرات التضخم وسوق العمل في نطاق غير مستقر ومن أجل منح الاقتصاد فرصة لمزيد من التوازن، وسط تقلبات الأسواق العالمية. وتعهد باول بأنه سيستمر في ذلك النهج، وبرر تلك المقاربة بما سماه الضبابية الناجمة عن آثار الرسوم الجمركية التي أعلنها ترامب لأول مرة في أبريل/نيسان الماضي وواصل الإعلان عنها لاحقا. تهديد لثقة المستثمرين ويبدو أن التوتر والتصعيد بين الاحتياطي الفدرالي وترامب سيتواصل في الأشهر المقبلة بعد تلميحات من البيت الأبيض بعدم إقالة جيروم باول قبل نهاية عهدته، رغم أن القانون يسمح نظريا لرئيس البلاد بعزله إذا ثبت في حقه "إخلال بالواجب أو اختلاس أو عدم الكفاءة". إعلان وأشار تقرير نشرته مجلة فوربس إلى أن قانون الاحتياطي الفدرالي ينص على أسباب محددة لإقالة رئيس الفدرالي، مثل الفساد أو الإهمال أو خيانة الأمانة، ولكنه لا يعتبر الخلاف في الرؤية النقدية مسوغا قانونيا كافيا. وحذرت المجلة من أن سعي ترامب للمس باستقلالية تلك المؤسسة المالية المحورية ستكون له كلفة باهظة على ثقة المستثمرين، ومن شأنه أن يفتح الباب أمام تقلبات حادة وعواقب وخيمة على السياسة النقدية للبلاد. وفي هذا الصدد نقل موقع بلومبيرغ عن الخبيرة الاقتصادية ماري وليامز من جامعة جورجتاون قولها إن "التدخل السياسي العلني في عمل الفدرالي يقوّض مصداقية السياسة النقدية الأميركية أمام الأسواق العالمية". وحذرت ماري وليامز من أن "العوائد القصيرة الأجل قد تأتي على حساب استقرار طويل الأمد". ومن شأن هذه التوترات أن تلقي بظلالها في الأشهر المقبلة، قبل نهاية عهدة جيروم باول، على اقتصاد البلاد برمته وعلى مدى استقلالية المؤسسات الاقتصادية والمالية في البلاد. كما أن تلك الخلافات تفاقم الشكوك حول البيانات والمؤشرات الصادرة عن تلك المؤسسات، التي يفترض أن تكون بمثابة مرآة تعكس بصدق حالة الاقتصاد الأميركي بما يسمح لكل الأطراف المعنية باتخاذ القرارات السليمة استثمارا أو تصديرا أو اقتراضا.


الجزيرة
منذ 9 ساعات
- الجزيرة
لماذا فشل ترامب في إخضاع بوتين؟
في زمن تتكاثف فيه أزمات النظام الدولي، وتتعثر فيه موازين الردع التقليدي، تغدو الحرب في أوكرانيا أكثر من مجرد صراع مسلح على تخوم أوروبا الشرقية، إنها لحظة انعطاف في الإدراك الإستراتيجي الأميركي، ومرآة كاشفة لتحول معايير الفاعلية السياسية في عالم ما بعد الهيمنة. فمنذ أن دخل دونالد ترامب البيت الأبيض متسلحا بوعد انتخابي مفرط في بساطته، يعد بإنهاء الحرب خلال 24 ساعة، بدأ التناقض يتسع بين خطاب الصرامة وأداء التردد، وبين منطق الصفقات وواقع النار. ولم تمضِ سوى مئتي يوم حتى بدأت معالم العجز تظهر، لا كفشل ظرفي في إدارة الأزمة، بل كاختبار وجودي لمقدار ما تبقى من صدقية واشنطن كقوة قادرة على إدارة النظام لا الانكفاء أمامه. لم يجد ترامب في فلاديمير بوتين الطرف الذي يمكن جذبه إلى طاولة تفاوض بنكهة السوق، بل واجه عقلا جيوسياسيا متمرسا لا يراكم النقاط بل يسعى للحسم، ولا يهادن إلا من موقع القوة. رفض بوتين كل مساعي التجميد، ورفع من سقف شروطه حد المطالبة بانسحاب أوكرانيا من الأراضي التي ضمتها روسيا، وضمان عدم انضمامها إلى الناتو، ونزع سلاحها بالكامل، واضعا بذلك معادلة جديدة لا ترى في التسوية سوى غطاء للانتصار، ولا تقبل بأقل من إقرار دولي بخطته لإعادة ترسيم البيئة الأمنية لروسيا. هذه الشروط، وإن بدت مستحيلة في نظر كييف والدول الغربية، جاءت مدعومة بإيقاع عسكري متقدم؛ فالقوات الروسية، خلال الشهرين الماضيين فقط، استولت على أكثر من ألف كيلومتر مربع، بينما فقدت أوكرانيا ما يقرب من سبعة آلاف كيلومتر مربع منذ بداية 2023. ما يعني أن المبادرة على الأرض تميل بشكل متزايد لصالح موسكو، وأن آلة الحرب الروسية لم تتأثر بعد بما يكفي لاختلال ميزان المعركة. وفي الوقت الذي كانت واشنطن تلوح بعقوبات جديدة، بدا أن أدوات الضغط القديمة فقدت زخمها. ففرض عقوبات ثانوية على شركاء روسيا التجاريين بدا أقرب إلى إطلاق الرصاص في الفراغ. فالهند، مثلا، واصلت شراء النفط الروسي بموجب عقود طويلة الأجل وبأسعار تفضيلية، بل وأعادت تصديره محققة أرباحا ضخمة، في تجاهل تام لتحذيرات واشنطن. وقد ردت نيودلهي بلهجة صارمة، واصفة استهدافها بأنه غير مبرر وغير معقول، في مؤشر واضح على حدود التأثير الأميركي حتى على حلفائه التقليديين. ولم تكن الصين وتركيا بأقل تمردا، ما جعل فرض العقوبات الشاملة أمرا محفوفا بالمخاطر الاقتصادية والسياسية في آن واحد. وحتى مع تصعيد اللهجة، وتحديد مهل زمنية لإنهاء الحرب، بدا أن ترامب نفسه يشكك في جدوى ما يهدد به، إذ أقر في تصريح لافت: لا أعرف ما إذا كانت العقوبات تزعج بوتين، ثم استدرك: الروس بارعون جدا في التحايل عليها، في اعتراف مبطن بعجز الأداة الاقتصادية عن كبح جماح الرغبة الروسية في الحسم. وفي لحظة بحث عن مخرج سياسي يحفظ ماء الوجه، عادت واشنطن للتلويح بمقاربة اللقاء المباشر، حيث أثيرت مجددا فكرة عقد قمة مرتقبة بين ترامب وبوتين، كتجسيد أخير لمحاولة الالتفاف على الميدان عبر مسار شخصي. فقد وصل المبعوث الخاص للرئيس الأميركي وصديقه الشخصي، ستيف ويتكوف، إلى موسكو بصفة تمهيدية، وهو الذي سبق أن التقى بوتين دون مترجم رسمي، وتبادل معه الهدايا الشخصية، من بينها لوحة زيتية لدونالد ترامب نفسه، في مشهد أقرب إلى الطقس الدبلوماسي منه إلى المفاوضات الفعلية. وقد سُربت معلومات تفيد بأن احتمال عقد قمة بين الزعيمين لم يُستبعد تماما، رغم غياب أي مؤشرات فعلية على استعداد بوتين للجلوس من موقع غير المنتصر. وإن كان ترامب قد راهن منذ البداية على العلاقة الشخصية مع بوتين، فإن وقائع الميدان لا تساير ذلك الرهان، بل تقوضه. وظلت موسكو ترفض الانخراط في أي مفاوضات جدية، مواصلة عملياتها البرية، ومكثفة قصفها للمراكز المدنية، فيما كانت الإدارة الأميركية تمارس ضغطا عكسيا على كييف، حاثة إياها على القبول بتنازلات واقعية قد تفضي إلى اتفاق غير مشرف. أما على الأرض، فتواصل روسيا قصفها المكثف باستخدام الطائرات المسيرة والصواريخ، مستهدفة البنية التحتية المدنية والعسكرية، في تكتيك منهجي يرهق الدفاعات الجوية الأوكرانية التي تعتمد بشكل شبه كلي على المساعدات الغربية. بيد أن هذه المساعدات، ورغم رمزيتها، بدأت تظهر محدودية فعلية، لا بفعل تراجع الإرادة السياسية فقط، بل نتيجة العجز الصناعي البنيوي في كل من أوروبا والولايات المتحدة. فالمصانع الغربية، المصممة لحروب محدودة أو حملات جوية خاطفة، ليست قادرة على مجاراة الطلب المتسارع في حرب استنزاف طويلة الأمد، خصوصا في مجال الدفاع الجوي، الذي بات يمثل نقطة الضعف المركزية في الأداء الأوكراني. في هذا السياق، تتعمق أزمة واشنطن، لا لأنها عاجزة عن الدعم، بل لأنها لا تملك تصورا إستراتيجيا قادرا على ترجمة الدعم إلى نصر أو تسوية. لقد تحول الصراع في أوكرانيا إلى مرآة لبنية القرار الأميركي: مترددة في التصعيد، عاجزة عن الانسحاب، محاصرة بوعود انتخابية، ومقيدة بتحالفات لا تتحمل صدمات مفاجئة. وزاد من قتامة الصورة، رهان ترامب منذ البداية على علاقته الشخصية ببوتين، معتقدا أن الرجل الذي خاطبه مباشرة، وأبدى له الاحترام، يمكن استمالته، أو على الأقل، احتواؤه. غير أن الميدان كان أقسى من المجاملات، والسياسة الدولية أكثر عنادا من الكلمات. وقد بلغ التوتر ذروته حين صعّد ترامب لهجته بعد تبادل حاد مع ديمتري ميدفيديف، معلنا تحريك غواصتين نوويتين كرد رمزي على التصعيد الروسي، ثم سرعان ما عاد إلى التهدئة، مكتفيا بالقول إن الغواصات في مواقعها. لكنه، رغم هذه التصعيدات العرضية، بدا عاجزا عن فهم دوافع الكرملين، معترفا صراحة بأنه لا يعرف لماذا تصر روسيا على مواصلة الحرب، قائلا: هذا لا معنى له بالنسبة لي، في اعتراف نادر من رئيس أميركي بأن خصمه يفكر خارج الأطر المفهومة في واشنطن. ووسط هذا التعقيد، تبدو أوكرانيا كمن يقاتل على جبهتين: ضد عدو يتقدم، وضد حليف يتردد. إنها تدفع الثمن ليس فقط في الجغرافيا والدماء، بل في الإخفاقات المتتالية للنظام الدولي الذي وعدها بالدعم، ثم تركها تنهار على مراحل، تماما كما تُطفأ الشموع واحدة تلو الأخرى في غرفة لا أبواب لها. لم تعد الحرب مجرد اختبار إرادات، بل اختبار سرديات. فالرئيس الأميركي الذي بنى صورته على أنه صانع قرارات حاسمة، بات محاطا بشكوك تتنامى، داخل بلاده وخارجها، حول قدرته على التأثير في صراع يتجاوز حدود أوراق الضغط التقليدية. لقد تبين أن الحرب في أوكرانيا ليست نزاعا قابلا للحل عبر تغريدة أو صفقة، بل هي اشتباك إستراتيجي طويل النفس، يُعاد فيه تشكيل التوازنات، وتتبدل خلاله مواقع القوى. ترامب لم يفشل في تحقيق وعده فقط، بل كشف أن الرهانات المبنية على شخصنة السياسة الخارجية، وتبسيط صراعات معقدة في قوالب إعلامية، لن تصمد أمام وقائع الميدان. أما بوتين، فبدا كمن يكتب نص الانتصار على مهل، مؤمنا بأن الهيمنة لا تُستعاد بالخطابة، بل بالزحف البطيء والمدروس، وأن الجغرافيا حين تمسك بخناق الوقت، تنقلب من ساحة صراع إلى أداة كتابة للتاريخ. وبين هذا وذاك، يبقى النظام الدولي معلقا على أسلاك النار، عاجزا عن فرض النهاية، أو منع اتساع البداية.