logo
بريتون وودز صيني جديد!

بريتون وودز صيني جديد!

قاسيونمنذ 2 أيام

فالعالم يقف اليوم أمام مفترق طرق: إمّا أن يُعاد التوازن إلى الاقتصاد العالمي، أو أن نشهد انهياراً قد يكون أشدّ وطأة من أزمة 2008 المالية. والسؤال الوحيد الجدير بالنقاش ليس «هل»، بل «من» يستطيع التحرّك لتصحيح هذا الخلل الذي يتمدد في الاقتصادات الغربية، والذي يضرب مصالح الدول النامية، ويوقف زحف الفاشية؟
نعلم جيداً أن الاتحاد الأوروبي لم يعد قادراً على خوض هذه المعركة. ويعود السبب إلى العيوب البنيوية في تصميم عملته الموحدة: اليورو، ورفضه في أعقاب أزمة الديون السيادية أن يحوّل المحنة إلى فرصة لتوحيد قراراته المالية والاستثمارية. وها هو اليوم غارق في ركود اقتصادي وانقسام سياسي مستمر.
أما الولايات المتحدة، فهي تفتقر إلى الرغبة في إعادة التوازن إلى الاقتصاد العالمي. فبينما يُكثِر وزير خزانتها، سكوت بايسنت، من الحديث عن ضرورة ضبط التجارة وتدفقات رؤوس الأموال، نرى أن الإدارة التي يخدمها تسعى إلى أهداف متناقضة: خفض قيمة الدولار من جهة، وجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية من جهة أخرى. وهذا التناقض لا يمكن حسمه إلا من خلال تدخلات قسرية ضخمة، وهو ما تفتقر إليه أمريكا، سواء من حيث القدرة أو الانضباط.
فمن يتبقى إذن؟ الجواب البسيط: الصين.
في قمة العشرين في لندن عام 2009، طرحت الصين– في ذروة أزمة المال العالمية– مقترحاً جريئاً: إعادة النظر في منظومة بريتون وودز التي أنشئت عام 1944، وتبنّي الخطة التي تمّ تقديمها من قبل اقتصاديين غربيين منذ ذلك الحين، والتي تقضي بإنشاء اتحاد دولي للمقاصة.
لكن، كما رفضت الولايات المتحدة مقترح كينز قبل أكثر من سبعة عقود، تجاهلت واشنطن أيضاً الطرح الصيني. وكانت النتيجة ستة عشر عاماً من تفاقم الاختلالات الاقتصادية، وصلت اليوم إلى حدود الانفجار.
فإذا كانت أوروبا عاجزة، وأمريكا غير راغبة، فما الذي يمكن أن تفعله الصين؟ الجواب بنظري: بناء نظام بريتون وودز جديد لا يضم لا أمريكا ولا الاتحاد الأوروبي في مرحلته الأولى. نظام يبرهن على جدواه، ثم يستقطب الدول الأخرى تدريجياً.
وأرجو ألا يُساء فهمي. أنا لا أدعو الصين إلى تكرار سيناريو الهيمنة الذي مارسته أمريكا في النظام القديم. بل أدعوها، بالتعاون مع دول البريكس وسائر الشركاء، إلى تأسيس نظام تعددي حقيقي، هو ذاته النظام الذي كان يطرحه اقتصاديون غربيون ويتصوروه عام 1944، قبل أن يُجهضه الرئيس الأمريكي روزفلت، ويستبدله بترسيخ هيمنة بلاده على العالم.
كيف يعمل النظام الجديد؟
قبل أن أشرح آلية عمل هذا النظام الجديد، لا بد أن أتوقف عند بعض الاعتراضات التي قد تُثار في الغرب. سيقول قائل: إن الصين لا تصلح لقيادة نظام تجاري عالمي لأنها تفرض قيوداً على رؤوس الأموال. لكن ألم يُبنَ نظام بريتون وودز القديم– وحتى مقترح الاقتصاديين القدامى ذاته– على مبدأ ضبط تدفقات رأس المال؟
وقد يقول آخرون: إن الدولة التي تكون في قلب نظام تجاري عالمي يجب أن تسجّل عجزاً تجارياً دائماً، كي تمنح الدول الأخرى فائضاً يمكنها من تمويل تجارتها. لكن ألم يكن الغرض من النظام القديم هو تثبيت الفائض التجاري الأمريكي؟ هذه الاعتراضات ليست سوى تبريرات مغطاة بمزاعم اقتصادية زائفة.
والآن، كيف يمكن للنظام الجديد أن يعمل؟
سيحافظ كل بلد على عملته المحلية وعلى بنك مركزي مستقل. إلا أن كل معاملات التجارة ورؤوس الأموال بين الدول ستُحسب وتُسجّل عبر وحدة محاسبة رقمية مشتركة، ولنطلق عليها اسم «العملة الكونية Kosmos». وسيتم إنشاء مؤسسة متعددة الأطراف تفتح فيها كل دولة حساباً احتياطياً مقوماً بهذه العملة، ويُدار وفق سجل موزّع وشفاف.
يتم إصدار العملة الكونية وفق خوارزمية تتبع حركة التجارة العالمية، وتعدل الكمية المصدرة منها بناءً على دورات الاقتصاد العالمي، بحيث تزداد المعروضات في فترات الركود العام لتمنح الاقتصادات دفعة ضرورية.
سيظلّ سوق الصرف قائماً، ويتم تقويم العملة الكونية مقابل سلة من العملات الكبرى «مثل: الدولار واليورو والين» بطريقة مشابهة لما تفعله اليوم حقوق السحب الخاصة في صندوق النقد الدولي. لكن كل المدفوعات الدولية بين الدول المشاركة يجب أن تمر عبر حساباتها المقوّمة بهذه العملة الجديدة.
وبخلاف كل المقترحات السابقة، يقدم هذا النظام آليتين ثوريتين تستطيعان كبح الاختلالات وتفعيل التنمية المتبادلة. أسميهما: «الضريبة» و«الرسوم».
الضريبة: وهي نسبة تُقتطع سنوياً من فائض أو عجز الحساب الجاري للدول، وتُحوّل إلى «صندوق التنمية المشترك» الذي تديره المؤسسة متعددة الأطراف.
الرسوم: وهي أشبه بتعرفة يُلزم بها رأس المال الخاص عند خروجه بشكل مكثف من دولة إلى أخرى، كما تفعل تطبيقات النقل عند أوقات الذروة.
الهدف من «الضريبة» هو تحفيز الدول صاحبة الفائض التجاري على زيادة الاستهلاك المحلي والاستثمار، وتخفيف القدرة الشرائية لدى الدول ذات العجز. وسوق الصرف سيتفاعل تلقائياً مع هذه المؤشرات لتعديل أسعار الصرف، بدلاً من أن تظل رهينة لتدفقات رأسمالية تموّل الاختلال بدلاً من معالجته.
الهدف من «الرسوم» فهو عقوبة تلقائية ضد التدفقات المالية المضاربة، تُفرض آلياً ودون الحاجة إلى تدخل بيروقراطي، ودون أن تعني العودة إلى الرقابة الصارمة على رأس المال.
ما النتيجة؟ نظام بريتون وودز جديد يُولد من دون حاجة لأي مساهمات رأسمالية من الدول، ويفتح الباب أمام صندوق عالمي للثروة السيادية، يسهم في إعادة التوازن التجاري وتمويل التحول الأخضر العادل على مستوى الكوكب.
هل هذا ممكن؟ نعم. فالصين تمتلك الكفاءة التقنية، خصوصاً في مجال نظم الدفع الرقمية المعقدة. أما باقي دول العالم، فهي متعطشة لنظام تجاري مستقر ومتوازن، بعيد عن الاستغلال والتهميش.
لا تفتقر البشرية إلى السوابق. خذوا مثال نظام Target2 في البنك المركزي الأوروبي، الذي يفرض رسوماً على الفوائض والعجوزات داخل منطقة اليورو.
ما ينقصنا هو الإرادة السياسية لتجميع هذه الخبرات في مشروع جامع واحد.
وإذا كانت «علاجات ترامب الصادمة» التي يدّعي أنها ستُعيد التوازن للعالم، تؤدي في المحصلة إلى إطلاق يد الصين والدول النامية لبناء النظام الذي حلم به كثيرون ذات يوم، ألن يكون ذلك أعظم مفارقة في التاريخ الحديث؟!

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الدولار يراوح قرب أدنى مستوى له في 6 أسابيع
الدولار يراوح قرب أدنى مستوى له في 6 أسابيع

الشرق الأوسط

timeمنذ ساعة واحدة

  • الشرق الأوسط

الدولار يراوح قرب أدنى مستوى له في 6 أسابيع

حافظ الدولار على تداوله قرب أدنى مستوى له في ستة أسابيع يوم الثلاثاء، مع تزايد المؤشرات على الأثر الاقتصادي السلبي الناجم عن الحرب التجارية التي تشنها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ما أثر سلباً في ثقة المستثمرين. وعلى الرغم من التعافي النسبي في أسواق الأسهم العالمية بعد موجة من تهديدات ترمب المتقطعة بفرض رسوم جمركية، بقي الدولار تحت ضغط. وتترقّب الأسواق بيانات بشأن المصانع والوظائف خلال الأيام المقبلة، لتقييم حجم تأثير حالة عدم اليقين التجاري على أكبر اقتصاد في العالم، وفق «رويترز». ومن المقرر أن تتضاعف الرسوم الجمركية الأميركية على واردات الصلب والألمنيوم إلى 50 في المائة بدءاً من يوم الأربعاء، وهو الموعد ذاته الذي تنتظر فيه إدارة ترمب عروضاً محسّنة من الشركاء التجاريين. وعلّق كبير استراتيجيي أسواق الصرف في بنك أستراليا الوطني، رودريغو كاتريل، قائلاً: «تشير التطورات الحالية إلى أن التوترات التجارية لا تتحسّن فعلياً، وقد لاحظنا تراجع الدولار بشكل واضح». وأضاف: «المثير للاهتمام أن الدولارَيْن الأسترالي والنيوزيلندي كانا من بين أفضل العملات أداءً خلال هذه الفترة». وسجّل مؤشر الدولار الذي يقيس أداء العملة الأميركية أمام ست عملات رئيسية، مستوى 98.58، وهو الأدنى منذ أواخر أبريل (نيسان)، قبل أن يعاود الارتفاع بنسبة 0.25 في المائة. وارتفع الدولار بنسبة 0.1 في المائة أمام الين ليصل إلى 142.81، في حين تراجع اليورو بنسبة 0.15 في المائة، ليسجل 1.1426 دولاراً، بعد أن لامس في وقت سابق أعلى مستوى له في ستة أسابيع عند 1.1454 دولار. وسيتجه التركيز لاحقاً هذا الأسبوع إلى قرار البنك المركزي الأوروبي بشأن أسعار الفائدة وتوقعاته المستقبلية. كما ستُنشر بيانات التضخم الأولية لمنطقة اليورو عن شهر مايو (أيار)، حيث يُتوقع أن يبلغ معدل التضخم الأساسي 2.5 في المائة، انخفاضاً من 2.7 في المائة في أبريل (نيسان). وكان الدولار قد شهد تراجعاً واسع النطاق يوم الاثنين بعد صدور بيانات أظهرت انكماش قطاع التصنيع الأميركي للشهر الثالث على التوالي في مايو، مع تسجيل المورّدين أطول فترات تسليم منذ سنوات نتيجة تباطؤ التجارة. ويتوجه الاهتمام الآن إلى بيانات طلبيات المصانع الأميركية المرتقبة يوم الثلاثاء، تليها بيانات الوظائف في وقت لاحق من الأسبوع. وسجل الدولار بعض المكاسب الأسبوع الماضي، مرتفعاً بنسبة 0.3 في المائة، بعد استئناف المحادثات التجارية مع الاتحاد الأوروبي وقرار محكمة أميركية بوقف معظم الرسوم التي فرضتها إدارة ترمب. إلا أن محكمة الاستئناف أعادت فرض تلك الرسوم في اليوم التالي، في حين أكدت إدارة ترمب امتلاكها أدوات بديلة لفرضها إذا خسرت القضية قانونياً. وقال وزير الخزانة الأميركي، سكوت بيسنت، يوم الأحد، إن الرئيس ترمب ونظيره الصيني شي جينبينغ قد يجريان اتصالاً هاتفياً قريباً لبحث التوترات التجارية، رغم نفي وزارة التجارة الصينية يوم الاثنين ما وصفته بالاتهامات «الغاضبة وغير المبررة» من واشنطن بانتهاك بكين للاتفاق التجاري المشترك. من جانبه، قال استراتيجي الأسواق في بنك «آي إن جي»، فرانشيسكو بيسولي: «لا تزال التطورات في ملف التجارة محورية للغاية. تشير التقارير إلى أن الصين تعزّز نفوذها من خلال السيطرة على سلاسل توريد الرقائق والمعادن النادرة». وأضاف: «إذا جرى الاتصال بين ترمب وشي هذا الأسبوع، فقد يؤدي إلى تهدئة التوترات، كما حدث سابقاً. وهذا يترك الباب مفتوحاً أمام مفاجأة إيجابية قد تدعم الدولار لاحقاً هذا الأسبوع». وعلى صعيد أوسع، أدت المخاوف المالية إلى توجّه نحو «بيع الأصول الأميركية»، ما انعكس على تراجع حيازات الدولار من الأسهم والسندات في الأشهر الأخيرة. وتتفاقم هذه المخاوف مع بدء مجلس الشيوخ مناقشة مشروع قانون لخفض الضرائب وزيادة الإنفاق الذي من المتوقع أن يُضيف نحو 3.8 تريليون دولار إلى الدَّين الفيدرالي الأميركي، البالغ حالياً 36.2 تريليون دولار خلال العقد المقبل.

"عواد كابيتال": الضغوط على السندات الأميركية ستستمر والدولار في مرحلة "إعادة توازن"
"عواد كابيتال": الضغوط على السندات الأميركية ستستمر والدولار في مرحلة "إعادة توازن"

العربية

timeمنذ ساعة واحدة

  • العربية

"عواد كابيتال": الضغوط على السندات الأميركية ستستمر والدولار في مرحلة "إعادة توازن"

تتصاعد المخاوف العالمية بشأن مستقبل أسواق سندات الخزانة الأميركية ومكانة الدولار، في ظل تحذيرات متكررة من كبار صناع القرار المالي، مع استمرار الضغوط التضخمية وتصاعد العجز المالي في الولايات المتحدة. وفي الوقت الذي يؤكد فيه رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول الحاجة إلى مؤشرات إضافية تبدد عدم اليقين قبل اتخاذ قرارات حاسمة، حذّر الرئيس التنفيذي لبنك جي بي مورغان، جيمي ديمون، من أن الأسواق قد تشهد اضطرابًا كبيرًا في سوق السندات، نتيجة "الإفراط في الإنفاق الحكومي" والسياسات التوسعية السابقة مثل التيسير الكمي. وفي هذا السياق، قال زياد عواد، الرئيس التنفيذي لشركة عواد كابيتال ليميتيد، في مقابلة مع قناة "العربية Business"، إن الضغوط على سندات الخزانة الأميركية ستستمر، في ظل تركيز الإدارة الأميركية على دعم الاقتصاد دون التمكن من خفض الدين العام، ما يزيد من السلبية في أسواق السندات، خاصة مع استمرار معدلات التضخم المرتفعة. وأوضح عواد أن اتساع فجوة منحنى العائد بات مرجحاً، مع ارتفاع حاد للعوائد طويلة الأجل وتراجع الطلب عليها، مضيفاً أن عائد السندات لأجل 10 سنوات قد يصل إلى 5% خلال الأشهر المقبلة، ما يشكّل ضغطاً إضافياً على أسواق الأسهم العالمية. ويرى عواد أن الولايات المتحدة قد تلجأ إلى التحكم في منحنى العائد على غرار التجربة اليابانية، وهو ما قد يُضعف الدولار، مؤكداً أن إعادة تسعير العملة الأميركية سيسهم في تقليص العجز في الميزانية الأميركية، وإعادة التوازن إلى المحافظ الاستثمارية العالمية التي تركزت بشكل مفرط على الأصول الأميركية. لكن عواد أشار في ذات الوقت إلى تصريحات وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت، الذي شدد على أن الحكومة لن تتخلف عن سداد ديونها، ولفت إلى أن "سياسة الدولار القوي لا تعني صعوداً مستمراً يومياً"، ما يُفهم على أنه قبول ضمني بتراجع نسبي في قيمة الدولار دون المساس بمكانته العالمية. ورغم مواصلة البنك المركزي الأوروبي خفض الفائدة، إلا أن اليورو ما زال يسجل أداءً قوياً أمام الدولار، وهو ما يراه البعض "وضعا غريبا"، خاصة أن العوائد الأميركية ارتفعت بشدة خلال نفس الفترة. ويوضح عواد أن بعض المحللين يتوقعون ارتفاع اليورو إلى 1.25 دولار، وصعود الين الياباني إلى مستويات بين 120 و125 يناً خلال العام المقبل. وبحسب عواد، فإن هذه التحركات المحتملة لا تعكس "ضعفاً حقيقياً في الدولار"، بل هي جزء من عملية إعادة التوازن بعد فترة من التسعير المبالغ فيه للدولار مقابل عملات أخرى مثل اليورو والين، وحتى عملات الأسواق الناشئة. أما على مستوى المنطقة العربية، وخاصة أسواق الدخل الثابت، يرى عواد أن ارتفاع عوائد السندات الأميركية يعني تلقائياً ارتفاع تكلفة الاقتراض في الدول ذات العملات المرتبطة بالدولار، مثل دول الخليج، ما يشكل ضغوطاً صعودية على تسعير الإصدارات في المنطقة.

المصريون "ضحايا الأضحية"... أسعارها عالية وأياديهم قصيرة
المصريون "ضحايا الأضحية"... أسعارها عالية وأياديهم قصيرة

Independent عربية

timeمنذ 3 ساعات

  • Independent عربية

المصريون "ضحايا الأضحية"... أسعارها عالية وأياديهم قصيرة

على بعد نحو 80 كيلومتراً من القاهرة، في مدينة الصف الواقعة جنوب محافظة الجيزة، حيث يقطن محمد علوان، اعتاد الرجل الذي بلغ عقده الخامس كل عام على شراء عجل كأضحية مع اقتراب عيد الأضحى المبارك من أجل توزيعه على الفقراء والمحتاجين من أبناء قريته، لكنه فوجئ أثناء جولته على عدد من محال الجزارة بارتفاع كبير في أسعار الأضاحي مقارنة بالأعوام الماضية، بصورة تمثل عبئاً على موازنته، مما أجبره على تغيير خطته وطقوسه المعتادة باللجوء إلى حل بديل يضمن له تحقيق المعادلة بين خفض الكلفة المالية، والحرص على أداء الشعيرة الدينية. يقول علوان، الذي يعمل موظفاً بإحدى شركات الاتصالات الخاصة ويعول أسرة مكونة من زوجة و3 أبناء، "أسعار الأضاحي الحية أصبحت جنونية، والتجار يرفعونها بصورة غير مبررة، ولم يعد بإمكان الشخص المتوسط الحال أن يتحمل سعر ذبيحة الأضحية بمفرده". يستشهد علوان بمثال، فـ"قبل 3 سنوات كان سعر العجل يصل إلى 50 ألف جنيه (نحو ألف دولار)، وكنت حريصاً على تلك العادة، ولكن الأسعار تضاعفت حالياً ثلاث مرات، وأصبح سعر العجل يراوح في بعض الأحياء ما بين 100 و150 ألف جنيه، ما سيضغط على موازنة المنزل وحاجات الأسرة ومتطلباتها، بالتالي كان لا بد من مشاركة أشخاص آخرين لخفض الكلفة المالية ومواصلة ذبح الأضحية". اتفق علوان مع أربعة آخرين من أقاربه على شراء عجل من أحد محال الجزارة القريبة من قريته بسعر 120 ألف جنيه (2411 دولاراً)، بحيث يتحمل كل فرد قرابة 24 ألفاً (نحو 482 دولاراً)، ليتم تقاسم الكلفة بينهم. "على رغم الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة، والقفزات المتوالية في أسعار غالب السلع والمنتجات، ومتطلبات المنزل والأبناء التي لا تنتهي، فإنني لم أفكر يوماً في الانقطاع عن تلك العادة تحت أي ظرف من الظروف"، بحسب علوان. ومنذ عام 2016 تشهد سوق الصرف في مصر تغيرات كبيرة تزامنت مع إعلان الحكومة تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي بدأ بتحرير سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار (التعويم)، وخلال الأعوام الماضية خُفض الجنيه المصري خمس مرات فقد خلالها نحو 84.6 في المئة من قيمته أمام الدولار. لا أضحية على عكس "علوان" قرر أحمد المحمدي، الذي يعمل معلماً بإحدى المدارس الخاصة ويقطن بحي فيصل بالجيزة (جنوب القاهرة)، التخلي خلال العام الحالي عن ذبح الأضحية التي اعتاد عليها طوال السنوات الخمس الماضية، بسبب ارتفاع سعر الأضاحي، ولعدم توافر الملاءة المالية لديه، ومن أجل تلبية متطلبات وحاجات منزله الشهرية. يقول الرجل الذي يعول زوجة وطفلين لـ"اندبندنت عربية"، "كنت أداوم كل عام على شراء خروف الأضحية وكان سعره قبل ثلاثة أعوام لا يزيد على 6 آلاف جنيه (120 دولاراً)، ولكن تضاعف سعره على مدى العامين الماضيين ليصل لـ12 ألفاً (241 دولاراً)، وهو أمر يفوق طاقتي، لا سيما أن دخلي الشهري لا يتخطى 9 آلاف جنيه (180 دولاراً)، وهو ما كان سيجبرني على الاستدانة لتوفير مبلغ الذبيحة". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) يقول المحمدي، "سأحرص على استكمال تلك العادة أملاً في نيل الثواب العام المقبل، وسأبدأ الدخول في جمعية لتوفير الكلفة المالية وحتى أكون قادراً على تنفيذ تلك الشعيرة". استجاب عمرو إسماعيل إلى نصيحة أحد زملائه المقربين، بالتواصل مع أحد مشرفي المؤسسات الأفريقية الموجودة بمصر عبر "فيسبوك"، والتي تتوسط بين الراغب في شراء الأضحية ومقر المؤسسة في تنزانيا لحجز خروف العيد، واتفق على تحويل مبلغ مالي للمؤسسة عبر وسائل الدفع الإلكتروني، على أن ترسل المؤسسة مقطع فيديو متضمناً اسمه بمجرد الانتهاء من تنفيذ الأضحية. يقول إسماعيل، الذي يعمل موظفاً بإحدى الشركات الحكومية، إنه بعد تفكير عميق وجد أن تلك الوسيلة هي الملاذ المناسب له، كونها رخيصة الكلفة مقارنة بأسعار الأضحية في مصر، ولتوفير عناء الذبح، وكذلك تساعد في إتمام الشعيرة الدينية، وتتلاءم مع دخله الشهري. ويضيف "لاحظت أن هناك فارقاً كبيراً بين سعر خروف الأضحية في تلك الدولة الأفريقية التي توجد بها غالبية مسلمة، إذ بلغت قيمته هناك 2700 جنيه (54.26 دولار)، في حين تخطى سعره في مصر الـ10 آلاف جنيه (200.97 دولار)، وهو ما جعلني أميل إلى تلك الفكرة من أجل نيل الثواب". وكانت دار الإفتاء المصرية حذرت عبر صفحتها الرسمية بمنصة "إكس"، في يونيو (حزيران) من العام الماضي، من انتشار مثل هذه الجمعيات المجهولة، بصورة أصبحت تمثل ظاهرة خطرة في ظل غياب الرقابة عليها، مما يجعلها مثار شبهات، بخاصة مع وصول عدد من الشكاوى للدار عن عمليات نصب تمت تحت اسم ذبح الأضاحي والعقائق أو حفر الآبار. مطالبة بعدم الانسياق وراء هذه الدعوات التي تعد فرصة لنهب أموال من يرغبون في أداء شعيرة الأضحية وفعل الخيرات. بدائل المصريين رئيس النقابة العامة للجزارين في مصر يوسف البسومي يرى أن المواطن أصبح أمامه خيارات وبدائل مختلفة في ظل الظروف المعيشية الحالية لمواصلة شعيرة الأضحية، أبرزها مشاركة آخرين في ثمن الذبيحة لتقاسم الكلفة المالية بينهم، أو اللجوء إلى الجمعيات الأفريقية التي تغري المصريين بأسعارها الزهيدة مقارنة بمصر، علاوة على التوجه نحو الذبيحة قليلة الكلفة، فـ"من كان يضحي بخروف أصبح يضحي بجدي"، منوهاً بأن كلفة الخروف الحي في السوق تراوح حالياً ما بين 12 ألف جنيه (241.16 دولار) و15 ألفاً (301.45 دولار)، أما الجدي فما بين 6 آلاف (120.58 دولار) و8 آلاف جنيه (160.77 دولار)، موضحاً أن كثيراً من المصريين قرروا العزوف عن ذبح الأضحية هذا العام في ظل الضغوط المعيشية الراهنة. ويضيف البسومي لـ"اندبندنت عربية" أن أسعار الأضاحي ارتفعت بنسبة طفيفة تصل إلى 5 في المئة مقارنة بالعام الماضي، وهو ما انعكس سلباً على حجم الطلب والإقبال في محال الجزارة، مرجعاً ذلك إلى ضعف القدرة الشرائية لدى المواطن، علاوة على زيادة كلف الإنتاج وارتفاع أسعار الأعلاف بنسبة 7 في المئة. يوافقه الرأي رئيس شعبة الجزارة بالغرفة التجارية بالقاهرة هيثم عبدالباسط، موضحاً أن سوق الأضاحي تشهد ركوداً في حركة البيع والشراء بمحال الجزارة بنسبة تصل إلى 60 في المئة رغم استقرار الأسعار نسبياً، مشيراً إلى أن هناك وفرة في حجم المعروض من اللحوم، سواء في محال الجزارة أو المجمعات الاستهلاكية. ويضيف عبدالباسط أن "سعر كيلو العجل البقري في محال الجزارة يبدأ من 190 جنيهاً (3.82 دولار) إلى 200 جنيه (4.02 دولار)، والخراف البلدي الحية من 230 جنيهاً (4.6 دولار) إلى 240 جنيهاً (4.82 دولار)، وكيلو اللحوم البلدي يبدأ من 420 جنيهاً (8.44 دولار) إلى 470 جنيهاً (9.45 دولار). وكل مواطن بحسب مستواه الاقتصادي، فالرجل الغني سيكون قادراً على الذهاب إلى محال الجزارة لشراء اللحوم البلدية، أما البسطاء في المناطق الشعبية فسيلجأون إلى المجمعات الاستهلاكية، أو يبحثون عن بدائل أخرى للشراء". قبل أيام أعلنت وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي في بيان عن خطة استعداداتها لاستقبال عيد الأضحى المبارك من خلال توفير أكثر من 12 ألف رأس من الأضاحي البلدية الحية (الأبقار والجاموس والأغنام والماعز) بأسعار مخفضة من خلال المزارع المنتشرة بمحافظات الجمهورية، وضخ كميات كبيرة من الأضاحي الحية واللحوم البلدية في مختلف المحافظات بأسعار مناسبة تقل عن مثيلاتها في الأسواق بنسبة تصل إلى 20 في المئة، وذلك بالمنافذ التابعة للوزارة ومزارع القطاعات الإنتاجية المختلفة. وبحسب تصريحات صحافية للمتحدث باسم الوزارة محمد القرش فإن أسعار الأضاحي بها تبدأ من 155 جنيهاً (3.11 دولار) إلى 160 جنيهاً (3.22 دولار) للكيلو الجاموسي، و170 جنيهاً (3.42 دولار) لكيلو البقري، وتراوح أسعار الأغنام والماعز وسلالة البرقي من 200 جنيه (4.02 دولار) إلى 220 جنيهاً (4.42 دولار) للكيلوغرام. الجزارة خارج المنظومة يعتقد عبدالباسط أن كثيراً من أصحاب محال الجزارة القدامى اضطروا إلى الخروج من المنظومة وترك المهنة بأكملها خلال الآونة الماضية، بسبب ضعف القوة الشرائية وتراجع نسب الإقبال، مردفاً "الجزار ليس مسؤولاً عن الأوضاع الاقتصادية أو قلة الإنتاج أو تعويم الجنيه، وما يشغل باله هو بيع اللحوم وتصريف بضاعته كي لا يتعرض لخسائر". وفق عبدالباسط، فإن 40 في المئة من حجم إنتاج مصر من اللحوم محلي، والباقي مستورد من الخارج، منوهاً بأن الإنتاج السنوي من المواشي (الأبقار والعجول والأغنام والماعز) يصل إلى198 ألف طن، مرجعاً زيادة أسعار اللحوم إلى ارتفاع كلفة الأعلاف المستوردة التي تشكل نحو 70 في المئة من السوق، فضلاً عن عوامل موسمية مرتبطة بموسم عيد الأضحى. وأظهر حصر للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء (جهة حكومية) أن أعداد رؤوس الماشية الحية بلغت 8.3 مليون رأس عام 2022، مقابل 7.5 مليون في 2021 بنسبة زيادة قدرها 10 في المئة، وبلغ إجمالي أعـداد رؤوس الماشية والحيوانات المذبـوحـة 4.6 مليون رأس عام 2022، مقابل 4.2 مليون رأس في 2021 بنسبة زيادة قدرها 10.2 في المئة. وفي تقدير رئيس شعبة الجزارة، فإن هناك محاولات من الحكومة لضبط الأسعار، سواء من خلال تكثيف الرقابة أو التوسع في استيراد لحوم الأضاحي، موضحاً أن هناك لحوماً من السودان وجيبوتي مطروحة في المجمعات الاستهلاكية بأسعار تبدأ من 285 جنيهاً (5.73 دولار) للكيلو، لتوفير بدائل للمواطنين محدودي الدخل. وأشار إلى أن الدولة تبذل جهوداً كبيرة لتعزيز الإنتاج المحلي، منها تخصيص 350 ألف فدان على طريق مصر - الإسكندرية الصحراوي لإنشاء مزارع أعلاف ومحطات تصنيع، إضافة إلى استيراد رؤوس ماشية لتربية العجول والبقر الحلاب. وكان وزير الزراعة واستصلاح الأراضي المصري علاء فاروق أعلن في تصريحات صحافية أنه تم خلال الفترة الأخيرة استيراد 149380 طناً من اللحوم المجمدة لطرحها في الأسواق بأسعار مخفضة، و158035 رأساً من العجول الحية، إضافة إلى46613 رأساً من الجمال، و16579 رأساً من الأغنام. وأعلن رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي خلال مؤتمر صحافي قبل أيام أن الدولة تستورد 50 في المئة من حاجاتها من اللحوم من دول أفريقية وآسيوية ومن أميركا اللاتينية والولايات المتحدة، و"لا توجد شحنة لحوم واحدة تدخل مصر إلا وتجري مراجعتها من الدولة التي ترد منها للتأكد من الذبح الحلال على الطريقة الإسلامية".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store