logo
الثقافة الغربية... هل تتراجع؟

الثقافة الغربية... هل تتراجع؟

الشرق الأوسطمنذ 2 أيام

في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته قُدر لي أن أعيش في باريس بضعة عشر عاماً اقتربت خلالها من حياة الفرنسيين ومن ثقافتهم، في الحدود التي أتاحتها لي ظروفي ورسمت معظمها الأقدار، بحيث استطعت أن أُلمّ بجانب لا بأس به من هذه الثقافة، وأن أتعرف على عدد من المشتغلين بها، خاصة في المجال الذي قُدر لي أن أعمل فيه، وهو الدراسات العربية في جامعات باريس، فضلاً عن بعض الكتاب والشعراء الذين جمعتني بهم ظروف الحياة والعمل.
وفي المقدمة ممن تعرفت عليهم المستعرب المعروف الأستاذ جاك بيرك الذي توثقت صلتي به، والأستاذ جمال الدين بن الشيخ أستاذ الأدب العربي وصاحب الفضل في اشتغالي بتدريس الشعر العربي في جامعة باريس الثامنة (فانسن) وعن طريقه أيضاً انضم الناقد المصري الراحل محمود أمين العالم إلى قسم الدراسات العربية في هذه الجامعة حيث كُلّف بتدريس الفلسفة.
كما تعرفت على الأستاذ أندريه ميكيل الذي فتح لي أبواب «الكوليج دو فرانس»، لألقي فيه أربع محاضرات عن الشعر العربي في القرن العشرين، وتعرفت كذلك على الأستاذ محمد أركون المتخصص في الدراسات الإسلامية، وعلى الشعراء ميشيل دوجي، وبيير أوستر، وهوغ لابروس.
وفي ذلك الوقت كان عدد من نجوم الثقافة الفرنسية في القرن العشرين لا يزالون يواصلون حياتهم ونشاطهم، ومنهم الشاعر لويس أراغون، والكاتب الفيلسوف جان بول سارتر الذي وجدته صباح يوم من الأيام يتناول فطوره في مقهى من مقاهي مونبارناس فحييته وذكّرته بلقاء سابق في القاهرة خلال زيارته لها في ستينات القرن الماضي.
وإن كنت قد عدت إلى وطني في آخر الثمانينات فأنا لم أنقطع عن باريس التي داومت على زيارتها كل عام مرة على الأقل طوال السنوات الماضية، وعلى متابعة ما يدور فيها من نشاط ثقافي، أنظر إليه الآن متسائلاً عما وصل إليه في هذه الأيام التي لم أعد أعرف فيها إلا القليل عن الأجيال الجديدة التي حلت محل الراحلين.
وأخشى ما أخشاه أن يكون الحديث الذي أخذ يتردد منذ سنوات عن تراجع الثقافة الغربية صحيحاً، وأن ينطبق هذا الحديث على الثقافة الفرنسية، وهو ما يمكن أن نجد له صدى فيما ينشر عن الكتاب الفرنسي، وعن المسرح وغيره من الفنون.
وإذا بدأنا من التعليم، وهي بداية منطقية فسوف نجد مثقفين فرنسيين يتحدثون عن تراجع الاهتمام بالثقافة الكلاسيكية في المدارس، كما نجد منظمات دولية تتحدث في تقاريرها عن هذا التراجع الذي بدأ في نظر الكثيرين في أعقاب الحرب العالمية الثانية التي غيّرت العالم كله كما غيّرت فرنسا.
فقد سيطر اليسار الماركسي على نصف العالم، وكان له دوره في فرنسا بالسياسة والثقافة والتعليم الذي أصبح للجميع، وبالتالي أخذ الكم يتقدم على الكيف عاماً بعد عام.
هذا التطور كان له تأثيره السلبي على تدريس الأدب والفلسفة وغيرهما من المواد التي أصبحت تقدّر بقيمتها في سوق العمل لا بقيمتها الثقافية، في ظل ظروف جديدة حلت فيها أجهزة الاتصال التي تخاطب الجمهور العام محل الكتاب الذي يخاطب النخبة ويحتل مكانه في حياة قارئه الذي اختاره واختار موضوعه واختار مؤلفه.
ولا شك في أن فرنسا لم تكن الدولة الوحيدة التي تأثرت بالتطورات السلبية التي عرفها العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لكن تأثير هذه التطورات في فرنسا كان أوضح، أو أن هذا هو ما نحسه نحن حين نجد أن الساحة الثقافية الفرنسية التي كانت حافلة إلى وقت قريب بالعبقريات في مختلف الفنون أصبحت خالية أو شبه خالية، أو لعل التطورات السريعة التي أصابت وسائل النشر والاتصال هي المسؤولة عما يخالجنا ويخالج غيرنا من شعور بالتراجع، خاصة حين نقارن بين حاضر الثقافة الفرنسية وبين ماضيها.
الثقافة الفرنسية كانت منذ ظهور الدولة المركزية عصوراً كاملة، وفنوناً، وأجيالاً تتوالد وتتشكل في كل عصر وتنتقل منه لتتوالد وتتشكل من جديد، من عصر النهضة إلى عصر الأنوار، ومن ثقافة الثورة والجمهورية إلى ثقافة القرن العشرين.
والأفكار والتيارات التي تأثر بها الفرنسيون تأثر بها غيرهم. وكما أن الثقافة الكلاسيكية تراجعت في برامج التعليم الفرنسية فقد تراجعت معها الثقافة العلمية والرياضية كما نرى في التقرير الذي أعدته المنظمة الدولية للتعاون والتنمية الاقتصادية ونشرته في العام الماضي عن التعليم في دولها الأعضاء وعددها ثمان وثلاثون دولة. في هذا التقرير احتلت فرنسا المكان السادس والعشرين بعد خمس وعشرين دولة سبقتها في تعليم الرياضيات والعلوم.
وباستطاعتنا أن نضيف لهذا التاريخ الذي يبدأ منه التراجع في نظر الكثيرين تاريخاً آخر سابقاً كان طعنة نجلاء ليس للثقافة الكلاسيكية الفرنسية وحدها، بل كان زلزالاً هز الكيان الفرنسي كله وكشف عن تمزقاته الداخلية، وهو العام الأربعون من القرن الماضي الذي سقطت فيه فرنسا في أيدي المحتلين النازيين الذين وجدوا في الفرنسيين من يرحب بهم ويتعاون معهم ويقف في صفهم ضد بني وطنه الذين أفاقوا من الصدمة وتشكلت منهم جماعات قاومت المحتلين.
هؤلاء الخونة الذين تعاونوا مع المحتلين لم يكونوا كلهم رعاعاً، بل كان فيهم ساسة وضباط ومثقفون لهم أسماء وأعمال معروفة، منهم الكاتب لويس فرديناند سيلين، والكاتب بيير دريو لاروشيل.
الأول فر بعد الحرب التي انتهت بهزيمة الألمان إلى ألمانيا، ومنها إلى الدانمارك حيث سُجن عاماً ثم سلّمه الدانماركيون للفرنسيين الذين حكموا عليه بالسجن من جديد. والأخير لاروشيل انتحر في سجنه.
وباستطاعتنا أن نتوقع من هذه السيرة المخزية الآثار المدمرة التي هزت ثقة الفرنسيين في أنفسهم، ونرى الأشباح المخيفة التي ظلت تطاردهم في نومهم وفي يقظتهم، إضافة إلى التغيرات السياسية التي غيّرت وجه العالم، وفرضت على الفرنسيين وعلى غيرهم من المستعمرين الأوروبيين أن يواجهوا ثورات التحرير التي اشتعلت في البلاد التي استعمروها في آسيا وأفريقيا، وأن يسلّموا للأميركيين بزعامتهم للغرب، وأن يراجعوا هذا التاريخ ويعالجوا ما وقعوا فيه من أخطاء فادحة، وهو مناخ لا يشجع الفرنسيين ولا يشجع غيرهم على مواصلة نشاطهم في الإبداع. وبهذا تتعرض الثقافة الإنسانية الرفيعة للتراجع، ولا يبقى إلا هذه الأجهزة أو هذه اللعب التي أغرق الأميركيون بها العالم.
وقد أعود في المقالة القادمة للحديث في هذا الموضوع الذي لا يهم الفرنسيين والغربيين وحدهم، بل يهمنا نحن أيضاً، ويهم العالم كله.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

"أبل تستأنف" قانونًا أوروبيًا بسبب مخاوف بشأن بخصوصية المستخدمين
"أبل تستأنف" قانونًا أوروبيًا بسبب مخاوف بشأن بخصوصية المستخدمين

العربية

timeمنذ 26 دقائق

  • العربية

"أبل تستأنف" قانونًا أوروبيًا بسبب مخاوف بشأن بخصوصية المستخدمين

استأنفت شركة أبل أجزاءً من قانون الأسواق الرقمية للاتحاد الأوروبي مرجعة ذلك إلى مخاوف تتعلق بخصوصية المستخدمين. وتطعن "أبل" تحديدًا في متطلبات التشغيل البيني بالقانون، والتي تنص على ضرورة إتاحة بيانات مثل محتوى الإشعارات والاقتران بشبكات الواي فاي لجهات خارجية. وتقول "أبل" إن الصيغة الحالية لقانون الأسواق الرقمية تسمح للآخرين "بالوصول إلى معلومات شخصية لا تطلع عليها أبل نفسها"، بحسب ما أورده موقع أكسيوس، واطلعت عليه "العربية Business". ويرجع ذلك إلى أن بيانات مثل عرض الإشعارات وبيانات شبكة الواي فاي تتم معالجتها حاليًا على جهاز المستخدم نفسه وتُخزن بطريقة مشفرة، لذا لا تستطيع "أبل" نفسها الاطلاع عليها. ومع ذلك، لا يشترط قانون الأسواق الرقمية بالضرورة أن تلتزم الجهات الخارجية التي ستتمكن من الوصول إلى هذه البيانات بمعايير الخصوصية والأمان نفسها التي تتبعها "أبل". وكانت "أبل" أعربت عن كثير من هذه المخاوف نفسها في مارس الماضي، عندما أمر الاتحاد الأوروبي رسميًا بتطبيق متطلبات التشغيل البيني. وتهدف متطلبات التشغيل البيني إلى منح مصنّعي الأجهزة الآخرين ومطوري التطبيقات إمكانية الوصول إلى ميزات من "أبل"، التي عادة ما تكون متوفرة حصريًا لأجهزة أبل، مثل الاقتران بشبكات الواي فاي، وتلقي الإشعارات على الساعات الذكية وسماعات الرأس غير التابعة لأبل. وتضمن إعلان مارس جدولًا زمنيًا ينص على أن مشاركة إشعارات نظام "iOS" يجب أن تكون متاحة في إصدار تجريبي من "iOS" بحلول نهاية عام 2025، مع إصدار نسخة نهائية كاملة للميزات بحلول يونيو 2026. وتقول شركات مثل "ميتا" و"غارمين" و"سوبتيفاي" إن منع الوصول إلى إشعارات المستخدم ومعلومات إعدادات الجهاز الأخرى يُعد عائقًا أمام دخولها لسوق مستخدمي آيفون. وترى هذه الشركات أنه إذا أُتيح لها الوصول إلى هذه البيانات، فستتمكن من منافسة التجارب المتكاملة التي توفرها أجهزة أبل مثل ساعة أبل، وسماعات إيربودز بشكل أكثر عدالة.

«رولان غاروس»: سفيتولينا تستغل تألقها لتسليط الضوء على معاناة أطفال أوكرانيا
«رولان غاروس»: سفيتولينا تستغل تألقها لتسليط الضوء على معاناة أطفال أوكرانيا

الشرق الأوسط

timeمنذ 29 دقائق

  • الشرق الأوسط

«رولان غاروس»: سفيتولينا تستغل تألقها لتسليط الضوء على معاناة أطفال أوكرانيا

تأمل الأوكرانية إيلينا سفيتولينا أن تستغل مستواها القوي في بطولة فرنسا المفتوحة للتنس (رولان غاروس) في تسليط الضوء على معاناة الأطفال في بلادها. وشنت روسيا حرباً على أوكرانيا بدأت منذ أكثر من ثلاث سنوات. وقالت سفيتولينا للصحافيين: «أريد تسليط الضوء على معاناة في أوكرانيا، الأطفال؛ لأنهم مستقبلنا وتجب رعايتهم». وتأهلت اللاعبة البالغة من العمر 30 عاماً لدور الثمانية في «رولان غاروس»، حيث تستعد لمواجهة قوية أمام البولندية إيغا شفيونتيك حاملة اللقب، الثلاثاء. وبعد اندلاع الحرب، أسست سفيتولينا منظمة خيرية هدفها مساعدة الأطفال في بلادها على ممارسة الرياضة رغم الحرب. وأضافت سفيتولينا: «أسعى من خلال مؤسستي لمنح الأطفال فرصة مواصلة ممارسة الرياضة، ومواصلة الحلم والتدريب، وقضاء ساعة أو ساعتين يومياً للاستمتاع بالرياضة، والاستمتاع بطفولتهم بالانقطاع للحظات عما يحدث في العالم». وأشارت لاعبة التنس الأوكرانية إلى أن مؤسستها الخيرية جمعت أكثر من مليون دولار خلال ثلاث سنوات.

الأسهم الأوروبية تتراجع بفعل تهديدات ترمب الجمركية الجديدة
الأسهم الأوروبية تتراجع بفعل تهديدات ترمب الجمركية الجديدة

الشرق الأوسط

timeمنذ 38 دقائق

  • الشرق الأوسط

الأسهم الأوروبية تتراجع بفعل تهديدات ترمب الجمركية الجديدة

تراجعت الأسهم الأوروبية يوم الاثنين بعد أن حققت مكاسب شهرية، عقب تهديدات جديدة من الرئيس الأميركي دونالد ترمب بفرض رسوم جمركية مرتفعة أعادت إشعال التوترات التجارية العالمية. وانخفض مؤشر «ستوكس 600» الأوروبي بنسبة 0.5 في المائة بحلول الساعة 07:59 (بتوقيت غرينتش)، وفق «رويترز». وفي وقت متأخر من يوم الجمعة، أعلن ترمب عزمه رفع الرسوم الجمركية على واردات الصلب والألمنيوم من 25 في المائة إلى 50 في المائة، وهو ما أبدى الاتحاد الأوروبي استعداده للرد عليه. وتراجعت أسهم شركات الصلب مثل «أرسيلور ميتال» و«أبيرام» بنحو 1 في المائة لكل منهما، في حين شهدت شركات صناعة السيارات أكبر أثر سلبي، مع انخفاض أسهم «ستيلانتيس» المدرجة في بورصة ميلانو بنسبة 3 في المائة. كما تراجعت أسهم «مرسيدس-بنز» و«بي إم دبليو» و«فولكس فاغن» بين 1.4 في المائة و2 في المائة، ليهبط القطاع بنسبة 1.6 في المائة. كما انخفضت أسهم السلع الفاخرة، أحد أهم صادرات أوروبا، بنسبة 1.6 في المائة. وارتفع مؤشر تقلبات السوق بمقدار 1.7 نقطة ليصل إلى 20.88، وهو أعلى مستوى له خلال أسبوع. وقال إيبك أوزكارديسكايا، كبير المحللين في بنك «سويسكوت»: «الإعلان الأخير يجدد التوترات التجارية، ويشير إلى أن مفاوضات التجارة قد لا تتجه نحو الحلول السلسة». وأضاف: «للتوترات التجارية تأثير مباشر على مبيعات السلع الفاخرة؛ إذ تُعد أميركا من أكبر الأسواق لصادرات الشركات الأوروبية الكبرى». وانخفضت معظم البورصات الإقليمية، مع تراجع مؤشر «داكس» الألماني بنسبة 0.6 في المائة. وفي أخبار الشركات، وافقت شركة «سانوفي» الفرنسية على شراء شركة «بلوبرينت ميديسينز» الأميركية مقابل 129 دولاراً للسهم، بقيمة إجمالية تقترب من 9.1 مليار دولار؛ ما دفع أسهم «سانوفي» للتراجع بنسبة 1.2 في المائة. وفي بولندا، انخفضت الأسهم بنسبة 1.4 في المائة بعد فوز مرشح المعارضة القومية كارول ناوروكي في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، إلا أن أوزكارديسكايا أكد أن نتيجة الانتخابات لن تؤثر على مكانة بولندا داخل الاتحاد الأوروبي. وتصدر سهم «هينسولدت» مؤشر «ستوكس» بارتفاع 7.2 في المائة بعد أن رفعت «جي بي مورغان» تصنيف السهم إلى «زيادة وزن» من «نقص وزن». وهذا الأسبوع يتجه التركيز إلى قرار البنك المركزي الأوروبي بشأن سعر الفائدة يوم الخميس، وإلى بيانات الوظائف الأميركية الحاسمة يوم الجمعة، إضافة إلى تصريحات مرتقبة من رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، ورئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد، إلى جانب مجموعة من البيانات الاقتصادية الصادرة عن الاتحاد الأوروبي.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store