logo
اعتقال ميليشياوي ليبي بألمانيا يُعيد ملف «المطلوبين» دولياً إلى الواجهة

اعتقال ميليشياوي ليبي بألمانيا يُعيد ملف «المطلوبين» دولياً إلى الواجهة

الشرق الأوسط٢٣-٠٧-٢٠٢٥
عادت قضية المطلوبين الليبيين دولياً إلى الواجهة مجدداً، بعد إعلان السلطات الألمانية أخيراً اعتقال خالد الهيشري، الملقب بـ«البوتي»، أحد أبرز قيادات جهاز «الردع»، تنفيذاً لمذكرة توقيف صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، وذلك لاتهامه بارتكاب «جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، تشمل القتل والتعذيب خلال إدارته وآخرين لسجن معيتيقة في طرابلس».
واعتُقل الهيشري في أحد مطارات ألمانيا، التي أعلنت احتجازه تمهيداً لتسليمه إلى لاهاي. ورغم صمت السلطات الرسمية الليبية، قوبل اعتقاله بترحيب حقوقي واسع، لكنه أثار قلقاً في أوساط قادة المجموعات والتشكيلات المسلحة في عموم البلاد، الذين باتوا يخشون مواجهة المصير نفسه، بحسب بعض المراقبين.
رغم تأكيد عضو المجلس الأعلى للدولة، علي السويح، أن توقيف «البوتي» أربك حسابات قادة هذه المجموعات المسلحة ودفعهم للحد من تحركاتهم، فقد اعتبر أن «الخطوة الحاسمة في هذا الملف هي توقيف المزيد منهم، وتجميد أرصدتهم». وقال السويح لـ«الشرق الأوسط» إن «نجاح المزيد من عمليات الملاحقة سيدفع بقية قادة المجموعات الحرب في عموم البلاد إلى التخوف والحذر، وتجنب مغادرة أراضيها، وخاصة إلى دول موقّعة على ميثاق روما المؤسس للجنائية الدولية».
من مخلفات مواجهات دامية بين تشكيلات مسلحة في العاصمة طرابلس (أ.ف.ب)
وأضاف السويح متسائلاً: «إلى أين سيذهبون حينها؟ وكيف سيتمكنون من الاستفادة من الأموال التي جمعوها، سواء من الخزينة العامة للدولة، أو مما فرضوه من إتاوات على المهاجرين غير الشرعيين وذويهم ممن وقعوا تحت قبضتهم في السجون، أو من عوائد أنشطة التهريب؟»، مؤكداً أن «استرداد هذه الأرصدة وتجميدها لاحقاً سيحرمهم من كثير من امتيازاتهم».
ووفقاً لبيان مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، يتحمل الهيشري المسؤولية عن جرائم وقعت بين 2015 و2020 داخل سجن معيتيقة، أحد أكبر السجون في العاصمة الليبية، والخاضع لسيطرة جهاز «الردع»، الذي تحوّل في عام 2018 من قوة مسلحة كبيرة إلى جهاز أمني تابع للمجلس الرئاسي الليبي. كما يسيطر «الردع» على مناطق واسعة في طرابلس ومرافق حيوية، مثل مطار معيتيقة، الذي يُعد الميناء الجوي الرئيسي للعاصمة.
محمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي (رويترز)
وسبق لـ«الجنائية الدولية» أن أصدرت في يناير (كانون الثاني) الماضي مذكرة توقيف بحق أسامة نجيم، قيادي آخر في «الردع»، بتهم مشابهة، إلا أن السلطات الإيطالية أطلقت سراحه بعد يومين من اعتقاله، مبررة ذلك بوجود خطأ إجرائي، ما أثار انتقادات حقوقية، وفتح باب المساءلة أمام وزراء في الحكومة الإيطالية.
ويعتقد السويح أن أغلب قادة التشكيلات المسلحة لم يخططوا للبقاء في ليبيا طويلاً؛ لأنهم متخوفون من أن أي تغيّر في المشهد السياسي قد يقلّص نفوذهم، وبالتالي قد تدفعهم الملاحقات الدولية إلى اللجوء لبعض الدول الأفريقية، التي تعاني من صراعات داخلية، وهو ما لا يرغبون فيه.
وطالب عضو المجلس الأعلى للدولة بـ«توسيع دائرة الملاحقات لتشمل سياسيين ومسؤولين تنفيذيين، تورطوا في دعم هذه التشكيلات، أو استفادوا من الفساد المالي»، معتبراً أن ذلك «سيُظهر جدية المجتمع الدولي في مساعدة ليبيا».
رغم إقرار حقوقيين بأن القضاء الليبي هو المختص الأصيل بمحاكمة أي مواطن ليبي، وأن القضاء الدولي مكمّل له، يشير هؤلاء إلى ما تتمتع به بعض الأسماء المتهمة بارتكاب انتهاكات «من نفوذ يحول دون اتخاذ إجراءات في حقهم، فضلاً عن إحجام الضحايا عن تقديم شكاوى ضدهم خوفاً من الانتقام».
واعتبر مدير مركز «صادق للدراسات»، أنس القماطي، أن اعتقال «البوتي» يكشف عن تحوّل في سياسة الجنائية الدولية تجاه المطلوبين الليبيين، خاصة بعد عدم نجاحها في تسلّم أسامة نجيم، مشيراً إلى أن «المحكمة باتت تعتمد على تنسيق دبلوماسي وقانوني أكثر دقة، وتتجنب أي إعلان مسبق عن مذكرات التوقيف لتفادي هروب المطلوبين».
مقابر جماعية اتهم بعض قادة التشكيلات المسلحة باستخدامها للتغطية على جرائمهم (هيئة البحث عن المفقودين)
غير أن القماطي انتقد في تصريح لـ«الشرق الأوسط» اقتصار الملاحقات على ضباط وقيادات مجهولة، تنتمي غالباً للصف الثاني، «دون أن تطال قادة التشكيلات، وأمراء الحرب الكبار في شرق وغرب البلاد، ممن تحصنوا بالمناصب الرسمية أو الرفيعة بكياناتهم المسلحة، مما يُضعف أثر هذه الملاحقات»، على حد قوله.
وأوضح القماطي أن «هذا النهج لا يُضعف وضعية التشكيلات المسلحة، بل يقدم درساً لعناصرها، مفاده أن الانخراط في مؤسسات الدولة، وعقد شراكات مع الدول الغربية الكبرى سيوفّر لهم الحصانة ضد العدالة، مهما امتلأ سجلهم أو سجل القوات التابعة لهم بالانتهاكات».
ويرى القماطي أن «خيارات قادة التشكيلات للهروب من الملاحقات لا تزال قائمة»، موضحاً أنه «يمكنهم السفر إلى دول لم توقّع على ميثاق روما في قارتي آسيا وأفريقيا، أو استخدام هويات مزورة في أوروبا، إضافة إلى إدارة أموالهم عبر شبكات من الشركات الوهمية، والمحامين والوسطاء في دول لا تفرض قيوداً صارمة على معرفة مصادر الأموال».
أما الناشط الحقوقي، طارق لملوم، فتوقّع صدور المزيد من مذكرات التوقيف بحق قادة المجموعات المسلحة المتورطين في الانتهاكات، مرجحاً وجود قائمة ثانية تضم مزيداً من الأسماء، لكن يجري العمل أولاً على إثبات التهم الموجهة إليهم.
وفي تصريح لـ«الشرق الأوسط» ذهب لملوم إلى أن اعتقال «البوتي» انعكس أيضاً على المشهد الأمني والسياسي في طرابلس، حيث استثمرت حكومة «الوحدة الوطنية» هذا الحدث في تصعيدها ضد «جهاز الردع»، وسط صراع وتوتر محتدم بين الطرفين منذ مايو (أيار) الماضي.
وكانت حكومة «الوحدة الوطنية» قد شنت قبل شهرين عملية أمنية، قالت إنها تستهدف تفكيك تشكيلات مسلحة خارجة عن القانون، بعد أن تغولت على الدولة، مما أسفر عن مقتل القائد الميليشياوي البارز عبد الغني الككلي، واندلاع اشتباكات بين قوات الحكومة من جهة وقوات «الردع» وحلفائه من جهة أخرى.
وذكّر لملوم بما تطرق إليه الدبيبة خلال اجتماع له مع قيادات وزارة العدل، حين تحدث عن «سجون تُدار من قبل متهمين بالاغتصاب والتعذيب»، في إشارة إلى «جهاز الردع».
واختتم الناشط الحقوقي بتحذير من أن «مخاوف قادة التشكيلات من الملاحقة قد تدفعهم إلى عرقلة أي عملية سياسية، بفضل امتلاكهم المال والسلاح، ما يُعقّد جهود الاستقرار في البلاد».
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

إيطاليا.. إسقاط دعوى ضد ميلوني بشأن إطلاق سراح ليبي مطلوب للجنائية الدولية
إيطاليا.. إسقاط دعوى ضد ميلوني بشأن إطلاق سراح ليبي مطلوب للجنائية الدولية

الشرق السعودية

timeمنذ 28 دقائق

  • الشرق السعودية

إيطاليا.. إسقاط دعوى ضد ميلوني بشأن إطلاق سراح ليبي مطلوب للجنائية الدولية

قالت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، الاثنين، إن هيئة قضائية أسقطت دعوى ضدها، وذلك بعد أن وُضعت رهن التحقيق على خلفية الإفراج عن شرطي ليبي مطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية. وأُطلق سراح شرطي ليبي يدعى أسامة المصري نجيم، في يناير الماضي، وعاد إلى وطنه على متن طائرة تابعة للحكومة الإيطالية بعد أيام قليلة من احتجازه في مدينة تورينو بشمال إيطاليا بموجب مذكرة اعتقال صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب "جرائم ضد الإنسانية منها القتل والتعذيب والاغتصاب". وقالت ميلوني في منشور على منصة "إكس": "قرر القضاة رفض الدعوى المرفوعة ضدي فقط". وذلك بعدما كانت تخضع للتحقيق بتهمة المساعدة والتحريض على ارتكاب جريمة وإساءة استخدام الأموال العامة". وأضافت ميلوني أنها تلقت وثيقة تشير إلى أن القضاة سيواصلون نظر الدعوى ضد وزير الداخلية ماتيو بيانتيدوزي ووزير العدل كارلو نورديو ووكيل مجلس الوزراء ألفريدو مانتوفانو، وجميعهم رهن التحقيق. وتابعت: "أؤكد أن هذه الحكومة تعمل بتماسك تحت قيادتي.. كل قرار، وخاصة القرارات بالغة الأهمية، متفق عليه.. لذا، من غير المعقول طلب محاكمة بيانتيدوزي ونورديو ومانتوفانو قبل محاكمتي أولاً". وقالت ميلوني إن "نجيم زار 3 دول أوروبية على مدى 12 يوماً قبل وصوله إلى إيطاليا، ولم تطلب المحكمة الجنائية الدولية اعتقاله إلا في تلك المرحلة". تحقيقات الجنائية الدولية وبدأت المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في اتهامات تتعلق بارتكاب جرائم خطيرة في ليبيا منذ الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد عام 2011، وذلك بعد إحالة الملف من مجلس الأمن الدولي. وقال وزير العدل كارلو نورديو أمام البرلمان في فبراير إن إيطاليا لم يكن لديها خيار سوى إطلاق سراح أسامة المصري بسبب الأخطاء وعدم الدقة التي شابت مذكرة الاعتقال. وطالبت المحكمة الجنائية الدولية بتفسير من إيطاليا، قائلة إنه "لم تتم استشارتها في قرار الإفراج". وكان وزير الداخلية الإيطالي قد أبلغ البرلمان أن نجيم أعيد بسرعة إلى وطنه "لأسباب تتعلق بأمن الدولة"، كما سخر زعماء المعارضة من تفسيره. ونجيم عميد في الشرطة القضائية الليبية، وتعتمد حكومة ميلوني بشكل كبير على قوات الأمن الليبية لمنع المهاجرين المحتملين من مغادرة ليبيا، والتوجه إلى جنوب إيطاليا. وذكرت ميلوني أن القضية المرفوعة ضدها يقودها نفس المدعي العام الذي حقق مع نائب رئيس الوزراء ماتيو سالفيني في صقلية بتهمة اختطاف 100 مهاجر على متن قارب أوقفه في البحر لمدة 3 أسابيع تقريباً في عام 2019. وتمت تبرئة سالفيني في تلك القضية الشهر الماضي. وسارع أنصار رئيسة الوزراء إلى "اتهام القضاء الإيطالي، الذي يخوض معركة مع الحكومة بشأن خطط لإصلاح شامل للنظام القانوني، بأنه مدفوع بدوافع سياسية". وأفاد لوسيو مالان، رئيس حزب ميلوني "إخوان إيطاليا" في مجلس الشيوخ: "نحن نواجه مثالاً آخر للعدالة المسيسة التي تهدف إلى مهاجمة حكومة ميلوني".

الدولة والسلاح
الدولة والسلاح

الشرق الأوسط

timeمنذ ساعة واحدة

  • الشرق الأوسط

الدولة والسلاح

يشهد الإقليم العربي منذ ما يسمى «الربيع العربي» حالة من الانكشاف السياسي والمؤسسي، تحول فيها الطموح بالتغيير إلى مسار استنزاف طويل الأمد. أحد أبرز تجليات هذا الانكشاف هو تصاعد الميليشيات المسلحة التي باتت تزاحم الدولة، لا في حدودها الرمزية فقط، بل في صميم وظائفها السيادية، وهذا الاستنزاف لا يقل خطراً عن استمرار مأساة فلسطين؛ فكلاهما يفرغ الجغرافيا من السيادة، والشعب من القدرة، والدولة من المعنى، فقد بات الخطر الأكبر على استقرار الخرائط هو الخطاب والسردية، وهما اللذان يتم الترويج لهما الآن، بدافع إفساح الطريق أمام التنظيمات والأحزاب المسلحة، لتشارك الدولة الوطنية في واجبها الأساسي، أي احتكار السلاح دون سواها، وقد عاشت المنطقة تجربة أن يكون السلاح في أيدي قوى غير الدولة، وكانت النتيجة أن تلاشى الاستقرار، وتمدّدت الفوضى. تشهد دول عربية كثيرة، مثل اليمن وسوريا والعراق ولبنان والسودان وليبيا، تآكلاً في مركز الدولة بفعل تغول الميليشيات، سواء كانت ذات طابع طائفي أو حزبي أو مناطقي. أضعفت هذه القوى الدولة، وحاصرت سلطتها، وأفقدتها هيبتها، ما جعلها عُرضة للانقسام، ومغرية للتدخلات الخارجية، سواء بالاحتلال العسكري المباشر أو بالوصاية السياسية والاقتصادية. وهذه دول كانت، قبل الغزو أو الحرب الأهلية أو حراك ما يسمى «الربيع»، تمتلك مؤسسات قائمة، ودوراً إقليمياً وازناً، وإن لم تكن كما ينبغي أو عادلة، طبقاً لمفهوم الدولة بمعناه الشامل. ورغم تكرار مفردة «الدولة» في الخطاب السياسي والإعلامي العربي، وظهورها في المعاهدات والإعلام والمحافل الدولية، فإن واقع الحال يكشف أن هذا الكيان أو ذاك كثيراً ما يكون هشاً، أو فارغاً من مضمونه، فكأن بعض الدول العربية المعاصرة، في كثير من حالاتها، لم تكتمل بعد، أو أنها تتعرض لعملية «تفريغ» ممنهجة، تُبقي على قشرتها وتنهك مضمونها. في هذا السياق، يصبح من المفيد استحضار تعريف عالم الاجتماع السياسي الألماني ماكس فيبر، الذي لم يكن ينشد دولة طوباوية، بل وضع معياراً واقعياً وعقلانياً، لتعريف الدولة الحديثة. قال فيبر: «الدولة هي الكيان الذي يحتكر الاستخدام المشروع للعنف داخل إقليم معين». وبحسب هذا التعريف، ليست المشكلة في استخدام الدولة للعنف، فهذا حقها ومن واجبها، بل في أن يكون هذا الاستخدام معبراً عن الشعب لا عن طائفة أو حزب أو فئة نافذة. نحن نعلم أن أغلب الدول العربية لم تنشأ، كما في التجربة الأوروبية، عبر تطور داخلي طويل أدى إلى بناء بيروقراطيات مستقرة ومؤسسات جامعة، بل نشأت غالباً نتيجة خرائط استعمارية، أو تسويات دولية، وقد تم تركيب الدول على شعوب لا على عقد اجتماعي، ونتيجة لذلك، غابت المشاركة، وتعددت مصادر العنف، وتحولت الميليشيات أحياناً إلى أدوات للسطوة والعنف أكثر منها أدوات لخدمة المواطنين، فيما ظهرت ميليشيات رديفة أو موازية أو مضادة، تقاتل باسم الطائفة أو الجماعة أو الآيديولوجيا. المشكلة هنا ليست أمنية فقط، بل بنيوية، تنبع من هشاشة النسيج الوطني، ولأجل بناء دولة بالمعنى الذي طرحه ماكس فيبر، فالمطلوب مسار عميق، يبدأ من احتكار السلاح بيد الدولة وحدها، مروراً بإعادة صياغة دستور تشاركي، إلى بناء مؤسسات مستقلة عن الطائفة والعائلة والحزب، ووصولاً إلى هوية وطنية تتجاوز الانتماءات الضيقة، دون أن تسحقها. هذه التحولات تحتاج إلى نخب مسؤولة، قادرة على تجاوز فكرة الغنائم السياسية، ومهمتها ليست إنتاج الخطاب فقط، بل المساهمة في صياغة العقد الجديد الذي يُلزم الجميع، كما تحتاج إلى شعوب ناضجة الوعي والذاكرة، تدرك أن الميليشيا التي تدافع عنها اليوم قد تنقلب ضدها غداً، وأخيراً، تحتاج إلى قوى إقليمية ودولية تتوقف عن استخدام السلاح وسيلة نفوذ، وتدعم بناء الدولة بدل تمويل وكلاء العنف. الطريق نحو الدولة ليس سهلاً، لكن التجربة التاريخية تكشف أن الأمم التي واجهت لحظات انهيار كاملة، مثل ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، أو رواندا بعد الإبادة، أو كولومبيا بعد الحرب الأهلية، استطاعت أن تبدأ من نقطة الصفر، عندما توافرت الشجاعة، والاعتراف بالحقيقة، والإرادة السياسية. والسؤال إذن ليس: هل فات الأوان؟ بل: هل لدينا ما يكفي من الشجاعة لفهم جذور المأزق؟ وهل نستطيع طرح سؤال الدولة لا كأنها سلطة بل بوصفها مشروعاً جماعياً مشتركاً؟ في قلب هذا الإقليم المأزوم، هناك دول تنتظر ولادتها، ليست تلك التي تلوح بالأعلام، بل التي تبني مؤسسات لا طائفية، وتخضع نفسها للقانون، وتحمي المواطن لا المذهب، فالدولة ليست القوة فحسب، بل الحق المشروع في استخدامها باسم الجميع، وهي ليست شعاراً، بل السؤال الدائم: من يحكم؟ ولماذا؟ وكيف؟ وباسم من؟ وعندما تُجاب هذه الأسئلة بوضوح، وعندما يرفع السلاح عن السياسة، وتعاد السياسة إلى ميدانها المدني، يصبح مستقبل الدولة العربية أكثر من حلم: يصبح ضرورة.

ألمانيا وأخواتها
ألمانيا وأخواتها

الشرق الأوسط

timeمنذ ساعة واحدة

  • الشرق الأوسط

ألمانيا وأخواتها

وأنا أتأمل خريطة ألمانيا المحاطة بسبعة بلدان منها الأقوى في القارة العجوز، دار في ذهني شريط ذكريات تاريخ البلد الاقتصادي والسياسي. هذه الأمة، التي انكفأت على نفسها بعد الحرب العالمية، ما زالت تثير بي الفضول، لأن معظم المثقفين العرب تخرجوا أو عاشوا في ثقافة بلدان أنجلوسكسونية (أميركا وبريطانيا) ولم يتعمقوا في ثقافة ألمانيا وأخواتها. ورغم أن الألمان قد خرجوا من تحت أنقاض الحرب العالمية مهزومين وابتعدوا عن سباق التسلح بعد معاهدة فرساي فإنهم نجحوا في أن يصبحوا أكثر دولة مصدرة للمنتجات الصناعية في العالم، وكان اقتصادها الأكبر في العالم، رغم صغر حجمها الجغرافي وافتقارها للموارد الطبيعية. وتسلحت بالتكنولوجيا والمهارات، وقدمت نموذجاً تعليمياً رائداً ليس فيه «هوس الجامعات» بل يمنح الشباب الواعد مهارات فنية في سن مبكرة تنتهي ببرنامج تطبيقي يخرج كوادر جاهزة للانخراط في المصانع والمعامل. ويقول جون كامفنر مؤلف الكتاب الرائع «لماذا يتفوّق الألمان؟» إن ألمانيا «لم تعتمد على استعمار الشعوب الأخرى، بل نهضت من الداخل بالاعتماد على شعبها ومواردها المتاحة». هناك جانب اجتماعي ما زال مجهولاً. كشف عنه النقاب سفير ألمانيا لدى بريطانيا توماس ماتوسك عندما خلع رداء الدبلوماسية وقال لحشد من الإنجليز إنه صدم من هوسهم بالحقبة النازية وأن مادة واحدة من أصل كل ثلاث مواد تتناول النازية في المرحلة الثانوية (الثاني والثالث عشر). وعندما أُجرِي استفتاء للرأي لم يتمكن نحو 61 في المائة من تسمية شخصية ألمانية معروفة! شخصياً، كنت تحت تأثير أن الإنجليز مباشرون في تواصلهم الاجتماعي وأنهم الأكثر دقة في كل شيء حتى قرأت دراسة للبروفسور هال الذي صنف الألمان على أنهم من أكثر الشعوب مباشرة في الطرح ودقة في التزاماتهم وجديتهم، وتأتي بعدهم الشعوب الأخرى (انظر مقالي بعنوان: «كيف يتفاهم العربي مع الألماني؟»). هذا جزء يسير مما نعرفه عن الثقافات غير الناطقة بالإنجليزية والتي تتطلب منا إعادة النظر في اقتصار البعثات للبلدان الناطقة بالإنجليزية وزيادة انفتاح شبابنا على البلدان المتقدمة لنتعلم من تجربتها الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية وغيرها. كنت أتبادل أطراف الحديث مع صديق بريطاني لم يتحقق حلمه بتعلم لغة ثانية «تجعله يفهم» العالم حسب وصفه، فأخبرته بأن المملكة العربية السعودية قررت تطبيق اللغة الصينية في المدارس العامة، وأنها بدأت بإجراءات فتح مصانع سيارات صينية وغيرها، فأبدى اندهاشه وعلق بأنه قرار «عظيم»، وأضاف: «لو كنت أتحدث الصينية، لأصبحت مليونيراً بالتجارة معهم». بالفعل هناك الكثير من الصفحات الثرية في تاريخ الأمم ويومياتها سقطت من أجندتنا لأننا نلهث وراء كل إقليم يتحدث الإنجليزية ونسينا أن النجاح ليس مقصوراً على تلك الرقعة الجغرافية. الكتاب الذي تصفه «التايمز» بأنه «من أبرز ما كُتب بالإنجليزية مؤخراً في تقديم صورة شاملة عن ألمانيا الحديثة وسياستها»، هو مما يستحق الترجمة للعربية لنفهم ماذا يجري في هذا العالم.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store