
القديسة آجيا كاترين.. تاريخ أيقونة اللغة والجغرافيا والتاريخ
إثر حادثة عرضية، طلب أحد المصريين القائمين على الجمعيات الأهلية في مدينة سانت كاترين زيارة الدير بصحبة بعض الأطفال، فلم تسمح له إدارة الدير بالزيارة، وحصلت مشادة كلامية بينهما، مما جعله يرفع دعوى قضائية ضد إدارة الدير. وصدر بموجب الدعوى حكم قضائي يحافظ على تراث الدير ومكانته الدينية والتاريخية، ويحد من توسعه في الأراضي المحيطة به، وهو ما أثار أزمة دبلوماسية وسياسية بين مصر واليونان.
فما قصة القديسة كاترين؟ ومتى أقيم الدير؟ وكيف تطورت العلاقة بين الدير والإدارة المصرية من جهة، وبينهما وبين اليونان من جهة أخرى؟
دوروثيا كاترين
استيقظت الشابة العشرينية دوروثيا (288-307م)، ابنة حاكم الإسكندرية، تلك الفتاة اليانعة شديدة التأمل والجمال، عاشقة القراءة والعزلة، حادة الذكاء، كاملة الجسد بالأنوثة، قريرة العين بالطمأنينة- على خبر زلزل كيانها وهز أركانها؛ فالقيصر قرر الزواج منها، وترفيع مكانتها بعد الزواج، بعد أن وُصفت له وصفًا أطار لبَّه، وتعلَّق بحبها قلبه، وأثار وصفهم فضوله.
يومها، صارت أسرتها المصرية الأرستقراطية وكل من حولها في حالة نشاط دائم، منذ أن أخبرتهم المراسم الملكية بنوايا القيصر. وانتشرت الحراسات حول منزلها، وأمست الإسكندرية على انتظار حدث جديد من الأفراح والليالي الملاح والحفلات الأسطورية؛ إنه الرجل الذي يحكم العالم! إنه الإمبراطور اليوناني ماكسيميانوس (305-311م)، القادم من الغرب لحماية الوثنية الرومانية التي تواجه خطرًا وجوديًّا في الشرق، حيث يسري الإيمان بالمسيح إلى رعاياه سرًّا وجهرًا في شعبين عظيمين من إمبراطوريته: شعب إيلياء (فلسطين)، وشعب إيجيبتوس (مصر). يا له من أمر! ويا لها من مفارقة!
تفاجأت الحاشية المحيطة بالأميرة دوروثيا بصمتها الطويل، وابتسامتها الخفيفة، وتأملها العميق، ولكن المفاجأة زالت لديهم بعد استحضار أنها ستدخل القصر الملكي بعد أيام وتتصرف مثل ملكة. أما الأميرة الموعودة، فما كان صمتها وشرودها إلا نتاج تفكير مختلف، يطير بها نحو السماء حينًا ويهوي بها في مكان سحيق أحيانًا أخرى. كانت روحها تستشرف مسارين: مسارًا ترى فيه هداية الله تنزل بقلب القيصر عندما تصارحه بإيمانها برسالة المسيح -عليه السلام- فيلين قلبه وينشرح صدره فيؤمن مثلها، ويؤمن بإيمانه والدها ومن دونهما خلق كثير، ويظهر المؤمنون إيمانهم في الإسكندرية ومصر وأرجاء العالم، فتطير روحها فرحًا وتحلق في آفاق بعيدة. ولا يقطع خيالها الحالم إلا اقتحام هاجس مخيف؛ ألّا يكون قلب القيصر الهائج الغاضب العنيد محلًّا لقبول الهداية، وأن ينصرف قلبه نحو الشر ويظل على وثنية أثينا وروما، فلا يكون له في قلبها محبة، وينصرف قلب أبيها والحاشية عنها، ويظل المؤمنون يكتمون إيمانهم ويبكون مآسيهم، يتجرعون كأس الموت، ومناشير الحديد وأمشاط الناسوت التي تلاحق آلاف الأبرياء وتنزع إنسانيتهم وأرواحهم دون رحمة. لكن الأميرة عزمت أمرها واتخذت قرارها!
"سأواجه الاثنين بالحقيقة؛ نعم، سأواجه القيصر وحاكم الإسكندرية بالهدوء والحكمة والمحبة ورسالة المسيح. أنا مؤمنة وأدعوك للإيمان.. ولِمَ لا يكون ذلك؟" اختارت السير على درب نساء مصر الكبريات؛ فقد عاشت في طفولتها فصول قصة السندريلا، الشابة المصرية اليتيمة الطيبة التي استمالت قلب ملك وصارت حديث العالم. ولا يبتعد تأملها عن رحلة هاجر الصابرة من الفرما (السويس) عبر سيناء، تحمل رضيعها نحو جبال الحجاز لينبت منها شعب عظيم عديد. ولعل أقرب قصة إلى خلجات قلبها قصة آسية امرأة فرعون، التي تحدت ظلمه وبطشه وجاهرت بإيمانها، فكانت الجائزة بيتًا في الجنة، وصارت مضرب المثل في الناس أجمعين: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
صُدم القيصر بجمالها، وكانت صدمته الكبرى في جرأتها والجهر في حضرته بإيمانها وتمسكها الصادق برسالة المسيح عليه السلام. كانت الوثنية الإغريقية هي السائدة في مصر حكمًا ورسمًا، بينما كانت المسيحية والوثنيات المصرية هي المنتشرة ريفًا وحضرًا؛ سرًّا في المدن، وعلنًا في الريف. وكان الجهر بالمسيحية -خاصة عند الحكام- يعرض المؤمنين لمخاطر لا قبل لهم بها.
منع تعلق قلب القيصر وفتنته بجمالها البطش السريع بها؛ فحاول التلطف معها وإقناعها بالارتداد عن دينها، لكن حجتها كانت أقوى، وعزيمتها أثبت، ولسانها أطلق، وحديثها أعذب وأسحر. واجه القيصر وحاشيته والأسرة صعوبات جمة في محاورة فتاة مؤمنة نقية، إيمانها أقوى من إيمانهم، وأخلاقها أتم من سلوكهم، وحجتها تعلو فوق حجتهم. كانت الفتاة ترى ذلك في نظرات عيونهم، وقسمات وجوههم، ونبرات حديثهم، فيزداد يقينها بالحق الذي يسكن قلبها ويملأ جوانحها.
فلما استيأسوا من إثنائها عن العودة للوثنية، صار المحبون يراودونها عن كتمان إيمانها وإظهار الوثنية من أجل سلامتها وسلامتهم، فلم ترجع عن إظهار دينها. جلبوا لها فلاسفة السلطة وخطباء القيصر من مصر واليونان، وانتشر الخبر، وباءت جهود القيصر والحاكم بالفشل. صارت قصة الفتاة المؤمنة التي تتحدى القيصر حديث المدائن والقرى، وتحول حب القيصر الشديد لها إلى انتقام وحشي، فنكّل بها وعذبها وقطّع جسدها، ولم يُبقِ زبانية التعذيب إلا على ذراعها، تنفيذًا لأمر قيصرهم الذي أبقاه عبرة لمن يقبض يده عن يد القيصر.
رحلت الفتاة المؤمنة عن دنيا مصر مظلومة بريئة، لم يستطع أن يدنس براءتها بشر ولو كان إمبراطور روما. رحلت بنقائها وصدقها، واشتعلت الإسكندرية بأخبارها: إيمانها، وجلسات محاوراتها، وجدالها، ثم آلامها وانتهاءً باستشهادها في سبيل مبادئها. واتسع التمرد على الوثنية، ولم يجرؤ الناس في البداية على ذكر اسمها، لكنهم لقبوها فيما بينهم بكناية بعيدة عن مساءلة السلطة وآذان العسس، لقبًا يليق بها: "آجيا كاثروس" (Hagia Katharos)، أي القديسة النقية أو المؤمنة الطاهرة. وصاروا يرمزون لها بالحرفين K.A (آجيوس أي قديس باليونانية). وتحولت التسمية بعد قرون إلى المقابل الإنجليزي "سانت كاترين" (Saint Catherine)، ونُطقت الثاء تاء في اللهجة المصرية، وصار هو الاسم المتداول عالميًّا. ومن هنا، بدأت قصة بناء دير سانت كاترين.
بعد استشهادها بقرنين ونيف تقريبًا، كانت المسيحية قد انتصرت على الوثنية في الدولة الرومانية، وصارت مدينة الإسكندرية أحد أهم المراكز المسيحية بعد القدس حتى منتصف القرن السادس الميلادي. أراد الإمبراطور جستنيان الأول (527-565م) أن يكرم زوجته الإمبراطورة ثيودورا، التي كانت قد أبدت اهتمامًا بالرهبان في سيناء. فقرر الإمبراطور بناء دير تجمع فيه رفات القديسة كاترين ويجعله مركزًا للرهبان الموالين له. ولما أعلن الملك عن رغبته، قيل إن أحد الرهبان رأى رؤيا منامية للقديسة وأن روحها تريد أن تظهر في هذا المكان بالجبل المعظم في طور سيناء، الذي كان يأوي إليه الرهبان زمن الاضطهاد الروماني الوثني، حيث قُتل آلاف المصريين ممن آمنوا بالمسيح. فأُعدّ للدير التمويل والمهندسون والبناة، وحُفرت به العيون، وأقيمت له الأسوار والغرف والمرافق، واختير له مكان حصين، وبُنيت داخله كنيسة.
عُرف الدير باسم "دير سيناء" أثناء تخفي الرهبان من بطش الرومان، ثم صار بعد الاعتراف بالمسيحية "دير طور سيناء" أو "دير جبل الطور". وبداخله "مَعضَمية" (مكان لحفظ رفات الرهبان) من بينها رفات القديسة كاترين. وفي مرحلة لاحقة، عُرف باسم "كنيسة العذراء"، ثم غلب عليه اسم "كنيسة التجلي" لما اشتهرت به. ولما صارت الكنائس تسعًا في مكان واحد، بدأ يظهر اسم "دير آجيا كاترين" لأول مرة في مخطوط بالدير يُعرف بمخطوط الشهيد أنطونيوس منذ سنة 600م، ثم صار يجمع بين التسميات العربية واليونانية واللاتينية المعربة باسم "دير سانت كاترين".
تحدث المؤرخون –بجانب الغرض الديني– عن أهداف سياسية وعسكرية لبناء الدير؛ فقد بُني وسط انقسام حاد في المسيحية عمومًا، وبين المسيحيين المصريين خصوصًا، حيث اختار المصريون عقيدة في طبيعة المسيح تختلف عن عقيدة بيزنطة التي تمثلها الإمبراطورية وطبقة الحكم. وكان بناء الدير حصنًا متقدمًا لربط سيناء بفلسطين حال حدوث تمرد مصري على سلطة الروم. وصار الدير مرتبطًا دينيًّا بالقدس وسياسيًّا بالإسكندرية. وبمرور الوقت، طُرد الرهبان المصريون التابعون للكرازة المرقسية الأرثوذكسية أو قُتلوا، واستُخلص الدير للرهبان اليونان التابعين لكنيسة الروم الأرثوذكس فقط، ولم يترهبن به مصريون جدد.
بعد الفتح الإسلامي لمصر، خفت حدة الخلافات المسيحية الدموية في الشرق، واستقرت أحوال الدير، وحصل الرهبان على الأمان والعهد -مثل جميع الأديرة والكنائس في البلدان المفتوحة- من الأمير عمرو بن العاص بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب. وجُدد العهد في مراحل تاريخية مختلفة، ابتداءً بالأمويين حتى العثمانيين. وكل قادة مصر تقريبًا لهم عهود ووثائق ومكاتبات ومنح وهدايا وتوقيعات وأحكام وكتب وآثار، بحراسة القبائل البدوية وإشراف وولاية مصرية لم تنقطع منذ إنشاء الدير قبل 1600 عام، مع تبدل الدول واختلاف العصور.
أقيم الدير في موقع جغرافي حيوي في قلب جنوب شبه جزيرة سيناء، بسفح جبل على هضبة ترتفع 1500 متر عن سطح البحر، بمساحة مبنية تقدر بـ3400 متر مربع (85 مترًا طولًا و40 مترًا عرضًا و11 مترًا ارتفاعًا). ويضم العديد من الغرف للإعاشة بما يسع 70 راهبًا، ونُزلًا داخليًّا للزيارة يستقبل 100 زائر، في حيز اتسع بعد عام 1982 إلى 20 ألف متر مربع (20 دونمًا، أو 4.5 أفدنة تقريبًا)، وتحيط بهذه المساحة محميات طبيعية وأراضٍ شاسعة مملوكة للدولة.
نما بجوار الدير مع مرور الزمن نظام عرفي إداري أدى إلى تقسيم العمل إلى مجالات متعددة: ديني (رعاية الرهبان)، سياحي (رعاية الزوار)، حراسة وتأمين، زراعة وتثمير، طعام وسقاية، علاج، وسفارة لمقابلة ذوي الشأن. ووفر الرخاء الاقتصادي حياة رغدة للدير من خلال تثمير أموال التبرعات، وأثمر الاستمرار والاستقرار أن يكوّن الدير رصيدًا وتراثًا عالميًّا من تمازج الحضارات الإنسانية وتعايشها.
ولذلك، لا عجب أن يحتوي الدير على كنوز من المعارف واللغات والتحف والأيقونات والمخطوطات والمؤلفات، تشمل أنواعًا من الخطوط العربية، خاصة الخط الكوفي، وأصولًا للغات الشرقية والغربية، وشروحًا للأناجيل المكتوبة باللغة السريانية واليونانية القديمة، ونسخًا من كتب أبقراط الطبية، ووثائق وهدايا من ملوك وأمراء وكهنة ومستكشفين، وصورًا وعملات من عصور وبلدان مختلفة، حتى تشكلت به أكبر مكتبة ملحقة بدار عبادة في الشرق، وثاني أكبر مكتبة في العالم بعد مكتبة الفاتيكان. ويقدر محتواها بنحو 6 آلاف كتاب ومخطوط، من بينها 400 مخطوطة عربية، وألفا وثيقة موقعة من ملوك وأمراء مسلمين وأوروبيين، ومئات التحف والأيقونات، هذا غير ما تسرب إلى بريطانيا وإسرائيل أثناء احتلال سيناء، ولا يزال يُعرض في متاحفهما باسم دير سانت كاترين.
اتسمت تعاملات رهبان الدير مع سلطات الدولة المصرية في كافة عصورها التاريخية بالهدوء والحكمة، باعتبار الدير جزءًا من الجغرافيا السياسية والتاريخ الوطني لمصر. إلا أنه بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من سيناء عام 1982، حدث تسارع كبير في وضع متصرفي الدير أيديهم على مناطق شاسعة واستحداث نقاط تمكين. وبينما كان البدو والعربان لا يسمحون بأي تجاوز على أراضي الدولة حال غيابها أثناء الاحتلال ويرفضون أي تغيير في معالم الأرض، تدفقت الأموال بعد الانسحاب على متصرفية الدير، فأقامت أسوارًا جديدة وشقت طرقًا واستحدثت أوضاعًا جديدة، مما أدى إلى ظهور خلاف بين العربان وتابعي الدير.
وبعد أن أعلنت الحكومة إنشاء محمية طبيعية كبيرة عام 1988، خُطط لها أن تشمل 4300 كيلومتر مربع يُحظر على البدو فيها حفر الآبار أو الإقامة، حدثت عملية إخلاء تدريجي لعرب سيناء من المنطقة استغرقت 10 سنوات، لنصل إلى عام 1996 حيث نفذت السلطات قرار المحمية الطبيعية.
ومع تطور علاقة مصر واليونان منذ 2013 إلى علاقات إستراتيجية وودية للغاية، حيث دعمت اليونان الحكومة المصرية ما بعد 3 يوليو/تموز أمام الدول الأوروبية مقابل دعم مصر لليونان ضد تركيا في اتفاقية الحدود البحرية بين تركيا وليبيا (2019)، زاد نفوذ تابعي الدير على البدو وعلى السلطة المحلية أيضًا، حتى وصلت الأمور إلى حكم المحكمة الذي دار حوله الخلاف المصري اليوناني، الموصوف بأنه أزمة دبلوماسية مكتومة ومؤجلة قد تنفجر بحدة بعد احتواء الوضع في غزة.
أظهرت الصحافة الغربية مضمون الوثائق اليونانية والأوروبية المتبادلة بين الدير والسلطات اليونانية، التي تسمي منطقة الدير كلها وكأنها مساحة مفتوحة لمستوطنة يونانية في سيناء، فتطلق اسم الدير أحيانًا على المساحة الشاسعة لمحلية سانت كاترين بكاملها، مما يعد انتهاكًا للسيادة المصرية حسب وجهة نظر البعض. وهي أرض مصرية يسكنها مصريون من بدو سيناء وأبناء الوادي، يزيد عددهم على 15 ألف نسمة، وتضم 37 واديًا (يشرف الدير على واحد منها فقط). وتقدر مساحة محلية سانت كاترين بـ5130 كيلومترًا مربعًا؛ أي ما يعادل 8.5% من مساحة شبه جزيرة سيناء، وتزيد قليلًا على 6 أضعاف مساحة مملكة البحرين، وتعادل مساحة قطاع غزة 14 مرة تقريبًا. وتقع المنطقة برمتها في قلب جنوب سيناء، مما يوفر لها مناخًا متنوعًا ويحافظ على تدفق دائم للمياه، وهي بيئة خصبة للزراعة والرعي والسياحة والاستشفاء، وبها معادن نفيسة.
هذه مقاربة معرفية في محاولة لبناء مساحة مشتركة من الوعي بما يحدث، حيث تتداخل السياسة مع الدين في لغة الجغرافيا والتاريخ.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
أحزمة الصين المتعددة.. هل حان وقت انطلاق المارد؟
منذ يومه الأول بعد عودته إلى الحكم وبداية عهدته الثانية أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب سلسلة من الإجراءات الحمائية بهدف تصحيح وضع الاقتصاد وخفض الدين الخارجي وإعادة التوازن لاختلال الميزان التجاري مع الكثير من دول العالم. ولأن تلك الإجراءات كانت شاملة ومسّت جميع الاقتصادات دون استثناء فقد رأت فيها جل الدول حربا تجارية غير مسبوقة وتهديدا مباشرا للاقتصاد العالمي. ولتخفيف آثار تلك "الصدمة" على الأسواق العالمية قررت إدارة الرئيس ترامب تأجيل تنفيذ الإجراءات التي اتخذتها، ومنحت شركاءها التجاريين -خاصة الأوروبيين- 90 يوما للتفاوض بشأن التوصل المشترك إلى إقرار تعريفات "مناسبة". لكن هذا التأجيل لم يشمل الصين ، فردت بكين بإجراءات مماثلة، ومضى البلدان في تصعيد الموقف ورفع متبادل للتعريفات الجمركية بلغ نسبة 145% من الجانب الأميركي و125% من الجانب الصيني. وبشأن الدروع الجيواقتصادية والسياسية الصينية في حربها الاقتصادي مع الولايات المتحدة نشر مدير إدارة البحوث بمركز الجزيرة للدراسات عز الدين عبد المولى تعليقا بعنوان " أحزمة الصين المتعددة" ناقش فيه قوة الصين المضافة إلى قوتها الذاتية الصاعدة التي باتت واقعا لم يعد ممكنا تجاوزه أو احتواؤه. ويعتقد عبد المولى أن الولايات المتحدة -وهي تخوض هذه المواجهة سعيا لتحقيق رؤية "أميركا أولا"- تبدو خائفة مرتبكة وتتحرك من موقع دفاعي حمائي، وتنظر إلى أصدقائها باعتبارهم عبئا على اقتصادها وأمنها وقوتها، كما تبدو أميركا الترامبية تسير نحو العزلة، متحللة من التزاماتها الدولية ومن تحالفاتها الخارجية ومن أحزمتها الإستراتيجية التي شكلت على مدى عقود طويلة قوتها الحقيقية ومنحتها موقع القيادة والريادة العالميتين. ويرى أن الصين بالمقابل تخوض هذه المواجهة متدرعة بعدد من الأحزمة تدور حولها وتعزز قوتها الصاعدة، فهدف بكين الأساسي -الذي تسعى إلى تحقيقه في مئويتها مع حلول عام 2049- هو امتلاك ناصية "القوة الشاملة". ولن يتحقق ذلك في نظر القيادة الحالية دون توحيد البر الصيني باستعادة تايوان ، وتحقيق التفوق الاقتصادي النوعي والمزيد من الانخراط في شؤون العالم والاندراج الواسع في نسيجه المتنامي، وهو ما يتحقق عبر مجموعة مبادرات دولية وإقليمية. تتمدد مصالح الصين في الخارج بأشكال عدة، ولكن الرؤية التي تقود هذا التمدد وتضبط إيقاعه في سياق إستراتيجي واحد تعكسها " مبادرة الحزام والطريق". فقد أطلقت بكين عام 2013 مشروعا جيواقتصاديا ضخما يربط شرق العالم بغربه عبر شبكة من الطرقات البرية والبحرية، وبنية تحتية متطورة من الطرق السريعة وسكك الحديد وأنابيب الطاقة والمعابر الحدودية ومناطق التجارة الحرة لتسهيل تنقل البضائع والأموال. وتربط المبادرة الصين بأكثر من 150 دولة في شرق آسيا وغربها وفي أوروبا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وتمر عبر المحيطين، وتغطي هذه الشبكة مساحة جغرافية تضم أكثر من ثلثي سكان المعمورة، ويتجاوز مجموع ناتجها المحلي الخام 40% من الناتج العالمي، وتستقطب نصف قيمة التجارة الخارجية للصين. ورغم القيمة الاقتصادية لمبادرة "الحزام والطريق" فإن أهميتها الحقيقية تكمن في كونها تعبر عن رؤية الصين الشاملة لمستقبل العالم، عالم تكون فيه بكين قطبا رئيسيا ومركزا فاعلا لا هامشا تابعا، وتحتل فيه موقعا قياديا على جميع المستويات، وتشكل جزءا ضروريا من نسيجه الاقتصادي والسياسي والأمني لا يمكن عزله أو الاستغناء عنه. شنغهاي للتعاون تأسست منظمة شنغهاي للتعاون في عام 2001، وضمت حين تأسيسها كلا من الصين وروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان. هذه المنظمة الأوراسية ذات طبيعة اقتصادية وسياسية وأمنية، وهي أكبر المنظمات الإقليمية على أكثر من صعيد، خاصة بعد توسعها وانضمام 4 دول أخرى، هي الهند (2017) وباكستان (2017) وإيران (2023) وروسيا البيضاء (2024). وتضم شنغهاي للتعاون عضوين مراقبين، هما منغوليا وأفغانستان، وتتمتع 14 دولة أخرى بوضعية "شريك حوار"، منها 6 دول عربية هي مصر والسعودية وقطر والإمارات والكويت والبحرين. ويغطي امتداد المنظمة الجغرافي نحو ربع مساحة العالم، وعدد سكانها يتجاوز 40% من سكانه، أما الناتج المحلي الخام لمجموع أعضاء المنظمة فيبلغ 23% من الناتج المحلي الخام على مستوى العالم. وتعد الصين القلب النابض لمنظمة شنغهاي والمحور الذي تدور عليه، فهي لا تمنحها اسم إحدى مدنها وحسب، بل تعد الشريك الاقتصادي الأكبر لكل بلدانها. وتعمل منظمة شنغهاي في تناسق مع سياسة بكين الخارجية، وتتكامل مع مبادرة الحزام والطريق التي تنخرط فيها أغلب دول المنظمة، كما تشكل منصة متقدمة لاستعراض قوة الصين الاقتصادية وتأكيد وزنها العالمي. مجموعة "بريكس بلس" مجموعة بريكس هي حزام جيواقتصادي آخر يدعم صعود الصين ويشكل قوة مضافة إلى قوتها الذاتية، وقد توسعت المجموعة -التي تأسست عام 2009- وضمّت في السابق كلا من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، لتشمل 10 دول بعد توسعها عام 2024 وانضمام مصر وإثيوبيا وإيران والإمارات والمملكة العربية السعودية. إعلان ولا تزال المجموعة مفتوحة لضم المزيد من الدول، ولعب دور متزايد في إطار مواجهة الهيمنة الغربية، وتعزيز نسيج المنظمات الإقليمية والدولية، وتمهيد الطريق لنظام عالمي متعدد القطبية. وتزداد أهمية مجموعة بريكس في ظل النقاش الجاري بشأن التخلص من هيمنة الدولار الأميركي الذي لا يزال يستحوذ على نحو 80% من التجارة العالمية. وإلى جانب هذه الأحزمة المتعددة تحيط الصين نفسها بشراكات إستراتيجية مع أكثر من 80 دولة، وتعد بكين الشريك التجاري الأكبر لأهم الكتل الاقتصادية في العالم، مثل الولايات المتحدة الأميركية و الاتحاد الأوروبي ومنظمة آسيان. وهي كذلك الشريك التجاري الأكبر لأكثر من 60 دولة، أبرزها اليابان وكوريا الجنوبية وروسيا وأستراليا وجنوب أفريقيا والسعودية والبرازيل. ومع كونها ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة تعد الصين -حسب إحصاءات 2024- المُصدِّر الأول للبضائع في العالم بقيمة ناهزت 3.58 تريليونات دولار، متجاوزة قيمة صادرات الولايات المتحدة التي تقدر بـ2.1 تريليون دولار. وتدرك بكين جيدا أن العالم يمر بتحولات كبرى، ويبدو أنها ترى في اللحظة الترامبية الراهنة فرصة تاريخية لشد أحزمتها وتعديل وتيرة سيرها في خضم جملة من المفارقات: أولها: أن ترامب -الذي يرغب في السير منفردا، ويستهدف الجميع بسياساته الحمائية- لا يزعجها بقدر ما يربك أصدقاءه وحلفاءه. ثانيها: أن الصين -التي ارتبط اسمها بالانغلاق والحمائية، وظلت على مدى ألفي عام تبني حولها "سور الصين العظيم"- تجد نفسها اليوم في مقدمة القوى العالمية التي تقود حركة العولمة التي ارتبطت بالغرب إلى حد كبير، وأسهمت الولايات المتحدة تحديدا في رسم مساراتها وفتح الأسواق أمام التجارة الدولية. وأخيرا، يتوقف الأمر على الموقع الذي ينظر منه المرء إلى أحزمة الصين المتعددة: تبدو كأنها تحتضن العالم وتضم بعضه إلى بعض بمنظومة من المنافع المشتركة. ومن جهة أخرى تبدو كأنها تطوقه وتشده إليها بشبكة من الحبائل التي يمكن أن تحوّل تلك المنافع إلى ديون متراكمة في ظل الاختلال المتزايد والنمو غير المتكافئ لاقتصادات العالم. وبصرف النظر عن موقعنا وموقفنا من تلك الأحزمة الأكيد أن ثمة شيئا قد تغير في مزاج الصين وفي رؤيتها لذاتها وللعالم كشف عنه موقفها الصلب في حرب التعريفات الترامبية، مفاده أن على أميركا أن تعترف بأن القوة الصينية باتت واقعا لم يعد ممكنا تجاوزه أو احتواؤه، وأن على الصين أن تدرك بالمقابل حقيقة قوتها، وأن تتصرف في العالم وفق هذا الإدراك.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
"الله، الوطن، العائلة".. صعود جورجيا ميلوني زعيمة إخوان إيطاليا
في ساعة متأخرة من مساء يوم 25 سبتمبر/أيلول 2022، خطبت جورجيا ميلوني أمام حشود مبتهجة في العاصمة الإيطالية روما لتعلن فوزها كأول امرأة تتولى رئاسة الوزراء في البلاد. كانت الدموع تترقرق من عينيها، وترتعش ابتسامة على شفتيها وهي تقول إنها تهدي تلك اللحظة إلى "كل من رحلوا واستحقوا رؤية هذه اللحظة". لم توضح ميلوني من تعني بالضبط، لكن هذا الإهداء المبهم فهمه الكثيرون على أنه إشارة إلى أبطالها من ساسة أقصى اليمين الإيطالي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. انتصار ميلوني، المرأة الرومانية ذات اللكنة المحلية الثقيلة، والأسلوب الشعبوي الفج، والتي كانت تبلغ من العمر 45 عامًا حينها؛ كان تتويجًا لرحلة مثيرة من هامش السياسة الإيطالية إلى قلب المتن فيها، لتتولى أعلى منصب في الجمهورية. وبينما كان مؤيدوها يهتفون باسمها ويحتفلون بالفوز التاريخي وهم يلوحون بالعلم الإيطالي ثلاثي الألوان، كان المتابعون يراقبون صعودها بتوجس مع إدراكهم للحمولة الأيديولوجية التي تحملها في رأسها. ميلوني جاءت في وقت كان الكثيرون في القارة العجوز يعتقدون أن تجربة حكمها لإيطاليا -التي لم تنته بعد- ستترك أثرًا عميقًا في قارتهم. يعتبرها البعض وجهًا ناعمًا ممهدًا للفاشية والاستبداد في أوروبا، بينما يعتبرها آخرون امرأة ناجحة على نحو استثنائي استطاعت أن تطور أيديولوجية أقصى اليمين، وأعطت للأفكار اليمينية بريقًا وتوجهًا جديدًا أكثر وسطية وبراغماتية. كما ينظر إليها البعض بوصفها أحد أكثر الرموز الشعبوية الجديدة في العالم الغربي تأثيرًا، وأن تلك الرموز -وهي على رأسهم- تهدد الديمقراطية الغربية، في حين يراها البعض الآخر صانعة للاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي في بلدها، فضلًا عن أنها جسر التواصل المحتمل بين أوروبا والولايات المتحدة ، في عالم تبدو روابطه القديمة معرضة لزلزال غير مسبوق. لكن، كيف يمكننا فهم صعود جورجيا ميلوني؟ هل يكفي النظر في السياسة الإيطالية، أم علينا أن ننبش أكثر في شخصية ميلوني نفسها، وتاريخها، ورؤيتها للعالم، بحثًا عما يفسر نجاحها؟ الطفولة الصعبة لفهم حكم ميلوني وصعودها، يجب أن نتتبع أصولها إلى حي غارباتيلا، حي العمّال البسيط في روما، حيث تشكلت شخصية السياسية لدى جورجيا. تتحدث ميلوني عن طفولتها بطريقة "ميلودرامية" تجعلها كشخصية في رواية "البؤساء" لفيكتور هوغو أو رواية "أوليفر تويست" لتشارلز ديكنز، فقد هجر والدها منزل العائلة عندما كانت رضيعة في عامها الأول، وأبحر بعيدًا إلى جزر الكناري ليتزوج مجددا، ولم يعد أبدًا. بعد ذلك بوقت قصير، دُمر منزلها بعدما احترق جراء شمعة مشتعلة تركتها جورجيا مع شقيقتها الكبرى، آريانا. من دون منزل وأب، انتقلت آنا، والدة جورجيا، بالفتاتين إلى شقة متواضعة في حي غارباتيلا الذي يسكن فيه العديد من أصحاب الياقات الزرقاء. هناك عاشت جورجيا مع جدها وجدتها وأمها وأختها في المنزل الذي لم تتجاوز مساحته 45 مترًا، وهناك كانت تنام على سرير قابل للطي مع أختها في ممر المنزل. أما والدتها آنا، فكانت تتنقل بين العديد من الوظائف، لدرجة أنها كتبت روايات رومانسية تحت أسماء مستعارة للحصول على المال اللازم للإنفاق على ابنتيها. تتذكر ميلوني قضاء الأمسيات على طاولة مطبخ جدتها، وهي الطاولة الوحيدة التي كانت بمثابة مكتب ومكان لتناول الطعام للعائلة. أصبحت هذه النشأة المتواضعة فيما بعد حجر الزاوية في شخصية ميلوني السياسية، التي تطلق على نفسها بفخر لقب "ابنة الشعب" (una figlia del popolo) التي تغلبت على المشقة بـ "الشجاعة والإيمان". لم تكن طفولة جورجيا سهلة لأسباب أخرى أيضًا، فقد كانت تعاني من زيادة الوزن أثناء طفولتها، كما أن لهجتها الثقيلة كانت تجذب سخرية الأطفال الآخرين. كتبت ميلوني في مذكراتها تقول إنها شعرت في هذه المرحلة أنها غريبة أو دخيلة على مجتمعها، ما جعلها تطور أدوات دفاعية ومزاجًا متحديًا للعالم، تعتبر أنه جعلها دائما في حاجة لإثبات نفسها، وأن يتقبلها المحيطون بها، خاصة الذكور، لا سيما بسبب نقص الحب والاهتمام الذي نتج عن غياب والدها. ستُنسج هذه الندوب من الهجر، والتنمر، والمنزل المحطم، في مرحلة التكوين والنشأة، لاحقًا في قصة قائدة تقدم نفسها على أنها المستضعفة التي لا تقهر، والمقاتلة التي لا تتوانى. لكن ميلوني وجدت منفذًا للقتال في السياسة في سن مبكرة للغاية، ففي عام 1992، وبينما كانت في سن 15 من عمرها، وحينما كانت إيطاليا تمر بفترة من الاضطرابات بسبب الاغتيالات التي كانت تنفذها عصابات الجريمة المنظمة (المافيا) ضد المسؤولين ومنهم القضاة، قررت ميلوني الانضمام إلى الفرع المحلي للحركة الاجتماعية الإيطالية، والتي تمثل الفاشية الجديدة في البلاد. كان خيار ميلوني باعثًا على الدهشة، فلم يكن من المعتاد على أحد قاطني حي غارباتيلا العمالي اليساري أن ينضم إلى حركة يمينية متطرفة. لكن جورجيا، اللامنتمية، التي كانت تبحث عن تنظيم وهوية وقضية تنضم إليها وتتقبلها كما هي! لقد تحدثت جورجيا نفسها عن ذلك حين فسّرت انضمام العديد إلى الحركة الاجتماعية الإيطالية بأنهم "جاؤوا من ظروف عائلية صعبة" وأنهم "كانوا يبحثون عن الانتماء إلى شيء ما". كانت الرفقة التي قدمتها لها الحركة كافية لجذب ميلوني وجعلها تدرك أنها اختارت الاختيار الصحيح بالانضمام إلى الحركة، فرغم قرار الحركة حل نفسها عام 1995 وتأسيس جبهة يمينية جديدة تحمل اسم "التحالف الوطني" منبتة الصلة عن الماضي الفاشي للحركة، استمرت ميلوني في الصعود السياسي خاصة كناشطة طلابية. أختار الأم، أختار اليمين ومع بلوغها سن 19، كانت ميلوني تقود الجناح الطلابي للتحالف الوطني، وتمثله في اتحادات الطلاب التي شكلتها وزارة التعليم الإيطالية، لتلفت انتباه قادة اليمين الإيطالي أكثر وأكثر. في تلك الأيام، لم تتردد ميلوني في التعبير عن إعجابها بأشد حكام إيطاليا عنفًا في العصر الحديث، ففي مقابلة عام 1996، أشادت ميلوني، وهي متخرجة حديثًا من المدرسة الثانوية، بزعيم إيطاليا الفاشية بينيتو موسوليني أمام الكاميرا، قائلةً إنه "كان سياسيًا جيدًا، بل الأفضل في البلاد خلال الأعوام 50 الماضية". سيظل هذا المقطع يطاردها في سنواتها اللاحقة، حيث يروج له خصومها كدلي على نهايتها التي لم تأت أبدًا. تتجذر صورة ميلوني في تجارب الطفولة والمراهقة تلك وغيرها، فهي دومًا تصور نفسها على أنها الفتاة القادمة من العدم، من حي يساري، لتقاتل المؤسسة المسيطرة المعادية لها. بالطبع، ليست هذه هي الصورة الكاملة لنشأة ميلوني، فأبوها فرانكو ميلوني جاء من عائلة من الطبقة الوسطى العليا، فجدُّها مخرج سينما وجدّتها ممثلة ومؤدية صوتية. كذلك عاشت أسرتها، قبل انفصال والديها، أو حتى احتراق منزلها، في منطقة كاميلوتشيا الراقية في شمال روما. لكن هذه الحياة المرفهة اختفت بين عشية وضحاها بعد أن تخلى أبوها عن أسرته وذهب ليؤسس أخرى في جزر الكناري، ليكون لها 4 إخوة غير أشقاء. إذا صدقنا كل تفاصيل رواية ميلوني عن نفسها، فسيكون بإمكاننا تفسير توجهها السياسي باعتباره مجازًا عائليًا أيضًا، فقد كان والدها يساريًا، في حين كانت والدتها متدينة محافظة. وباختيارها اليمين المحافظ، تكون جورجيا قد اختارت رمزيًا الأم المضحية بنفسها والمخلصة لأسرتها، لا الأب الخائن. إن قصة جورجيا بهذا المعنى تبدو روائية في تفاصيلها، بين الأب الضال الذي اعتُقل عام 1995 في إسبانيا بتهمة تهريب المخدرات وحُكم عليه بالسجن 9 سنوات، في نفس الوقت الذي كانت تبدأ فيه جورجيا مسيرتها السياسية، وبين الأم المحاصَرة بين التزاماتها ومحافظتها الدينية والسياسية، والابنة التي وجدت في اليمين القومي بديلًا عن الأسرة التي فقدتها صغيرة. ولقد انعكس هذا الأمر على مواقفها السياسية بوضوح، فميلوني مخلصة بشدة للمثل الأعلى للعائلة، وهو ما يبدو انعكاسًا مباشرًا لما واجهته في طفولتها. ترفض ميلوني زواج الشواذ جنسيا، ولا تعترف إلا بشكل واحد للأسرة النووية يقوم على ذكر وأنثى، أب وأم، ولا ينفصل ذلك عن نشأتها في عائلة مفككة كما أشارت هي مرات عدة. ومع ذلك، تصر ميلوني على أنها قد حظيت بطفولة سعيدة مليئة بالحب، وهي تنسب الفضل في ذلك إلى تضحيات والدتها، لكنها تؤكد أيضًا أن المجتمع خارج دائرة أسرتها كان دوما ما يسيء فهمها. لذلك، فإن حملة ميلوني الانتخابية حملت شعارًا يلخص كل أفكارها: "الله، الوطن، العائلة". وفي هذا الشعار نرى عناوين معركتها ونضالها ضد هذا الشعور بالاغتراب الاجتماعي، في مهمة للدفاع عن الركائز التقليدية للدين والأسرة والمجتمع، والتي لا يدرك أحد قيمتها أكثر من ميلوني، التي فقدت تلك الركائز كلها منذ طفولتها. الطريق الطويل إلى قصر كيجي عرفت جورجيا ميلوني إيطاليا كبلد يجاهد لإعادة تعريف هويته السياسية بعد سنوات الحرب العالمية الثانية التي كان يلعب فيها دور الشرير. لذلك لم يتقبل الإيطاليون الحركة الاجتماعية الإيطالية التي لم تسع لقطع الصلة بالأيديولوجيا السياسية التي قادت موسوليني إلى التحالف مع هتلر، وبالتالي ظلت الحركة لعقود منبوذة تُمنع من المشاركة الانتخابية. لذلك، في عام 1995، عمد زعيم الحركة جيانفرانكو فيني إلى تحويل الحركة إلى حزب التحالف الوطني في إطار خطته لمحو الإرث الفاشي للحركة. رأت ميلوني، التي كانت حينها في 18 من عمرها، في فيني معلمًا ومرشدًا، ورأى فيها نجمة صاعدة في اليمين الإيطالي، وهو ما تحقق بالفعل، ففي سن 29، انتُخبت ميلوني للبرلمان الإيطالي لتصبح أصغر أعضائه سنًا، ودفعها فيني دفعًا لتولي مسؤوليات أكبر فيه. خلال عامين فقط، وفي عام 2008 أصبحت ميلوني أصغر وزيرة تنضم إلى حكومة إيطالية على الإطلاق، بعدما عيّنها سيلفيو برلسكوني وزيرة للشباب وهي بعدُ في سن 31، لتجد الناشطة اليمينية نفسها جالسة على طاولة مجلس الوزراء في واحدة من أهم بلدان الاتحاد الأوروبي. في تلك السنوات، رسخت ميلوني صورتها كشخصية محافظة لكن عصرية ومتحررة من التطرف الذي عرفته الحركة اليمينية في الماضي. بل إن أصواتًا من اليسار أعربت عن تقدير كبير لتلك الشابة الشغوفة التي بدت كما لو كانت تمثل جيلًا جديدًا من الإيطاليين. لم تكن ميلوني اعتذارية أيضًا، فقد تحدثت أن علاقتها هادئة مع الفاشية، باعتبارها فصلًا عابرًا في تاريخ إيطاليا تجاوزته ميلوني كما تجاوزته البلاد. كذلك أدانت ميلوني فاشية موسوليني، وقمعه للديمقراطية ومعاداته لليهود، واعتبرت نفسها محافظة على غرار مارغريت تاتشر في بريطانيا، أو رونالد ريغان في الولايات المتحدة. لبعض الوقت، بدت ميلوني محافظة هادئة بالفعل، لكن هذا الهدوء في طرح الأفكار لم يدم طويلًا. فمثل معظم حكومات إيطاليا، سقطت حكومة برلسكوني تلك سريعًا عام 2012، وتولت حكومة تكنوقراط المسؤولية برئاسة ماريو مونتي الذي فرض سياسة تقشفية عارضتها ميلوني. كذلك مع الوقت، لم تجد ميلوني في اليمين السائد من تتماهى معه، فقررت الانشقاق عن حزب برلسكوني الذي ضم معظم توجهات اليمين، لتؤسس حزبها الجديد "فراتيلي دي إيطاليا" أو "إخوان إيطاليا". كان اسم الحزب رمزيًا، يذكر بكلمات النشيد الوطني الإيطالي، وشعاره رمزي يستخدم الألوان الثلاثة للعلم الإيطالي، وعلى شكل شعلة تشبه كثيرًا الشعلة التي كانت على شعار الحركة الاجتماعية الإيطالية، وهي الشعلة الثلاثية التي ترمز إلى الشعلة الأبدية التي نراها على قبر الدكتاتور بينيتو موسوليني. عادت ميلوني إلى حيث بدأت، لتستعيد اللحظة الفاشية التي سعى أستاذها فيني إلى محوها. كان تأسيس حزب "إخوان إيطاليا" بمثابة إعلانٍ عن عودة روح الحركة الاجتماعية الإيطالية، القومية، المحافظة اجتماعيًا، المتشككة في الاتحاد الأوروبي، والمغرقة بالحنين إلى الماضي، وأنها لم تختفِ، بل تنتظر اللحظة المواتية لعودتها. وبذلك، ألقت ميلوني بالمشروع المحافظ الأكثر اعتدالًا الذي سعى إليه التحالف الوطني لصالح النسخة القديمة للحركة الاجتماعية. ومنذ عام 2013، أعادت ميلوني بناء تيار أقصى اليمين في إيطاليا بجهد مضنٍ ليصبح قوة انتخابية فاعلة. ففي الانتخابات المبكرة التي أجريت في فبراير/شباط 2013، بعد ثلاثة أشهر من تأسيس الحزب الجديد، حصل "إخوان إيطاليا" على 2% من الأصوات، لكن ميلوني استمرت وثابرت بلا كلل لتجتذب إلى حزبها مؤيدي برلسكوني وغيره من قادة اليمين الإيطالي الذين خيبوا الآمال. لقد شكلت جورجيا ميلوني في حزبها أيديولوجية مزجت القومية الإيطالية والفخر بالوطن، مع المحافظة الاجتماعية المتجذرة في القيم الكاثوليكية، بالكثير من الحديث عن السيادة الوطنية، ما يعني مناهضة العولمة ومعارضة الاتحاد الأوروبي إذا ما كانت سياساته تفتئت على السياسة الإيطالية، كل ذلك مع تأكيدها على الهوية المسيحية اليهودية لأوروبا، في مقابل الإسلام. تجلى ذلك كله في ساحة سان جيوفاني بالعاصمة روما عام 2019 عندما صرخت ميلوني بكلمات انتشرت مثل النار في الهشيم: "أنا جورجيا، أنا امرأة، أنا أم، أنا مسيحية". كانت ميلوني تصرخ دفاعا عن الشكل الطبيعي للأسرة "ضد أولئك الذين سيطلقون علينا ألقاب أب رقم 1 و أب رقم 2، لا أب وأم"، كما قالت. ورغم أسلوبها الحاد ورسالتها المتحدية للتيار الثقافي السائد الذي جذب عليها السخرية، إلى حد أن منسقي أغاني "دي جي" استخدموا كلماتها في مقطوعات رقص ساخرة، فقد حققت انتشارًا غير متوقع، وتضخّمت شهرتها خارج المجال السياسي، ووصلت رسالتها إلى جماهير جديدة. دكتاتورة إيطاليا أم زعيمتها المختارة؟ لطالما كانت توصف إيطاليا في التحليلات الاقتصادية أو السياسية بأنها أشبه بالمراهق الضال في القارة، فهي الدولة التي لم تستطع الاستفادة جيدًا من استثمار أموالها، وهي الدولة التي عانت كثيرا من غياب الاستقرار السياسي على نحو استثنائي. لقد شهدت إيطاليا معدلًا استثنائيًا في تغير حكوماتها بمعدل حكومة كل 11 شهرًا منذ الحرب العالمية الثانية، إذ شهدت البلاد 68 حكومة، وهو أكثر من ضعف عدد الحكومات التي شهدتها ألمانيا وبريطانيا منذ الحرب، ومن ثم حين فازت ميلوني في الانتخابات لم يكن حتى أغلب المتفائلين بها يتوقعون أن تستمر حكومتها مستقرة لأكثر من عامين، كما هو الحال، إذ أصبحت الآن من بين الحكومات الخمس الأطول عمرًا في تاريخ الجمهورية الإيطالية، وهي التي لم تكمل 3 سنوات بعدُ في السلطة. حين تولت ميلوني الحكم كان الشعب الإيطالي تاريخيًا يمتلك واحدا من أدنى معدلات الثقة بين شعب وأحزاب بلاده في قارة أوروبا، وكانت أغلب التوقعات تنصبّ على أن حكومتها ستلقى نفس مصير الحكومات التي تعاقبت في السنوات السابقة، ولكن يبدو أن القاعدة الشعبية الكبيرة التي اختارتها كانت ترى فيها المخلّصة التي ستخرج إيطاليا من دائرة عدم الاستقرار الأبدية. وبعد فترة وجيزة للغاية من انتخابها وحزبها، أصدرت شركة "مورنينغ كونسلت" بيانات مؤشرها الشهير الخاص بتتبع شعبية القادة في بلادهم، وقد ظهرت ميلوني في المؤشر بوصفها أكثر قائد يتمتع بشعبية داخل بلده مقارنة ببقية الدول الأوروبية، إذ تمتعت بضعف الشعبية التي تمتع بها الرئيس الفرنسي ماكرون، والمستشار الألماني شولتس آنذاك، وأشاد 49% من الإيطاليين بها وفق المؤشر. وبعد شهور على حكم ميلوني، تبين أنها في اتجاه تصاعدي، وأنها أبعد ما تكون عن المصير الذي انتظره لها منافسوها، إذ أشارت إحصاءات مركز "بيو" الأميركي للأبحاث في بداية صيف عام 2023 إلى أن 60% من الإيطاليين يحملون وجهة نظر جيدة حول أداء ميلوني، بل إن أداءها الذي وجد قبولًا عند قطاع من الشعب قد دفع وجهة نظر الشعب الإيطالي حول أحزاب اليمين لتصبح أكثر إيجابية مما سبق. فقبل تولي ميلوني، كانت استطلاعات الرأي توضح أن أقل من ثلث الإيطاليين يملكون آراءً جيدة حول الأحزاب اليمينية، وبعد مرور 7 أشهر على حكم ميلوني كانت تلك النسبة تقترب بسرعة من النصف. ونفس هذا المعنى خلص إليه استطلاع رادار "إس دابليو جي" نهاية عام 2023، فقبيل وصولها إلى رئاسة الوزراء كان أغلبية الإيطاليين ينظرون إلى ميلوني باعتبارها يمينية متطرفة، لكن مع نهاية 2023 تغيرت هذه الصورة بشكل جذري، ولم يعد يحتفظ بها سوى أقل من 15% من الإيطاليين، بل إن نسبة قريبة منهم وصفوها بأنها أقرب إلى يسار الوسط من اليمين. وفي نهاية عام 2024، تلقت جورجيا ميلوني فوزًا كبيرًا جديدًا عزز من استقرار حكمها في البلاد، إذ فاز حزبها "إخوان إيطاليا" في الانتخابات الأوروبية حاصلًا على 28.8% من الأصوات، بينما لم يحصل الحزب الذي ينافسها " الحزب الديمقراطي" من يسار الوسط إلا على 24.1%. وقد جعلت ميلوني من هذه الانتخابات استفتاًء على حكمها، إذ دعت ناخبيها إلى كتابة اسمها على بطاقات الاقتراع، وقد عززت تلك الانتخابات من الشعور العام في إيطاليا بأن جورجيا باقية، وأن حكمها مستقر لفترة ربما تكون طويلة. وبعيدًا عن الشعبية المباشرة وصعودها وهبوطها، هناك عامل شديد الأهمية لعب دورًا كبيرًا في استقرار حكومة ميلوني كل هذا الوقت، وجعلها تُرى بوصفها سيدة تكسر قاعدة الاستقرار الإيطالية، وهو قدرتها في أغلب الأحيان على إظهار سيادتها على اليمين الإيطالي. فمنذ بداية حكمها لم تدخر ميلوني وقتًا كي تؤكد أنها زعيمة اليمين الوحيدة وأن حلفاءها لا يعدون كونهم حلفاء وأشقاء صغارا، وقد كان هذا واضحًا حين أظهرت "العين الحمراء" لحليفيها اليمينيين المخضرم سيلفيو برلسكوني الذي كان قد دفع بها إلى الصفوف السياسية الأمامية وهي لم تزل بعدُ شابة، وممثل أقصى اليمين ماتيو سالفيني، حين اختلفت معهما في التعامل تحديدًا مع الحرب الروسية الأوكرانية ، ولم ترضخ لموقفهما السياسي، وبنت السياسة الإيطالية الخارجية في هذا الملف وفق تصورها هي. كذلك استطاعت ميلوني أن تقضم من شعبية الرجلين لصالح شعبيتها، وتجعل أعدادا أكبر من ذوي الهوى اليميني يقتنعون بأنها الممثل الأفضل لليمين. باختصار، يمكن القول إن ميلوني -في أغلب الأحيان حتى الآن- استطاعت أن تخضع القوى اليمينية الأصغر منها تحت جناحها، وتوقف طموحات "أشقائها الأصغر" في المكانة عند حدها، بحيث لا يحدث تمرد داخلي في الجناح اليميني يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى الإطاحة بها. كان هذا عاملًا حاسمًا في حفاظها على استقرار حكومتها. على جانب آخر، استطاعت ميلوني أن تهدئ من روع مخالفيها، إذ لم تقم بإجراءات يبدو معها أن البلاد تتحول جذريًا إلى طريق يميني متطرف أو دكتاتوري أو فاشي. كما تجنبت استخدام اللغة العنصرية التي يتورط قادة اليمين الآخرون في استخدامها وعلى رأسهم ماتيو سالفيني، بل وصل الأمر إلى أن جماعة فاشية خططت لاغتيال ميلوني نهاية العام 2024، وقد قبضت سلطات إنفاذ القانون على 12 فردا منهم. ولاحقًا، أجبرت ميلوني عددا من شباب حزبها على الاستقالة بعدما ظهروا في مقاطع فيديو سرية وهم يرددون شعارات فاشية وعنصرية، وقالت إن هذا السلوك لا يتوافق مع الخط السياسي لحزبها الذي انتهجته منذ سنوات. وبحسب صحيفة الغارديان البريطانية، فإن ميلوني تحيط نفسها بمستشارين أذكياء، ومحافظين في الوقت ذاته، لكنهم أقل تطرفًا بكثير من المحيطين بالساسة الشعبويين حول العالم، مثل هؤلاء الذين يحيطون بالرئيس الأميركي دونالد ترامب. لكن في المقابل، تمرر ميلوني قوانين ذات صبغة دكتاتورية بحذر شديد، فقد وافقت حكومتها في أبريل/نيسان الماضي على مشروع أمني جديد يشدد العقوبات على من يرتكب الاعتداءات على قوات إنفاذ القانون، ويعزز حماية رجال الأمن الإيطالي بشكل عام، ويسهل عملية إخلاء المباني المأهولة بشكل غير قانوني (عادة ما تكون أماكن مهجورة احتلها الفقراء والمهاجرون ليعيشوا فيها وتقام بها عروض فنية). ويعد هذا القانون مثيرًا للجدل والاحتجاج بشدة في إيطاليا، وهو بحسب تقرير سابق لمنظمة " هيومن رايتس ووتش" يمثل تهديدًا حقيقيًا لحقوق الناشطين والمهاجرين، إذ يفرض عقوبات السجن على المتظاهرين الذين يعرقلون المرور، والذين يشاركون في مظاهرات غير مرخصة، كما يجرّم المقاومة السلبية للأوامر والقواعد في السجون ومراكز احتجاز واستقبال المهاجرين. عملت ميلوني بتأنٍ أيضًا على قمع حرية الصحافة، إذ تختفي بعض الأخبار من وسائل الإعلام السائدة ويستقيل صحفيون في إيطاليا فجأة، ويحتج الاتحاد الوطني للصحافة الإيطالية على ما يراه تراجعًا في حرية الصحافة داخل البلاد. وقد منع المسؤولون التابعون لميلوني في هيئة الإذاعة الإيطالية "راي" عرض مونولوغ مناهض للفاشية كان يذكر حزب ميلوني بأنه جماعة "ما بعد فاشية"، أعدته الصحفية سيرينا بورتوني، التي تعرضت لإجراءات تأديبية وأُلغي برنامجها. وفي تقرير نشرته "فورين بوليسي" بعنوان "لماذا تحب جيورجا ميلوني أنطونيو غرامشي؟"، ذكرت المجلة الأميركية أن ميلوني تعلمت من المفكر الماركسي غرامشي، الذي يقع في الضفة المقابلة تمامًا لأفكارها، أهمية مسألة الهيمنة الثقافية والسيطرة على القمم التي تشكل ثقافة المجتمع. ونظرًا لأنها لا تمتلك إمبراطورية إعلامية ضخمة، فقد استعاضت عن ذلك بالتحكم التام في أجهزة الدولة الإعلامية التي باتت تنتقي فقط الأخبار التي تصبّ في مصلحتها وتتجاهل أي خبر ضدها. وجدير بالذكر أن إيطاليا تراجعت 5 مراكز خلال عام واحد من عهد ميلوني في مؤشر حرية الصحافة العالمي، ودخلت بحسب المؤشر في نفس منطقة المجر المشهورة بمناخها المعادي لحرية الصحافة، كما أن الاتحاد الأوروبي للصحفيين أدان التراجع الإيطالي في حرية الإعلام. وبحسب أستاذة السياسة الإيطالية بجامعة كولومبيا الأميركية، نادية أوربيناتي، فإن إيطاليا تشهد "تحولًا دكتاتوريًا خلف الابتسامة الأنثوية الرقيقة" لميلوني، فحزبها ينفذ -بحسبها- سياسة هيمنة شاملة على الدولة، خاصة فروع العدالة والأمن في أجهزة الدولة، وقد احتل الحزب المواقع الرئيسية في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، كما تُجرى تعديلات على القوانين بهدف عرقلة وتجريم عمل الصحفيين الاستقصائيين، فضلًا عن محاولات تغيير الدستور ليصبح انتخاب رئيس الوزراء بشكل مباشر. الاقتصاد سر الصعود، وسر الهبوط! خرجت إيطاليا من عام 2024 بأرقام جيدة للغاية تخص أداءها الاقتصادي، وهو الأمر الذي تفاخرت به جورجيا ميلوني، فالأرقام تؤكد أن الاقتصاد الإيطالي شهد نموا يساوي 5 أضعاف نمو الاقتصاد الألماني، وضعف نمو الاقتصاد الفرنسي، منذ عام 2019 إلى عام 2024، بحسب يورغ كرامر، كبير الاقتصاديين في بنك كومرز "البنك التجاري العالمي بفرانكفورت الألمانية". وفي العامين اللذين حكمت فيهما ميلوني، حقق الاقتصاد الإيطالي نموًا فاق معدلات النمو الحالية في منطقة اليورو كلها، كما توسعت البلاد في تصدير المنتجات التصنيعية الهامة، سواء المنتجات التكنولوجية أو السيارات، وانخفضت البطالة وزادت الاستثمارات الخارجية في إيطاليا على نحو ملحوظ. لقد اتبعت ميلوني منذ توليها السلطة سياسة اقتصادية وسطية حذرة في الإنفاق، والتزمت بالميزانيات الصارمة، وقد جلب لها هذا الثناء من التيار السائد من الاقتصاديين في أوروبا، حتى هؤلاء الذين يعارضونها من حيث المبدأ، فلم يجدوا أن حكومتها اتبعت أي سياسات اقتصادية يمينية راديكالية، أو خطوات متهورة غير محسوبة، فبعد فترة قليلة من حكمها قال زعيم يسار الوسط الإيطالي السابق إنريكو ليتا، إن سياسة ميلوني الاقتصادية كانت مفاجأة وأفضل كثيرًا مما توقعه معارضوها. وكذلك رأت منصة "دويتش فيله" الألمانية في تقييمها، أن ميلوني لم تتبع مسارًا اقتصاديًا متطرفًا، وإنما اتبعت سياسة اقتصادية مشابهة للغاية لسلفها ماريو دراغي، الاقتصادي الأكاديمي ذي العلاقات الوثيقة مع أوروبا. سياسة ميلوني الحذرة اقتصاديًا، والنتائج الاقتصادية الإيجابية التي وصلت إليها بالأرقام مع انتهاء عام 2024، لعبت دورًا كبيرًا في دعم صورة ميلوني محليًا وعالميًا؛ بأنها امرأة تمثل نسخة جديدة عقلانية من اليمين. ولا شك أن تلك الأرقام كانت أحد أسرار القبول بها بشكل متزايد محليًا وأوروبيًا، بوصفها امرأة حديدية قادرة على جلب الاستقرار والرخاء لبلادها، في وقت تعاني منه كل الدول الأوروبية الكبيرة من غياب الاستقرار السياسي ومن التدهور الاقتصادي، وهذا مخالف جذريًا للصورة النمطية لإيطاليا على مدار العقود السابقة؛ بأنها الشقيق الفاشل في مقابل أشقائه الناجحين في أوروبا، وعلى رأسهم ألمانيا وفرنسا. لكن في الواقع، لم تكن سياسة ميلوني الاقتصادية الحذرة هي وحدها من وفرت لإيطاليا هذا الأداء الاقتصادي الذي تفاخر به، فبحسب الخبير الاقتصادي يورغ كرامر، يعود الفضل في النمو الإيطالي مؤخرًا بالأساس إلى التدفقات المالية الضخمة التي دفع بها الاتحاد الأوروبي في اقتصاد البلاد بعد جائحة كورونا، إذ حصلت إيطاليا على النصيب الأكبر من الأموال الأوروبية المخصصة للتعافي من آثار ما بعد الوباء، ومن ثم فإن محرك هذا النجاح الاقتصادي الإيطالي هو في الأصل الديون والمنح الأوروبية، علما بأن الدين الإيطالي يتجاوز نسبة 140% من الناتج المحلي الإجمالي. ومن ثم فإن هذا النمو كان مدفوعًا بالعوامل الخارجية أساسا، وسيظل جبل الديون يهدد في السنوات القادمة بإرجاع الوضع إلى ما كان عليه سابقًا. وتتوقع وكالة رويترز للأنباء أن الضعف الهيكلي الذي لطالما اتسم به الاقتصاد الإيطالي سيعاود الظهور مرة أخرى حين ينتهي الأثر الإيجابي للمنح الأوروبية، وأن إيطاليا ستعود قريبًا إلى موقعها المعتاد كواحدة من أسوأ دول اليورو من ناحية الأداء الاقتصادي، وربما يتضح الأمر أكثر بمقارنة أداء إيطاليا بأداء دولة أخرى جارة لها تحتل المركز الثاني من ناحية تلقي المنح والمساعدات الأوروبية بعد الجائحة وهي إسبانيا، التي استطاعت أن تحقق نموًا أعلى بنحو 4 أضعاف من نظيره الإيطالي، وفقا لرويترز. وبحسب المؤسسة البحثية الأميركية بروكنغز، فإن الأرقام توضح أنه لولا التأثير الذي خلفته الأموال الضخمة التي دفع بها الاتحاد الأوروبي في الاقتصاد الإيطالي بعد الجائحة، لكان النمو الاقتصادي الإيطالي أقل بكثير من النمو الفرنسي والألماني، ولكان الناتج المحلي الإيطالي سيظل راكدًا بين عامي 2023 و2024. المفارقة هي أنه رغم كون الاقتصاد بأرقامه الإجمالية التي تميل إلى الإيجابية في العام الماضي سرًا من أسرار استقرار صورة ميلوني الإيجابية في الداخل والخارج، فإنه أيضًا كان السر في تراجع شعبيتها داخليًا. وكما سبق ذكره فإن استطلاع شركة إيبسوس لصالح صحيفة "كوريري ديلا سيرا" وجد انخفاضًا في شعبية ميلوني بعد عامين في السلطة، وكان الانخفاض بالأساس في قطاع الطبقات الفقيرة. وفق تقرير "ظروف المعيشة ودخل الأسرة" للمعهد الإيطالي للإحصاء، فإن ربع الإيطاليين فقراء، كما أن خطر الفقر والإقصاء الاجتماعي -بحسب التقرير نفسه- ارتفع في البلاد من 22.8% في عام 2023 إلى 23.1% في عام 2024. لقد كانت أولى الخطوات التي اتخذتها ميلوني منذ وصولها إلى السلطة هي استبدال الحد الأدنى للدخل بالنسبة للفقراء بحزمة مساعدات أخرى، وخفض الامتيازات الحكومية التي لطالما تمتع بها العاطلون وذوو الدخل المحدود في البلاد. صحيح أن حكومة ميلوني نجحت في تحقيق أرقام إيجابية فيما يتعلق بخفض البطالة، لكن الأرقام التفصيلية تشير بوضوح إلى أن مزيدا من الإيطاليين باتوا يعملون بالفعل، لكن لساعات أطول وفي ظروف أسوأ وبأجور أقل. كما أن معدل البطالة -رغم انخفاضه في فترة حكم ميلوني- يزيد عن متوسط القارة بنسبة كبيرة، وفق معايير الاتحاد الأوروبي. السياسة الخارجية موطن قوة ميلوني لطالما اختار بعض الإيطاليين العيش في بلاد العرب وامتدت ذريتهم جيلًا بعد جيل. وحتى في ظل الحروب الصليبية كان التجار الإيطاليون يجوبون العالم الإسلامي بحثًا عن الفرص والتجارة، فعلى مستوى المجتمعات، حتى قبل المستوى السياسي، كانت هناك محطات وقصص أكثر من أن تحصى؛ تشابكت فيها الثقافتان العربية والإيطالية وأثرت كلتاهما في الأخرى. وفي الوقت الحالي يعيش ملايين العرب والمسلمين داخل إيطاليا ويتأثرون بكل التغيرات السياسية والاجتماعية التي تشهدها، إذ يقدر عدد المسلمين في إيطاليا بحوالي 2.6 مليون، علمًا بأن 44% منهم يحملون الجنسية الإيطالية. ويمثل هذا الرقم نسبة 4.3% من سكان الدولة الأوروبية. وبالإضافة إلى ذلك، تلعب إيطاليا -بشكل مباشر أو غير مباشر- دورًا هامًا في العديد من الملفات السياسية والاقتصادية الدولية التي تمس المصالح العربية والإسلامية من خلال سياسات روما الخارجية. تؤكد استطلاعات الرأي، بما فيها تلك التي بينت انخفاض شعبية ميلوني في العام الأخير، أن سياستها الخارجية لا تزال تحظى بتأييد كبير، وهي من أقوى أوراق شعبيتها، ويتفق الكثير من المحللين على أن ميلوني استطاعت أن ترسم لإيطاليا دورًا رياديًا خارجيًا لم تستطع البلاد أن تلعبه منذ عقود طويلة، كما استطاعت أن تبلور مكانة جديدة لروما، سواء على المستوى الأوروبي أو العالمي. على صعيد الحلبة الأفريقية، قدمت ميلوني منذ عامها الأول في الحكم، خطابًا غير نمطي لم يستخدمه السياسيون اليمينيون الغربيون من قبل، إذ تحدثت كثيرًا عما اعتبرته الغطرسة الغربية، وأن الأوروبيين يَعِدون الأفارقة ولا يَفون بتعهداتهم ولا يعطونهم الاحترام اللائق. وقالت بوضوح إن الأوروبيين يهتمون بإعطاء الدروس للأفارقة بدلًا من مساعدتهم بجدية على حل مشاكلهم، وأكدت أن السياسة الجديدة التي تحاول أن تنتهجها إيطاليا في أفريقيا مختلفة عن سياسات باقي الدول الأوروبية، وأن عمادها أن لا يكون التعاون مع القارة السمراء مفترسا -بحسب تعبيرها- ولا إمبرياليًا. جدير بالذكر أن ميلوني قبل توليها السلطة كانت تشتهر بخطاباتها ضد فرنسا، إذ كانت ترى أن السياسة الإمبريالية الفرنسية المستمرة في أفريقيا هي أصل المشاكل والضغائن بين القارتين، وقد عزفت ميلوني ببراعة على هذا الوتر في علاقاتها بأفريقيا، فحاولت أن تقدم نفسها باعتبارها البديل الأوروبي عن جارها الفرنسي الإمبريالي، كما استخدمت لغة جديدة مع الزعماء الأفارقة مبنية على التقدير بدلًا من النصائح الفوقية. وقد كانت الجزائر محط أول زيارة لميلوني إلى دولة أفريقية، وهناك زارت "مقام الشهيد" الذي يمثل النصب التذكاري لحرب الاستقلال الجزائرية ضد فرنسا، كما وصفت الجزائر بأنها الشريك الاستراتيجي الأقرب إلى إيطاليا في شمال أفريقيا. وقد كانت هذه الزيارة شديدة الأهمية لميلوني لتعلن من خلالها لأفريقيا رؤيتها الجديدة للتعاون غير المفترس كما تسميه، فهي لم تزر فقط "مقام الشهيد"، وإنما زارت أيضًا حديقة "إنريكو ماتي" في الجزائر. وإنريكو، هو المسيحي الديمقراطي الشهير، مؤسس شركة إيني الإيطالية، وهو الرمز الإيطالي التاريخي الذي يشار إليه باعتباره من أبرز أصدقاء ثورة التحرير الجزائرية ، ومن المنادين باتفاقيات عادلة في ملف توزيع أرباح إنتاج الطاقة بشكل لا يفترس ثروات البلاد الضعيفة التي لا تمتلك مواقف تفاوضية. وعلى ذكر إنريكو ماتي، فإن سياسة ميلوني التي أعلنتها بشأن التعامل مع أفريقيا تشكلت في مبادرة حملت اسم الرمز الإيطالي الشهير بعنوان "خطة ماتي". وما تعلنه ميلوني في هذه الخطة هو أنها تسعى من ناحية لتحويل إيطاليا إلى مركز لتصدير الطاقة بين أوروبا وأفريقيا، ومن ناحية أخرى؛ لحل المشاكل الجذرية التي تؤدي من وجهة نظرها إلى الهجرة غير النظامية، وهي الفقر وغياب التنمية. ومن ثم فإن الهدف الثاني هو ضخ المنح والمساعدات التنموية لأفريقيا والتوصل إلى اتفاقات مع دول القارة لتعزيز سياسات مكافحة الهجرة غير النظامية من داخلها. وقد استطاعت ميلوني في الواقع أن تجني مكاسب ملموسة في القارة السمراء منذ عامها الأول نتيجة هذا التوجه والخطاب الجديدين، فعلى سبيل المثال تم توقيع اتفاقيات اقتصادية هامة بين شركة إيني الإيطالية وشركة سوناطراك الجزائرية بعد زيارتها للجزائر، واستطاعت أن تعقد شراكة استراتيجية مع تونس، وتوسطت لعقد اتفاق بين الاتحاد الأوروبي وتونس عزز من مكانة ميلوني أوروبيًا، وكان هذا الاتفاق يقضي بإطلاق حزمة مساعدات لتونس في مقابل التعاون على مكافحة الهجرة غير النظامية. وبحلول نهاية 2024، كانت إيطاليا قد أعلنت عن استثمارات بقيمة 5.5 مليارات يورو ومشاريع تجريبية في 9 دول أفريقية هي: مصر وتونس والمغرب والجزائر وإثيوبيا وكينيا والكونغو وموزمبيق وساحل العاج. وبحسب عدد من التقارير الصحفية فإن توجهات ميلوني تجد موضع تقدير في العواصم الأفريقية، إذ ترى نظم الحكم في تلك البلاد أن نهج ميلوني لا يفرض خططا جاهزة محددة على الشركاء، وأنها لا تتعامل معهم بفوقية. وأن ميلوني أضافت بُعدًا أوروبيًا على شراكتها مع أفريقيا، إذ أدخلت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، في إجراءات خطتها. وبعيدًا عن نشاطها الواضح داخل القارة الأفريقية، بذلت ميلوني جهودًا دبلوماسية كبيرة لتحسين العلاقات مع الإمارات العربية المتحدة، التي تخللتها الكثير من الأزمات في السنوات السابقة، واستطاعت ميلوني أن تصل بالعلاقات مع الإمارات إلى مرتبة الشراكة الاستراتيجية، وعملت في الوقت نفسه على تعزيز تعاونها مع قطر. وحتى فيما يتعلق بدعم دولة الاحتلال الإسرائيلي، لم تصل ميلوني درجة التطرف التي وصلها اليمينيون الغربيون في الدعم، فرغم تأكيدها على حق دولة الاحتلال في الدفاع عن نفسها، فإنها أيضًا أعربت عن تمسكها ومناصرتها القوية -بحسب "فورين بوليسي" الأميركية- بحل الدولتين، وطالبت بإنهاء الحرب في غزة، والتقت كذلك رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ، وتعهدت بالمشاركة في جهود الإعمار بعد الحرب. ومن ثم لم تترك ميلوني انطباعًا قويًا بأنها شريكة في حرب إبادة الاحتلال على غزة، مثل ألمانيا على سبيل المثال. أما على الصعيد الأوروبي فقد باتت ميلوني تلعب دورًا أكبر من الأدوار التي لعبتها إيطاليا في السنوات السابقة. وبحسب صحيفة "التايمز" البريطانية فإن العديد في أوروبا الآن ينظرون إلى ميلوني -المستقرة في بحر من التيه الأوروبي- بوصفها الملكة الجديدة المرتقبة للسياسة الأوروبية، بعد الحقبة التي لعبت فيها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل هذا الدور. الصورة النمطية عن الزعيم اليميني تتمثل في كونه زعيما انعزاليا ينسحب من الاتفاقيات العابرة للقوميات، ومن ثم كان متوقعًا من جورجيا ميلوني أن تكون على الأقل أكثر انعزالية داخل الاتحاد الأوروبي في فترة حكمها، لكنّ ما حدث هو العكس تمامًا، فبدلا من اللهجة المعتادة من أقصى اليمين المتشككة في جدوى الاتحاد والساعية للتخلص من هياكله وعمله، قدمت ميلوني رؤية يمينية مختلفة تتمثل في أنها تسعى أن تقف إيطاليا قائدة ومرفوعة الرأس داخل الاتحاد، وأن تغيره من داخله لا أن تنسحب منه. نظرت ميلوني فوجدت أن مشكلة اليمين الحقيقية مع الاتحاد هي أن الاشتراكيين والخضر سيطروا عليه طوال السنوات السابقة بحسبها، ومن ثم حددوا أولوياته وتوجهاته بشكل لا يرضي المحافظين، ووجدت أن تغيير ذلك يكون بسيطرة اليمين الأوروبي على الاتحاد بما يتضمن زعامتها له، ومن ثم تشكيل أولويات جديدة له، لا يكون فيها خصمًا بل أداة فاعلة، وإطارا كونفدراليا يدعم دولتها ويفيدها. لاحظت صحيفة "التايمز" أن ميلوني نجحت بشكل كبير -خلال العامين الأولين من حكمها- في تشكيل صورة لها على نطاق واسع في القارة؛ باعتبارها زعيمتها، في ظل تخبط ألمانيا وفرنسا. وفي نهاية العام الماضي، بدا أن القادة الجدد في أوروبا أصبحوا لا يبدؤون مسيرتهم المهنية كقادة جدد؛ بزيارة العواصم الأوروبية الكبرى التقليدية (برلين وباريس وبروكسل)، وإنما بزيارة روما. كما باتت ميلوني موضع تقدير من خصومها في أوروبا حين حافظت على مبدئها القاضي بمساعدة أوكرانيا في حربها رغم الموقف المعارض لذلك من العديد من اليمينيين في إيطاليا وأوروبا. ولاحظت الصحيفة أيضًا أن نجاح ميلوني في لعب هذا الدور القيادي في أوروبا يعود كذلك إلى استخدامها الذكي لقدراتها الشخصية في تكوين العلاقات، فقد اعتمدت طريقة دبلوماسية مبنية على تقوية العلاقات الشخصية، وهو ما جعل أغلب الزعماء يشيدون بشخصيتها. وقد ذكر مسؤول بريطاني للصحيفة -وقد رأى ميلوني أثناء تأدية عملها الدبلوماسي مع الشخصيات الخارجية- أنها دائمًا مرحة تعرف كيف تلقي النكات ومتى تقول الإطراء، ولديها طريقة جذابة في الحديث بصوتها الأجش، وتعرف كيف تتواصل حتى مع من يختلفون معها تمامًا فتذيب الجليد بينهما، وتحترم عادات الآخرين بحسبه، وليس عجيبا إذًا أن يصفها دونالد ترامب الذي لا يمدح كثيرًا زعماء الدول الأخرى، بأن شخصيتها رائعة وقيادية. وبحسب فابيو رامبيلي، وهو عضو في البرلمان الإيطالي ويعرف ميلوني منذ أن كانت مراهقة، فقد اكتسبت تلك الروح الشخصية التي تمكنها من إزالة العقبات الدبلوماسية من خلال العلاقات الودية، بسبب نشأتها في الطبقة العاملة بمنطقة غارباتيلا في العاصمة روما، وهذا ما جعلها تعرف كيف تتحدث بلباقة وبشكل ودي وغير رسمي، وبحس فكاهي ساخر وجريء، ومن ثم فهي -بعكس النخب التي نشأت في بيئات مغلقة- تعرف كيف تقول النكتة، وكيف تفاجئ الآخرين بتعليقات شديدة الجرأة. في الواقع، طريقة ميلوني في كسر الرسميات والحديث الودي أفادتها كثيرا على الصعيد الداخلي، لا على الصعيد الدبلوماسي فقط، إذ استطاعت أن تظهر بشخصية ودودة أمام الشارع الإيطالي، فلم تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي على النحو التقليدي المعتاد بنشر مقاطع لخطبها وأفكارها، وإنما استخدمتها بفاعلية أيضًا لتقدم زوايا مختلفة من حياتها وبانفتاح على حياتها الأسرية والمشاكل التي تواجهها بوصفها أما عاملة، هذا فضلًا عن كسر الصور النمطية عنها من خلال نشر صور لها مع أطفال أفارقة في أديس أبابا تحتضنهم بإشارات أمومية. وبالعودة إلى الحديث عن علاقاتها الخارجية، ارتفعت بشدة في الوقت الحالي أهمية ميلوني الخارجية من وجهة النظر الأوروبية، إذ يُنظر إليها -على نطاق واسع- أنها الجسر الوحيد القائم بين أوروبا والولايات المتحدة في حقبة ترامب، إذ بحسب تعبير "فورين بوليسي" الأميركية، هي حاليا أقرب زعيم أوروبي إلى الرئيس دونالد ترامب، وكانت الزعيمة الوحيدة من الاتحاد الأوروبي التي دعيت إلى حفل تنصيب ترامب الذي يرى أنها اجتاحت أوروبا بذكائها وأنها زعيمتها الحالية. جدير بالذكر هنا أن قوة إيطاليا الدولية المتمثلة في علاقتها القوية بالولايات المتحدة لا تثير فقط الآمال الأوروبية بأن تصبح روما جسر التفاوض مع واشنطن في حقبة ترامب المخيفة للكثيرين، وإنما تثير المخاوف أيضًا، إذ تخشى فرنسا -خصوصا- أن تقتنص ميلوني اتفاقًا منفردًا مع الولايات المتحدة بشأن الرسوم الجمركية وتترك أوروبا لشأنها في مواجهة رياح ترامب العاتية. لهذه الأسباب، تحظى سياسة ميلوني الخارجية بتأييد كبير في إيطاليا تظهره استطلاعات الرأي، إذ ينظر العديد من الإيطاليين الآن إلى حقبة رئيسة وزرائهم من الناحية الخارجية فيجدون انقلابًا راديكاليًا قد حدث لهم، فبلدهم ذات القدرات المادية المتواضعة والنفوذ العسكري والسياسي المحدود مقارنة مع جيرانها الكبار، ها هي تتوسع في مكانتها العالمية وتتمدد دبلوماسيًا في المناطق التي تخفق فيها جارتهم فرنسا، وها هي رئيسة وزرائهم بات ينظر إليها باعتبارها زعيمة أوروبا، في وقت تتراجع فيه مكانة ألمانيا. باختصار، ينظر العديد من الإيطاليين إلى بلدهم التي كانت تلعب دورًا تابعًا في السنوات السابقة فيجدونها قد تحولت فجأة إلى واحدة من أهم العواصم الصانعة للسياسة الأوروبية، وإلى بلد يخشى جيرانها الكبار أن قدراتها الدبلوماسية باتت تتجاوزهم، وقد تصل إلى حلول منفردة مع الولايات المتحدة وتتركهم وشأنهم. فصل جديد لليمين الإيطالي مع مضي السنوات الأولى من حكومة جورجيا ميلوني، تجد إيطاليا نفسها أمام مفترق طرق، إما أن تتجه إلى الفاشية لتعيد تشكيل الجمهورية الإيطالية، وإما أن تتبنى ما بعد الفاشية لتدمج اليمين المتطرف في التيار الرئيسي الإيطالي، لكن المؤكد أن ميلوني لن تكون مجرد شخصية عابرة في تاريخ السياسة الإيطالية. فمن نواح عديدة، استطاعت ميلوني بالفعل إعادة تشكيل اليمين الإيطالي، إذ حققت ما استعصى على أساتذتها مثل جيانفرانكو فيني، حين جلبت الحركةَ اليمينية المتطرفة من الهامش إلى قمة السلطة السياسية من غير أن تقضي على الديمقراطية، ولا على اليمين. وتحت قيادتها، أضحى اليمين الإيطالي بهوية متماسكة، فهو تيار قومي، محافظ اجتماعيًا، وليبرالي بشكل واضح، خاصة في مناهضته للعولمة وتجلياتها في إيطاليا. حوّلت ميلوني حزب "إخوان إيطاليا" إلى حزب محافظ جامع، يضمّ تحت مظلة واحدة فاشيين سابقين وكاثوليك شبه تقدميين. وبذلك، قد تُشكّل ميلوني ما يشبه النسخة الإيطالية من الحزب الديغولي في فرنسا، أو الديمقراطي المسيحي في ألمانيا، ولكنه حزب قد يهيمن على مشهد اليمين في إيطاليا لسنوات. وإذا تمكنت من التمسك بالسلطة عبر انتخابات ثانية وما بعدها، فقد تشهد إيطاليا إعادة توجيه مماثلة لما حدث في بريطانيا ما بعد تاتشر، أو فرنسا ما بعد ديغول، حيث أصبح اسم الحزبين الكبيرين مرادفًا للحكم المحافظ. لا شك أن ميلوني تُطبّق سياسات ما بعد الفاشية، وإن كان ذلك بشكل غير مباشر، وتطبّع العالم معها، فبتمسكها بالسلطة وعدم انهيارها، وبقبولها من المجتمع الدولي، نجحت في غسل سمعة تيار أقصى اليمين بعض الشيء، إذ لم تعد رموز مثل الشعلة ثلاثية الألوان تُثير الكثير من الجدل، فقد اعتاد الناس رؤيتها بجانب العلم الإيطالي في المناسبات الرسمية. لقد تحوّل الرأي العام وما يتقبله الساسة والمجتمع، فبينما كان مجرد التصور أن ورثة الحركة الاجتماعية الإيطالية قد يقودون البلاد قبل 10 سنوات فقط؛ يُثير القلق والاعتراض الشديدين، فإنه أصبح اليوم واقعًا، واضطرت قطاعات كبيرة في البلاد -وحتى المعارضة- إلى التكيف معه. هذا "التطبيع مع الفاشية" سيطيل أمد تأثير ميلوني على السياسة الإيطالية والأوروبية، وحتى لو حكمت لولاية واحدة، ستكون قد برهنت على قدرة اليمين ما بعد الفاشي على الحكم، وعلى قدرته على فرض تغييرات جوهرية في السياسات قد تمتد طويلا بعد رحيله عن السلطة، إذ في الغالب لن تعود الأمور كما كانت عليه قبل تولي ميلوني السلطة، وسيضطر خلفاؤها في السياسة الإيطالية إلى الحذو حذوها في معالجة قضايا المهاجرين والهوية والوطنية، بدلا من التعامل مع هذه القضايا باعتبارها محصلة إجماع متخيل حول التصورات الليبرالية عن العالم والأخلاق. حتى القضايا الشائكة التي يقدمها ليبراليو أوروبا والولايات المتحدة باعتبارها محسومة في العصر الحالي، حول الهويات الجنسية، وشكل الأسرة، ودور الدين في المجتمع، والحريات الفردية، كلها لم تعد محل إجماع بعدما أثبت صعود ميلوني ذلك. ولهذا فقد ترددت أصداء ما قالته في خطابها الأول أمام البرلمان الإيطالي حين تعهدت بأن "تشعل النيران من أجل إثبات أن 2 + 2 = 4، وأن أوراق الأشجار خضراء في فصل الصيف"، وهو الوعد الذي تبدو ميلوني صادقة فيه حتى قبل وقت طويل من نهاية فترة حكمها الأولى.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
بيانات صادمة عن الفقر في أوروبا
رغم صورتها اللامعة كموطن للرفاه، تكشف الأرقام الصادمة أن أوروبا تُخفي في عمقها واقعا اجتماعيا هشا، ففي قلب المدن الكبرى كما في ضواحيها المنسية، يتسع نطاق الفقر وتتقلص المساحات التي كانت تؤمّن استقرار الطبقة الوسطى. ومع تراجع دور الدولة الاجتماعية وتصاعد كلفة المعيشة، يجد الملايين أنفسهم محاصرين بين البطالة وأزمة السكن، فهو واقع جديد يتشكل في الظل، يحمل ملامح أزمة اجتماعية صامتة تهدد كافة التوازنات التي قامت عليها الديمقراطيات الأوروبية الحديثة. واقع الفقر تكشف البيانات الرسمية واقعا مختلفا في القارة العجوز، فبحسب دراسة نشرتها منصة "كل أوروبا" في يوليو/تموز 2024، فإن نحو 20% من سكان الاتحاد الأوروبي -أي ما يعادل 1 من كل 5 أشخاص- مهددون بالفقر أو الإقصاء الاجتماعي. وبحسب تقرير أصدرته شركة ستاتيستا الألمانية المتخصصة في بيانات السوق والمستهلكين فإن نحو 100 مليون شخص في دول الاتحاد الأوروبي معرضون لخطر الفقر أو الاستبعاد الاجتماعي، وهو ما يشكل نحو خمس السكان. وتطال هذه النسبة الصادمة ملايين الأفراد الذين يعيشون على هامش المجتمعات الأوروبية، في ظل أنظمة دعم اجتماعي باتت عاجزة عن احتواء التفاوتات المتنامية. ويتخذ الفقر في أوروبا وجوها متعددة، فهو لا يعني دائما الجوع أو التشرد، بل كثيرا ما يتجلى مثلا في العجز عن مواجهة مصاريف الحياة الأساسية كالسكن والتدفئة والتعليم، وحتى الرعاية الصحية. وتظهر نفس الدراسة تباينا واضحا بين الدول في الاتحاد الأوروبي، إذ تسجل بلغاريا ورومانيا نسبا مرتفعة للفقر، فيما تبدو النسب في دول مثل فرنسا وألمانيا أقل، لكنها تخفي تفاوتا داخليا حادا بين المدن والضواحي، وبين السكان الأصليين والمهاجرين. وبحسب بيانات سابقة، تسجل فنلندا والتشيك أقل من 6%، وتصل نسبة الفقر إلى 16% في بلغاريا، وتبلغ 13% في إيطاليا و13.7% في إسبانيا، أما فرنسا فتسجّل معدلا يقدّر بأكثر من 9% من السكان. وتظهر البيانات أن قرابة 10% من العاملين في الاتحاد الأوروبي يعيشون تحت خط الفقر، وهو ما ينقض الرهان التقليدي على العمل بوصفه حماية تلقائية من الفقر. خلل هيكلي إن الأمر الأخطر في هذه المعادلة، بحسب نفس المصدر، يكمن في أن بعض الفئات الهشة باتت تمثل النسبة الأكبر من المهددين بالفقر، الذي لا يتراجع بالضرورة، في ظل النمو الاقتصادي ، مما يشير إلى خلل هيكلي في توزيع الثروة والفرص داخل الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت الذي تحافظ فيه أوروبا على موقعها كأحد أكبر الاقتصادات العالمية، فإن اتساع رقعة الفقر يمثل تهديدا مباشرا لنموذجها الذي طالما افتخر بالمساواة والتضامن. وتؤكد معطيات الدراسة أن هذا التناقض الصارخ بين الثروة والإقصاء يضع الاتحاد الأوروبي أمام معضلة أخلاقية وسياسية، فالمؤشرات الاقتصادية لم تعد كافية لتقييم نجاح السياسات، ما لم تُقاس بقدرتها على تحسين حياة الفئات الضعيفة. وتشير البيانات إلى أن الحديث عن أوروبا الغنية يجب ألا يُغفل أن الملايين داخلها يعيشون فقرا صامتا، لا تلتقطه الصور الدعائية، لكنه يزداد رسوخا عاما بعد عام. من الفقير في أوروبا؟ في ظل الاختلافات الاقتصادية بين دول الاتحاد الأوروبي، يبقى تعريف "الفقير" موضع نقاش واسع، لكنه لا يبتعد كثيرا عن معيار واحد وهو القدرة على العيش بكرامة ضمن الحد الأدنى المقبول اجتماعيا. وبحسب تقرير نشره مرصد اللامساواة الفرنسي، عام 2024، فإن الفقير في أوروبا لا يُعرّف فقط من خلال دخله، بل من خلال عجزه عن تلبية الحاجيات الأساسية التي يُعدّ توفرها بديهيا لدى الأغلبية. ويعتمد الاتحاد الأوروبي على مؤشر نسبي للفقر، يُقاس بكون دخل الفرد أقل من 60% من متوسط الدخل الوطني في بلده. ويعني هذا التعريف، حسب التقرير، أن الفقر ليس مسألة أرقام فحسب، بل يُقاس بالموقع الاجتماعي للفرد وقدرته على الاندماج. ويوضح أن الشخص الذي لا يستطيع دفع الإيجار، أو التدفئة في الشتاء، أو تغطية مصاريف طفل في المدرسة، يُعتبر فقيرا حتى وإن كان يعمل بدوام كامل. ومع اتساع الفجوة بين الرواتب، أصبح عدد العاملين الفقراء في ازدياد، وهي مفارقة تعكس أزمة بنيوية في أسواق العمل الأوروبية. ويُسلّط التقرير الضوء على أن الفئات الأكثر عرضة للفقر تشمل الأسر الكبيرة، والنساء الوحيدات، والعاطلين عن العمل، والمهاجرين. وفي بعض البلدان، يُلاحظ أن الفقر يتركز جغرافيا في مناطق معينة، ما يعمّق الإقصاء المجتمعي، ويجعل الخروج من دائرة الفقر أكثر صعوبة، ولا ينعكس الفقر فقط على قلة المال بل في جودة الحياة، من المسكن إلى الصحة، ومن فرص التعليم إلى العلاقات الاجتماعية. وينبه مرصد اللامساواة الفرنسي على أن الكثير من الفقراء في أوروبا لا يُحسبون ضمن الإحصاءات الرسمية لأنهم يعيشون "فقرا غير مرئي" إذ إنهم يتجنبون طلب المساعدات أو لا يُدركون أنهم ضمن الفئات المستهدفة بالدعم الاجتماعي. ويشكل هؤلاء تحديا للسياسات العامة، لأنهم خارج التغطية الحكومية والإعلامية، ويواجهون عزلة مركّبة من النواحي الاقتصادية، والمجتمعية، والنفسية. ويخلص التقرير إلى أنه لا يمكن فهم ظاهرة الفقر في أوروبا دون النظر إلى الأبعاد المتعددة للهشاشة: دخل غير كافٍ. فرص محدودة. نظام دعم لا يصل إلى الجميع. انهيار الطبقة الوسطى لطالما اعتُبرت الطبقة الوسطى الدعامة الأساسية للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في أوروبا، إذ تمثّل غالبية السكان وتشكل نقطة توازن بين الفئات العليا والدنيا. لكن هذا التوازن بدأ بالتآكل خلال السنوات الأخيرة، مع تصاعد الضغوط المعيشية وتراجع القدرة الشرائية، ليتحوّل ما كان يُنظر إليه بوصفه "قلب المجتمع" إلى مساحة هشّة مهددة بالانزلاق نحو الفقر. فبحسب تقرير حديث نشره موقع "يورونيوز" منتصف الشهر الحالي، فإن موجة الفقر في أوروبا لم تعد حكرا على العاطلين عن العمل أو المهمشين تقليديا، بل امتدت لتشمل شرائح واسعة من الطبقة الوسطى التي تعاني اليوم من "فقر مقنّع" يختبئ خلف واجهات استهلاكية تبدو عادية، لكنها مثقلة بالديون والقلق المالي. ويبرز هذا التحول بوضوح من خلال التناقض بين تضخم أسعار السكن والطاقة والغذاء، وثبات أو ضعف نمو الأجور، وهو ما أجبر الكثيرين على اللجوء إلى المدخرات أو الاستدانة لتغطية النفقات الأساسية. ولم يسلم من هذا الانحدار صغار التجار وأصحاب المشاريع العائلية، الذين فقدوا قدرتهم على مجاراة التكاليف التشغيلية المتصاعدة، كما فاقم التحول الرقمي وتقلبات سوق العمل هشاشة هذه الفئة، التي كانت تحظى تقليديا بنوع من الأمان الوظيفي والاستقرار المهني. فرنسا نموذجا في هذا السياق، تُعد فرنسا نموذجا معبّرا عن أزمة الطبقة الوسطى في أوروبا، ففي دراسة مطوّلة أصدرها "معهد مونتين"، عام 2024، تحت عنوان "الطبقة الوسطى: التوازن المفقود"، يظهر أن هذه الفئة لم تعد تحتفظ بالاستقرار الذي ميزها لعقود. وبحسب التقرير، يُصنَّف نحو نصف السكان في فرنسا ضمن الطبقة الوسطى، لكنها فئة غير متجانسة داخليا، تختلف في الدخل والوضع الاجتماعي وأنماط الاستهلاك. إلا أن ما يوحدها اليوم هو الإحساس المشترك بالتراجع، وفقدان السيطرة على المستقبل، والتدهور التدريجي في جودة الحياة، رغم الالتزام الوظيفي والاجتماعي. وتعاني هذه الطبقة في فرنسا من ما يشبه "الضغط المزدوج"، فهي محرومة من الدعم الموجّه للفئات الفقيرة، وفي نفس الوقت لا تتمتع بالمزايا التي يحظى بها الأغنياء، ما يجعلها عرضة مباشرة لتقلبات السوق وسياسات التقشف أو الضرائب غير المتوازنة. هذا الوضع يولّد شعورا متناميا بأن هذه الفئة "تدفع ثمن كل شيء" من دون أن تستفيد من أي شيء، وهو ما يفسّر صعود حركات احتجاجية واسعة تقودها غالبا شرائح من الطبقة الوسطى، كما كان الحال في حركة "السترات الصفراء" التي اجتاحت فرنسا منذ عام 2018. وتتجاوز أزمة الطبقة الوسطى البُعد الاقتصادي لتطال الهوية الرمزية والانتماء الاجتماعي، إذ يُظهر التقرير أن عددا متزايدا من الفرنسيين لم يعودوا يعرّفون أنفسهم بفخر كجزء من هذه الطبقة، بل باتت تُرى كمرادف للهشاشة والإقصاء، هذا التحول في الوعي الذاتي يكشف عن تصدع العقد الاجتماعي، ويعبّر عن فقدان الثقة في دولة الرعاية التي وعدت بالعدالة والتكافؤ. التيارات الشعبوية تعكس الأزمة الفرنسية، مسارا أوروبيا أوسع، ففي العديد من دول الاتحاد الأوروبي، تُعيد التحولات الاقتصادية رسم الخريطة الطبقية بطريقة تفرّغ المجتمع من وسطه. وتقول دراسة تحت عنوان "الطبقة الوسطى والتوازن المفقود" نشرها معهد مونتيني الفرنسي عام 2024 إن النتيجة تظهر جليا من خلال ثنائية عكسية فالأغنياء يزدادون غنى والفقراء يصبحون أكثر فقرا وعددا، والطبقة الوسطى تتلاشى تدريجيا، لتترك فراغا في بنية المجتمع الحديثة. وتتابع أن هذا الفراغ ينذر بتآكل النموذج الديمقراطي الأوروبي الذي بُني على توازن اجتماعي وعدالة اقتصادية وفرص للحراك الطبقي. ويشكل انهيار الطبقة الوسطى علامة فارقة على تحوّل اجتماعي عميق قد تكون له تبعات سياسية خطيرة، إذ إنه مع تصاعد مشاعر التهميش والعزلة، تزداد جاذبية التيارات الشعبوية والاحتجاجية، وتتراجع ثقة المواطنين في المؤسسات التقليدية، وفق الدراسة. ومع انتقال الفقر من هامش المجتمع إلى مركزه، لم يعد ممكنا تجاهل حقيقة أن الديمقراطيات الأوروبية تواجه تحديا وجوديا يتمثل في إعادة ترميم التماسك الاجتماعي قبل أن يتحول التفاوت إلى انفجار. وفي المحصلة، ما يحدث للطبقة الوسطى في فرنسا وأوروبا هو أكثر من مجرد "أزمة معيشية". إنه إعادة تشكيل جذرية للعقد الاجتماعي، حيث تُعاد كتابة قواعد الانتماء والمواطنة وفق معايير جديدة، غالبا ما تترك الغالبية من دون تمثيل حقيقي، أو حماية كافية. وبين تضخم الأسعار، وركود الأجور، وضعف الثقة، تزداد الحاجة إلى سياسات شجاعة تستعيد الوظيفة التاريخية للطبقة الوسطى كجسر للاستقرار والعدالة. فبدونها، تفقد المجتمعات الأوروبية توازنها الداخلي، وتدخل مرحلة لا يمكن التنبؤ بنتائجها. الضواحي المنسية في قلب أوروبا بعيدا عن صخب العواصم الأوروبية ومراكزها المزدهرة، ترقد على الأطراف أحياء مهمشة تمثل الوجه البائس في القارة العجوز. وباتت هذه الضواحي المنسية، التي نشأت في هوامش المدن الكبرى رمزا للتفاوت الاجتماعي والتخلي المؤسسي، حيث تتقاطع فيها معاناة الفقر، وسوء الخدمات، وغياب الأمل في التنمية الاجتماعية. ووفقا لتقرير المفوضية الأوروبية ، الصادر عام 2024، تعاني الفئات الضعيفة في هذه المناطق من عوائق متراكمة تحول دون حصولهم على سكن لائق، وتعليم جيد، ورعاية صحية مناسبة، وفرص عمل كريمة. وتشير الوثائق الرسمية إلى أن هذه الأحياء تشهد معدلات عالية من الفقر والإقصاء، تتجاوز المعدلات الوطنية في بعض الدول، ما يجعلها بمثابة "جزر معزولة" داخل المجتمعات الأوروبية. ويشير تقرير صادر عن المفوضية الأوروبية، عام 2024 تحت عنوان "شروط الحياة في أوروبا.. الفقر والإقصاءالاجتماعي" أن آثار هذا التهميش لا تقتصر على المؤشرات الاقتصادية، بل تمتد إلى البنية النفسية والاجتماعية للسكان، إذ يولّد الفقر المتوارث شعورا باللاجدوى، ويُعزز من ضعف الثقة في الدولة ومؤسساتها. ويقول التقرير إنه مع تراكم الإقصاء، يصبح الخروج من دائرة الفقر شبه مستحيل، إذ تتداخل العوامل البنيوية مع العوائق اليومية، ليُعيد الفقر إنتاج نفسه جيلا بعد جيل. ويعني ذلك أن الحديث عن الفرص المتكافئة يظلّ خطابا نظريا لا يجد طريقه إلى هذه المناطق. وفي مواجهة هذا الواقع، أطلقت المفوضية الأوروبية خطة تهدف إلى تقليص عدد المعرّضين لخطر الفقر والإقصاء الاجتماعي بـ15 مليون شخص على الأقل بحلول عام 2030، من بينهم 5 ملايين طفل. لكن التقرير يُظهر أن الفجوة بين النصوص والواقع لا تزال واسعة، ما يتطلب تغييرا جذريا في السياسات، يركّز ليس فقط على الدعم المالي، بل على التمكين الحقيقي، وتطوير الخدمات الأساسية، وضمان الاندماج الفعلي لسكان هذه المناطق. ولم تعد الضواحي الأوروبية مجرد هامش جغرافي، بل أصبحت رمزا للخلل الاجتماعي البنيوي، الذي إن تُرك من دون معالجة، فقد يتحوّل إلى تهديد صريح للنموذج الأوروبي القائم على التضامن والمساواة. فالمدن لا تُقاس بجمال مراكزها، بل بكرامة من يعيشون على أطرافها.