logo
ترامب يلعب بإعدادات الاقتصاد العالميّ.. والدّولار

ترامب يلعب بإعدادات الاقتصاد العالميّ.. والدّولار

«اساس ميديا»
يخوض الرئيس الأميركي دونالد ترامب أكبر مغامرة اقتصادية لبلاده منذ عام 1971. ضرب بسيف التعريفات الجمركية ليزعزع قواعد نظام التجارة الحرّة الذي تشكّل في التسعينيّات، وقال إنّ الهدف 'جعل أميركا عظيمة مجدّداً' (MAGA). لكنّه بدأ سريعاً بمواجهة الرياح المعاكسة من الانخفاض الحادّ للدولار وأسواق الأسهم.
ليست هذه المرّة الأولى التي تضع فيها الولايات المتحدة الثقة العالمية بقيادتها الاقتصادية موضع المساومة. ففي عام 1971، أقدم الرئيس ريتشارد نيكسون على تفكيك اتفاقية 'بريتون وودز' التي وُقّعت عام 1944 بمشاركة 44 دولة. ألغى نيكسون من جانب واحد معيار الذهب، الذي كان بمنزلة التزام أميركي بتحويل كلّ 35 دولاراً إلى أونصة من الذهب. قلبت 'صدمة نيكسون' موازين الاقتصاد العالمي، وتركت آثاراً كبيرة على النظام النقدي العالمي، وأطلقت مرحلة من تقلّبات العملات، والتضخّم، والتحوّل إلى نظام العملات العائمة. لكنّ العبرة في خواتيم تلك المرحلة أنّ هيمنة الدولار ظلّت قائمة، إن لم يكن لقوّة فيه فلضعفٍ في ما سواه.
أميركا أوّلاً
تمثّل اليوم سياسات ترامب الاقتصادية 'صدمة' من نوع جديد، لكن هذه المرّة من خلال زعزعة النظام التجاري العالمي القائم منذ الحرب العالمية الثانية. فهو يتبنّى نهجاً قوميّاً في الاقتصاد عنوانه 'أميركا أوّلاً'، يركّز من خلاله على خفض العجز التجاري الأميركي من خلال فرض تعريفات جمركية عقابية على الواردات، والضغط على الشركاء التجاريين لشراء مزيد من السلع والخدمات الأميركية. ويتضمّن أيضاً الانسحاب من الاتّفاقيات التجارية المتعدّدة الأطراف، وإعادة التفاوض على الاتّفاقيات الثنائية بما يحقّق أفضلية للولايات المتحدة. وأحد الأمثلة هو اتّفاق التجارة الحرّة لأميركا الشمالية (نافتا)، الذي أعاد ترامب التفاوض بشأنه ليخرج باتفاقية جديدة (USMCA) مع المكسيك وكندا عام 2020. وعلى الرغم من أنّه هو نفسه من فاوض ووقّع هذه الاتفاقية خلال ولايته السابقة، عاد لاحقاً ليفرض رسوماً جمركية على واردات من هذين البلدين، قبل أن يتراجع جزئياً عنها، في خطوة أربكت الأسواق وأثارت علامات استفهام عن استقرار السياسة الاقتصادية الأميركية.
يأتي ذلك في إطار سياسات 'أميركا أوّلاً' الأوسع نطاقاً في المجال العسكري والسياسة الخارجية. فترامب يضغط على حلفاء بلاده في 'الناتو'، ويقول بوضوح إنّ حماية الأمن الأوروبي لم يعد أولويّة للولايات المتحدة، وإنّ سياسة الصفقات هي التي ستحكم العلاقات مع الحلفاء والخصوم على حدّ سواء.
تمثّل هذه السياسات تحوّلاً من صورة 'الدولة القائدة' التي تدفع لقيادتها ثمناً ماليّاً وعسكريّاً، إلى 'الدولة القويّة' التي تبحث عن مصالحها أوّلاً. وما من تعبير رمزي أوضح من إلغاء معظم مشاريع وكالة التنمية الأميركية (USAID)، بكلّ ما كانت تمثّله من قوّة أميركية ناعمة في العالم.
لا شكّ أنّ شعارات ترامب لقيت صدى قويّاً لدى الناخب الأميركي خلال حملته الانتخابية. فقد عزف على وتر العجوزات التجارية الكبيرة، وتراجع الصناعة المحلّية، والوضع المعيشي لدافعي الضرائب الذين تذهب أموالهم للجهد العسكري أو المساعدات في ما وراء البحار. إلّا أنّه، بعد أقلّ من ثلاثة أشهر على تنصيبه، بدأت سياساته تثير قلقاً واسعاً من أثرها السلبي على الأسواق الماليّة والدولار، أو بسبب الشكوك التي أثارتها في صفوف الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة.
ما يجعل سياسات ترامب مغامرة حقيقية أنّها تتحدّى مبادئ العولمة والانفتاح التجاري التي بنت عليها أميركا زعامتها الاقتصادية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وبخلاف 'صدمة نيكسون' التي كانت موجّهة لمعالجة خلل نقدي محدّد، فإنّ سياسات ترامب هي بمنزلة إعادة هيكلة كاملة للعلاقات التجارية الدولية، من خلال فرض القوّة الأميركية على الشركاء التجاريّين وإعادة رسم قواعد اللعبة.
ربّما المشكلة الكبرى في سياسة ترامب أنّ سياسة 'الضربة الصادمة' دخلت في مرحلة من عدم اليقين بعدما استنفدت قدرتها على استدراج التنازلات السريعة من الدول الأخرى. فقد فرض رسوماً جمركية بنسبة 25% على الواردات من كندا والمكسيك مطلع شباط الفائت، ثمّ علّق تطبيقها لثلاثين يوماً قبل ساعات من سريانها. بعد ذلك، أكّد سريانها في الرابع من آذار الجاري، ثمّ تراجع عن تطبيقها على كلّ السلع التي تدخل الولايات المتحدة وفق اتفاقية التجارة الحرّة USMCA ، وهي تشكّل نحو 40% من مجمل الواردات من البلدين. أعطى هذا التردّد إشارة سلبية إلى مدى الحسم في سياسات ترامب، وهو ما زاد القلق والتوتّر في الأسواق.
إنذار الأسواق
اشتعلت شرارة التراجع في الأسواق هذا الأسبوع حين تحوّل ترامب من خطاب الثقة المطلقة بالاقتصاد الأميركي إلى الحديث عن 'فترة انتقالية' لم يستبعد فيها حدوث ركود اقتصادي. زاد من قلق الأسواق تصريح وزير الخزانة سكوت بسنت الذي تحدّث عن مرحلة ' Detox ' (إزالة سموم) سيمرّ بها الاقتصاد الأميركي، في إشارة إلى تحمّل آثار خفض الإنفاق وتقلّبات المرحلة.
كانت النتيجة تراجعاً حادّاً للدولار بنسبة 5% خلال ثلاثة أيّام، وهبوط مؤشّر 'ناسداك' المجمع بنسبة 4% في يوم واحد، في أسوأ أداء له منذ عام 2022. المفارقة أنّ الأسواق لم تتفاعل إيجاباً حتى مع تراجع ترامب عن بعض الرسوم الجمركية، وهو ما يشير إلى تآكل الثقة العامّة بسياساته.
مشكلة ترامب الراهنة أنّه يعطي إشارات غامضة، إذ ليس واضحاً هل سياسته أسلوب تفاوضيّ يستهدف الحصول على صفقات أفضل وحسب، أم تعكس تحوّلاً جوهرياً في الرؤية الأميركية للنظام الاقتصادي العالمي؟
من جهة يريد عقد الصفقات في كلّ اتّجاه، ومع الصين على وجه التحديد. وله تجربة في ذلك عام 2018، حين فرض سلسلة من حزم التعريفات، ثمّ اجتمع بالرئيس الصيني في نهاية ذلك العام وتوصّل معه إلى اتّفاق تجاري يضمن زيادة الصادرات الزراعية الأميركية إلى الصين. وعلى المنوال نفسه، بدأ الحديث في الأيام الماضية عن قمّة مرتقبة بين ترامب ونظيره الصيني شي جين بينغ، إلّا أنّ الترتيبات تبدو أكثر صعوبة هذه المرّة.
لكن من جهة أخرى يتحدّث ترامب عن التعريفات، لا من باب تكتيك تفاوضي يفضي إلى صفقات فحسب، بل لتكون جزءاً من نظام اقتصادي عالمي جديد يقوم على أنقاض نظام التجارة الحرة الذي قامت عليه اتفاقية منظّمة التجارة العالمية عام 1994. ذلك النظام قام على أساس رفع القيود التجارية لإتاحة المجال أمام السلع الأميركية للتدفّق إلى الأسواق العالمية. لكنّ تطبيقه الفعليّ نقل الصناعات إلى الدول ذات التكاليف الأدنى، فكانت الصين أكبر المستفيدين، ومعها دول ناشئة أخرى مثل المكسيك وفيتنام وتايوان وسواها.
لذلك النموذج الاقتصادي الذي يطرحه ترامب يقوم على فكرة إعادة سلاسل التوريد إلى داخل الولايات المتحدة. من يصنّع في الخارج يدفع تعريفات، ومن يصنّع في الداخل ينجو منها. وهو بذلك يسعى إلى استخدام حجم السوق الاستهلاكية الأميركية رافعةً لإجبار الشركات العالمية على تغيير مواقع الإنتاج.
كانت لهذا النهج أثمان استراتيجية. فالنموذج الانعزالي الذي يسعى إلى تقليص التبعية الخارجية قد يؤدّي إلى تراجع في الكفاءة الاقتصادية، وارتفاع الكلفة على المستهلك الأميركي نفسه. والأهمّ أنّه يهدّد بفقدان الولايات المتحدة موقعها القيادي في النظام العالمي إذا ما أصرّت على التخلّي عن قواعد العولمة التي أسّستها بنفسها.
يقول الدرس التاريخي إنّ من يريد أن يقود فعليه أن يدفع الكلفة. وإذا قرّرت الولايات المتّحدة الانكفاء خلف حدودها، فإنّ قوى أخرى مستعدّة لتوسيع نفوذها في الفراغ الذي قد تتركه واشنطن خلفها.
وبذلك قد يتحوّل ما بدأه ترامب على أنّه 'مغامرة اقتصادية وطنية' إلى لحظة فارقة في التاريخ الاقتصادي العالمي، ترسم ملامح نظام جديد، أو تفتح الباب أمام صعود قوى بديلة.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ترامب يحذر نتنياهو من ضرب إيران
ترامب يحذر نتنياهو من ضرب إيران

القناة الثالثة والعشرون

timeمنذ 36 دقائق

  • القناة الثالثة والعشرون

ترامب يحذر نتنياهو من ضرب إيران

قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب إنه حذر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من شن ضربة عسكرية ضد إيران، لأنها قد تعرقل الجهود المبذولة للتوصل إلى اتفاق بشأن برنامج طهران النووي. وقال ترامب للصحفيين "أود أن أكون صادقا، نعم فعلت"، وذلك حين سئل عما إذا كان طلب من نتنياهو خلال مكالمة الأسبوع الماضي الإحجام عن القيام بعمل عسكري. وأضاف ترامب للصحفيين يوم الأربعاء: "قلت له إن القيام بذلك في الوقت الحالي سيكون غير مناسب، لأننا قريبون جدًا من التوصل إلى حل". وتابع: "قد يتغير هذا في أي لحظة — قد يتغير باتصال هاتفي — لكن في الوقت الحالي، أعتقد أنهم يريدون التوصل إلى اتفاق". انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة. انضم الآن شاركنا رأيك في التعليقات تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News

موسكو تقترح جولة مفاوضات ثانية مع كييف الاثنين في إسطنبول
موسكو تقترح جولة مفاوضات ثانية مع كييف الاثنين في إسطنبول

القناة الثالثة والعشرون

timeمنذ 36 دقائق

  • القناة الثالثة والعشرون

موسكو تقترح جولة مفاوضات ثانية مع كييف الاثنين في إسطنبول

أعلنت روسيا، اليوم الأربعاء، أنها أعدت مسودة "مذكرة" سلام تتضمن شروطها لإنهاء النزاع في أوكرانيا مع استعدادها لتقديمها إلى كييف في جولة مفاوضات ثانية تقترح إجراءها في 2 يونيو بإسطنبول. وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن "وفدنا مستعد لتقديم هذه المذكرة إلى الوفد الأوكراني والإدلاء بالتوضيحات الضرورية خلال جولة ثانية من المفاوضات المباشرة بإسطنبول الاثنين في الثاني من يونيو"، وفق فرانس برس. "ستطلع على المقترحات وترد" يأتي ذلك فيما أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بوقت سابق اليوم، أن بلاده ما زالت في انتظار تسلم "مذكرة" وعدتها بها روسيا بشأن مطالبها المرتبطة بالتوصل إلى اتفاق سلام، في وقت تتهم كييف موسكو بتعطيل محادثات السلام ورفض إيقاف الحرب. وقال في تصريحات للصحافيين، إن موسكو تعهدت بتسليم كييف المذكرة، مضيفاً أن بلاده "ستطلع على تلك المقترحات وترد" فور تلقيها. كما اقترح عقد لقاء ثلاثي يجمع بينه وبين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين. ترامب ينتقد بوتين وكان ترامب قد وجه انتقادات لبوتين، معتبراً أنه "فقد رشده، وبات يلعب بالنار"، لرفضه مفاوضات السلام ووقف الحرب مع أوكرانيا. يشار إلى أن الإدارة الأميركية كانت أطلقت قبل أشهر وساطة من أجل وقف الحرب بين كييف وموسكو، حيث زار المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف روسيا نحو 4 مرات التقى خلالها بوتين. إلا أن موسكو رفضت حتى الآن اقتراحاً أميركياً أوكرانياً أوروبياً بوقف النار لـ30 يوماً، معتبرة أنه يتطلب مزيداً من البحث. في حين التقى وفدان روسي وأوكراني في إسطنبول قبل أكثر من أسبوع، حيث اتفقا على تبادل أسرى من الجانبين، دون تحقيق اختراق سياسي. انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة. انضم الآن شاركنا رأيك في التعليقات تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News

بشأن اتخاذ إجراءات ضدّ إيران... ترامب يُحذّر نتنياهو
بشأن اتخاذ إجراءات ضدّ إيران... ترامب يُحذّر نتنياهو

ليبانون 24

timeمنذ ساعة واحدة

  • ليبانون 24

بشأن اتخاذ إجراءات ضدّ إيران... ترامب يُحذّر نتنياهو

Advertisement وقال للصحفيين في البيت الابيض: "قلت لنتنياهو إن أي خطوة ضد إيران ليست ملائمة".تابع "أخبرت أنه من غير المناسب اتخاذ إجراء ضد إيران لأننا نجري محادثات جيدة للغاية.. قريبون للغاية من التوصل لحل وهذا يمكن أن يتغير".أضاف ترامب "أعتقد أن إيران تريد إبرام صفقة".وأكد أنه "يمكن التوصل إلى اتفاق خلال الأسابيع المقبلة".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store